( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا )109سورة الكهف
إن المخلوقات جميعا كلمات الله ، صورها بنفسه ، خلقها بأياديه ، قائمة وممسوكة به نفسه من وراء حجاب ، أخبرنا بذلك صراحة ، تسبح وتسبّح وتستجيب بحمده ، فمن هذا الذى يجرؤ على نفى وجوده معها ؟ .. إن النفوس المؤمنة المطمئنة تعرفه جيدا ، بدليل أنها تتعرف عليه عزّ وجلّ فى الآخرة عندما ينادى المنادى : ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله ، فلا يبقى أحد كان يعبد من دون الله شيئاً إلا مُثل له آلهته بين يديه ، ثم قادتهم إلى النار حتى إذا لم يبق إلا المؤمنون فيهم المنافقون قال الله جل ثناؤه : أيها الناس ذهب الناس ، ذهب الناس ، الحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون ، فيقولون : والله ما لنا إله إلا الله ، وما كنا نعبد إلهاً غيره ، وهو الله ثبتهم ، ثم يقول لهم الثانية مثل ذلك : الحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون ؟ فيقولون مثل ذلك ، فيقال: هل بينكم وبين ربكم من آية تعرفونها ؟ فيقولون نعم ، فيتجلى لهم من عظمته ما يعرفونه أنه ربهم فيخرون له سجداً على وجوههم ويقع كل منافق على قفاه ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر- أى المنافقين- لا يستطيعون السجود. هنا لا ينفع إلا الإيمان الحق الذى أمَرَ اللهُ به دون سواه.
نعم .. بين المؤمن وبين ربه آية يعرفه بها ، فهل بحث كلٌّ منَّا عن هذه الآية ؟. وأنبه مرة أخرى هنا إلى وجود الله نفسه مع المؤمنين فى الآخرة يخاطبهم ولا يرونه، فلما تجَلَّى لهم رأوه دون سفر أو انتقال ، كذلك هو معنا الآن أمامنا وخلفنا وحولنا وفوقنا ، فكل تلك الأماكن داخلة فى عموم جو السماء ، السماء التى أثبت الله وجوده فيها يمسك الطير ، ويأتى فى ظلل من الغمام ، ويكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ، ويفلق الحب والنوى ، ويصوركم فى الأرحام كيف يشاء ، ويمسك السماوات والأرض أن تزولا .....، ..... إلخ .. ولا حجة لمن أبعد الله نفسه عن محل أفعاله إذ قالوا بعدم لزوم قرب الله نفسه ليفعل أفعاله ؟!! .. وما أدراهم ؟!! .. إنه إذا كلف الملائكة بفعل شيء فقد أخبرهم أنه معهم : " وإذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم ، فثبتوا الذين ءامنوا ، سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب ...." ، فلا يستفاد من قرب الملائكة معنا عدم قرب الله نفسه ! ، لأنهم ليسوا بديلا عن الله ، ولا يقومون مقامه فى خلق الخلق .. " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد . إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد .. " . فالله هنا يتكلم عن نفسه بضمير العظمة (نحن) ، لأنه يتكلم عن خلق الإنسان ، ولا خالق غير الله . ثم يتكلم عن وجود الملائكة يكتبون عن الإنسان حركاته وسكناته للشهادة عليه يوم القيامة مع الشهود الآخرين ، ومع الله خير الشاهدين .
فالاستدلال بوجود الملائكة الحفظة والشهود معنا ، على عدم وجود الله نفسه معنا ، استدلال خاطئ وقول على الله بغير علم ، لأنه جاء من أصحابه فى غيبيات لا طاقة لهم بها ولم يعاينوها معاينة تامة نافية للجهالة .. وبالتالى فليس لهم الحق فى الكلام فيها بتفصيلات من عند أنفسهم قد تأتى على غير الحقيقة .
إنَّ اللهَ كلَّمَ موسى عليه السلام فى الأرضِ عندَ جبلِ الطورِ ولم يندَكّ الجبلُ إلا عندما تجلَّى اللهُ له بما يشاء أن يتجلَّى به من نفسه وصفاته وأفعاله ، أىْ أنَّ الله كلَّمَ موسى أولاً ولم يندك الجبل ، ولكن عندما تجلَّى اللهُ للجبل اندك . فالدَّك سببه التجلِّى وليس سببه حُضورٌ مُفَاجىءٌ من بعد غيابٍ ، أو اقترابٌ من بعدِ بُعادٍ !. ومع التسليم بأن تجلى الله للجبل يثبت وُجود الله فى الأرض آنذاك - لقد ثبت ذلك عن أهل الحديث ورجاله ، وأقر عنهم بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فى فتاويه - نسأل : متى غادرها الله ؟ وما الدليل غير أدلة العلو والفوقية والاستواء .. وقد علمنا أنها أدلة اتساع وليست أدلة بُعد أو ابتعاد أو غياب ؟.. وفى ذلك حل الإشكال ... فهو الفهم المطابق للواقع المرئى لنا ، المطابق لكروية الأرض - فكل ما حولها من جميع الجهات سماء ، وسيرها ودورانها فى جو السماء وانتقالها فيها من مكان إلى مكان . فلا معنى للفصل المكانى بين السماء وبين الأرض .. إذ كل فى فلك يسبحون فى المكان ، والمكان هو الاتساع المطلق الذى يتسع للمخلوقات جميعا ، وفيه الله سبحانه مع الجميع وفوقهم ، ولا يلزم القول بالمفاصلة والمباينة المكانية بين الله وبين خلقه بحجة التنزيه أو الاستقلالية .. فهو معهم حقيقة ولا يحل فى شيء ولا يحل فيه شيء .. وليس كمثله شيء .