|
أختيار الاستال من هنا
|
روسيا اليوم | الجزيرة | ناشونال جيوغرافيك | المملكه | رؤيا | الاقصى | الكوفيه | الرياضيه | عمون | يوتيوب | مركز رفع الصور |
منتدى الصدى الثقافي كتب ، مقالات ، قصص وروايات ، مسرحيات ، شخصيات خلّدها القلم ، تسكن أوراق التاريخ ، ومعاصره تخلق تاريخا جديدا .
منتدى الأدب العالمي والتراجم منتدى الحكم والامثال منتدى قصائد مغناة |
كاتب الموضوع | amreen | مشاركات | 7 | المشاهدات | 20506 | | | | انشر الموضوع |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
25-05-2008, 15:14 | رقم المشاركة : ( 1 ) | ||||||||||||
محمد العمريين
|
رواية - اول حب آخر حب / ماري شو
أول حب آخر حب إنه أيار. شهر يخصّ ميلاد جينا، ربما أصبحت في الثلاثين من عمرها، هيئتها توحي بذلك، ربما كانت أصغر، لكنّها لن تفصح عن الحقيقة . خلا المكان من الزوار، عدا زميلاتها اللواتي ينتظرنها بفارغ الصبر، وعدا بعض الزبائن المتفرقين. شاب وفتاة يحتسيان البيرة. شاب آخر يتغزّل بفتاة تجالسه، وشاب بشعر طويل ولحية مبعثرة يستند إلى البار، تسمّرت نظراته على صدر جينا المكشوف. لم تبتسم. كانت على عجل، وإن كانت ترغب بزيادة (البخشيش) الذي تقبضه بعد انتهاء وصلتها في العمل كل مساء . ضحكت ميكي بصوت عال. ترنّح الشاب ذو اللحية. رفع كأسه نحوها وصرف لها ثمن الكأس. نظرت إلى ساعتها وهي تتأفف ضاحكة. تمايلت بثوبها القصير والضيّق جداً. كان في وجهها مسحة جمال، ملأته عيناها الواسعتان والناعستان معاً، كان لها رموش طويلة، تنساب بتكاسل مع كل إغماضة، وشفتان ممتلئتان. كانت مكتنزة بعض الشيء ومغرية أيضاً. تعوّدت جينا وميكي وساندي وتينا، الاحتفال بأعياد ميلادهنّ كل عام. هذا حقّ لهن، فهن يعملن لقاء يوم يرفّهن فيه عن أنفسهن، وفي كل اتفاق تتكرّر الشروط، فتحمل المشروبات الخاصّة. يشتركن بدفع إيجار سيارة الليموزين، التي ستقلّهن عبر بارات توليدو وديترويت التي تبعد مسافة ساعة أو أكثر عن البلدة، ويأتي أهم الشروط، وهو انعدام الرحلة من الرجال عدا السائق. تأتي الموافقة بالإجماع. تحاول ساندي المزاح وتتمنى أن يكون السائق مثيراً. تعلّق تينا بقضاء الليل في الليموزين. يضحكن. تشير ميكي إلى الميروانا التي تتعاطاها ساندي. تبادلت النساء الأربع النظرات. رفعت ميكي الكأس تحتسي آخر جرعة، واتجهت نحو البار. كانت ساندي تراقبها بوجهها الطفولي البريء، وشعرها الناعم المعقوص إلى الوراء. لم يكن جسدها متناسقاً، إنها سمينة عند الردفين والفخذين بشكل ملحوظ، ولسبب ما اتجهت نحو الشاب المنسجم مع صديقته. جلست القرفصاء وهي تقول بدلع: - اسمي ساندي! وأنت ما اسمك؟ - تشان! - سنقوم بجولة على البارات! هل تذهب معنا؟ راح ينظر إلى صديقته، ثم إلى الساعة في يده. بدا متأسّياً وهو يتذكّر أمراً هاماً. قال: - لدي ارتباط .. إني آسف . حدّجتها جينا وميكي وتينا، وبعد قليل اجتمعن عند مدخل البار، وعدن للعظة من جديد. خلال ذلك ألقت كل منهن نظرة على أمورها. انهمكت جينا بالنظر إلى بنطالها القصير، ثم إلى رقعة الصدر المتدرّجة نحو الظهر. مسحت بطنها بكفّها. راقبت ثدييها. بدت راضية وهي تمسّد شعرها البني الطويل، وتلقي به إلى الوراء، وتراقب الشقراء ميكي التي شغلها تدوّر وركيها. كانت تشدّ بباطن كفّها على مؤّخرتها التي برزت تحت الثوب المشدود. كنّ راضيات وانطلقن نحو السيارة التي تنتظر في الخارج. كانت تينا على غير عادتها ببنطال طويل وسترة فضفاضة، وكأنها قد ملّت تلك الرحلات، لم تعلّق بكلمة، لكنها بدت وكأنها تحاول اكتشاف العالم من حولها . أملين في الليموزين على السائق أسماء البارات التي يرغبن بزيارتها. بدون مهذّبات جداً، ثم انطلقن بثرثرة ابتدأت بالحديث عن الأبناء، وكيف غادرن البيوت. جميل ألاّ يكن مرتبطات، وجميل أن يكون لهن أبناء. علّقت ميكي على فرصتها الذهبية بزواجها من العربي. قاطعتها ساندي التي تمر بظروف مشابهة. للجنسية الأمريكية ثمن. سيستنزفان ما في جيوبهما ريثما يحين موعد الطلاق. هؤلاء الشباب كالدجاجة التي تبيض ذهباً. ضحكن. إنه زواج الإكراه والمقايضة. تدخّلت جينا لائمة ملاحظاتهما، فعلاقتها بالعربي أهم ممّا تعتقدان. فتحت حقيبتها. أخرجت زجاجة خمر. أفرغت منها في جوفها، وتساءلت ببساطة: - ألم تجلبن خموركن فتحت كل من ميكي وتينا حقيبتها. كانت ساندي تشير بأنها ستشرب في أول بار يزرنه. أصرّت جينا على مشاركة الجميع لها، وابتدأت الرحلة بالضحك، فكان للسائق نصيب من الاهتمام. اقتربت جينا تسأله المشاركة. أبدى اعتذاره بأدب. تغامزن عليه، فهو يحسب لدوريات الأمن المنتشرة في شوارع الليل ألف حساب، وعلّقت تينا بأن تجربة سائق متمرّس تمنحه حصانة أمام المغريات. كانت ساندي مستلقية. نظرن إليها غامزات. أليس مثيراً؟ هزّت كتفيها متجاهلة، ورمتهن بنظرة ثقة، فلها المقدرة على إغوائه، لكنها لن تفعل . توقّفت السيارة واستعددن للخروج. أحنت جينا رأسها وفكّرت أن الأمر يستوجب حالة من السكر. ترنّحت وهي تهبط، وخلفها الثلاثة واتجهن نحو مدخل البار، بثيابهن القليلة، وصنادلهن المذهّبة. كانت ساندي تمشي بتثاقل وقد ورد على فمها ذكر ابنها الذي تحبه. نهرتها ميكي، فابنها يماثله في العمر، ودار على عجل حوار قصير، حول الغيرة التي جعلت إحداهن تسارع بالحمل أسوة بالأخرى. أنكرت هذه، فالمصادفة لعبت دورها. تدخّلت تينا بالحديث، ولمّحت إلى المرأة الطيبة التي ترعى الطفلين معاً. كان البار يصخب بالزوار. ضاجّاً بالحركة وبأصوات الكؤوس، وعلب البيرة الفارغة، وموسيقى الجاز تخرج من كل مكان. تحرّكت النساء الأربع على عجل. جلست تينا وساندي أمام البار. أسرعت العاملة تلبي النداء. أحضرت مشروباً لكل منهما، وأخذتا تحتسيان بصمت. كانت تينا أثناء ذلك تراقب كل شيء، خاصة جينا وميكي اللتين ما فتئتا تعبران بين المناضد، وكأنهما تبحثان عن شيء ما، إلى أن جلستا أخيراً، وأشارت كل منهما إلى العاملة بإحضار مشروبها الخاص. لم يطل الوقت حين لمحت تينا كلاً من ميكي وجينا، وقد خلعتا صندليهما، وراحتا في وصلة من رقص. ضحكت في البداية، وحين همّت جينا بخلع حمّالة صدرها، أخذت ساندي من يدها، وراحتا إليهما. شدّت كلاً منهما بذراع. كان منظر الأربعة مثيراً للضحك، وقد لوّحت جينا بصندلها، وهي تجري حافية. في غرفة الليموزين استعادت تينا شروط الرحلة. هذا يوم خاص بهن. عليهن الاستمتاع بكل دقيقة بعيداً عن الإثارة ولفت الأنظار. علّقت ساندي وهي تشفق على تينا، فهذا يوم يخصّها، لكنها لاتعلم كم أصبح عمرها. أسكتتها جينا وهي تغب من زجاجة الخمر. انزوت، وأخرجت من حقيبتها لفافة جاهزة، وأخذت تبحث عن عود ثقاب. مر الوقت بسرعة. كانت جينا أثناء ذلك تضحك بهيستيرية، وكأن فكرة ما قد طرأت إلى ذهنها. رمقت السائق الذي كان هادئاً. مدّت له لسانها. تجاهلها. لكزته بكتفه. أشاح. اغتاظت، وخلال ومضة، خلعت حمّالة صدرها. برز نهداها، وارتمت عليه بكل ثقلها، أبعد كتفيه وقد ندّت عنه ابتسامة، وبين الهرج والضحك، أصرّت على إغوائه، فأبرزت له مؤخّرتها، تلك اللحظة أشاح بذهول. تمتمت ساندي وهي غارقة في الضحك، لقد اكتشفت ان سائقي الليموزين مخصيّون، وعادت إلى علبة الدخان، أشعلت لفافة، وبنشوة راحت تتأمل الدخان المتصاعد. فتح باب السيارة. سقطت النساء الأربع. توجّهن نحو البار. ترنّحت جينا. تمايلت. اصطدمت عند الباب بشاب أشقر اللون. عانقته، وشدّته نحوها. حاول التهرّب. مرّت بشفتيها فوق وجهه. ضحك وكأنه يحاول الاختيار بينها وبين الفتاة التي ترافقه، والتي صفعته فوق مؤخّرته وهي تغادر لا تلوي على شيء. اصطدمت بساندي التي كانت تعود أدراجها نحو الليموزبن لترتمي في أرضها دون حراك. ذهبت كلمات تينا أدراج الرياح. كانت ساندي صمّاء وهي تسوق الشاب نحو السيارة، بين الاحتجاج واللوم. أصبح الجميع داخل السيارة مع الشاب الذي بدا مفتوناً. مساقاً. مسلوباً. رفعت ساندي أثناء ذلك رأسها. تمتمت أنها تحب ابنها وأغمضت. تحرّك السائق الذي تأفف مستاء، ونظر إلى الساعة. كانت جينا أثناء ذلك قد قرّرت ممارسة الجنس أمام الجميع . همست ميكي لتينا شيئاً. غرقتا في الضحك. كانت جينا في أوقات سابقة تحدّثهما عن شذوذها، الذي أوصلها إليه زوجها السابق (كاظم) الذي تصفه بالسادي، وإنها لا تعرف المتعة إن لم تضرب بوحشية . كان الشاب أثناء ذلك مطواعاً بين يدي جينا. سقطا في أرض الليموزين. نهضا. تمايلت السيارة. كان الشاب يعانق جينا المنتشية والتي ابتعدت عنه فجأة. صرخت في السائق أن يقف. توقف. فتحت الباب. رمت الشاب خارجاً. أغلقت الباب، وصرخت في السائق أن يمضي، وهي تغني أغنية خاصة بأعياد الميلاد. أصرّت تينا على العودة، وحين لبّى الجميع رغبتها، كان موعد إغلاق البارات قد اقترب، لكن جينا التي تحتفل بيوم هام في حياتها. خطر لها في طريق العودة أن تعلن عن مسابقة هامة، تتمّ بينهن هنّ الثلاثة، على اعتبار أن ساندي التي تحب ابنها، هي في إغفاءتها الطويلة. تلك اللحظة تساءلت تينا عن أبناء جينا، فأسكتتها هذه لأنها لا تحب التذكّر، وتابعت شروط المسابقة، وهي تتساءل .. من منهن تستطيع أن تبول في الزجاجة الفارغة، عبر عنقها الضيّق ؟ كانت تينا وميكي تضحكان وقد أبتا المشاركة، مما اضطر جينا لإتمام الشروط. وقفت وهي تحضن عنق الزجاجة بكفّها وتصرخ .. أنا الرابحة.. العيد لي، وبالت في الزجاجة . في الصباح الباكر. كانت سيارة الليموزين تبصق النساء الأربع في مدينة توليدو، وكان السائق يتنفّس الصعداء . وقفت هند تداعب حفيدتها : طيّـارة طـارت بالليـل فيهـا عسـكر، فيها خيـل . فيهــا ابراهيم هنــانو راكب على ظهـر حصـانو شعرت ببهجة. ضحكت عالياً. حضنت الطفلة. دارت بها. قبّلتها. أجلستها في حضنها، وراحت تعيد الغناء. اقتربت لين مبتسمة : - صوتك عال يا أماه . - إنه صوت ابنتك .. هي تقمّصت بي . بدا كل شيء جميلاً. الحديقة على اتساعها، بخضرتها، وبعض الأشجار العالية والمتفرّقة، وبين الحشائش الممتدة نبتت أزهار مختلفة الألوان، وقد عرّشت على السور داليات العنب . هبطت الطفلة من حضن جدّتها، فأشارت هند لها قائلة : - اقطفي لي زهرة يا فالن . مشت فالن بخطواتها المرتبكة، وبأصابعها البضّة قطفت زهرة، وعادت إلى الجدة. ذهلت لين. صرخت بزهو : - إنها تفهم العربية جيداً .. الفضل لك يا أمي. ضمّت أمها بحنان. أخذت الصغيرة بيدها، ودلفت إلى المنزل المقابل، حيث تسكن هند. منذ سنوات لم تشعر هند بهذا الأمان. راحت تتمشّى في الحديقة. تمدّ بصرها في المكان المتّسع. شعرت بالسعادة. هاهي تستعيد مكانتها ثانية. تبدّل وضعها الآن. مرت أعوام ثلاثة، فقدت فيها الزوج والبيت والعمل. جرّدها الطلاق من الحلم والأمل، وعبث بها التشاؤم طويلاً، وقرّرت الانتقال إلى بيت ابنتها لين، المرتبطة بشاب يقطن في لاس فيغاس. ترتّب عليها خلال ذلك التخلّي عما يربطها في توليدو. شغلتها (شيبا) الكلبة الجميلة، والقطة (تاشا). غير أن إحدى الصديقات تكفّلت بهما ريثما تعود. باعت البيت الذي تملكه في توليدو، لتسدّد أقساط البيت الجديد في لاس فيغاس، والذي يفوق ثمنه أضعاف ما بحوزتها، فرزحت تحت أقساط جديدة للمصرف. أما المطعم الذي كانت تستثمره فلم يرغب أحد به لسوء حالته، التي كان سببها أكثر من عامل، كان يأتيها اعتقاد بأن الزوج الذي تورّط بأوهامه فترة من الزمن، سخّر ذكاءه - الذي عرف به - لتخريب المطعم، كأن تتعطّل الأجهزة فجأة، أو تتفجّر أنابيب المياه، أو حين يكتشف زوار المطعم أشرطة تسجيل، وزعت في أماكن خاصة لالتقاط ما يدور من أحاديث حين يغيب . أرهقها التعب والتفكير آنذاك. حدث هذا قبل الطلاق. كانت تشعر بالإهانة والذل، وكانت عاجزة عن ردّ ما ألحق بها، وكانت ضعيفة باستمرار، واهنة، تذكر جيداً جابي المياه، الذي يشبه أباها، وقد أتى ذات صباح، يحمل رقماً مخيفاً، وعليها تسديده خلال أيام . كانت جمانا تستمع إلى الحوار، وتدرك أن من المستحيل تأمينه، طالبته بالتريّث، اعتذر بأدب، فالموضوع لا يتعلّق به، وكانت هند خلال ذلك تستعيد تفاصيل المرض عند أبيها. والعمل الجراحي الذي أعاق عنده الصوت. إنه في عمر أبيها حين رحل. يشبهه بصوته، وبطريقته في الحديث، تراكمت الأحزان عندها، والشعور بالعجز أمام المبلغ المطلوب. أجهشت بالبكاء، وهي تلعن اليوم الذي وطأت قدمها هذه البلاد، شتمت جميع من تعرفهم، أو لها صلة معهم، وكانت تنعت زوجها بالشتائم، وكانت جمانا في ذهول، فقد انهارت هند في الأخير، بينما غادر الرجل الذي رطّب خاطرها وكان في عينيه دمعة . ما حدث تلك الفترة، وقبل أن تسدّد فاتورة المياه، أن المالك الحقيقي للمطعم والأرض المحيطة به، أراد استرداد العقار، لتوسيع أعماله في المنطقة، وبات الأمل محصوراً في المردود الذي ستحصل عليه لقاء التنازل عن المطعم، غير أن الفكرة بقيت مؤجّلة إلى ما بعد وقوع الطلاق . سحبها صوت من الذكرى. كان (هانك) الذي يساعدها في أوقات فراغه. أشارت بأنها آتية، ونهضت . نظرت فيما حولها. كم اختلف الحال بين الأمس واليوم؟ مسحت المكان بعينيها، ربما للمرة المائة، أرض واسعة، نصفها إسفلتي يستعمل كاراجاً، ونصفها الآخر حديقة جميلة، وفي وسط المكان بناء جميل، جهّز قسم منه ليكون بيتاً صغيراً ، إنه البيت الذي تعيش فيه هند، والقسم الأكبر هيّء ليكون مطعماً يؤمّه أهالي المنطقة، وتطلّ واجهته الرئيسية على الشارع العام. قطعت أرض الحديقة . دارت بضعة أمتار . أصبحت أمام مدخل المطعم . على يسار المدخل مباشرة، غرفة المكتب المجهّزة بتلفاز وكومبيوتر، ويمتد إلى اليمين بار مرتب وجميل، تقابله مساحة وزّعت فيها المناضد، ويتفرّع عنها المطبخ والمنتفعات، ويطل المطبخ على الحديقة التي تجاور البيت . طالعتها تينا بوجهها الموحي بالثقة. أشارت إلى أن هناك من ينتظرها، وعادت تمارس عملها، وتؤمن طلبات زوّار البار. بدت طويلة بحركة ذراعيها، وكأنها سترقص مباشرة. تمايلت. كانت ترتدي جينزاً قصيراً، وحمّالة فوق الصدر المنتفخ. تعقص شعرها المصبوغ إلى الوراء، ثم ترخيه ثانية. لها أظافر طويلة ملوّنة بالأزرق والأخضر والأسود، حسب ما يليق بثيابها. إنه الزنجي (كولمان). جاء يعبّر عن فرحته بافتتاح المطعم. رحّبت بسعادة، وسألت : - ما أخبارك ؟ - لا شيء الآن .. لدي متّسع من الوقت للانتخابات . - أعرف أنك لن تتخاذل يا حضرة السيناتور . - انتبهي للكلمة يا هند .. لم أحصل عليها بعد ! - ستحصل، وتصبح سيناتوراً. أنت أجدر من كثيرين . - هل تعتقدين هذا ؟ - طبعاً. مرّت ثوان. قال : - ستكون هديّتي لابنتي ! - كيف حالها ؟ - إنها محامية جيّدة .. وناجحة في العمل، كما كانت في الدراسة . - جميل ! تذكّرت ما ألحق به في السابق من عار. شغلت نفسها بالحديث. قالت: - سنعمل بصدق للانتخابات القادمة . ضحك. قال : - لدينا من الوقت الكثير . نهض. بدت تينا وكأنها تعاكسه بضحكتها . ألقى عليها تحية تحبّب. ودّع هنداً، وغادر . دخلت هند المطبخ. كانت العاملة ميري منهمكة بإعداد وجبات الطعام. أحسّت نحوها بالامتنان، إنها أكثر العاملات نشاطاً وحيوية، تنحصر تطلّعاتها بتأمين عمل، لا مشاكل لديها، أو اهتمامات خاصة، فأكثر ما يشغلها هو تأمين الغذاء ومصاريف أبنائها الأربعة، والذي لوّن الحب أحدهم بالأسود . كانت هند في رحلة من مقارنات بين ميري والأخريات، حين فوجئت بإحدى الفتيات اللواتي يرتدن المطعم، وكانت قد انفصلت عن صديقها، واستعاضت عنه بآخر. كانت هند منشغلة عن التفكير بها، فهموم الناس لا تحصى، وقد أتاح لها عملها معاينة أمثالها في المجتمع الأمريكي، أولئك الفتيات اللواتي انحصر همّهن بالملذّات، واعتقدن أنها الهم والقضية، أولئك يعملن عند الحاجة القصوى، ويبعثرن الوقت بالسهر أو النوم، أو قتل الوقت بالتوافه، غير أن الفتاة سألت هنداً وبطريقة جادة، قائلة : - هل أنت متزوّجة ؟ فوجئت هند بها وبسؤالها. أجابت ببرود : - لا! حافظت الفتاة على الجدّية، وسألت بإصرار : - إذن لك صديق ! تأففت هند. التفتت إليها مؤكّدة : - لا .. ليس لي صديق، ولن يكون لي صديق . ابتسمت الفتاة .. عقدت ذراعيها، وسألت ببساطة : - هل أنت سحاقية ؟ بين ذهولها ودهشتها. انفجرت هند قائلة : - كنت متزوّجة، والآن مطلّقة. استبدلني زوجي بامرأة كورية المنبت . قاطعتها الفتاة ببساطة أيضاً قائلة : - أنا آسفة للسؤال، وخرجت . جلست هند القرفصاء. أحاطت رأسها بيديها. كان لديها رغبة بالبكاء. مرّ شريط الحياة. صور من الماضي. طفولتها العذبة. بلدها الحبيب. زواجها الأول. زواجها الثاني. تذكّرت كلمات أختها ليلى: - زوجك الأول عذّب جسدك، والثاني سيعذّب روحك . لقد تركاها حطاماً، هو وأخوه. لملمت دمعتها. استندت إلى الجدار. كانت ميري تراقبها بصمت . تلك اللحظة دخل هانك . أسندت رأسها فوق كتفه وهي تشهق بالبكاء. قال : - ليندا في الخارج تنتظرك ! مسحت دمعتها. ستخرج إلى ليندا زوجة هانك، إنهما أكثر من وقفا معها في محنتها . ربتت على كتف ميري وخطت نحو الصالة . تينا أكثر الفتيات اللواتي يعملن عند هند حنكة وذكاء . أنهت تعليمها الجامعي بتفوّق. يقال إن اسمها في لائحة الشرف ( فالي فكتوريان) حيث يسجّل أسماء البارزين فيها. أحبت الصلاة في الكنيسة منذ نعومة أظفارها، فأسرتها تنتمي إلى (المعموديين) نسبة إلى النبي يوحنا المعمدان، وتسري الصلاة بأن يصبّوا غضبهم على بعضهم بعضاً. يهجمون بالسلام، أو يرفعون الكلفة مع الله، كأن تعلو أصواتهم عليه. لكنها لا تعرف من أين أتت هذه العادة، كما تحب العمل في البارات لعادة تأصّلت فيها، منذ سني مراهقتها. كانت ترقص عارية في ملاه خاصّة بالرجال . لها جسد متناسق. ساقاها طويلتان. ردفاها ممتلئان. صدرها منتفخ على الدوام، وحين ترهّل لاحقته بحقن السيليكون. تعتز بثدييها الهاربين من ثوبها الملتصق بجرأة. تهوى ترك البصمات عند الآخرين. تلفت الانتباه إلى ما ينم عنها من تصرّفات. تلقي الطرف والنكات وتضحك للجميع، دون استثناء. لتكسب ود الآخرين، وليستمعوا إلى ما تقوله دون نقاش، وهم يحبونها كما يحبون زوجها الذي يحضر أحياناً، ويغض الطرف عن تصرفاتها، أو يبتسم لها معلناً عن قدومه . كانت مدركة مدى حبه لها. ومذ تزوّجا قبل ثلاثة عشر عاماً، لم يتشاجرا، أو يحدث بينهما من خلاف. متّفقان على الدوام. يقول إنه يثق بها، وأنها تستحق الثقة، والحب. يجلس في مكان منزو. ينتظر انتهاء وصلتها في العمل، ليعودا معاً إلى الأبناء. أما ابنها (تيو) فقد ورث الذكاء عنها، فهو متفوّق أيضاً، باستطاعته البروز في كل مجال، وترك أكثر من بصمة. يشهد على هذا معلموه في المدرسة، التي يغادرها في أحيان كثيرة، وبعد إتمام يومه الدراسي، ليتجه إلى الجامعة، وهناك يختار الفرع الذي يرغب أن يكون به ذلك اليوم، وكم تحدّثوا عن استيعابه الذي يوازي استيعاب طلاّب الجامعة، فيلاحقه الإعلام باستمرار، إلى أن لاحقه ذات يوم ليظهر على شاشات التلفاز خاضعاً للأسئلة والاستغراب . انبرى أحد الحاضرين مشجّعاً .. قال : - لابد أن يكون لهذا الولد شأن ! ضحكت تينا وهي تهزّ ردفيها .. أجابت : - أجل .. شأن كشأني أنا ! بقيت تينا طوال يومها مغتبطة . لم تردّ ضيافة أحد من روّاد البار. شربت حتى الثمالة. هزّت خصرها ووركيها. غنّت. تمايلت. إنها صديقة الجميع. يشكون لها همومهم، ويشاركونها قضاياها، وتشعرهم بأهميتهم عندها. كان لها نخبة من الأصدقاء، يحضرون خصّيصاً لحديث مطوّل، فلا تبخل على أحد بثرثرة أو نصيحة. يكون زوجها خلال ذلك يراقب بعينين مدوّرتين، فتبدو كتفاه متهدّلتين، ربما لطوله الواضح، وهزاله، وربما لضيق مساحة صدره، لا بطن له ولا عضلات، له خصلات شعر خفيف، تتهدّل على جبينه، فيبدو وجهه كطفل ينتظر قطعة حلوى. فمه مدوّر كعينيه اللتين تنبعث منهما الخيبة. كان مستسلماً على الدوام لما يبدر عن تينا، التي تبدو أكثر قوة وصلابة. يقول إنه معجب بها، واثق من حبها ومن تصرّفاتها خلال العمل الذي هو جزء من مهنتها ،فهي لا تنام إلا معه. إنها له أولاً وأخيراً، لقد منحته أبناء أذكياء، غير أنه يقعي على نفسه، يراقبها وهي تمنح وقتها للآخرين، وينقّل بصره بين الوجوه المعجبة التي تلاحقها فيأتيه اعتقاد بوفاء تينا التي يزغرد السر في أعماقها بعيداً عن العيون، وعن زوجها ورواد البار، فعشيقها لا ينتمي إلى طبقة البارات. كان هذا يبهج تينا، وهي التي يتطلّب منها عدم الالتزام خلال العمل بأحد، وهي لا تريد خسارة عملها، أو خسارة الآخرين. تلك العلاقات الموزعة بين الجميع، ومقيّدة بحدود البراءة، فلا يمنع أن تخص أحداً بحديث، أو اهتمام، لكن أن تنصرف بكليّتها إلى رجل ما، فهذا ما كان يخيف الزوج، وكان هذا سر من أسراره العظيمة، المراقبة بصمت وهدوء، فيصل إلى قناعة من سويّتها، ينهض إثر إشارة منها. تكون وصلتها قد انتهت. يخرجان. يتأبط ذراعها أو يضم خصرها، ويلقي نظرة على المكان وكأنه كسب كنزه الذي كان مهدّداً بالفقدان . اعترفت تينا لزميلتها جينا بسرّها الذي أخفته عن الجميع، وكيف تسرق الوقت لتلتقي بعشيقها بعيداً عن العيون، أما الذي لم يخجلها أبداً وتحدّثت به في أكثر من موقف، فكان من ذكريات المراهقة الأولى، والعمل الأول في نادي العراة، وعمرها الذي لا يتجاوز الثالثة عشرة. تذكر ذلك اليوم جيداً، وعلاقتها الأولى مع الرجال، وصديقها الخاص الذي كان مغرماً بلعبة البيسبول، والذي خفق قلبها له، وقرّرت منحه الحب والجسد، كانت ما زالت عذراء، تحلم كغيرها من الفتيات بممارسة الجنس الذي سيمنحها الأنوثة والجمال. كان والدها غائباً ذلك اليوم، تلك الذكرى التي لن تنساها، وكانا يتّجهان إلى البيت الصغير، مستسلمة لما سيكون وما سيحدث، حين استلقت تنتظر المجهول. تذكر أنها أغمضت عينيها. ربما خجلت، أو خافت . تلك اللحظات التي لا تنسى، وهو يبدي امتعاضه ويتأفّف. أشار بأنها ليست مهيّأة لممارسة الجنس، وليست مسؤوليته أن يفض بكارة عذراء. حدث ذلك بلمح البصر. شعرت بشيء قاس يدخل فيها، وألم يتوضّع في أنحاء جسدها. عرفت من خلال الألم الذي أصابها، أن صديقها الذي أحبته قد اخترقها بعصا البيسبول المخصّصة للعب، وبين بكائها الذي لا تنساه دخل والدها، الذي جنّ لما حصل، وانهال عليه ضرباً بتلك العصا. غير أن الشاب أثار قضية الإهانة التي ألحقها به الأب، فأوقف الأب رهن التحقيق، وصدر عليه حكم الغرامة والسجن، لاعتدائه على لاعب بيسبول قد يكون شهيرا في يوم ما . تضحك تينا كلما تذكّرت. أنه لاعب البيسبول، الذي لم يحقق الشهرة أبداً. جلس بيل قرب هانك الذي راح يثرثر في أكثر من موضوع، إلى أن انتهى بقصة مرضه، وكيف ساعدته هند بلقاء مطوّل مع الطبيب، الذي بسّط له خطوات العمل الجراحي، وضرورة إجراء سريع له، فقد يستفحل المرض، وتصعب مقاومته وعلاجه، خاصة وأن المرض يبدأ بالقدمين، يصيبهما بعجز عن الحركة، أو يصلان إلى الشلل ، فتجرّأ آنذاك، واستسلم لمبضع الجرّاح، الذي كان له الفضل في شفائه . راقبه بيل. كان في الأمس يشكو من التعب . ونصحه بزيارة الطبيب الذي عالجه . سأله : - ماذا قال الطبيب ؟ - قد أضطر لعمل جراحي آخر . إنه مصر أن التدخين سبب ما أنا به . - اتركه ! ضحك هانك .. هزّ رأسه في اللحظة التي مرّت هند. كان بيل يراقبها بإعجاب. تمتم : - أشعر نحوها بالحب . - وأنا أيضاً. ضحكا .. تابع هانك : - ما زالت تحب جورج .. طلقت منه وتحبه .. ربما سيتزوّجان من جديد . - هند لا تفعل هذا . - وإن فعلت ؟ - لا أستطيع أن أتصوّرها معه ثانية .. لقد عذّبها كثيراً. التقت نظراتهما. وأخذا يضحكان. كان كل منهما يدرك مكانة هند عند الآخر. كانا صديقين لها، وكانا يهرعان إليها إن وقعت في ضيق، أو شعرا بحاجتها إلى المساعدة، وكانت هي تحاول في كل مناسبة ردّ الجميل . دخلت هند برفقة لين والصغيرة فالن. ألقيا التحية ومرّا. لاحظ بيل سلام لين الموجّه لهانك فقط، كما لاحظت هند ذلك، وفي لحظة هدوء سألت ابنتها عن سبب ذلك، فأجابت : - لا أريدك أن تتحادثي مع بيل . ضحكت هند. تساءلت : - لم ؟ - لا أدري ؟! لكنه يشبه الأرنب بأسنانه، ومشيته . تململت هند وهي تضحك للملاحظة. سألتها وهي تتفرّس بعينيها : - وهانك ؟ ارتبكت. أجابت وقد رقّ صوتها : - هانك رجل طيّب، ولقد اعتذرت منه لما سبّبته له في السابق. أصبحت هند جادّة. قالت: - أرجو ألاّ تضطري للاعتذار من بيل في يوم ما . - أماه. إني لا أمزح . لا أحب بيل هذا . تململت هند . كان الهدوء قد خيّم على الجلسة، وكأنها فكّرت طويلاً، وهي التي تعرف مدى حب لين لها، ومدى غيرتها التي لا تبرير لها في أكثر الأحيان . قالت بشيء من الجدّية : - ابحثي لي عن صديق . أنا امرأة عزباء . - أماه .. مستحيل ! - لماذا مستحيل ؟ أنا امرأة في الخامسة والأربعين . لا ارتباط عندي . هذا يعني أن حياتي ملك لي، وليس للآخرين . - أماه . أنا أحبك، ولا أريد أن تقعي في الخطأ . نهضت لين وهي تحضن ابنتها . كانت هند تلاحقها بكلمات التحبب، وكانت هي تبتعد وقد شدّت كتفيها إلى الوراء، فتهدّل شعرها الكستنائي. بدت جميلة باضطرابها وقلقها، أما هند التي أقسمت ألاّ تتزوّج ثانية . أقسمت أيضاً ألاّ تجلب الحزن إلى عيني لين وابنتها أبداً. سألها هانك بلهفة : - ما بها لين ؟ ابتسمت هند . تمتمت : - إنه بيل . ضحك هانك من أعماقه، وقال : - الحمد لله هذه المرة بيل، وليس أنا . أما بيل الذي ابتسم وقد احمرت أذناه، فقد آثر الصمت، واختلس نظرة من هند التي ربتت على كتفه، وابتعدت . يتمتّع بيل بصفات الرجل الأمريكي الطيب. أرمل. يقارب الستين من العمر. يعمل مديراً لإحدى الشركات الخاصة بتأجير السيارات. يصف الأعمال كافة، بالدواء الشافي للأمراض العصابية. ورث عن أبيه ما جعله في بحبوحة عيش، وبعد أن أنهى أبناؤه مراحل الدراسة. أصبحت لهم حياتهم الخاصّة. رفض كل منهم تلقي المساعدة منه، وأعربوا عن احترامهم لأموره، وعليه بالمقابل السخاء على نفسه، والتمتّع بمباهج الحياة. يهوى بيل الرياضة والاستماع إلى الموسيقى، يمارس الجري في الصباح الباكر، يعرفه أكثر من في الجوار. يلقون عليه تحية الصباح. يوزّع الابتسامات، وهو الذي عرف بجرأته في المواقف الصعبة، يشعر بأن له حق التدخّل في شؤون أصدقائه، ذلك الحق الذي خوّله ذات يوم عرض بعض المال على إحدى عاملات البار، على اعتقاد أنها بحاجة ماسّة إليه، وكلّفه ذلك مزيداً من الثرثرة والاتهامات. لم يتبدّل بيل، فحب العطاء متأصل به. فلا يمر بذهنه خاطر له نفحة المساعدة إلاّ وهب لتحقيقها، يتابع الصحف ووسائل الإعلام، يبحث عن مزاد يكون ريعه للمحتاجين، وأكثر ما كان يهمّه، أخبار المعاقين، خاصة أولئك المولودين في ملاجئ الدولة، فيهرع إلى تلبية ذلك الدافع، الذي يحثّه على المبادرة، وتقديم ما يراه ملائماً. كان هانك وهند أحياناً يتوقّعان مجئ يوم، لا يرى معه ما يغطّي نفقاته اليومية. كان يضحك ويصف شعوره بالمد الذي لا يستطيع إيقافه، وكأن حياته ستنتهي إن لم يستجب لذلك النداء الذي يصرخ في أعماقه في كل مناسبة. لم يكن يريد شيئاً من هذه الحياة. يحب أبناءه وحفيديه، يحب الطعام بأنواعه. يعلّق بأن وجبة طيبة تجلب اللذة، وقد تنقّل في مطاعم توليدو، وفي شبابه تنقّل كثيراً في مدن كثيرة، ومطاعم كثيرة، وتذوّق مأكولاتها، فلم يتذوّق أطيب من الطعام العربي، خاصةً (الكبّة) بأنواعها، وكان يعدّد بعض أصنافها، فتخرج من شفاهه ملثوغة. كانت هند تضحك، فيضحك هو أو هانك وزوجته. يعتقد من يراه للوهلة الأولى ببلادته، ربما لهدوئه، أو لجسده اللامتناسق. من يراه ماشياً لا يصدّق أنه يجري ساعات دون تعب أو ملل. له تقاطيع دقيقة، وأصابع دقيقة. يبدو لمن لا يعرفه أنه يمت لإحدى قبائل الهنود الحمر، بلون بشرته ونظرة عينيه. كان وحيداً دائماً، عدا هانك صديقه الوحيد، وهند التي تعرّفت عليه أول مرّة في مزاد، خصّص ريعه للمعاقين، كان التعاطف على أشدّه، فالشعب الأمريكي يتبع انفعالاته، ويهوى تقديم المساعدات، خاصّة إن وجدت الدعاية الكافية لها، فيهرع بصدق وقناعة شديدين. ذلك اليوم كان بيل ينافسها في رفع قيمة المبلغ، وكانت تحتد كلما تضخمّ المبلغ، وحين انتهت المنافسة، كانت لصالحه. لم تكن حزينة للنتيجة، غير أنه جلب لها البهجة وهو يقدّم لها الهدية الرمزية التي تلقّاها، وكانت أول معرفتها به التي استمرت سنوات. يبدو محباً بابتسامته الهادئة. ومتفرّغاً لجلسة قصيرة. يأتي إلى المطعم. يختار مقعداً بعيداً عن الصخب. كان يتعامل مع ميري بسخاء، ويتحدّث عن حاجتها الماسّة لما تعيل بهم أبناءها الصغار، وكانت تهتم به بطريقة لافتة، فهو يحترمها، ويقدّر جهودها، وفي أحيان كثيرة تستقبله بعناق أقرب للتحبّب، فيشعر بالانتشاء، وتطفو مسحة خجل فوق وجهه. تزوجت هند من ابن عمّتها جاد الصغير وهي في السادسة عشرة من عمرها . حملها من بلدها إلى مسقط رأسه في توليدو. كان رجلاً مزواجاً، له عشيقات يشغلنه باستمرار. أذاقها ألوان العذاب كما حدث مع زوجته الأولى أم ابنته كاتي، أنجبت هند أيضاً ابنة سمّتها لين، وكانت في السابعة من العمر حين طلّق والداها. أما ابن العمة الأكبر جورج فكان لها ولابنتها المعين والملجأ، وكان أرملاً ووحيداً. أحاطهما بالرعاية والاهتمام، ومرّت السنوات ليعلنا نبأ الارتباط، ويتزوّجا. ذاقت على يدي جورج عذاباً آخر مختلفاً. كان ظنوناً، باستطاعته رمي الاتهامات كيفما شاء، وأرجع الطبيب ذلك لحالة تصيب بعض الرجال في هذا العمر، خاصة حين يكبر الزوجة بعشرين عاماً أو أكثر . تبدّل جورج. تلوّنت قمصانه. صبغ شعره. أكثر من ممارسة الرياضة. له قامة منتصبة، وجسد متناسق. يعرف كيف يتحرّك أو يمشي. ظهرت في حياته امرأة كورية الأصل، هذه المرأة كرهت هنداً، وأتاها اعتقاد أنها المنافسة لها، أما ليلى فقد أقسمت أن جورج قد أوحى للكورية بذلك لأسباب خاصّة به. لم يبتعد أبناء العمة عن هند خلال فترة الطلاق. يتناقشون أمامها بتطوّرات الأحداث، فتثور ليلى. تذكّرها بالماضي، بطلاقها الأول، بآلامها، بأحزانها. تصمت، فليلى على حق، فأبناء العمة حرقوا عمرها. اتنزفوا صحّتها وأعصابها، إنهم متعاضدون. متكاتفون، لكنها لا تدري لماذا تغفر لهم، فهي لم تكرههم في يوم، تبرّر لهم. هم أهلها وأسرتها مذ وطئت قدماها هذه الأرض. تعوّدت أخطاءهم وكيف تتعامل معها. أما جاد الصغير زوجها الأول، فكان يبدي أسفه في كل مناسبة لما سببه لها من آلام، ويتطوّع في أحيان كثيرة لخدمتها، فتضحك. كان يحتاج لمن يخدمه، فقد تدهورت صحته. هزل جسده وابيض شعره، وغارت عيناه، ثم تساقطت أسنانه، وأهم من كل ذلك فقد ضعفت قبضة يده المشهورة بقبضة الموت. فيبدو أكبر من أخيه الأكبر بسنوات، فتسانده هند بكل ما تستطيع، ولضيق يده تهرع تلبي المعونة التي هي في أكثر الأحيان ما يساعده على مصاريف الحياة، خاصة وهو ينتقل من فتاة معدمة إلى أخرى، بعد أن تركته روزا صفر اليدين . هزمت هند في الزواج مرتين، غير أن شعورها بالخسارة كان أقسى في الزواج الثاني، وكان هو في حالة من السعادة والوئام مع المرأة الكورية، التي لم تستسغ وجود هند قريبة من حياتها . أما ابن العمة الأصغر الذي ماتت زوجته انتحاراً، فما زال يحتفظ بالصحة والنشاط، وما زال قميصه ملوّثاً ببقع الدهون والعسل. يفتخر بحبه لأمريكا، وبقبعته. يتحدّث عن صالات القمار بعشق. يضحك وهو يهتز بأجمعه. كانت دكسي زوجة صديقه فعشقته، ثم طلّقت زوجها الذي تعيش معه تحت سقف واحد بعد الطلاق من أجل التوفير. يتقاسمان إيجار البيت، ومصاريف الماء والكهرباء، وفواتير الهاتف. زوجها يعرف بعلاقتهما. حافظ على صداقته معه فترة من الزمن، ثم تخاصما، لا لأسباب تتعلق بتلك العلاقة، بل لأسباب أخرى، وتصالحا ثانية. أما دكسي التي تعمل مضيفة للطيران برتبة جيدة، فتنام في بلد وتستيقظ في بلد، وتحط الرحال أخيراً في بيت طليقها، وتحلم بالعودة إلى أحضان الأصغر الذي يعد الأيام لمجيئها، فهو يحبها كثيراً. لأبناء العمة الثلاثة حظوة عند لين، فهي مولعة بأبيها وعمّيها كولعها بأمها. تلك العلاقة التي عرف جورج استغلالها، فشغل لين بكرمه الخاص معها أولاً، ثم بنقل الأسرار التي يطّلع عليها بذكائه، خاصة وهو في حالة من الظنون، فيسكب في آذان لين التي لا تعرف الكذب، ما شاء له من تصوّرات. أما لماذا ؟ فذاك ما احتفظ به ليبقى سرّاً من أسراره العظيمة كما يقول. أما في بقية الحالات، كانت الأخبار الهامة وغير الهامة، تأتي في سياق الحديث على لسان لين، ما قاله جورج، وما سيفعله، أو ما سيجدّ في حياة كل فرد في أسرتها التي تحبها بجنون . قرّرت لين العودة إلى لاس فيغاس . لقد انتهت فترة الاستجمام التي حلمت بها. أتى الخبر مفاجئاً لهند، فلم تتفوّه بكلمة، فالزوج ينتظر بفارغ الصبر . حضرت ليلى وجورجي مع ابنته آنا لوداعها. كان الطقس جميلاً. مرّ الوقت في الحديقة، حيث قضوا النهار في الدفء. كان الغداء لحماً مشوياً، وكان كل منهم يعمل، ولم يغب عن فالن المساعدة، فتروح وتجيء وتجلب البهجة إلى الجميع . لحق بهم (ديف) صديق ليلى. بدا الجميع في انسجام، عدا جورجي المنشغل بغياب جمانا. اقتربت منه هند سألته : - أتحبها ؟ لم يجب . قالت : - أنا أحبها جداً. إنها أفضل زوجة أخ . - زوجة أخ ؟ أنت تحلمين . - لم لا ؟ قرّر .. تتزوّجا - القرار لها .. أنت تسخرين مني . كانت آنا خلال ذلك تراقب أباها. لم يكن ليعتقد بأن الطفلة ذات السنوات العشر تعي ما يحدث. اقتربت منه. سألته : - هل ستتزوّج جمانا ؟ - لم تسألين ؟ - لأن أمي لن تتزوّج . - حقاً؟ هزّت رأسها. سألها : - هل تحبين جمانا ؟ - أحبها .. لكن .. لماذا رحلت إلى فلوريدا ؟ - لا أدري يا لين . كان جورجي أكثر من يعرف لماذا رحلت، وهي التي أقامت عند هند سنوات ثلاثاً. عملت معها في المطعم. طبخت الأكل العربي بأصنافه. أعادت له ذكرى أمه وطفولته، ووطنه. أحبها كثيراً. وجد في عينيها أمله الذي ضاع أكثر من عشرين عاماً. كانت له الحلم. الماضي والحاضر، والمقبل، وكان يتلمس الحب في عينيها، في لمسة يديها، في حركتها ولهفتها. غير أنها تعرف الهروب في لحظة ما. تهرب وقلبها معه. كان يدرك أكثر من هذا، ويدرك أيضاً أنها تنشد له الراحة والاستقرار. لكنها طالبته بالكثير. ساومته على عمر مضى، على سنوات طويلة محفورة في عقله وقلبه، في جسده وشرايينه. سنوات تأصّلت به، أصبح منها وهي منه. ليس سهلاً أن يترك عاداته. إنه يتحرّك ودون أن يدري. ينساق كما في كل مرّة. تذكّره الساعة. يذكّره الأصدقاء. كل شيء يحثّه، وحين يحل الموعد ينساق إلى هناك. يجد نفسه في تلك الصالات. كثيرون يهرولون إلى هناك. يراهنون على الأحصنة، أو ينشدون المقامرة، وفي كل مرّة يأتيه الشعور السابق. سيستعيد كل ما خسره خلال السنوات دفعة واحدة، ثم يغادرهم إلى غير رجعة. لقد أطعم تلك الصالات تعبه وعرقه طويلاً، ورزح تحت الديون. كل صالات أمريكا تدعوه إليها مجّاناً. بطاقة السفر ومصاريف الإقامة. يكفيها أن يلبّي الدعوة. يجب أن يتشجّع، يتجرّأ، فهي أيضاً ستمدّه بالمال كما مدّته دائماً، وغرق في الديون، وما زال يهرول إلى هناك. يحمل أمل أرباح قادمة تعوض له ما فات . اقتربت هند منه. تمتمت : - كانت رائعة .. تحمّلتنا كثيراً . - من تقصدين ؟ - جمانا .. عاشت معي ظروف الطلاق خطوة خطوة . - أعرف هذا . - ماذا قلت ؟ - بماذا ؟ - هل ستلبي رغبتها ؟ - لا أدري . عانق لين وفالن مودّعاً. أخذ آنا بيدها وخرج . كان يراقب الساعة. حسب الوقت ما بين بيت آنا والعودة. أسرع. لن يفوته الوقت على رهان الأحصنة. بدا منشرحاً وقد نسي جمانا. تحدّث في الطريق مع آنا. سألها عن علاقتها بأخيها من أمها والذي يكبرها قليلاً. سألها عن أمها. بدا مطمئناً. وعدها بتمضية عطلة الأسبوع في مدينة الألعاب، والتي تبعد مسافة ساعتين عن توليدو. بدت مبتهجة. عانقته وهي تهبط من السيارة. راقبها وهي تدخل من الباب. أرسلت قبلاتها. ابتسم وهو يغادر إلى غايته. تميّزت ليلى بقوة الإرادة، وصلابتها أمام المواقف الصعبة، فبعد طلاقها من كارل زوجها السابق بسبب الإدمان، قرّرت عدم الزواج. أصبح الزواج بعينيها صفقة يربح فيها الرجل على الدوام، وتصبح المرأة تابعاً تتسقّط أموره وأحلامه وهمومه، ولكي تحيا بكرامتها وتثبت جدارة في الحياة، عليها شقّ الطريق بنفسها دون الاعتماد على الرجل، الذي سيتحوّل بعد الزواج إلى مرشد، وأكثر منها ذكاء وقوة . هذا ما تعلّمته من الزواج الذي لم يتكرّر، أما صديقها ديف الذي ارتبطت معه بعلاقة عمرها عشر سنوات، ما زال يحثّها على الزواج، لكنها ترفض بإصرار، وتلغي كل حديث حول ما له علاقة بالفكرة . امتلكت ليلى مطعماً أيضاً، ولم تنس في يوم ماضيها قبل ذلك. كانت تعمل في المطابخ. تنظّف الأرض والأواني . تساعد صاحبة المطعم. تجهد. تتعب. لم تقف دون عمل، وتعلّق على المتسكعين بمزاح لا يخلو من لوم. أما أهل المنطقة فقد أحبوها لصدقها واستقامتها في العمل. كانت المنطقة مميّزة بشارعها العريض الهادئ، والمتفرّع عبر طرقات معبّدة، بين الأشجار الجميلة، حيث البيوت السكنية، هذا الشارع الذي على السيارات التي تعبره السير ببطء. كان الأهالي هادئين بطباعهم. يحلمون بالهدوء والراحة. يتعارفون ببساطة، وحين يجتمعون يصبحون كأسرة. وأحياناً يشاركون ليلى في همومهم أو مشاكلهم، فلا تبخل بحديث أو نصيحة ، وحين يستولي عليها الملل ترمي أمامهم رغبتها بالرحيل عن المنطقة . يتعالى أكثر من صوت. خاصة العجوز (بابوف) فمن المستحيل أن ترحل، فهو لا يريد بديلاً منها . تضحك وهو يقدم لها الحلوى، لكنها تؤكد أنها ستبحث عن مكان له مواصفات أفضل، في منطقة أجمل. فيعلو أكثر من صوت. سنلحق بك حتماً. كانت تدرك أن أحداً لن يلحق بها، فقد تعوّد سكان هذه المنطقة على الانعزال عن بقية المناطق في توليدو، فبعد أن يعودوا من العمل لا يفارقون المنطقة. كانوا جميلين بعاداتهم، ومع هذا كانت ليلى تحلم بالأفضل والأهم . هكذا علّمها هذا البلد . بينما تراقبنها العاملات بإعجاب . كيف أصبحت تمتلك مطعماً؟ تهمس ليلى. بالتصميم والإرادة وحسن الإدراك . لا شيء يأتي بالتمنيات. سألتها إحدى العاملات وكان اسمها شيري، بينما ساندي تنظر إليهما ساهمة : - لكن . كيف ؟ - رأس المال يا عزيزتي ! - وكيف يأتي ؟ - حين تعملين بنشاط، وتفهمين أن ما تقبضينه هو ثمن أتعابك، وتكفّين عن هدره بالخمرة، أو الرهان، سيكون لديك ذات يوم رأس مال حتماً، ويتكفّل المصرف بالمساعدة . - هذا صعب جداً. أنا أرضى بالقليل. أعمل لأصرف . والمستقبل مضمون بالتقاعد كما تعلمين . - لذلك. أنت تعملين يوماً، وتنفقين أجرك على يوم آخر، وتنامين بعد ذلك يومين آخرين . - هذا صحيح ، ويعجبني . ضحكت ساندي التي كانت معجبة بليلى، غير أن لها طريقتها في الحياة، فزواجها من زاهي هو فرصتها الذهبية التي أتت من دون تعب . تمّت المقايضة بينهما ببساطة. تمنحه الجنسية الأمريكية، ويمنحها المعيشة اليومية مدة عامين دون انقطاع. كان عليهما العيش معاَ. لكنّهما قسّما البيت، لكل غرفته، وله حرية التصرف الخاص. تتحدّث عنه فتقول. إنه جميل الشكل، يحمل ملامح الشرق، صارم وحاد. يعجبها ولا يهتم بها، ولا تبالي لذلك، فما تريده تحصل عليه، الراتب المتّفق عليه، والحرية التي لا تساوم عليها . لم يكن زاهي حاداً أو صارماً، لكنه أراد أن تبقى العلاقة بحدود الجدّية، فهي امرأة مأجورة لغاية ما. وكان باستطاعته أيضاً اختيار الفتيات الأخريات للتسلية، وخارج إطار الزوجية، غير أنه صمّم على الدراسة، فكان يعمل ليساعد نفسه، ونصب عينيه النجاح . أما هي، فقد أتت فرصتها أخيراً، وقررت أن تصبح أماً طالما هي متزوّجة. سيكون لابنها أب ينفق عليه شاء أم أبى. ضحكت وهي تسرّ لميكي التي صرّحت لها بأنها حامل أيضاً. أكثرت ساندي من الغياب عن البيت. لم يعر زاهي لذلك اهتماماً، إلى أن صرّحت له بخبر حملها، لم تلاحظ ذهوله . كانت في سعادة قصوى، فالإنجاب أهم حدث في حياتها، ستعرف معنى الأمومة التي تستيقظ أحياناً في داخلها، أما زاهي فقد انشغل بدور الأب، وما الذي سيترتّب عليه من مسؤوليات خلال العامين القادمين . ضحكت ليلى من أعماقها للخبر. كان لها رأي بأولئك الفتيات، وكيف أضعن ويضعن أنفسهن منذ بداية الحياة، لكنها وبعد حديث قصير مع ساندي التي تبحث عن تحقيق أمومتها، وعن حلمها الذي أتته الفرصة للتحقيق، والذي هو أيضاً من أحلام ليلى الذي ضاع. شعرت بأن لها الحق في ممارسة أمومتها، وتصبح أماً لمرة واحدة، فقد لا تتزوّج أبداً. نظرت إلى ساندي التي توصّلت إلى ما تريد، وشعرت خلال ومضة أنها تكن لها الاحترام، وأنها ند حقيقي للرجل، نهضت قبل التفوّه بكلمة، لتغرق نفسها بالعمل من جديد . لم يستمر زواج جينا بكاظم طويلاً. انتهى بعد حصوله على الجنسية، لكن العلاقة بينهما استمرت، فقد ارتبطا بطفلين خلال الأعوام الثلاثة الأولى، غير أن مشكلتها الأولى لاحقتها، حين رقصت عارية أيام مراهقتها، في ملهى كان كاظم الشاب العربي الذي ينتمي لأسرة محافظة، يعمل مموّلاً سرياً له، على اعتبار أنه الأجنبي الذي لا يحق له العمل . كيف ابتدأت قصّتهما؟ ما تذكره أنها لفت انتباهها منذ اليوم الأول للعمل. كان أسمر اللون، حاد التقاطيع. تصفه بالرجولة والقوة، وتصف ما حدث بينهما ذات ليلة، فبعد حفلة من التعرّي الليلي وإثارة الموجودين. ظهرت عليه بوادر اضطراب شديد فسّرتها بالغيرة، ولشدّة إعجابها به أكثرت من حركات الإثارة، ولم تمض الليلة حتى هبّ إليها بجنون. جرّها إلى خلوته. تذكر جيداً الصفعة الأولى ثم الثانية بين الألم والذهول، وكيف انقض عليها يشبعها ضرباً ولثماً، إلى أن نال منها ما حرّمه على زبائن الملهى . أحبت جينا غيرة كاظم، وانفعالاته. فتحمر وجنتاه أولاً. تجحظ عيناه. راحت تحتال لإثارته بشتى الوسائل، وتترقّب ساعة الاختلاء. تتلمّس مواضع الألم، مستعدة لكل حركة أو فعل. كان هذا أكثر ما ترغب به. تلك الدقائق القليلة قبل المضاجعة. تستفزّه، ثم تتمنّع عنه، أو تتحدّث عن رجال أثاروا إعجابها. يتململ أو يتذمّر أو يضجر، فتعلن عن شوقها لرجل يريدها. يرغب فيها. يضطرب. يصرخ بها. تشيح عنه. يثور. ينظر إليها بشزر. يتذكّرها عارية. يتهيّج. يصفعها بقوة. تلملم نفسها. يهوي عليها ضرباً. تحاول التملّص. يكتّف ذراعيها. تصبح طفلة. يصبح شاباً. تبدأ مرحلة الاغتصاب، وكانت في كل ليلة تحلم أن تتحوّل إلى عذراء، ويقوم كاظم بدور المغتصب المجنون، واكتسبت مع الأيام لذة تصفها بالاختلاف والتميز في المقابل. كانت تكره ما يقوم به في أثناء النهار، كل ما ينم عنه. طريقته في الحوار. تسلّطه. تعامله مع أبنائه الذين تصف أنهم أتوا من القوة. شتمها الكبير ببراءة طفل لا يتعدى الرابعة من عمره. ضحك كاظم من أعماقه، فكيف توصّل إلى حقيقة أمه العاهرة ؟ هاجت جينا ودخلت في نوبة من صراخ. هبّ لإسكاتها. شتمته. صفعها ابن العاهرة. شدّها من شعرها وهو يكم فمها. أفلتت منه بكل ثقلها. شدّها ثانية وخطا بها. انزلقت وراءه. دخل غرفة نومهما. أغلق الباب. وبين صراخ الطفلين، كان يمزق ثيابها، وخلال ثوان رماها عارية فوق السرير، وقد سال خيط رفيع من جرح في شفتها. مسحه على عجل، وبيده مزّق آخر قطعة قماش فوق جسدها، ودخل فيها بصمت . قليلاً ما ضاجعها وهو في حالة من السكينة . يحدث هذا بعد ليلة عامرة من الصخب، ومن تناول الخمور حتى ساعة متأخرة، فتتهدّل عيناه ويداه، وينسى نفسه، وربما تحولت قدراته إلى شيء مختلف. ينسى من هو؟ من أين أتى؟ يبحث عن أي شيء. عن فكرة. عن صورة. عن امرأة يفرغ عندها لذته. كانت جينا تصف تلك الحالة البسيطة بالشذوذ، طالما لم تبلغ فيها النشوة المعتادة . لم تبخل جينا من تصوير ما يحدث بينها وبين كاظم ونقله، تضحك ميكي وساندي وتينا. تقول لهن بأنها تعوّدته، لا تشعر بالحب نحوه، ولا تطيق البعد عنه. كان هو يبادلها الشعور، فيلتقيان أحياناً من أجل ابنيهما، وأحياناً من الشوق، فينزلقان معاً في سرير الحب ويؤكد لها تلك اللحظات أن مبتغاه ما هما به، وأنها أجمل النساء. يصف خصرها، وصدرها ووركيها، فتهرول إليه بين حين وآخر، فهو في نظرها أكثر رجولة، وأكثر من أحب جسدها. قد تكون لا تحبه، لكنها تحب ما يصدر عنه. تريده هو ولا تريد غيره. إنه يحبها بقدر ما يؤلمها. هذا الألم المرتبط باللذة وهذا ما حدث بعد الطلاق. استمرا في علاقتهما. فتتذرّع بمرافقة ابنيهما، كما أقرّ القانون، واكتشفت خلال لقاءاتها به، أن لا امرأة في حياته، فهو ينتظرها، وهي رضيت أن تبقى العشيقة الدائمة، على أن تخرج من حياته للأبد، غير أنها حلمت أن تعود إليه، ربما من أجل ابنيهما، أو الحلم ببيت وأسرة، أو الدفء، أو شعورها كزوجة، لكنها وفي قرارة نفسها تدرك أن غريزتها هي السبب. تصمت، ثم تعود للتفاصيل . لم تتحقّق أحلام جينا بالعودة ، إذ حضرت أم كاظم من بلدها، لتعيش مع ابنها وترعى أموره . استيقظت هند على رنين الهاتف . كانت مصلحة المياه تذكّرها بدين عليها تسديده. هبّت مرتبكة . تذكّرت الرجل الذي يشبه أباها، والفاتورة المخيفة، وخلال ما قبل الظهر كانت تسرع إلى هناك، وفي ذهنها رقم كبير. كانت مستسلمة لفكرة التسديد، فلا مهرب من قضايا تتعلق بالمصالح العامة . فوجئت هناك بأن المبلغ لا يتعدّى مئة دولار، وحين تأكدت كانت في ذهول، فهي قد قرأت الرقم في يد الرجل الذي يشبه أباها ذلك الصباح، أما الموظف المسؤول والذي كان مستغرباً أيضاً، فلسبب أو لآخر ألغي اسمها واسم المكان ورقم العداد من صفحة الكومبيوتر، وكان من الممكن تجاهل ذلك طويلاً، لولا أن المالك الحقيقي للعقار قد أثار الموضوع ثانية . أخرجت من حقيبتها بطاقة الرجل الذي يشبه أباها. ضغطت على الأرقام. أتاها صوت يجيب بكل التأسي أن صاحب البطاقة قد توفي قبل ستة أشهر من الآن . بكت بذهول . كانت تعود من حيث أتت، وصورة ذلك الرجل الذي ربما هو أيضاً قد شبّهها لأحد في الذاكرة، قد عزّ عليه آلامها، وقرّر إزاحة أسباب تلك الدموع التي سقطت يومذاك . هذا الرجل الذي يعرف معنى الألم وأبعاده، ويجهد لإزاحته، لابد أيضاً يعرف معنى الخيانة لعمله الوظيفي، ومع هذا نهض عنده الجانب الإنساني الذي ربما حمله بين عينيه في لحظات الوداع الأخير وهو يبتسم بسعادة . هذا الرجل يشبهها، بل هي تشبهه، لو كانت مكانه لفعلت هذا، بل هي تفعل هذا، ولو أنها في موقع آخر لاختلف نمط حياتها، وأسلوب حياتها، لكانت امرأة مختلفة. لكنها غنية بالآخرين، بالأصدقاء. إنهم حولها من كل الفئات. المثقف والعامل والمتعلم. نساء ورجال. كانوا يتبارون لتقديم المساعدة. اشتغلوا عمالاً. اشتغلوا في كل شيء، ولم تفارق الابتسامة وجوههم، إلى أن جهز المطعم، وانتظروا لحظات الافتتاح، وكان كل منهم ينتظر قدوم الخير، لتنسى عذابات السنوات الماضية . تلك الحادثة أعادتها إلى الوراء، إلى تلك الأيام القاسية، وقبل أن تصل البيت، كانت قد قرّرت . جمعت حوائجها. جمعت العاملات. أسرّت إليهن بأنها تريد بعض الراحة. ستغيب أسبوعا. ألقت نظرة على كل شيء، وخرجت . في الطريق بكت. أخرجت أشرطة تحفل بالغناء العربي، وأخذت تستمع تارة صباح فخري. تارة أم كلثوم. تارة فيروز، ومع الأغنيات تضحك تارة وتبكي أخرى . لا تدري لم تلاحقها تلك الحادثة. حدث ذلك في مرحلة الطلاق. حدّثها جورج على الهاتف. بثّها أسفه الشديد لما آلا إليه، وشدّد على حديث خاص لابد من شرحه، وطلب فسحة للحوار، واتفقا على لقاء في المساء. أشار ببساطة أن تترك الباب مفتوحاً. كان هذا من إحدى العادات السابقة قبل مشاكل الطلاق . كانت جمانا تلك الفترة تقيم مع هند، وقد اطّلعت على تفصيل الطلاق الذي يجري بقسوة وأنانية وأقسمت ألاّ تتزوج بعدها. كانت ذلك المساء تغفو بعمق حين رن الهاتف. أسرعت هند تجيب. كان المتحدّث زوجها الأول جاد الصغير. كان متلهّفاً مفزوعاً. طلب منها إغلاق الباب جيداً، فالمرأة الكورية قادمة ومزمعة على قتلها . أطلّت من النافذة، وجدت المرأة تترجّل من السيارة وبيدها شيء معدني يلمع. أغلقت الباب. كانت جمانا التي استيقظت على صوت الهاتف جزعة، وانهمكتا معاً بالاتصال مع رجال الأمن الذين وصلوا للحال، وأخذوا يحاورون المرأة التي شرحت ظروفها، عن عطل بسيط أصاب السيارة، وهي الآن سترحل، هدّدها الرجل بالابتعاد عن المنطقة، فحصل أن ابتعدت. لكنها عادت بعد قليل، وقفت والتقطت الشيء اللامع من الأرض، ورحلت . حضرت ليلى وجورجي في اليوم الثاني. كانت ليلى ثائرة ومصرّة على لعبة جديدة يقوم بها جورجي للتخلص منها . مستشهدة بحديث سابق له مع إخوته، فهم يفضّلون موت الزوجة على الطلاق منها. بطّن الأصغر رأيه بأسلوب من مزاح. لكن جورج لم يمزح، فإن تختفي الزوجة من الحياة أفضل من أن تكون لرجل من بعده، وتصرّ ليلى فهو من حثّ المرأة الكورية، بطريقة ما، وبأسلوب ما، لتهديد هند أو قتلها، ويخرج هو بريئاً. تشدّد ليلى. لم لا ؟ البلد مليء بالمرضى، وهم خارج المصحّات . بكت هند في الطريق أكثر من مرة، كانت تتّجه نحو البلد القريب، هنالك ستقضي أياماً في الفندق المطل على البحيرة. ستعيش في السكينة والهدوء. ستحاول النسيان لن تتذكّر الآلام. ستفكر بلين وبالأحفاد ستختال بأنها جدة. ستعلمهم لغتها الأم وعاداتها. ستغني أغاني طفولتها، وذكرياتها في بلدتها الجميلة، وبحرها، وقرية جدها، وتتذكر شجرة التين التي زرعت من أجلها، والتي لابد قد كبرت وأثمرت، لكن الذكريات لاحقتها من جديد . كان جورج أغنى إخوته. يجمع المال باستمرار. مقتصداً في أمور حياته. لا يتعاطى الخمرة أو المقامرة، وكان ذكياً يحفظ لعبة الاستمرار. يراعي صحته. غذاءه. الرياضة. المشي، وكانوا يدعونه بالمصرف. يستلفون منه. يلبي، شرط استرجاع حقوقه، فقد أنهكه جمع المال، ولأنه استعمل ذكاءه خرجت هند صفر اليدين. كان في لحظات السكينة يسألها عن الحب، تؤكده له. يسألها. وما أملكه؟ ألا يهمك؟. لا يساوي شيئاً! هل تقصدين الكلمة؟ أقصدها. نجرّب إذن! نجرّب. ستوقعين على بعض الأوراق! أيها المجنون.أحببتك أنت وليس ما تملك، وتوقع ضاحكة، لكنه احتفظ بالأوراق التي استعملها في فترة الطلاق. هتفت لين لها .. قالت : - عمي على حق .. أنت المخطئة . - أنت لا تعرفين ما يحدث ! - أعرف . كانت لين تحب أمها لدرجة الجنون . فتحاول سماع أخبارها عن طريق العم الذي استحوذ على تفكيرها، والذي استطاع التأثير عليها بحجة المحافظة على الأسرة والعائلة، فيتم الإتصال بين العم ولين من جهة، ثم بين لين وأمها التي أيقنت من خطأ سيستمر، طالما تفصلها عن ابنتها مسافة ساعات، فقرّرت مغادرة توليدو . يومذاك لم يبق ما يربطها ببلدها سوى إخوتها، وذلك الارتباط الآخر، مسؤوليتها تجاه الكلبة شيبا والقطة تاشا، وذلك الأمل الأخير، يوم تفرغ عن المطعم الذي سيمنحها بعض المال، وقررت السفر إلى لاس فيغاس حيث تقطن ابنتها مع بيرت، ريثما يحين موعد الإفراغ . تلك الفترة دبّ خلاف بين لين وبيرت الذي كان وسيم الشكل. له مركز جيد في عمله. تلاحقه الفتيات من كل صوب، فيلقي الاتهام على لين التي ترفض الارتباط الكنسي به. أما هي التي رضيت بزواج مدني فلأن ذلك لن يقف عثرة أمام فكرة طارئة، فكانت تخضع علاقتهما للتجربة، فهي قد ذاقت من انفصال أبويها، ولا تريد أن تتكرّر المأساة. غير أن ما لم يكن في الحسبان وقع، فقد اكتشفت أنها حامل في أيامها الأولى . في أيام لاحقة، راودت لين فكرة إسقاط الجنين. غير أن بيرت الذي شعر بالغبن وقف في وجهها جاداً أول مرة، وأقسم أن يشكوها هي والطبيب الذي سيجهضها، إلى جهة معنية، فالطفل سيساعده على إقناع أمه بالارتباط. بدا تلك الأيام قلقاً وسعيداً في آن واحد، أما هند التي حلمت أن تكون جدة فقد وقفت إلى جانب بيرت، بمساعدة أسرته التي شاركتها الحلم، ورضخت لين للجميع، واستعدّت لاستقبال الطفل، الذي كان فالين. مضى شهر على مكوث هند في لاس فيغاس. أيقنت خلاله أنها في عالم لا يمت لها بصلة. وأن ملكيتها للبيت، والسيارة، لم يمنحاها الاستقرار، وضاعفا من مسؤولياتها أمام متطلّبات الحياة. المصرف، والأقساط. شعرت بعجز يحتلها. لم تعد هنداً المتدفقة حباً للحياة. أشارت عليها لين بالراحة والتقاعد، وعاهدتها أن تدير أعمالها. ولسوف يتكفّل المبلغ الذي ستقبضه يوم الإفراغ، ببداية مشروع تشرف عليه هي بمساعدة بيرت . هاهي تنتهي شيئاً فشيئاً، تتحوّل إلى امرأة تنتظر أن تمنّ الحياة عليها. ستستيقظ في الصباح. تتحرّك بين النوافذ. تراقب السماء والعصافير. قد تخرج من البيت أو لا تفعل. تطبخ الطعام. تضجر. تنام. تنهض. تتثاءب. كان أجمل ما تفكر به هو مجيء طفل لين. وسيحوّلها أيضاً إلى مربية. تحب ذلك كثيراً. لكن! لا تريد أن تنتهي. لا تريد أن تقف عن الاستمرار. يجب أن تمارس لين أمومتها كما فعلت هي، وستلبي نداءها كلما احتاجت إليها. ستقف إلى جانبها في كل الظروف. لكن لن تقبل أن تتوقّف عن العطاء . صرّحت للين عن رغبتها في السفر، وعن قرارها الأخير بالعمل في توليدو، وستبتدىء هناك من جديد. كان صاحب الأرض ينتظر قدومها لإتمام معاملة الإفراغ . استقبلها هانك وزوجته. كانا مبتهجين، فقد اطّلعا على بناء مهجور، ويقع في منطقة هامة من البلد، يتألف من بيت صغير، لصقه مطعم يحتاج إلى التجديد، معروض للبيع، وأبديا رأيهما بثمنه المتواضع . ابتهجت. الثمن موجود، وهو ما ستستلمه من مالك الأرض، لكنها انقبضت ثانية، ستصبح صفر اليدين. لن يبقى معها ما ترمّم به البناء. فالمصرف لن يقرضها، فهي ملتزمة بأقساط كثيرة ، وليس لها ضمانة تقيها، لا مدخول. لا وارد. كانت تعاين المكان. كان كبيراً، خرباً. تحيط به حديقة وأرض اسفلتية. شعرت بالكآبة، فالمكان يحتاج لمجهود كبير، وصرف المبالغ لإعادة الحياة إليه. تذكّرت فكرة ابنتها في لاس فيغاس، وكيف سيشرفان هي وبيرت على العمل. تذكّرت وعدها الأخير له بالزواج الكنسي. وشرطها أن يحدث في توليدو بحضور أبيها وعمّيها. لكن هند مازالت تخاف من لين التي صدمتها الأيام - كما تقول - بالكثيرين، ففي أعماقها رغبة عميقة الجذور بتكوين بيت وأسرة سعيدين، فإن لم يلتزم بيرت بذلك، فربما تغادره لين أخيراً إلى غير رجعة، وتغادر لاس فيغاس، وتحط الرحال في توليدو . حين انفردت بنفسها، ألقت نظرة حولها تستكشف معالم البيت الصغير الذي دفعت إيجار الإقامة فيه لشهرين. نادت شيبا وتاشا اللتين استردتهما من صديقتها. شعرت بالوحدة، والخوف، حسبت عمرها والزمن المتبقي لحياة كريمة . تذكّرت جورج الذي يتوقّع لها مزيداً من الفشل والشقاء، وحلمه أن تعلن احتياجها. كانت تائهة التفكير. نهضت تشكو همها لأختها ليلى. كانت ليلى كعادتها هادئة. أشارت لابد من منفذ وطريقة، وريثما يلتقيان ستفكر، ثم يتناقشان في الأمر . سألتها ليلى : - هل استلمت المال ؟ - لا . - هل يكفي المبلغ لشراء العقار بأكمله ؟ - يكفي .. لكنه خرب . - افتحي ذهنك قليلاً. سأساعدك بقدر استطاعتي، وسيساعدك بعض الأصدقاء، وحين يتم العمل تدعين المصرف لمعاينة المكان، وحين تعملين سيقرضك المبلغ المطلوب . ابتهجت هند فجأة . نهضت تعانق ليلى . قالت مستدركة : - ومن تقصدين بالأصدقاء ؟ - ليندا وهانك، أو بيل، أو بعض الأصدقاء في الجالية العربية . لا أعتقد أنهم سيردّون لك مطلباً. شعرت بالراحة والاطمئنان، واكتشفت أن الأمور ستسير على ما يرام. كانت تتحرّك في أرجاء البيت الصغير بسعادة، وفي غمرة الهدوء الذي غمر الأشياء. لاحظت أن شيبا تخطو ببطء. واهنة، متهدّلة الأذنين. أسرعت تمسح فوق رأسها، هيء لها أنها تبكي. داعبتها قليلاً. غير أنها ازدادت ضعفاً. وقبل أن تخلد إلى النوم. كان في ذهنها زيارة طبيب شيبا من مشاريعها الصباحية . استيقظت على صوت الهاتف. كانت لين تتحدّث من لاس فيغاس. والصباح في توليدو يعني الرجوع ثلاث ساعات إلى الوراء. خافت. سألتها على عجل : - ماذا هنالك يا لين ؟ - أماه! متى ستتصرّفين بنضج ؟ تذكّرت مواقف سابقة للين .. سألتها بهدوء : - ماذا عندك؟ قولي . - هل ستنفقين الأموال بشراء مطعم مهجور ؟ تململت هند . قالت : - أنا الآن لا أستوعب ما تقولين. لكن المطعم ليس مهجوراً تماماً . - كيف ؟ عمي وأبي يفهمان المصلحة أكثر منك . - وماذا قالا ؟ - سنخسر المال حتماً . - من قال هذا ؟ - أبي وعمي .. المنطقة فقيرة والحركة قليلة هناك . - هل عمك وأبوك قالا هذا ؟ - ما بك يا أمي ؟ - أنا تعبة يا لين. سأنام الآن .. نتحدّث ثانية في الموضوع . وضعت السماعة . شعرت برغبة في البكاء . ما الذي ينتظرها أيضاً ؟ تذكّرت أياماً مضت . كان جورج يعرف مكانة لين عندها، وعن طريقها يحقق غاياته . استعادت حديثها . تذكّرت ما قالته ليلى ذات مرة . إذا أردت القيام بعمل ما . استمعي إلى نصيحة لين، التي استقتها من عمها، وافعلي عكس ما قالت . في غمرة الأسى الذي أصابها لم تستطع سوى الابتسام . لم تنفع أدوية الطبيب في معالجة شيبا، التي وقعت في النسيان، بل ازدادت سوءاً، ولم ينصح لها بتغيير العلاج. فتبدو حزينة إن مشت أو تحرّكت. كانت القطة تاشا تراقبها في كل خطوة، فقد تعوّدت على اللعب معها. ومع صغر حجمها. كانت تهاجمها، فتلوي شيبا ذيلها وتبتعد، وحين تتجرّأ تهددها بأن ترفع قدمها وتهبط بها أمامها على الأرض . خرجت شيبا من البيت وغابت . هبّت هند للبحث عنها، في المنطقة وأبعد من المنطقة، ثم في شوارع المدينة، والحدائق، وحين لم تجدها، وكعادتها في المواقف الصعبة . انهمرت بالبكاء، معدّدة خصال شيبا، ومزاياها . تصف مرضها قبل سنوات، وكيف لم تستجب إلا لأدوية لها علاقة بأدوية البشر، وكان الطبيب مستغرباً، بعد أن يئس من علاجها . جاء المساء ولم تعد شيبا . كان الطبيب قد شرح لهند تفاصيل مرضها، بدءاً من مرحلة النسيان الذي أصاب ذاكرتها والذي يشبه حالات من انفصام، وانتهاء بمرض لا شفاء منه وهو مايطلقون عليه داء أديسون . أجّلت هند أعمالها، فصورة شيبا في عينيها، مذ رافقتها ذلك اليوم . لم يكن سهلاً أن تنسى، وأن تتجاهل غيابها، فهي صديقة ورفيقة . كانت تفرح إن فرحت، وتحزن إن حزنت، وكم من مرّة شبّهتها بالبشر، والطبيب أيضاً شبّهها بالبشر، وكل من رآها تركت عنده الدهشة، والاستغراب . لكنها لم تعد، وفي لحظات اليأس. اندفعت هند للطرقات ثانية. تقف وتسأل العابرين. إنها شيبا، مريضة بالنسيان. تفهم كالإنسان. من رآها ؟ ضعيفة وهزيلة، وطيبة ! وعرفت حين اقترب الليل أنها قد تاهت إلى مكان ما . حين خطرت لها الفكرة. كانت تهرول نحو مقر التلفاز، وهناك عبر الشاشة الصغيرة، ظهرت هند والدمعة في عينيها. ظهرت ذلك المساء أكثر من مرة، وهي تصف شيبا المريضة، ومرضها، وتناشد من يعثر عليها الاتصال بها، أو بالتلفاز لأنها تستحق الرعاية، فهي في أزمة صحية تستوجب اهتماماً خاصاً ورعاية خاصة . ما حدث تلك الليلة . أن وسائل الإعلام راحت تبحث عن لقاء مطوّل مع هند، للاستفسار عن مرض شيبا، وعن تطورات داء أديسون عند الحيوان، هذا الداء الذي أصاب أحد رؤساء أمريكا السابقين . تسابق الصحفيون إليها . كل يحاول الحصول على سبق صحفي، أعراض المرض وخطواته، ويعقدون المقارنة بين مرض شيبا، ومرض الرئيس الراحل، وفي هذا الجو المشحون ظهرت شيبا . تفرّغت هند ثانية لهمومها. كان هانك وليندا خلال ذلك يتابعان الإجراءات، ويقدمان النصيحة. تشجّعت هند، وخلال أيام قليلة، تمّت عمليتا التنازل عن المطعم الأول، والارتباط بالثاني. لم تكن الأمور صعبة كما تصوّرت، ولم تكن ليلى مخطئة وهي تمتحن الأصدقاء، الذين التفوا حولها وأحاطوا بها كان الجميع يتبارون لتقديم العون، وبدأ العمل في البيت الصغير للسكن، وأخذ العمل صفة الجدّية، وتبلورت معالم المكان، وقدم كثيرون المساعدة . كانت هند وجلة أمام دين جميل ومختلف، إلى جانب ما تراكم عليها من ديون حقيقية، ابتداء من الأقساط المترتبة في لاس فيغاس، لكنها وببساطة استسلمت للآتي وما سيحمله من مفاجآت . ماتت القطة تاشا خلال عملية النقل إلى البيت. كان أول ما ورد إلى ذهن هند، تلك الأرستقراطية التي عاشتها تاشا خلال عمرها، حين تمشي أو تأكل أو تلاعب شيبا. بكتها وهي تفكر بأنها ماتت كما تموت أكثر القطط بين عجلات السيّارات . كانت المفاجأة كبيرة، وقد تلازم موت القطة تاشا مع موت شيبا. تضاعف حزن هند، فنعت الاثنتين بحرقة، ولم ينتشلها من مشاعر الفقدان سوى هاتف لين. تطالبها بالإسراع لاستقبال الحفيدة التي ستطل على حياتها، وتلون لها الأيام . وابتدأت حياة هند من جديد . في طريق عودتها إلى توليدو. شعرت هند بأنها نقية كالثلج، وأن رغبتها في الحياة تزيدها شوقاً لكل شيء، لإخوتها. للين وفالن. لبلدها، ولحبيب في الذاكرة. كانت مبتهجة وهي تستعيد آخر أيام الشقاء. تذكّرت ليلة افتتاح المطعم. كان المرآب يغصّ بالسيارات، والمكان يغصّ بالزوار، وكانت على فرحتها تتحرّك بسرعة، بدهشة. وفي أعماقها يضجّ الفرح. أرادت لو جاء العالم ليشهد. ليرى يومها الجديد، وثمار الجهد والأمل، وكانت ممتنّة عبر الحركة والنظرة للناس. للمحيط. فكّرت بكل جميل. بما نسته. بحب عبر ذات يوم. هاهو وجه الطبيب فريد. بعينيه المشعّتين، وكفّيه الدافئتين. يحضن وجهها. يسألها. هل تتزوجينني يا هند ؟ يخفق قلبها. تخجل. تطرق. يمسح جبينها. يحضن وجهها. يلامس جبينها بشفتيه. يمر فوق الوجه المشتاق. يهمس.. أحبك يا هند، فتنزلق الكلمة.. وأنا أحبك. يحملها ويطير، وتتغير مسارات حياتها. هكذا تتبدّل الحياة. خطوة إثر خطوة. إثر مبادرة. إثر اختيار أو موقف، وتلحق بالحبيب، لتنجب لين وتنجب غيرها، لتأتي فالن وغيرها. قد تمر بأزمات وقد لا تمر. قد تتعب وقد لا تتعب. لكن. وفي كل الأحوال ستسعد برفقة الحبيب الذي يحمل بين جنباته ما تحمله هي من خيرات الوطن . كل شيء تبدّل لأنها قالت لا .. قال هو .. لن أنسى وجهك يا هند ! ما أجمل تلك الذكرى ؟ ألقت نظرة سريعة على الساعة ها قد شارفت على الوصول، وتعود إلى بيتها وعملها. لكن. لماذا تعود إلى تلك الذكريات البعيدة ؟ ولماذا لا تسترسل بها ؟ وكيف ؟ وهي الجدة التي تتوقّف سعادتها على رضا لين، وابتسامة فالن، وهل يحق لها أن تحلم، أو تتذكّر، أو تحب ؟ هاهي تستعذب الفكرة. هذه اللحظات الجميلة من الأفكار حملتها إلى الوطن، إلى الطفولة العذبة. تحمل رغيف خبز، وتتسلّق شجرة التين. تسمع زقزقة العصافير. تسرع إلى التنور. تصعد إلى البيدر. تركض بين السنابل وتعود، وتتذكر أن حب الوطن أهم ما في الحياة، وأنقى . لماذا تفكّر ببلدتها وقرية جدّها؟ هل لأنها اشتاقت إلى تلك الزيارات المتقطّعة، التي كانت تقوم بها بين الحين والحين ؟ حلمت للحال برحلة إلى هناك. ستنتهي مشاكلها المادية قريباً. هاهي تفكر بأبناء العمة، وتستغرب أنهم قريبون منها، ولا تكن لهم العداء. في آخر رحلة إلى الوطن، لحقوا بها إلى المطار. كانوا يبكون. جاد الصغير وجورج والأصغر. هل كانوا يبكونها هي ؟ كانوا يبكون غربتهم عن الوطن. كانت هي التي تشدّهم، ودون أن يدروا إلى هناك. إنها أملهم الذي يضيّعونه بغباء. تلك الدموع تغسل عنها الضغينة. تنقّيها. تحملها إلى الحب، وتحمل الحب إليها . هاهي تقترب من توليدو. تمرّ بين شوارعها. يا الله! منذ زمن لم تر ما تراه! هذا معهد اللغة الذي ثابرت عليه في مجيئها الأول. هنا تلقّت أول عمل في خياطة أثواب الأفراح. هنا تعيش صديقة قديمة. هذه مدرسة لين الابتدائية. هنا تلقّت لين دروس الكاراتية. هنا مدرستها هي التي أعطتها الهايسكول. هذا بيتها الذي عاشت فيه عشرين سنة. من هنا تذهب إلى السوق. هذا الطريق المؤدي إلى مقر عملها. تقترب، وتقترب. ترسل إشارة الوصول. تستقبلها العاملات ببشر. تتذكّر هاتف لين وهي تعبّر عن دهشتها بإقبال الناس ليلة الافتتاح قائلة: - هذا ما لم أتوقعه يا أماه ! وكانت هند تراقب أصابعها المتورمة، وأظافرها المتقصّفة، وتبتسم ابتسامة النجاح. ذلك اليوم، خرجت من الباب الرئيسي. بين الحركة والضجيج، وقرقعة الصحون . دارت حول المبنى. كان الباب مفتوحاً. صعدت الدرجات الأربع. دخلت البيت الصغير. ارتمت فوق المقعد الطويل وأغمضت عينيها . عانقتها ميري وتينا . نظرت إليهما مبتسمة، فابتسمتا . كانت ميري أطيب العاملات وأرقّهن. تعمل بنشاط وهدوء. تبدو فوق وجهها ملامح الاطمئنان. أنجبت حتى الآن أربعة أبناء. أصغرهم زنجي اللون. له عينان واسعتان ونظرات سريعة متقافزة. تعانقه جدّته التي تحبه بطريقة لافتة. تداعبه. تعلّمه الخطوة والحرف. يكون هو في رحلة عبر وجوه الناس. يبتسم أو يضحك، أو يدغدغ الكلمات . مازالت ميري في الرابعة والعشرين من عمرها. لم تتزوّج أبداً. أنجبت أبناءها من الزمن. منحتها السنوات مشاعر الأمومة. فغرقت في المسؤوليات والعمل. تساندها أمها التي تفرّغت للأحفاد . فتبدو منذ الصباح جادّة. صبورة. ببنطالها الطويل وقميصها المتدلّي. لم تظهر مرة مكشوفة الصدر أو الساقين، وكانت راضية باستمرار . أحبت ميري هنداً كثيراً، وتفانت في العمل معها، فتجهد لعمل إضافي، أو لتنوب عن عاملة ما . كان حب العمل في طبعها، أو أن مسؤولياتها أمام مصاريف البيت والأطفال تتفاقم مع الأيام، فهي الممولة الوحيدة للأسرة التي تضمها مع الجدة والأطفال، وهي التي يترتب عليها إعالة الأبناء الذين لا تعرف شيئاً عن آبائهم، وحين تسترجع السنوات العشر الأخيرة من عمرها. لا تأسف على شيء، ولا تلوم نفسها. كانت تعتقد بحبها الأول، والثاني، والثالث. حلمت بشاب يحبها. يمشي معها خطوات العمر. لم تجده أبداً. كانوا يغادرونها إلى غير رجعة، بعد أن يزرعوا في أحشائها ثمن الخطأ والخطيئة معاً. لم تكن ميري جميلة بقدر ما كانت رقيقة ، ببشرتها البيضاء وعينيها الزرقاوين، وملامحها الدقيقة. وجهها نظيف على الدوام. لا تعرف الأصباغ أو الألوان. صادقة. لا تعرف الكذب أو اللف والدوران، وكأن الوقت لا يسمح لها بصغائر الأمور. جادّة صامتة، وفي كل الأحوال تصقل ملامحها ابتسامة طيبة. تضفي على وجهها الأمل والنقاء . لم يمنع هذا النقيض بينها وبين تينا من توثيق العلاقة التي بقيت في حدود العمل. لم تحمل إحداهن على الأخرى، فلكل منهما شخصيتها الخاصة التي تميّزها. كانت ميري تضحك لحركة تقوم بها تينا، وتنتظر منها المزيد. في حين تحترم تينا أمور ميري، وتعلّق معجبة بأسلوبها ومثابرتها في العمل، وتقول إن الشعب الأمريكي بكل سلبياته وإبجابياته. يشبه وجهها المستسلم للأيام. تبتسم ميري للملاحظة . أهم ما جمع تينا وميري حبّهما للعمل عند هند، وإخلاصهما لها. كانتا في لحظات الفراغ تستعيدان أحداثاً من حياتها، وتستغربان أن تجابه امرأة الحياة كما فعلت، وأن تنهض بعد شديد المعاناة، وأن تعوّد نفسها ومن حولها على الغفران. كانت فلسفتها في الحياة. أننا ولدنا في زمن واحد . لقد أتاح لنا الزمن فرصة اللقاء والوجود، وعلينا أن نجهد لتحويل هذا اللقاء إلى جمال، وأن ننسى ما هو مؤلم، لنجلب إلى ما حولنا الطمأنينة والراحة . تهمس لين : - ليتني كنت ابنتها ! إني أحسد لين ! أما تينا التي تحاول الإلمام بكل الأخبار من حولها. فتضحك وتقول: - في هذه الحالة. عليك أن تحسدي أكثر الفتيات العربيات. تندهش ميري. تتابع تينا : - هنالك يرعى الآباء أبناءهم حتى الرمق الأخير. وبالمقابل يرعى الأبناء آباءهم في مراحل أعمارهم الأخيرة. تابعت بعد قليل : - بالنسبة لي. لا أحب أن أسأل عن أبنائي طويلاً .. سيأتي يوم أتحرر منهم بالتأكيد . - لأنهم سيطالبون بحريتهم. كما فعلنا نحن . وتابعت معلّقة، وهي التي لاحظت اختلافاً واضحاً بتلك العلاقات. قالت : - هنالك فرق، فأمي تحبني كما تحب هند ابنتها . غير أن حياتهما لا تشبه حياتينا أنا وأمي مطلقاً. حضرت جمانا فجأة، بوجهها الأبيض وعينيها الواسعتين . جميلة ومشرقة. عذبة الابتسامة. تلاطف الجميع، تستمع إليهم، فيهيأ أن لا مشكلة لديها، وحين تخلو بنفسها تكون في رحلة إلى الوطن. تتذكر أهلها الذين فارقتهم قبل أعوام. تتذكر أمها التي توفيت في غيابها وأباها الذي دب المرض إليه، وأخوتها. تشعر بالحنين، بالشوق. تعودت أن تشتاق بصمت، وأن تتأثر بصمت. تحب بلدها الذي فارقته قبل أعوام بغية العمل، وحطّت الرحال عند خالة لها في فلوريدا، ثم انتقلت إلى توليدو واستقرت عند هند التي تمتّ لها بصلة القرابة . كان مجيئها حلماً من أحلام جورجي، ومفاجأة تشارك هنداً فرحتها بافتتاح المطعم، ومع شوق هند إليها، فقد شعرت بالتميز أمام أخيها، وبذكاء جمانا التي تحافظ على موقفها، أمام فكرة الزواج المؤجّلة، والتي تخضع حتى الآن للتجربة . قرّر جورجي مقاطعة المراهنة، طالما جمانا في توليدو. لم يفكر بالكذب إن سئل عن علاقته بتلك الصالات. سيعدها بأن تنتهي يوم يتم الزواج بينهما، واحتراماً لوعد قطعه لها، سيثبت أن باستطاعته ذلك، وما عليها سوى البقاء قربه، لتكون البديل الذي لا شريك له في قلبه وحياته، كانت جمانا تبتسم بهدوئها المعهود، فيفهم أن لشرطها أولوية القرار، وأنها لن تتراجع عن رأي قطعته أمام الجميع، وهو مقاطعة تلك الصالات، قبل مرحلة الزواج . كان المكان يعجّ بالزوار ليلاً، وكان جورجي الذي شغله مجيء جمانا يحلم بالسهر قربها، ذلك الحلم الذي أرقه طويلاً. ربما يحدث الاتفاق الأخير. ربما يتزوجان. كان يستعد لذاك اللقاء. أشياء تدغدغ أحلامه، ومشاعره، وتدفعه ليطير إليها حاملاً الحب، والأمل، والتفاؤل . جلسا متقابلين. ابتسمت لهما ميري مرحّبة. كانت هند تروح وتجيء منشرحة الصدر. أقصى أحلامها أن يتزوج أخوها، خاصة بعد دخول جمانا حياته، بتميزها وحضورها، ورصيدها الذي تحمله في جنباتها من كنوز الوطن . أتت ميري حاملة قدحاً من البيرة. وضعته أمام جمانا. كان جورجي ينقّل النظر بينهما وبين الكأس التي وضعت على الطاولة. أشارت ميري قبل أن تذهب، إلى أن الشاب الذي يجلس على البار، قد اشتراه إلى جمانا، وما عليها هي سوى تقديمه. ومن خلال الصمت الذي حلّ على الجلسة سألها ببساطة إن كانت تعرف الشاب. أجابت بالنفي . هذه عادة في أمريكا. يتبادل الأصدقاء فيها كؤوس الضيافة. للتقرب أحياناً، أو للتحبب، أو رداً على مبادرة ما، وكان من الطبيعي أن يرد جورجي بفعل مماثل، أو يترك لجمانا حرية التصرف، فباستطاعتها تجاهل ما حدث، فالشاب الأمريكي لا يتطاول على غيره، ويعرف الحدود المسموحة له . بدا جورجي خلال الجلسة منكمشاً بعض الشيء، إلى أن خلا المكان من الزوار، وراح مع هند وجمانا في حوار طويل. كان له بعض الآراء في مواقف كهذه. كأن ترفض جمانا ما قدم لها، فتعود به ميري إلى الشاب شاكرة. أما جمانا التي لم يحدث معها حادثة مشابهة. دافعت عن الفكرة، ولها رأي أمام هذه المواقف، فالتجاهل أهم من كل تصرف آخر. كانت هند تستمع وتخاف من ردود فعل الاثنين، لكنها أيّدت جمانا، وأشارت إلى أن الشاب سيفهم، دون أن تمس مشاعره بأذى . انتهى الحوار على أبشع صورة. لم يكتف بأن ترفض جمانا قدح البيرة. كان له آراء أخرى، كأن تغادر المكان، أو تبدّل مقعدها. كانت جمانا تضحك، وهند تلومه، ولسبب من الأسباب. نهض عن كرسيه. التقطه بيده. رماه في الفراغ. صرخت هند به. نعتته بالمتخلف. التقط كرسياً آخر. رماه. شتم أمريكا، وبقدمه رمى الطاولة بعيداً. رمى الأخرى. هجم على البار وما وراء البار، وهو ينعت كل شيء، وبذراعه القوية أزاح زجاجات الكحول لتتساقط واحدة إثر الأخرى على الأرض، وخلال دقائق تحوّل المكان إلى حاوية ملأى بالقاذورات. كل ذلك بين ذهول هند ورعب جمانا، ثم غادرهما وهو يصفق الباب وراءه . بكت هند ثم جمانا، وخلال الليل الطويل، كانت كل منهما تندب حظّها بطريقة، وتجمعان شظايا الزجاج، وتلملمان السوائل المتسرّبة فوق الأرض الخشبية . غادرت جمانا توليدو. وخلال رحلتها الطويلة لم تستطع نسيان تلك الصورة، فقد اكتشفت ذلك الجانب الغافي عند جورجي، والذي ينتظر حدثاً للاشتعال. أصبح له أكثر من صورة في ذاكرتها. الديون. المقامرة. الرهان. أم ؟ . أما جورجي الذي خرج لا يلوي على شيء، والذي لم يتراجع عن رأيه، فكان خلال أيام يستعيد علاقاته مع المحيط. مع الناس. لم يتعوّد على البلد وعاداته. يرفض ما يراه. ينتقد. لا يحب شيئاً. لا يريد شيئاً. عادت به الذكرى إلى يوم مجيئه للدراسة، ولم تسنح له الظروف. توقّفت طموحاته آنذاك، ولجأ للعمل، ومنذ ذلك اليوم لم يفارق شركة الجيب التي يعمل بها، إلا نحو صالات اللهو والمقامرة، وحين يأوي إلى البيت لأن جسده يطلب الراحة والسكينة . أمضى بقية الأسبوع بالسهر بين الأحصنة والرهان. غاب عن هند. كانت أخباره تأتيها عن طريق شيري التي تعمل عند ليلى، وتدمن على نوادي الأحصنة والرهانات . أنهت كل من ساندي وشيري وصلتها المسائية في العمل، وخرجتا . كانتا قد اتفقتا على لقاء في نادي الأحصنة . تملّصت ساندي، واتجهت شيري إلى هناك . كانت شيري محبوبة، أو أن الجميع يتعاطف معها، ربما لأنها وعت الحياة في مصح للأمراض النفسية. أو لأنها لا تتعاطى مع أحد إلاّ نادراً. تعمل حين تحتاج للمال، فتغيب أحياناً عدة أيام وتعود للعمل من جديد. لا تحب أن تسأل عن ماضيها، أو أن تتذكّر أيامها الصعبة، فمنذ أن بدت عليها ملامح المراهقة، أصابتها نوبات من الحالات الغريبة، كأن تبكي أو تصرخ، أو تتشنّج أطرافها، أو تدخل في هذيان تتلفّظ عبره بكلمات مبهمة . تشتم أو تهدّد، وفي حالات الصحو تشرد دون أن تتفوه بكلمة . لم تعد تتحدّث عن ماضيها، ففي مرات سابقة وفي أحد المصحات، وتحت نوبة هيستيرية. اتهمت زوج أمها بالاعتداء عليها، وعولجت على أساس كهذا، ودب الشقاق بينها وبين الأم التي نعتتها بالجنون، وفي مرّات لاحقة. اعترفت بقصتها بطريقة مختلفة. لم يكن المتّهم زوج أمها. كان أبوها الحقيقي الذي مارس الجنس معها عشرات المرات. حدث هذا قبل سني المراهقة والوعي . شيري جميلة على الدوام. مثيرة باستمرار. لكنها تخاف من الشبّان، وتخاف من ممارسة الجنس. تعتقد بالحب وتخافه، وحين تتعرف إلى أحد الشبان أو تعجب به. تستمر العلاقة بينهما إلى أن يعلن إعجابه، فتهتز الصورة ويتحوّل إلى وحش عليها الهروب منه. أحبها شاب واعتقدت أنها أحبته. حاولت الاستمرار معه. لكنها اختفت عن عينيه ذات يوم ، ونسيته. حين تتحدّث عن الرجال تنعتهم بالوحوش، وتشك بسلوك الجميع منهم. تفسّر الحركة والنظرة ببداية سطو. تخاف من العتمة والوحدة. لا تحب المجاملة. تفسر كل نأمة بتملق أو مراوغة للوصول . شيري هذه تحب المال ولا تحبه. تسعى إليه لكي تصرفه، وحين تستحوذ عليه تريح نفسها من العمل. تهرع للرهان أو إلى أحد البارات. تشرب حتى الثمالة، وحين تفرغ ما في جيوبها. تعود إلى البيت الذي تشاركها فيه فتاة سحاقية. تقاسمها المصاريف، وتصفها بالرفيقة المثلى . أكثر الصديقات اقتراباً منها هي ميكي. نصحتها بالزواج من شاب أجنبي يبحث عن التجنس. يغدق عليها المال، ولا يفكر بالاقتراب منها، كما حصل معها، فبعد زواجها من نبيل قرّرت الحمل من صديق لها، فلسوف يتكفل نبيل على اعتباره الزوج، بمصاريف الطفل. لم تكن تعني له تلك الفترة أكثر من اسم على الورق. غير أنها وهي التي تعرف معنى المال. اكتشفت سيولته بين يديه. راحت ترسم الخطط لتوقعه في شباكها. أعجبها آنذاك تعفّفه، وربما أغرمت به. لأول مرة خاف نبيل منها . فتح الباب وخرج. تمنى لو يستطيع تمتين العلاقة معها. لو يعيشان كرجل وأنثى. يجمعهما الحب. لكن! يجب أن يتم هذا خارج إطار الزوجية. كان يخاف من تطور العلاقة بينهما. أما بالنسبة له، فلا تعد الفتيات اللواتي مررن في حياته، خلال الأشهر القليلة التي قضاها في توليدو . غاب نبيل في شوارع توليدو وصورة ميكي في عينيه. بشعرها المسترسل على كتفيها، وثوبها المفتوح عند الصدر والفخذين. كان يشتهي ملامستها لمرة واحدة، سيضمها إليه. يمطرها عشقاً. يلامس كل خلية من جسدها الناصع البياض. يمتلكها يوماً واحداً. ساعة واحدة. صورتها لا تفارق عينيه. صوتها. عيناها. لونها. أثوابها التي يقلّبها قطعة قطعة. سريرها، وكم حلم أنها قربه، فيطيل النظر إلى أشيائها. يبعثرها ويعيدها إلى ما كانت عليه ، كان نبيل آخر من علم بحمل ميكي. شعر بالغضب، وكأن امرأته خرجت عن طوعه. تلك الليلة انتظر عودتها، وبدون أن يسألها شيئاً. أخذها من يدها. ألقاها على السرير. كانت هي مندهشة. حضنته بقوة. ارتمى يسكب شهوته فوق الجسد المنتظر، وغفا تلك الليلة حتى الصباح بدون حراك، أما هي التي اعتقدت بأنها امتلكته، بدت في أيام لاحقة أكثر نشاطاً. كانت تفكر كيف سيغدق عليها وعلى ابنها القادم إلى الحياة . خطا بثقة وبطريقة لافتة. مسح المكان بنظراته. البار. الجدران. النوافذ. اختار مكاناً، وبخطوات ثابتة. اتجه إلى زاوية تطل على الحديقة الجميلة. جلس . أعاد النظر في المكان. كانت العاملة ميري تقترب وتؤهل به. وتسأله عن طلباته، وكان هو منشغلاً ببعض الصور الجدرانية. التفت نحوها مبتسماً. سألها عن وجبة طعام عربية الصنع. غادرته لتنادي هند التي خرجت من المطبخ . كان يدير ظهره نحوها، وكان وجهه نحو الحديقة. استطاعت رؤية شعره الموشى بالأبيض، وكتفيه العريضتين، وقد ثبت خلف النافذة بهدوء . اقتربت هند في اللحظة التي أدار وجهه. لم يتحدّث إليها. كان ينظر بعينيها. لم تسأله شيئاً. حدّقت إلى عينيه. كان وجهه محبباً. كأنها رأته قبلاً. كأنهما التقيا، واستطاعت خلال ومضة استرجاع أكثر من صورة في الذاكرة. كان هو صامتاً . هادئاً. وكانت هي على عجل. سألها متعمداً النظر بعينيها : - لم لا تحدّثينني بالعربية. أجيدها أفضل . لم تستطع إخفاء المفاجأة. ابتسمت. قالت أيضاً على عجل: - كأنني أعرفك! من أنت ؟ - أنا أعرفك. أما أنت فلا أدري . قرّرت أنها لا تعرفه وهي تستجمع ذاكرتها. فلم تصل إلى ذكرى أو حد يربطها بهذا الرجل. قالت على عجل أيضاً: - وجبتنا لا تمت للأكل العربي، أما بيتي فقريب. إن رغبت . لدي ما أحضره لك . - أكون شاكراً. أسرعت ميري تحضر الطعام. عادت هند إلى المطبخ، غير أنها بقيت منشغلة. أين ومتى التقت بهذا الرجل؟. كان وجهه ولون عينيه لا يفارقان ذاكرتها. استرجعت الماضي. الوجوه. الأسماء. قبل سنوات. عشرات السنوات. تأكدت أنها لا تعرفه، لكنها شعرت بالسعادة وهو يطالبها حديثاً بلغتها الأم، ولأنها قدمت له الطعام الذي يرغب. وكانت تسرق الوقت، لتراقبه غارقاً في الصحن أمامه . أنهت عملها في المطبخ. خرجت. كان قد ذهب. جلست قرب النافذة كما تفعل دائماً. لأول مرة يشاركها الجلسة خيال رجل. ضحكت في سرّها. لماذا غادر دون كلمة؟ لم يتحادثا. من هو؟ من أين أتى؟ هل سيعود؟ ربما لا! لكنها لن تنسى نظرته. هل كان يريد شيئاً؟ لا. لا يريد، فقد أعطى لمحة عن نفسه. الحديث بالعربية. الأكل العربي. النظرة التي! شردت قليلاً. نظرته تركت عندها أكثر من سؤال . أصلحت وضع الوردة الحمراء في الكأس الطويل. قرّبتها من أنفها. لاحظت رائحتها المنعشة. أخذت نفساً عميقاً. مررتها فوق خدّيها. فوق شفتيها، وأعادتها ثانية للكأس . منذ زمن لم تتذكّر الماضي بصفاء هكذا ! لماذا تهجم عليها الذكريات لاذقيتها الحبيبة. بحرها الأبيض. قريتها. أجمل صور الطفولة. في قرية جدها الهادئة، حيث أشجار اللوز والتين والتفاح. هنالك بين الأغصان. كان لها سرير ووسادة. تنام مع زقزقة العصفور. كان العصفور ينقر ثمار التين. يختار الناضج منها، وكأنه يدعو العصافير لوليمة، وكانت بالمقابل تدعو صديقاتها الصغيرات. عند العصر يحلو ثمر التين مغمساً بخبز التنور الساخن، مع صوت الجدة وهو يعلو بالغناء. تدنو دجاجة. تلحق بها صغارها. تنقر التراب. تكون الشمس في رحلة الغروب، والنسمات تداعب أوراق الشجر، وخرير الساقية تحت شجرة الجوز. كان الحلم يشتد في جلسات المساء، مع سهرات الجد وطاولته الملأى بالمأكولات البسيطة. زعتر وزيتون وأقراص البندورة الحمراء. كان جدها قليل الكلام. يتحدّث بعينيه وربما بيديه. كان يكفي أن يتحرك ليتوقّع الجميع شيئاً. خاصة هند المعجبة به، والمتهيبة منه، فتفسر الحركة والنأمة، فيبتسم لها . كان يخصها بالحب والمجالسة. يسألها. هل تتقنين الرسم ؟ تهز رأسها. تنهمك بالورق والألوان. ترسم رجالاً ونساء. ترسم جدها متصدراً المكان. ترسم عصافير على كتفيه. قطة أو قطتان، وتقسم أنها تسمع مواءها، وصياح الديك، وترى طائر الحمام متمايلاً بدلال. يبتسم الجد. يمرر كفه فوق رأسها الصغير بحنان . مات جدها وجدتها. مات أبوها. ماتت أمها. هاهي الآن جدة في الخامسة والأربعين من العمر. وخط الشيب رأسها، وانطفأت جذوة عينيها، وتشكلت الخطوط فوق أجزاء الوجه الذي كان في يوم فتياً جميلاً . سحبتها حركة ميري التي مرت بلطف. بادلتها الابتسامة. كانت ميري مدركة لحظات الهدوء التي تمر بها. أما هي فكانت مدركة أنه يوم مختلف. جميل. عادت للوردة تداعبها. أسندت رأسها على كفها، وراحت ثانية إلى الذكريات . حضر كولمان مصطحباً ابنته . اختار إحدى الطاولات. خرجت تينا من وراء البار واتجهت نحوهما. نهض يرحب بها. كانت جادّة بسلامها، مهذبة. كانت ابنته تراقب المشهد وتبتسم. ردّدت تينا : - هي ليست هنا . ستغيب قليلاً. قال : - لا بأس، وهو يخرج ظرفاً مطوياً بعناية ويتابع : - هذا لها . أرجو وضعه في غرفة المكتب، وتابع : - إني على سفر . سأعود بعد شهر . أين ميري ؟ أسرعت ميري مندهشة لذكر اسمها. وقفت أمامه . قال : - يا عزيزتي ميري. نريد طعاماً لثلاثة أشخاص . انهمكت ميري بتسجيل الطلبات، وهي تبحث عن الشخص الثالث. أشار بأنهما في انتظاره. أسرعت إلى المطبخ. كان هانك ينتظر مساعدتها. خلال ذلك عادت تينا تلبي طلبات زبائن البار. تمتمت الابنة بعد قليل . كانت سمراء اللون . جميلة الوجه . ورثت عن أمها البيضاء الملامح قالت : - لم لا تعمل تينا بشهادتها الجامعية. كانت طالبة متفوّقة ! حدّثها عن الفرص في الحياة، ورغبة كل فرد. عن الأهداف، والاستعداد. عن الميول، وعن كثيرين يبحثون عما يغدق عليهم المال ببساطة، كتينا التي تحتك بالناس، وتعتمد على (البخشيش)، وكأنها خلقت لتكون عاملة بار، ولمّح إلى إعجابه بهند التي وقعت أكثر من مرة، ونهضت، ودافعت عن وجودها وكيانها بثقة. لمّحت الابنة أيضاً إلى إعجابها بها. تلك اللحظة حضر شاب أبيض اللون. اتجه نحوهما. حيّاهما وجلس. تمتمت الابنة: - لقد تأخرت ! كانت ميري تضع أطباق الطعام . تابع الشاب حديثه وقد طافت البهجة فوق وجهه قائلاً: - وجدتها مناسبة للقاء مختلف مع العم كولمان . أخرج من جيبه علبة صغيرة . قدمها إلى كولمان بتهذيب قائلاً: - أرجو أن تقبل بي. أريد ابنتك زوجة. أنا وهي متفقان . ضحك كولمان الذي بدا راضياً. أخرج من العلبة خاتماً ماسياً. ردد بمزاح : - ولم تعطيني الخاتم ؟ أعطه لها . - أريد أن تبارك ذلك . أخذ كولمان وضعاً جدياً. كانت الدمعة تتصدّر مقلتيه، وبصوت خافت مليء بالصدق قال: - ليبارككما الله ! انهمك الجميع بالطعام . كانت تينا تراقب كل شيء من خلف البار . عادت هند وبحوزتها رسالة من لين، تضمنت صوراً لها مع الصغيرة فالن . كانت سعيدة لسببين، أولهما مجيء لين القريب برفقة برت، لإتمام الزواج الكنسي بينهما، أما السبب الثاني، فحدث بعد المقارنة بينها وبين الصغيرة، واكتشافها لأوجه الشبه ما بينهما . الأنف، اللون، وتطير من الفرح إذ يؤكد أحدهم هذا، وتتحرك ببهجة حاملة ثروتها التي هبطت من السماء . تسلمت هند ظرف كولمان. كان به بعض الأوراق التي تشير إلى اسمه، ولمحة عن حياته وبنود حول تطلّعاته القادمة، ويوم الانتخابات الذي كان بعيداً بعض الشيء . دخلت تينا في ثرثرة طويلة. شرحت تفاصيل تلك الجلسة، التي انتهت بخطبة الابنة. علّقت هند على صفة الفضول المتأصلة بها، ولمّحت تينا إلى أن هذا من صلب عملها. ولم تنس هند التعبير عن سعادتها بأخبار كولمان وابنته، والاحتفال بتلك المناسبة، فتدخلت تينا التي أشارت إلى أن ذلك لن يحدث قبل شهر، لغياب كولمان . خلال ومضة. قفز ماضي كولمان إلى الذاكرة. الزنجي المقهور الذي سجن بتهمة التعدي على ابنته الصغيرة، وبقي المجرم الذي هو صديق العائلة، والذي تزوج من سيليا زوجة كولمان. بقي طليقاً، فعاشت معه إلى أن ماتت إثر ضرب مبرح على الرأس، وبرئ كولمان إثر اعتراف طويل من المجرم الذي التصقت به جريمتا الشذوذ والإجرام . شعرت هند بالأسى، فتلك الحادثة لاحقته سنوات طويلة، خاصة في الانتخابات السابقة، واستغلال خصومه تلك الفترة المظلمة في حياته، ليثيرها بين الشعب الأمريكي، وتؤثر في نجاحه إذ تراجع عدد منتخبيه بطريقة لافتة. تلك الفترة لم تفارقه ابنته، فتحيط ذراعه بلهفة وسكينة، فتبدو هادئة، رقيقة، وحين تحتد تبدو في حالة من الهيجان. يحدث هذا أمام ما يتعلق بسيرة والدها، الذي هو مثلها الأعلى، بكفاحه منذ الشباب، وتصر في كل حديث على نجاحه القادم، وأنه أحق بلقب السيناتور من كثيرين. تبدّلت حياة كاظم مذ حضرت أمه. أصبح لكل شيء طعم. صحوة الصباح مع قدح القهوة. الطعام. اللباس. عاد كاظم طفلاً مدللاً. يتكئ على كتف أمه. يسألها. يتحدث معها. يخرج بدعائها ويعود على ترحيبها. لم تكن أمه جاهلة. كانت على قدر من المعرفة. رزينة. جادة. معتزّة بنفسها. قاست من الزوج الثري الذي لم تنجب منه. كان له أبناؤه ولها ابنها، وحين غادر البلاد أقسم ألاّ يعود، واعداً أمه بيوم قريب يلتقيان فيه. لم يكن يحب زوج أمه الذي قسا عليه وعليها كثيراً. أحبت أم كاظم ابنها كثيراً، وكرهت أن يكون أباً لأبناء أمهم أميريكية. فتعامل ابنيه حين يأتيان كالغرباء. وبعد أكثر من لقاء تعلقت بهما، وراحت تحث ابنها على المطالبة بأبوته التي هي حق له . كان مدركاً أن الأمر يختلف في هذه البلاد، فالحق يأتي بأفضلية الحياة التربوية والمعيشية للطفل. لكن الأم أصرّت لتسكب حنانها المخزون، والذي ربما استيقظ في غربتها، وأكثرت من التلميح إلى عذوبته الطويلة، ممنية النفس بيوم قريب تراه زوجاً لأفضل البنات، وهن عديدات، بينهن إحدى القريبات في البلد الأم وهي تنتظر إشارتها . تباعدت لقاءات جينا وكاظم بعد مجئ الأم، وأخذ يكثر من لقاءات ابنيه، والمطالبة بوجودهما أكثر أيام الأسبوع. دغدغها الأمل في البداية، فربما استيقظت في ذلك البيت مشاعر الأمومة، لتمنح حقّها كـأم في شمل يجمع الأسرة ثانية، وعاهدت نفسها على الإخلاص، ذلك الشعور الذي لا يفارقها ولا تخجل منه، فهي مرصودة لكاظم، ولكل ما يتعلّق بأموره. إلى أن تناهى إلى سمعها ذات صباح، خبر تصميمه على السفر، ثم فكرة الزواج التي تصر أمه على تحقيقها، وكان ابناه ينقلان لها ما يدور بالتفاصيل . دبّت الغيرة إلى جينا التي لم يسبق لها أن عاشتها. استعملت في البداية طريقة حرمان كاظم من لقائه مع ابنيه، وحين استمرت شائعة السفر، نهجت أسلوباً آخر، وروّجت شائعات تربطها برجال آخرين، وحين لم يبادر كاظم بفعل ما، أكثرت من السهر خارج أوقات العمل، فظهرت مع أكثر من شاب في ملاهي الليل المختلفة. كانت تتحدّث بتفاصيل قصّتها. وفائها لكاظم الذي أحبته، والظلم الذي ألحقه بها. تبكي أحياناً. أو ترقص. فيتعاطف معها بعض الموجودين، وفي إحدى المرات، وكانت الخمرة قد لعبت بها. رقصت بهيستيرية، وراحت تصف عملها الأول عند كاظم، وهي تخلع ثيابها قطعة قطعة، كان هذا عملها الذي أودى بها إلى ما هي عليه، وأخذت تنشج. تلك اللحظة تطوع بعض الموجودين، لإقناعها بارتداء ملابسها، محاولين التأثير عليها والتعاطف معها، وحين تمر بلحظة تذكّر تعود ثانية للبكاء . حين أتمت جينا عامها الثلاثين، كانت لا تعرف من الرجال غير كاظم، وتؤكد أنها لم تكن مبتذلة في يوم . كان لها عملها الذي يعرفه كاظم وغيره. التعرّي مهنة كغيرها من المهن، والرقص مهنة تقبض أجر ممارستها، وهي التي اعتزلت العمل بعد ارتباطها بالزواج، وبعد إنجابها الأول، واقتصر عملها بعد ذلك على البارات . شيء واحد لم تستطع العدول عنه، طريقتها في اللباس، فهي تحب الثوب الملتصق بالجسد. الذي يبرز الثديين والأرداف، ويمنح الناظر أكبر مساحة من ساقيها السمراوين . اغتنم كاظم الفرص وما تقوم به جينا من أفعال، فكان لها بالمرصاد، وضبطها أكثر من مرة وهو برفقة محاميه الخاص، وهي مخمورة في الملاهي والبارات، فقدم الشكوى بحقها وبعدم صلاحيتها لممارسة أمومتها، فجاء أول تهديد عن طريق القانون، ثم الثاني، وحدث أن استرد ابنيه بطريقة شرعية، واستضاف المسؤولين لمعاينة البيت الذي تديره الأم الصالحة، ولم ينس التلميح إلى زواجه القريب . حيث سيصبغ على البيت طابع العائلة والأسرة، وأقر له بتربية ابنيه بعيداً عن عيني جينا، مع الاحتفاظ بحقها في لقاء يتم أسبوعياً، وخلال ذلك كان كاظم يستعد للسفر. أودع ابنيه في كنف أمه، ورحل حالماً بابنة بلده، التي تنتظر كما قالت الأم بفارغ الصبر . شعرت هند بالاستقرار، ومع ثقتها من تعدد مسؤولياتها كانت واثقة أيضا من استعدادها لسد كل التزام. أصبح الوقت ملكاً لها. تنظّمه. توزّعه. تفرّغت لنفسها. لأمورها. أحبت حديقتها. غرست شتلات الورد والنعناع. أصبحت النسمة مختلفة. الشمس. الليل. تتلقى ما يمر معها بابتسامة. بسكينة. تشعر بالسعادة. تمشي. تعانق الفرح. تعود. تسرق نظرة من المرآة. مازالت جميلة. أما مشاعرها فطفلة، فهي تعشق المرح والإطراء. واثقة من نفسها وحضورها. كانت تنتظر الجديد. كأنها ستفاجأ ذات يوم بما يجدّدها، ويجدّد حياتها . تبتسم إذ تفكر بحبيب سيأتي. يطالعها وجه فالن بابتسامته البريئة. تحادثها، فهي عرفت الحب. كانت صغيرة. وعرفت مراحل وجوانب من الحياة، غير أن ذاك الحب الذي كان يدغدغ مشاعرها. يحملها ويطير بها إلى عوالم من جمال، لم تنسه، ويغفو في أعماقها، ويحلم بالآتي، وكأن العمر يتّسع لمزيد من السنوات، والأحلام، أو كأنه لا يعرف ما يتركه الزمن، في خلايا النفس والجسد من تقلبات، وتعود للحلم من جديد. ولم لا؟ قد يدخل الحب عالمها بجرأة. وقد تحيا قصة حب ما زالت في الذاكرة . قصة لم تكتمل فصولها. لم تعش تفاصيلها. لم تنسها. الطفلة في أعماقها تتململ. تبحث عن الحنان. هذا الجانب الغافي، الذي استيقظ باحثاً عن شيء فقده. عن حلمه الذي لم يتحقق. يعبث في أوصالها ويحثّها على الحياة . هل لأنها مطلّقة للمرة الثانية ؟ هل لأنها بلا رجل ؟ الرجال حولها من كل صوب، وهي في توليدو البلد الأمريكي، حيث يتنقّل فيه الرجال والنساء، كل كما يرغب أو يريد. لكنها مختلفة بطبعها، وقناعاتها. أمور ترسّخت في كيانها، فهي ترى في الرجل الحب والأمل والوفاء . كانت دائماً تعقد المقارنات. رجل في الذاكرة، فلا تراه، فتشعر بالتميز لفقدانه، وأحياناً تسقط في فراغ. هاهي الآن تبحث من جديد. هل أتى الموعد؟ تتحرّك بثقة وقد تدفّقت في جنباتها الأحلام . أكثر ما كانت تخافه ليلى، هو عودة هند إلى طليقها جورج، فتستشف حين تتحدّث عنه ارتباكاً تفسّره بالحب، هي لا تنسى أسباب الطلاق ومراحله، والأسباب التي اتبعت، والإجراءات، وتوظيف كل الحيل لتخرج هند بأقل المكاسب، فتعاهد نفسها بالتدخل في لحظات الضعف التي يهيأ لها أن هنداً قد تستسلم له، غير أن هذه تحتد وتقول : - أنا لن أضعف أبداً. - لكنك استقبلت أبناء العمة، وجالستهم ؟ - أتوا مهنئين بافتتاح المطعم . - بالنسبة لي .. نسيت أن لي أبناء عمة . نهضت ليلى وهي تحمّل الكلمات مزاحاً شديداً قائلة : - لم لا يكون لك صديق، وأنت عازبة الآن ؟ - سأفعل ؟ - هذا جيد .. إلى اللقاء . كان ديف يستمع . قال مازحاً: - لم لا تنصحينها بالزواج ؟ - هي ستعيش مرة واحدة . يجب أن تعيش الحياة كما ترغب هي، لا كما يريد الزوج . - أنا مثلاً مختلف عن غيري. أقسم إن تزوّجنا لن يتبدّل شيء! احتدّت. قالت بعصبية : - وماذا تسمي تدخّلك بشؤوني باستمرار ؟ - أسميه تعاوناً. - أنا أسميه تطفّلاً يفاقم به الزواج. أنا لا أحبذ الفكرة أبداً. لك عملك الذي لن أتدخّل به . كانت هند خلال ذلك تخرج إلى الحديقة. تنظر إلى ساعتها وتعود إلى المطعم. فكّرت فجأة بالرجل العربي وتساءلت إن كان سيعود؟ ربما! ألقت نظرة على مقعده، واتجهت تصلح من وضع الوردة في الكأس. كانت ترتدي بنطالاً أسود وسترة بيضاء. بدت متحفّزة بعينين متوثّبتين. رفعت خصلات الشعر عن عينيها. أطرقت وهي تخرج من الباب الرئيسي . استلقت على الأريكة. كان التلفاز يبث برنامجاً خاصاً بالأطفال. ابتسمت لـ (بارني) الذي تحبه فالن. نهضت تهتف لابنتها وللحفيدة الجميلة . أغلقت الهاتف. لم يخرجها صوت فالن الذي يبثّها شوقه، ولا لهفة لين التي اقترب موعد قدومها. تلك اللحظة كانت تبحث عن شيء لا تدري ما هو. مشت بين الغرفة والمطبخ القريب. هذه حياتها الآن. المليئة الفارغة. المستقرة والقلقة. هذا بيتها وعملها وأصدقاؤها. هذا ما يحلم به الأمريكي. أن يملأ وقته بعيداً عن الفراغ الذي يعني له النهاية. يعني الانعزال والوحدة، فكم من ميسور أودى به الملل والضجر إلى حالات من الاكتئاب؟ وكم من رجل عجوز أو امرأة هرمة انتهيا وحيدين؟ أو على من له صلة بهما، ابن أو أخ أو صديق، إلحاقهما بمأوى يتناسب مع وضعهما المادي. الحركة ضرورية في مجتمع لا يهدأ. مجتمع برمجته الحياة على الهرولة، والركض في عالم متسابق دون أن يعرف لماذا وكيف . عادت للأريكة.! لماذا يشغلها ذلك العربي؟ لماذا تنتظر قدومه ؟ ربما لأنه - كما قال - يعرفها! يجب أن يعود لتعرف أكثر. مر أسبوع ولم يأت، وربما تمر أسابيع. تلك الطاولة تذكّرها به. كلماته في ذاكرتها. نظرة عينيه. إنه يترك بصماته وألف سؤال. كانت صورته لا تبارح عينيها. شعرت فجأة بالملل. فكّرت بأشياء أخرى ونهضت . مرّت أشهر الحمل عند ميكي، وضعت ابناً جميلاً أشقر اللون، ولحقت بها ساندي بابن أشقر أيضاً وجميل. لم تكن مفاجأة عند زاهي أو نبيل. كانا ينتظران ذلك بامتعاض، غير أن القلق دبّ إلى كل منهما، فعليهما تسجيل كل من الابنين على الاسم القانوني لزوج الأم الحالي. كان زاهي أكثر تشنجاً واستياء، فرضخ على مضض، وتحول البيت الذي جمعه مع ساندي إلى عش للزوجية. التزمت هي بفترة الإرضاع، وهرب هو يبحث عن مأوى يقيه ما يعيق دراسته التي هي حلمه الأول. قبل مرحلة الإنجاب لم يكن يعير اهتماماً لتصرفاتها، فتأتي من سهرة عارمة مطفأة. تدخل غرفتها، فيستمع إلى صوت تقيئها، أو أصوات الشخير مصحوبة برائحة كحول حادّة، فتنتابه رغبة في التقيؤ، وفي أحيان ينهض يساعدها للاستلقاء في سريرها. يصفق الباب ويمكث واضعاً رأسه بين كفّيه . حافظ زاهي على تحقيق أهم شرط، في معاهدة زواجه من ساندي، وهو احترام البيت الذي يجمعهما، فأتت علاقاته بعيداً عن العيون. لكن ساندي التي لا تصحو من الخمر إلاّ لتشرب ثانية، أخلت بالشروط، فحدث الشجار بينهما، وكان أن عاد زاهي ليكتشف أنها في الداخل بصحبة أحد الرجال. ذهل في البداية، ثم غضب. فتح الباب ورماهما خارجاً. أما هي فقد واجهته بما لا يقارن بهذه الدولارات القليلة التي يرميها لها، حرّيتها التي لا تبيعها بثمن، ومنذ تلك الحادثة ابتدأت عملية الابتزاز. كانت على بساطتها تعرف ما تريد، وتدرك أن اللجوء إلى مراكز مساعدة أبناء المعوزين سيحط من قدر الأب، أمر يدفع زاهي لتقديم الطلبات كافة، خاصة بعد أن تصاعدت كمية الميروانا التي تتعاطاها، وبعد اكتشافها مدى حفاظه على اسمه وسمعته . بعد إنجابها. حلّت الفوضى في البيت الصغير، أشياء مبعثرة في كل مكان. خرق ملوّثة. علب حليب مجفّف، فوق السرير وعلى الأرض. تفرغ خزانة الحائط باحثة عن ثوب أو حذاء. تتأفف من كل شيء. تتأسف على تناسق جسدها. تعود للطفل الذي يبكي. يكون جرن تنظيف الأواني قد امتلأ بقارورات الحليب الفارغة . انشغل زاهي بوالد الطفل الحقيقي، ليزيح العبء عن كاهله، وليستطيع التفرّغ لدراسته، التي هي أولاً وأخيراً قضيته في هذه البلد، وانشغلت ساندي بمن سيساعدها في تربية الطفل، واهتدت أخيراً إلى أم ميكي التي ستحضن طفل ابنتها، وتم الاتفاق على المساندة ما بينهما، فوجدت وقتاً من جديد للعمل واللهو وتحقيق أمورها، في وقت لم يتجاهل زاهي ما يشغله، وشدّد عليها في البحث عن والد الطفل الحقيقي، فطلبت التريّث للتفكير والبحث عن ذلك باسترجاع الذاكرة، وحساب الزمن، أول الشهر أم آخره، أم ؟ ومتى كان توقيت آخر دورة شهرية لها ؟ فقد حارت من يكون. من كان الأول؟ ومن كان الثاني؟ فلم تستهد لمعلومة. كانت الأسماء تتقافز في ذاكرتها. شعرت بالتعب. نهضت تدير قرص الهاتف. أتاها الصوت متسائلاً: - نعم . - أنا ساندي ! - من ساندي ؟ - لا تكن غبياً. لقد أنجبت منك ابناً. - ولم تخبرينني الآن ؟ - كنت أريد التأكد ! - من ماذا ؟ - من أنه ابنك ! - وكيف عرفت ؟ - لأنه يشبهك ! أغلق الهاتف للحال. لكنها ابتسمت فعن طريق القضاء ستتوصّل إلى إثبات أبوته، بالفحص والزرع والتحليل . أما زاهي الذي استطاع ضبط أعصابه. سألها : - وإن لم يكن الأب ؟ - هنالك غيره . لابد من أن أجده . هزّ زاهي رأسه، وخرج . نقلت شيري إلى هند وليلى أخبار جورجي، فهو أول من يدخل نادي الأحصنة مساء وآخر من يغادرها. يراهن كما لم يفعل سابقاً، وقد تحدّث عن الديون التي رزح تحتها، إلى جانب شعور الأسى الذي لا يفارقه، فيبدو تائهاً مشتتاً أما هند التي نسيت ما حدث تلك الليلة، فكانت قادرة على تخطّي الأسى الذي سببه، شرط عودته - كما قالت - إلى أسرتهم الصغيرة . لحقت به مساء إلى نادي الأحصنة، الذي أدمنت على الذهاب إليه فترة من الزمن. كانت تهوى ذلك المكان. تخسر أو تربح لا فرق عندها. يكفيها قتل الوقت، فتصف ذلك بالدواء الشافي للأحزان، وأهم علاج للنسيان، وحين التقت أعينهما لم يستطع جورجي سوى الابتسام. تعانقا، وبكت هند. كان يدرك حبها له، فهي الأم والأخت والصديقة، وكانت تدرك مدى استجابته لرغبتها، في عودة الأمور بينهما إلى ما كانت عليه . لعبت آنا دوراً تلك الفترة، أكثرت من طلباتها، ومن وصف شعورها بالحاجة إليه، فهي تشب بين أصدقائها. تحدّثهم عن إعجابها بأبيها، المختلف بحبه ولهفته وعاطفته، لكنه بقي عصبي المزاج، قلقاً، وهو الذي عرف بهدوئه وصمته، واعتقاده أنه يهوى الغوص إلى أعماق الناس، وتصنيفهم، واكتشاف حقائقهم الغائبة، فتضحك كل من هند وليلى، فيؤكد أنهما قصيرا النظر، وأنه يتميز عنهما وعن غيرهما أيضاً. كان لجورجي حظوة عند أختيه، خاصة وأن شيئاً من طباعه لم يتبدّل، خلال السنوات الطويلة. مازال يصمت في أكثر المواقف. بطيء المشية، وكأنه يفكر مع الخطوات. يوزع الابتسامة التي تخفي الغضب أحياناً، وحين يعلن عن غضبه يهرب، أو يصبه كغليان كما فعل ذلك المساء. لكنه يعود للابتسام كـأن شيئاً لم يكن . اختلفت تصرفات جورجي بعد سفر جمانا المفاجئ. يثرثر ولا يهدأ. ينتقد. يهزأ. يلوم كل شيء. أمريكا والحياة فيها. أخوته. عمله. أصحابه، أصبح عصبي المزاج، بدا أنه سينفجر مع كل ثانية تمر، أو أنه سيقوم بعمل ما . قررت هند ملاطفته. كانت تدرك مدى الصدق في تصرفات أخيها، وأنه عاش عمره بغربة طويلة، وكم غاب عن عينيها أياماً، لتكتشف اعتكافه في بيته رافضاً متابعة الحياة، ورافضاً أيضاً العودة إلى بلده، معتبراً فشله مصيراً يستحقه، مذ قرّر مغادرة الوطن . لكنه يحب جمانا، التي هي أجمل الذكريات، وربما كانت تاريخه وجذوره، ربما كانت أهم ما يربطه بتلك الفكرة الجميلة، وهي العودة ذات يوم إلى الوطن. قال : - وماذا أفعل ؟ - افعل أي شيء. أنت تريدها زوجة وشريكة في الحياة . انفعل. قال بعصبية : - أنا لا أريد من لا يريدني . حلّ صمت قصير. شغلت هند نفسها بالنهوض وهي تقول: - جمانا تحبك وتريدك. أنت تعرف هذا ! - وأنا أعرف ما تريد. تريد أن أغير طباعاً وعادات عمرها عشرات السنين. هذا صعب . - أعتقد أنها تفهم هذا، ومقدّرة مدى حبك لطباعك ومدى إدمانك على عاداتك ! - وأنا لن أتبدّل ! - وهي لن تتزوج منك. لا تلومها. لها حق الاختيار . - لكن ! يجب أن تقدّر ما أنا عليه. يجب أن تعرف هذا ! - لا بأس. خذ السماعة واطلب هذا منها . نظر ملياً. نهض متأففاً. خرج . أدارت هند رقم هاتف جمانا. قالت : - كان هنا. لقد تركت فراغاً كبيراً. أنت رائعة يا جمانا. تتصرّفين بحكمة. سأتصل بك دائماً. إلى اللقاء . أغلقت جمانا السماعة. فوجئت بالخالة وأحفادها يراقبونها. ابتسمت لهم. تساءلت الخالة قائلة : - أنت قلقة ؟ - إنها هند. تريد عودتي إلى توليدو . ابتسمت الخالة : - هند أم جورجي ؟ - لا أدري ! - تزوجي منه . - لسنا على وئام يا خالة . - إنه الزوج المناسب يا جمانا . كان أبوه رجلاً عظيماً. - طبعاً ستقولين هذا. إنه خالك ! - ليس لأنه خالي. كثيرون يقولون هذا. كان نبيل الخلق. كريم النفس. - أعرف. أعرف يا خالة . هزّت الخالة رأسها. كان حفيداها يستمعان تساءل الصبي بخبث : - لا أعتقد أن جمانا تستبدل ميامي بتوليدو ! نهرته الجدة، فغرق مع أخته في الضحك . إنه موعد الغداء. أطلّت هند من المطبخ. راقبت حركة الناس السريعة. عادت تنهمك بتحضير الوجبات، بينما تتلقف ميري الصحون من يدها. تخرج. تعود، وهند ساهمة . أخذت على عجل تحسب الأقساط المتبقية عليها. فكرت بمتوسط الدخل اليومي. عدد الأشهر. تنفّست الصعداء. نظرت نحو أصابعها. أظافرها. مسحت وجهها بيد. لقد أسرعت الأيام والأشهر، وكل شيء يستمر، وعلى ما يرام. مازال المدخول يوازن في المصاريف، ويسد الالتزامات الضرورية، غير أن القرض الذي ستحصل عليه، سيحل جميع مشاكلها الخارجية، وتنحصر علاقاتها مع المصرف . خرجت نحو الصالة. أطلّت على المنضدة. كانت ميري تنتظر، فربما ستسألها ثانية عن الساعة. لكن هند صمتت. كان شعور يلاحقها بأن الرجل العربي سيأتي ذات يوم. لكنه أيضاً لم يأت . جلست قرب النافذة، وببساطة راحت تفكر بالرجل العربي، وكأنه أتى عشرات المرات، وفي كل مرة يطالب الحديث بلغتها، وبالطعام العربي، فتقرأ في عينيه رغبة الاقتراب. تسأله. يصمت. يغيب في عينيها. ترى؟ هل سيكتشف هذه المرة رغبتها بالركون إليه؟ والثرثرة إلى وقت متأخر؟ هل سيعلم أنها انتظرته عشرات الأيام؟ شعرت فجأة بالخجل. تذكرت أنها امرأة جادة، فهل يحق لها التفكير أو التمادي في الأحلام؟ لكن ألا يحق لها أن تتذكر؟ وصور الحب تداعب مخيلتها. صور مختلفة الألوان. الحب في ذاكرتها مختلف. له طعم الشوق والحرمان. حب لم تعشه مع زوجها الأول، ولم تعشه مع الثاني. حين أحبت ابن الجيران، كان قلبها يدق بعنف. تحمر وجنتاها. يسخن جبينها. حلمت بقبلة منه، فغمرها بذراعيه، ودفنت رأسها بصدره، ومنذ أول عناق وهي ترسم للحب صورة هي وجه ابن الجيران، الذي وقف متفرجاً حين أقبل جاد الصغير ليحملها إلى البعيد، إلى حيث يتحتم أن تنسى، وتغرق في المختلف، في الصعب. كان من الصعب على جاد الصغير تفهم معنى عذرية الفتاة، بجسدها وروحها وأحلامها. كانت علاقته رغبة أولى وأخيرة مع الجسد، الذي قرّر الموت منذ البداية. غادرت الحب لحظة مغادرة الوطن. أودعت قلبها في اللاذقية، وحملت الجسد إلى توليدو مستسلمة للزمن والحياة . لماذا يذكّرها وجهه بوجه ابن الجيران؟ هي لم تعد تذكر الملامح جيداً. كان هذا قبل ثلاثين عاماً من الآن. فلماذا تعود إلى تلك الفترة؟ ولماذا تتذكر الماضي البعيد؟ لم تنقلها اللحظة إلى المواجهة، فتخلق عندها ما يشبه الذكرى؟ أشياء لها طعم الفرح والأمل والاشتياق. كيف مرت السنوات ولم تشعر بالاختلاف؟ لماذا أصبح اليوم جميلاً؟ بكل ما يحمل من التزامات؟ وبكل الضغوط. إنها أكثر من عاملة. أكثر من ربة عمل. إنها تركض وتشقى لتصل إلى نقطة هي في الاستقرار النفسي، الذي ينبع من استقرارها الاقتصادي في بلد مشحون بالتناقضات . حضر هانك الذي هدّه المرض، مبتعداً عن نصيحة الطبيب، فالعمل الجراحي ضروري، والامتناع عن التدخين ضروري، فيصر أن كأساً من البيرة أهم ما يرغب به. تحضره تينا على الفور. يتحدث عن زوجته التي ستأتي. يحضر بيل. يجلسان متقاربين. تبتعد هند عنهما. يبدآن المزاح. في عينيها بريق لم تطفئه الأيام أو الهموم. بريق كالحب، بعيداً عن السخرية. أجل.. الألق في عينيها، وحركتها. هل مرّ جورج؟ يضحكان.. هل تعود إلى كل ما كان؟ يجب ألاّ يحصل! لكن كيف تحيا من دون صديق؟ من دون رفيق؟ من يصدّق هذا ؟ ينبري بيل. يتساءل. من يليق بها ؟ يعدون الأسماء العابرة. يهزان رأسيهما. لا. يجب أن يكون مختلفاً. لأنها مختلفة. تقترب هند. يصمتان. تضع راحتيها على كتفيهما. تحييهما، وتنطلق إلى عملها. يلقي هانك نظرة إلى الساعة في يده. ستبدأ وصلته بالعمل بعد قليل. كان ينوب عن العاملات في حالة تغيّب إحداهن. وهذا يوم تخلّفت فيه تينا. علّق بيل بأن غيابها يتكرر هذه الأيام . أما هانك الذي يعمل في شركة خاصة بسيارات النقل، فقد تخطى الستين من العمر. يبدو في صحة جيدة، أما نقص التروية الذي أصاب قدميه قبل أعوام، أوقعه بالوهن والتعب، إلى أن استجاب لرأي الطبيب وتم العمل الجراحي. يقول بأنه يعمل لينسى مرضه. ليشغل أيامه. لا يحب العطالة والكسل. العمل يجدده. يجدد قلبه الذي أشار الطبيب بعمل جراحي له. لكنه مطمئن إلى حركته. إن قلبه يعمل بشكل جيد . كان بيل يفكر بنصيحة الطبيب، لإجراء عمل سريع، ويعلق على السيجار الذي لا يفارق فمه. اغتنم فرصة نهوضه وتحدث مع هند، للقاء ليندا زوجته، والاتفاق على ضرورة الخضوع لعمل جراحي، كما قال الطبيب. هذه المرة لا علاقة بالساقين، فالقلب هو المهدد . عاد هانك مبتسماً. كانت هند تدخل المطبخ. قال بيل فجأة: - أقسم أنها تشبه امرأة في الذاكرة، أحببتها ذات يوم ولم أنسها. قاطعه هانك جاداً: - إنها امرأة مميزة. بالنسبة لي. أحبها وأقدرها. - وهل قلت أني لا أحبها أو لا أقدرها ؟ نظرا فجأة كل إلى الآخر. ضحكا بصوت عال، وكانا ينهضان كل إلى عمله . هطلت الأمطار منذرة بقدوم العاصفة، ومن خلال الفضاء اللامتناهي، برقت السماء كأسلاك كهربائية. الرعد يقصف، والريح تعصف. هربت العصافير، واختبأت السناجب ملأت المياه الشوارع. تحرّكت مناضد الحدائق المعدنية والمقاعد من أماكنها. بينما السيارات تعبر بحثاً عن الأمان. بدا الجو مرعباً. مخيفاً. قبل دقائق كان السكون يعم سماء توليدو. كانت الشمس ساطعة، والهدوء يكلل الأماكن. هذا هو مناخ توليدو المتقلب باستمرار، ما بين الحر والبرودة. الرطوبة والمطر. الثلج والصقيع. توقف كاظم في المطار. لعن مناخ البلد. الصيف أيضاً مزعج. لم يغادره الخوف وهو يراقب السماء، فموعد الطائرة يقترب. قرأ اللائحة للمرة العاشرة. لكنه خائف ، إنه ينتظر عروسه بفارغ الصبر، في هذا الجو المشحون بالقلق. أعلنت شركة الطيران عن وصول الطائرة. تنفس الصعداء، وحين عانق (نور) سرت الطمأنينة إلى جسده، وكأنه يحملها ويطير، واتجها معاً نحو توليدو. كرر في الطريق وعوده لها، كما حدث قبل الزفاف. ستحيا أجمل حياة. سيكون لها أجمل البيوت. أحدث السيارات، وكانت تبتسم بحياء. أخرجها منه سؤاله عن رحلتها، وساعات الاستراحة مشيراً إلى أسفه لوحدتها. لامت السفارة الأمريكية التي لم تمنح لأحد من أفراد أسرتها تأشيرة السفر . تعمّد كاظم المرور في أجمل مناطق البلدة. الشوارع العريضة. الحدائق. وسط المدينة حيث ناطحات السحاب، وعلى قلّتها في توليدو غير أنها جميلة ومنظمة. كانت نور تبحث عن الجديد. عن المجهول. ذلك العالم الذي سمعت عنه، أو قرأت أو شاهدت عبر وسائل الإعلام، ومنذ تفجّرت أحلامها مع مجيء كاظم قررت الاستجابة لطلبه، وتزوجا. حدث ذلك خلال أيام قليلة، وخلال أيام غادرها لتتابع الإجراءات القانونية، وليتابع هو الإجراءات الخاصة بالقانون الأمريكي. كانت تخطو نحو السفر بغبطة، كما اغتبط أخوها الذي وعدته بسفر في يوم قريب . كانت أم كاظم بالانتظار. ألقت بجسدها نحوها. اغرورقت الاثنتان. لقد تحقق الحلم. هذه نور في بيت الزوجية. تنفست الصعداء ثانية. لقد بدأت حياة ابنها من جديد، ودارت الحكايات عن البلد الأم، فتسهب نور. من أرسل السلام. من تزوج. من أنجب. من مات. فتتشوق إلى هناك، وتأخذ وعداً من نور بعودة أخيرة ذات يوم. حيث تقع عليها تلك المهمة. وكانت إلى تلك اللحظة تحلم بإمتاع عينيها، وعمرها الذي لا يتعدى العشرين، من مباهج أمريكا التي هي في أحلامها الأفق والآمال . دخل كاظم خلال ذلك إلى غرفة الأطفال. خرج. بدا مهموماً. نهض إلى الهاتف. تحدّث قليلاً. عاد. نظر إلى أمه التي بدت وفي جعبتها المزيد من الأخبار. أعاد النظر إلى الساعة. كانت نور خلال ذلك منهمكة بحقائبها. أشارت أمه بالتريث. غير أنه انفجر بالغضب والتساؤل مردّداً - أين هما ؟ تململت الأم. أجابت : - معها ! - كيف ؟ ولم ؟ - هذا ما حدث. كانا بشوق إليها. ذهبا برغبتيهما . لاحظت نور لهفة كاظم وارتباكه. لم تشأ التدخل. فللبلد الأمريكي خصوصياته. قد يكون العمل، أو العمال، أو. لكن الأمر هام، وفي لحظة هدوء. سألت الأم بهمس وببعض التخوف: - ما الأمر ؟ ارتبكت الأم قليلاً. أشاحت مطرقة وهي تشير إلى كاظم وتقول: - اسأليه! وبصوت ملئ بالحنان سألت : - ما الأمر؟ ماذا يحدث ؟ لم يجب كاظم. نهضت الأم التي غيّب ابنها رغبتها، وإصرارها على نقل الصورة الحقيقية عن حياته إلى نور. نهض هو. رفع سماعة الهاتف. تحدّث بانفعال. لم تكن تفهم اللغة الأمريكية جيداً. لكنه يتحدث مع امرأة. يهددها. أغلق السماعة. جلس ووجهه بين كفيه، وهب فجأة متجهاً نحو الخارج مصفقاً الباب وراءه. حلّ الصمت. كانت المسافة تتسع بين نور والأم مع مرور الدقائق. غاب الحنين الذي طغى على اللقاء الأول، وانشغلت كل منهما بأمورها. كانت نور منكمشة ومرتبكة وقد انهمكت بفتح حقائبها، فهل لقدومها ما جلب السوء إلى البيت الهادئ؟ وبقيت في توجس إلى أن عاد كاظم . سمعت صوته، وأصوات صبية. خرجت من الغرفة متهيّبة. لم ينتبه لوجودها أحد. كان كاظم وأمه وبينهما طفلان متقاربان في العمر. كان الجميع غارقاً في ثرثرة طويلة. كيف ولماذا؟ إلى أن واجه الطفلين بحديث مطوّل، عن حياتهما الجديدة التي شغلته طويلاً، وكلفته الوقت والمال، وتكبد عناء السفر، ليصنع أسرة تليق بهما، وعليهما منذ اللحظة نسيان جينا، فهي ليست أماً كما يجب. أما أمهما التي ستحيا معهما باستمرار. حضرت هذا اليوم، وسيكونان لها مطواعين، لأنها سترعاهما وتنشئهما كما نشأ أبوهما الذي يحبهما، ويفعل المستحيل لأجلهما . ارتبك كاظم وقد لاحظ نور. كان الطفلان خلال ذلك ينظران إليها، وكأنهما يستكشفان معنى وجودها بينهم. بدا كاظم في حرج شديد، وكانت هي تتمشّى بصعوبة نحو أقرب أريكة، لتسقط فوقها بذهول . لم تنم نور تلك الليلة. تبكي أحياناً أو تشتم، وتلعن البلد الأمريكي، أو تروح في هجوم على كاظم وأمه، وأعلنت عن رغبتها بالعودة إلى مسقط رأسها، ولم تهدأ تلك الليلة، فهي في أجواء من النفاق والكذب، وهي تكره وجودها في هذا البيت الذي ستغادره حتماً. خلال ذلك اهتم كاظم باستبدال رقم هاتفه، وأوعز إلى أمه ألاّ تهتف أمام نور لأحد. كانت الأم تطيب خاطر ابنها، فالأمور ستسير على ما يرام، فمن الطبيعي ما حدث، وستتكفل الأيام بمزيد من التعود للجميع . بدت هند منشغلة منذ الصباح. تروح وتجئ إلى المطبخ، وتعود إلى الهاتف، فالمناسبة هامة، وعليهم الاهتمام بكولمان والابنة والصهر كما يجب، انضم إلى العاملات هانك، وانشغل الجميع بتحضير الأطعمة، فقد عودتهم هند في مناسبات كهذه، تقديم الأطعمة العربية. كانوا يتذوقون كل صنف على حدة، ويتلذّذون بالطعم، ويعلّقون على المواد، ويستغربون. كل شيء موجود في توليدو، غير أن أحداً لا يفكر بالطريقة. ضحكت هند التي تدرك قيمة الوقت، ومعنى التفرّغ لوجبة غنية. تذكّرت أمها، وأمهات بلدها، تذكّرت النساء العاملات والمسؤولات عن العمل الوظيفي وبيوتهن في آن معاً، فيسعين لتقديم الوقت والفرص لأفراد الأسرة، الصغير والكبير، فينشدن الراحة للجميع. نهضت لتدعو بقية الأصدقاء. عيّنت الساعة والمناسبة واستعدت للخروج، فلبعض الأشخاص مكانة تليق بدعوتهم شخصياً، وبطريقة أكثر تقديراً. امتطت السيارة وخرجت . غصّ المكان بالناس. كان أكثرهم حركة كولمان، بوجهه الباش. كان يرتدي سترة داكنة وقميصاً أبيض، ويضع على صدره شارة الحزب الذي ينتمي إليه. كان الموجودون ديموقراطيي الاتجاه، وكانوا يتحرّكون حوله بإعجاب، وهم يعلنون له الولاء الأكيد . كان موعد الانتخابات بعيداً، وكانت المناسبة تخص الابنة وارتباطها الزوجي القريب، غير أن الحديث تشعّب ليصل إلى أحلام كولمان، فهم مصرّون على انتخابه، وقدم كل منهم وعداً بالسعي، وتوزيع النشرات عن سيرته، فهو يستحق العضوية بجدارة، وما حدث في انتخابات سابقة من تشهير بحقه بات مكشوف الغاية، وما حازه من أصوات يبشر بنجاح أكيد، أما ابنته التي ما فتئت تعجب به. كانت كالوردة النضرة، وكانت عيون خطيبها تلاحقها بإعجاب. بدت هند سعيدة. كان حولها ليلى وجورجي اللذان أسهما بالمساعدة، وكانا يتذوّقان المأكولات ويصرّان على الطعم الذي يذكّرهما ببلدهما الأم، وكانا في حالة قصوى من السعادة. علّق جورجي على جمانا الغائبة، بأنها أيضاً تجيد صنع المأكولات العربية . تشكّر كولمان هنداً في الأخير على سعيها المتواصل، كما فعلت ابنته وخطيبها . كان الجميع يستعدّون للمغادرة. بدت سعيدة وهي تفكر أن كولمان سيصبح سيناتوراً. غادرها الجميع، عدا العاملات اللواتي بقين يساعدنها حتى وقت متأخر . دقائق وأصبحت في البيت. استلقت على الأريكة. استرجعت أحداث الحفل. أحسّت بالراحة. وقبل أن تغفو تذكّرت الرجل العربي. فكّرت بأنها قد نسيت انتظاره. ضحكت من نفسها طويلاً. نهضت. أشعلت لفافة تبغ. أدارت آلة التسجيل. كان صوت أم كلثوم يصدح . لكنه سيأتي. إحساسها يقول بأنه سيأتي، وحين غفت كانت صورة الصغيرة فالن، تملأ قلبها وعينيها . قبل أن يدخل المطعم. التقت عيناها بعينيه. تلك المشاعر التي نسيتها منذ زمن، والتي كانت تربكها وتتحكم في حركتها. تتوقف اللحظة عن الاستمرار. يركن الزمن، فتفقد الذاكرة والقدرة. تنسى الحركة والخطوة. تدور باحثة عن شيء ما. عن مهرب. عن يد. عن وجه. يحاصرها المكان والوجوه. تخطو حاملة نبضات قلبها وشحوب خدّيها. يصبح الهروب أقصر الطرق وأنجاها . كان هذا في زمن مضى. أما اليوم؟ فهي أقوى وأكثر نضجاً. فهل يعقل أن يخفق قلبها لرجل رأته مرة واحدة ؟ وهي التي اعتقدت بالعلاقات التي يتركها، ذلك التلاقي ما بين الفكر والعقل؟ والإعجاب والاحترام؟ وكيف يأتي الحب إن لم ينهض على معرفة حقيقية بالطرف الآخر؟ أو ينتهي ويزول. لكن لماذا تفكر بهذا ؟ إنه رجل يأتي للمرة الثانية. تجمعها به اللغة وبعض الكلمات. كان قد اقترب. حيّاها وجلس على تلك المنضدة. دهمها سؤاله الأول. يريد طعاماً عربياً. أشارت إلى ميري بطرح الفكرة عليه. غير أنه طالب بهند . كان قلبها يخفق، إنه يريدها هي. تذرّعت بسبب عاجل وغادرت إلى البيت. عادت ميري تطلب من الرجل التريّث ريثما تعود هند المنشغلة بعض الشيء . في البيت قابلت المرآة. حدّقت بالعينين، وبأصابعها أزاحت خصلات من شعرها الذي وشّاه الأبيض. تأففت، وعلى عجل أخرجت بطاقة هويتها. هاجمتها ضحكة. إنها في الخامسة والأربعين. ما الذي يحصل معها؟ نظرت نحو الباب وجلست. نهضت. إنه ينتظرها. هذا طبيعي! وعادي جداً. طبيعي أن يتحادثا، وأن يتناقشا، وطبيعي أن يتعرّف كل منهما إلى الآخر. من أين هو؟ من أين أتى؟ ماذا يفعل في هذه البلاد؟ ما الذي يخيفها ؟ لماذا الهروب؟ ستذهب إليه الآن، وستسأله ببساطة عما يريد. ولم يطالب بها. شحنت نفسها قوة واتجهت نحو المطعم . نهض يرحّب بها. تعمّدت ألاّ تنظر بعينيه. سألت وهي تراقب المكان بنظرة فاحصة طويلة: - هل سألت عني ؟ ارتبك قليلاً. أجاب: - اسمحي لي ببضعة دقائق. أرجو أن تجلسي قليلاً. جلست. شعرت ببساطة ما يحدث. أشارت إلى ميري بإحضار القهوة. عقصت كفّيها وسألت بحزم : - أنا أسمعك تململ قليلاً. قال بتهذيب : - أتيتك كصديق.. أريد منك بعض الوقت. إن سمحت؟ اختاري المكان. هذا عنواني . قبل أن تتناول البطاقة. أشارت أن يختصر الوقت، ويفصح عما يريده. تجاهل النصيحة. كانت تمعن النظر في العنوان. تمتمت بدهشة : - أين اسمك؟ أرى على البطاقة اسم امرأة؟ - أجل .. أختي .. عائدة . - إذن لك أخت في توليدو ؟ - نتحدّث في هذا لاحقاً .. أنتظر هاتفك. أرجو ذلك . نهض . ثم ودّعها مغادراً. أطبقت على البطاقة، وأسرعت نحو البيت. أغلقت الباب، وقعدت فوق الأريكة. مرّ الوقت وهي في دهشة. كانت تشبه حبة رمل على شاطئ ممتد، ومن بعيد تلاحقها الأمواج. خطوط زبد مشتاقة للرمال. تعانقها. تبللها، وتنزاح لتتجدد بها ومعها، وتتدفق مع النسمة والحب والاشتياق . شعرت بالغربة في هذا العالم الواسع. الغربة أن تشعر بالاختلاف. كان الوجه الأسمر يبتسم، وكأنه يعلن التميز. طافت في البيت الصغير. طافت طويلاً. احتست القهوة والنبيذ. كانت البطاقة في يدها. ما اسمه؟ لامست البطاقة أكثر من مرة. كل شيء ناصع البياض، وتحولت النقوش المذهبة حوله إلى أشعة شمس، تتدفق لتملأ الأمكنة ضياء . لم ينجح نبيل في دراسته. كان يسهر الليل وينام في النهار. غاب عن مقاعد الجامعة، ولكي يشغل وقته لجأ إلى العمل في المطاعم والبارات، فتحول من طالب يبحث عن العلم، إلى مدمن على السهر والمخدرات. ازدادت نفقاته، ومتطلبات ميكي والطفل من جهة، ومصاريفه التي تتصاعد كلما انغمس باللهو. أما والده الذي ما فتئ يحلم بعودة ابنه الطبيب، فلم يبخل عليه بمده بما يشير إليه، فهو وحيده الذي بنى عليه الآمال والأحلام . كان يكره ميكي بقدر ما يحلم بالانغماس معها في فراش واحد، ولا يرى تفسيراً لهذا التناقض، وكأن مشاعر الكره تضرم نار الرغبة كما تفعل مشاعر الحب، فيشعر أحياناً أنها القيد الذي كبّل يديه. فهو قانوناً ملزم بالحياة معها تحت سقف واحد، خاصة وأن حالات مباغتة من التفتيش، انتشرت في الأعوام الأخيرة. لقد عوين البيت أكثر من مرة، وبطريقة فجائية. أين سريرها؟ أين ثيابها؟ أحذيتها. أين تنام؟ فتدل أشياؤها المبعثرة على أنها تعيش هنا في كنف الزوجية الحقيقي. أما ميكي التي لا تعرف أن تحب سوى نفسها، فلا شيء يستحق الأهمية، عدا تأمين مستلزماتها في الحياة. كل الأمور تنتهي أخيراً. الفرح والحزن. البسيط والمعقد. أتنام أو تعمل؟ أتحضن ابنها أم تربيه أمها؟ النتيجة واحدة. مهم أن تتصرف بما تمليه عليها اللحظة. متناسية ما مضى. متجاهلة ما هو مقبل. لا يهمّها أن ينجح نبيل في دراسته أم لا. يهمها في الدرجة الأولى الاستيلاء على ما في جيوبه، وقد استفادت في الفترة الأخيرة من وضعه. من لامبالاته، فنهجت أسلوب السرقة التي توقعه في الصباح بحيرة كبيرة. كيف ومتى أنفق ما كان بحوزته؟ ويلقي اللوم على الخمرة التي توقعه بالضياع . كانت ميكي تحسب حساباً ليوم آت، حيث سيعمل على طلاقها. تعد الأيام المتبقية. لكنها كسبت ابناً، وكسبت وقتاً عاشت فيه كزوجة حقيقية. بيت وزوج وبحبوحة في العيش. كان لها مصدر رزق، فإن حدث الطلاق ستبحث عن أجنبي آخر. تمنحه الجنسية لقاء ما سيغدق عليها، ففي كل الأحوال لن ترتبط بأمريكي، تطلقه أو يطلقها. أو يتفقان على الطلاق . ضحكت ساندي طويلاً وهي تستمع إلى ميكي، أما جينا فقد رقصت كما لم ترقص سابقاً. قامت تقبلها معبّرة عن بهجتها، وتعلن إعجابها بها، فهي تحلم أن يحل بكل شباب العرب ما حل بنبيل، وأن تتحول الفتيات العربيات إلى عاهرات، كي لا يبقى أمثال كاظم، وتتساوى الفتاة العربية مع غيرها. أما ساندي فقد قلبت شفتيها، فهي لا يهمها ما يحدث مع غيرها، وإن كانت تتعاطف مع جينا، لكن وببساطة لا تحسد نبيلاً على حياته مع ميكي، كما لا تحسدها على الحياة معه، بالنسبة لها يسعدها نجاح زاهي، فهي فاعلة معه، وإن كانت المستفيدة بالدرجة الأولى، فهو مستفيد أيضاً، فقد عومل كمواطن أمريكي، له حق العمل والاستفادة، وهي أيضاً استطاعت استغلال هذه الفترة من حياتها، كما تفعل بقية الفتيات اللواتي تزوجن بالإيجار، وكانت تتباهى بزاهي، وتدرك أنه سيغادرها ذات يوم. لكنها معجبة به، وتشعر بقوته، فهو يتغاضى عن تصرفاتها الحمقاء، فتتذكر آخر مشادة وقعت بينهما. تضحك من أعماقها. كان محقاً. لم يكن ذنبها. كان ذنب المخدر. اللعنة. أما ثيابها وثياب ابنها، وزجاجات الحليب الفارغة. تعود للضحك. فقد تحمّلها زاهي كثيراً. قاطعتها ميكي التي أعجبها حديث الميروانا والمخدر، فقد قالت وهي تحمّل كلماتها المزاح. كان يجب أن تتبادلا المواقع هي وساندي. أنا لزاهي وأنت لنبيل. تجمعكما المخدرات، وتدمنان ما طاب لكما . لم يبتعد أبناء العمة عن هند كما توقع الجميع، وربما ساهمت هي بذلك، فتتحدث عن رابطة القرابة معهم، وما جمعها بهم طوال عشرات السنين، فلجاد الصغير الحصّة الكبرى من الاهتمام، فهو والد لين، والذي دهمه المرض، فأصاب قلبه وعينيه، فتمنحه الرعاية أو تمده بالمال. يحبه أخواه. يغمرانه بالعطف ويعلّقان على التزاماته المتعددة، منها ما يترتب عليه من مصاريف للفتيات الشابات، اللواتي شاركنه المسكن واحدة إثر أخرى، بغية العناية والاهتمام بشؤونه. تكون هند صامتة، وفي أحيان أو حين تتذكّر أمراً، تنعت تلك القرابة، ففي جسدها أكثر من إشارة لعدوانه عليها. يضحك الأصغر وهو يشير إلى أنفها الذي هشّمه جاد الصغير ذات يوم، أو لعظام ظهرها التي خضعت للقفص المعدني. مازالت تشكو الآلام. يضحك جاد الصغير. يهز رأسه علامة التأكيد. لكنه آسف لما حصل. أما الأكبر فقد عذّبها بطريقة أخرى. ينهض هذا مستغفراً. يحاول طبع قبلة على جبينها. تنهره. تنصحه بالذهاب للمرأة الكورية. لكنه سيصبح رجلاً طيباً معها. يكون الأصغر في رحلة مع الطعام، ما بين الصحن والقميص الملوث. يمسح براحة كفّه فوق الصدر والبطن، ويخرج المنديل. يلملم ما فوق الشفتين، ويعلق على ما قاله أخواه وهو يهتز ضاحكاً. حين أتى جورج للمرة الأولى بعد الطلاق، كان ذلك لرغبة من لين، فعطل أصاب جهاز التسجيل الذي أهداه لها ذات يوم. فوجئت هند به، وحيته ببساطة، ولم تستغن عن خدماته بعد ذلك، فهو المنقذ أمام أي عطل يصيب آلات الكهرباء أو التمديدات. لم تكن ليلى أو جورجي راضيين عن ذلك. لكنهما وفي أعماقهما يدركان مدى تأثير لين التي تحبها هند كأكثر ما تفعل في حياتها. اجتمع أبناء العمة عند هند، لاستقبال لين وبيرت والصغيرة فالن، ومن يرافقهم من أسرة بيرت. دارت الأحاديث حول رضاء لين الأخير بعقد القران الكنسي. كان الأصغر يعلّق أولاً على سلوك بيرت الذي لن يتغير، فهو في أكثر بلاد العالم حرية، يسمح له عمله بمخالطة أكثر الفتيات جمالاً. لو أنه مكانه لما تزوّج أبداً. كل يوم مع امرأة، ثم علق على فكرة الزواج ، فهو المحامي الذي اطلع عشرات السنين على قضايا البلد بحكم موقعه كمحام للمقاطعة. وله رأي في الزواج الكنسي الذي لا يحبذه، ويفضّل البقاء على زواجهما المدني، لأسباب كثيرة، منها حضاريته التي تمنح فرص التصرف أمام وقوع المآزق، على عكس الكنسي الذي يبدو في بعض المواقف قيداً سخيفاً. أما بالنسبة لاستمرار العلاقة، فلا حاجة لروابط مصطنعة، وقد لا تقوى هذه الروابط على الوقوف أمام الرغبة الحقيقية أو القناعات. عارض الفكرة جاد الصغير، فكاتي ابنته الأولى تزوجت بالطريقة المدنية حتى الآن ثلاث مرات. كانت الكنيسة ستعيق الطلاق الأول بضع سنوات فيتأخر الثاني، وربما وصلت إلى قناعة بعدم ارتباط جديد، فتنجو من ذلك. أما جورج فكان ينصاع في كل مرة أمام رغبات لين وقراراتها كما تفعل هند . كانت لين أكثر ابتهاجاً وهي تعانق عمها جورج، فعلاقتهما لم تتأثر بما مر في الأجواء العائلية من أحداث. فصور الطفولة عالقة في ذهنها، حين تخلى عنها أبوها، ورعاها العم الذي كان البديل، فكانت صلة وصل لجمع الأسرة التي تشتّتت يومذاك، وهي التي آزرته حين دب الخلاف بينه وبين أمها. اتهمتها بالخيانة حين اتهمها هو، واعتذرت حين تراجع عن تهيؤاته، غير أنها وفي كل الأحوال حفظت الحب الكبير لأمها، ذلك الحب الذي يتصاعد غيرة، وهي التي تعلن ذلك في كل مناسبة، فهي تحب أمها بجنون. تضحك هند وهي ترميها بكلمات التحبب التي عودتها عليها . في جو من الود والحميمية اللذين فرضهما لين وبيرت، وباستشارة الكنيسة. حدّد موعد عقد القران. كان وقت بيرت ضيقاً، وعليه العودة لمتابعة أعماله، وخلال الانهماك بالترتيبات أسرّت لين إلى أمها حملها الجديد، ومن خلال الدهشة كانت هند سعيدة، فهي ستصبح جدّة للمرة الثانية . انغمس جورجي في المقامرة والرهانات بنهم، فلا يكاد يعود من عمله حتى يسرع لتمضية أكبر وقت ممكن. أحب الأحصنة. بأشكاله وأسمائه، وقوة قوائمه، فلكل حصان قيد نفوس وتاريخ بطولات، فيخضع ذاكرته. على من يراهن؟ من سيكون أولها؟ ومن ثانيها؟ وفي غمرة جهوده ينسى جمانا، التي لا تبارح ذاكرته في أوقات العمل والراحة. يراها وهو يأكل أو يتحرّك، وقبل لحظات الغفو. هنا ينساها. ينسى نفسه يصبح كائناً آخر. هذه اللحظات المشحونة بالترقّب والقلق تبعده عن الحياة، أو تضعه أمام معادلة، الحياة أو المقامرة؟ فتنتصر هذه التي تحوّله إلى شبه رجل يتحرّك بلا انتماء . حين يستيقظ يتذكّر جمانا. يدور في أرجاء البيت. يتعثّر بقمصانه وأحذيته. يلعن ما حوله. يحلم بكوب نظيف، أو قدح من القهوة. تطالعه الفوضى. يجلس منكمشاً. حين أحب جمانا أحب بيته. كان ينظّف محتوياته. يرتّب أشياءه. هنا ستجلس جمانا. هنا ستنام. تتحرّك. من هذه الحديقة ستعبر. كم كان جميلاً ما فكّر فيه آنذاك؟ ستتغير حياته. ستنقلب رأساً على عقب، وهو الذي أضاع سنوات طويلة. ستكون له زوجة، هي الحبيبة التي انتظرها طويلاً، هي الحلم والأمل، فتستمع جمانا بود، فهي تحلم أيضاً بالزوج الطيب الذي ستتابع معه الحياة باطمئنان . أعجبها بجورجي سيرته الحسنة، فهو محبوب أينما وجد، ربما لهدوئه وسلوكه مع الآخرين. مازال يحتفظ بما تلقاه في طفولته، وحفظه في شبابه، وما لم يستطع التخلي عنه. لم ينس عادات بلده ومقدّساته. بقي شهماً. كريماُ. تميّزه ابتسامة، ويميزه ذلك الاقتضاب في الكلام. تضحك جمانا من أعماقها. (لم لا تجيب؟ تكلم. قل شيئاً) يهز رأسه. (سأتكلم عند الضرورة) تتدخّل هند (قل! أتحب جمانا ؟)..(ما شأنك أنت؟) (أريد أن أعرف) (هي تعرف وكفى). كانت جمانا تعرف مكانتها عنده، وكانت تعرف أيضاً مكانة كل صالة من صالات القمار. إنه مدمن. مستهلك. عشرات السنوات مع الأحصنة وفي (الكازينوهات) يقضي إجازاته بين (أتلانتيك سيتي) و(لاس فيغاس). تأتيه الدعوات المجانية بما فيها نفقات السفر، والتنقلات والمطاعم. اسمه مدرج في كل منها. رجل يعرف كيف ينفق أمواله دون حساب. هاهي صورة جمانا تعود بآخر ملامحها. ذلك الجانب الذي لم تره قبل ذلك. لا يدري لماذا ثار تلك الليلة؟ ما الذي استفاق في أعماقه؟ وكأن الخمسة والعشرين عاماً التي قضاها في هذه البلاد، لا تحسب من عمره، فخلال ومضة عاد ذلك الصبي العاشق، الذي لا تعرف الحبيبة ولم تعرف غيره. كان باستطاعته أن يجابه العالم بصدق مشاعره. أو أن يحمل جمانا ويطير بها إلى البعيد . لماذا لا تفارق ذاكرته؟ هاهو يشتاق إليها. قالت له إنها لم ترفضه هو. رفضت أسلوب حياته. رافقته ذات مرة إلى نادي الأحصنة. كانت تراقبه هناك. تراقب انفعالاته. كان غارقاً بتأمل قوائم الأحصنة، ولائحة التطوّرات، من سيسبق؟ من سيكسب؟ ويعود لدفاتر أمجادها، ومدى تحمّل واستطاعة كل منها، فيسألها فجأة إن كانت ترغب في المراهنة، وانتقاء حصان يدلّها إليه حدسها. كان يخسر مرة ويعوّض أخرى، وحين يحالفه الحظ يرجعه إلى وجودها معه. تلك الليلة أقسمت ألاّ يكون في حياته أمران. أن تكون هي أو لا تكون. كانت صادقة وهي تنقل مشاعرها، وتصف تلك الساعات التي انتزعته من قلبها. كان رجلاً غريباً. مختلفاً عن الذي أحبته، وهي تريد الحب باستمرار، وأعلنت رفضها بجرأة، لأنها لا تستطيع أن تتجزأ، أو تكون اثنتين . تلك الفترة تمنّى لو يستطيع الاستجابة لرغبتها، واختصار عشرات السنوات ليبتدئ الحياة معها. كان يقرّر مقاطعة تلك النوادي ويعود عن قراره. تمنّى في أعماقه لو يستطيع، كان من الصعب أن يقتلع نفسه بتلك البساطة. كان يحب إدمانه كما يحبها. إنه ينساق إلى هناك كما ينساق بقلبه إليها . من حيث لا يدري، وبعد رحيلها. وجد نفسه غارقاً في تلك الصالات. ربما لينسى كما اعتقد، وربما ليمتلئ منها حتى الارتواء، وربما لشعور ينتابه بأن تلك الصالات قد خدعته طويلاً، وعليه قبل مغادرتها إلى غير رجعة، استرداد حقه الذي هدر بأبسط الوسائل وأحقرها. لابد أن يرجع ذلك الشاب القوي، الذي لا يقع أو يخدع، وفي غمرة ما هو به. كانت جمانا تبتعد لينسى، ويتذكّر، ثم يعود لينسى من جديد . تغيّرت تينا كثيراً. هذا ما كان يتردّد بين زبائن البار المياومين، وهذا ما لاحظه زوجها الذي يحبّها، والذي يحضر في بعض الليالي لمرافقتها إلى بيت الزوجية. والذي لم تصدق هند شكوكه التي أفصح لها بها خلسة عن تينا . أقسمت تينا أن لا صحة لتلك الأقوال، فلا علاقة لها بالرجل الغريب الذي يحضر كل مساء. لم يكن لهند صلاحية التدخل في حريّتها الشخصية، وربما لم يكن للزوج أيضاً حرية التدخل التي قد تودي بهما إلى الطلاق. غير أن حرية العمل وقانونه في الأماكن العامة، تخوّل أرباب العمل حق التدخّل حفاظاً على استمرارية النظام، الذي هو أهم من القضايا الأخرى، فالدور الذي تلعبه تينا يجب ألاّ يتعدّى المجاملة العامة، والترفيه، وتوزيع الاهتمامات بالتساوي، فروّاد البارات رجالاً كانوا أو نساء، جاءوا لينسوا أو يتذكّروا، حاملين همومهم أو مباهجهم، فيفرغون شحنات عواطفهم، دون رقيب. قد يستمعون إلى بعضهم بعضاً، أو يتجاهلون. لكن. أهم مستمع هو عاملة البار التي يجب أن يكون صدرها رحباً على الدوام، فعليها مراعاة مشاكل كل من الزبائن الكرام وهمومهم، واستيعاب قضاياهم، خشية أن يشعر أحدهم بإجحاف ما. كل هذا مع الاحتفاظ بابتسامة عذبة، أو تخسر عملها الذي يدرّ عليها الأجر والبخشيش، وينقذها من البطالة التي هي في الدرجة الأولى وحدة، وغربة في عالم فقد العلاقات الاجتماعية والأسرية . كان هذا عالم تينا ورفيقاتها، اللواتي كن النسبة الواسعة في ذلك البلد، وهن اللواتي نسين المجتمعات الأخرى، أو رفضنها كما فعلت تينا الذكية والمتفوقة. ربما لميولها كالأخريات، أو للفرص القليلة لهن، فأكثرهن لم يتعلمن، أو يثقفن أنفسهن، أما تينا المختلفة فكانت تسرّ لزميلاتها أن أحلامها أكبر من أحلامهن، فهي تحلم بالاحتكاك مع أكبر عدد من الناس، واستقطاب الوجوه والعقول من حولها، لتثبت أنها أكثر إثارة وفتنة، وأن لكلمتها شأناً على الآخرين . كان الرجل مهذباً. يناهز الخمسين من العمر، وكان صامتاً. هادئاً. لكن وبعد ساعة من معاينة الموجودين، ومراقبة تينا واحتساء الخمر يتحوّل إلى رجل آخر. تحمر عيناه، وتأخذ يده بالرجفان، ويطالب تينا بالتفرّغ له. يتغيّر أسلوب تينا فجأة. ترتبك. أما زوار البار الذين عوّدتهم على نمط آخر من المعاملة، فقد لفت انتباههم وجود الغريب. كان بعضهم مهتماً، وبعضهم الآخر منشغلاً بأموره العاطفية، كالذين ترافقهم صديقاتهم أو العكس. غير أن الملاحظة كانت واحدة عند الجميع، فهذا رجل أتى ليثبت مكانته عند تينا، ولم يفت بعضهم إلقاء نظرة على الزوج الذي كان في حالة من الإحباط، ثم يعودون إلى اهتماماتهم الخاصة بهم، وكأن شيئاً لم يكن . أقسمت تينا ثانية أن لا صحة لتلك القصّة . كانت هند مندهشة، لا لأن تينا بعيدة عن الشبهات، فكل معرّض في هذا البلد لإقامة العلاقات، إن كان بدافع العاطفة أو الجنس، أو التسلية، أما تينا الذكية والتي عاشت حياتها قبل الزواج، وحوّلتها هذه الحياة - كما تقول في كل مناسبة - إلى امرأة متخمة، فتشغلها أسرتها، وزوجها الذي يحبها كثيراً، فكان من الصعب في البداية تصديق ذلك. غير أن الزوج الذي أكثر من المجئ، وهزل بعض الشيء، أقسم لهند أكثر من مرة، فهو يعرف طباع زوجته، ويحفظ ردود فعلها وأحاسيسها، فهي على علاقة بالرجل المسن، ولا يدري ما الذي يعجبها به، ويشحب من جديد. ردّ على الهاتف وقال ببساطة : - أهلاً هند . أرجو أن لا تتفاجئي .. أعرف صوتك أيضاً. أخفت ارتباكها بضحكة، وقالت جادّة : - ها أنت تعرف اسمي! واسمك .. ما هو؟ - اسمي خالد .. لم تشأ التعليق على اسمه الذي رأته جميلاً. قالت : - حسناً! ماذا باستطاعتي تقديمه لك؟ - الكثير ! - ماذا تقصد؟ أو مثل ماذا؟ - ستعرفين حين نلتقي! - نلتقي؟ - ما رأيك في الجالية العربية؟ أحست بدوار. تمتمت : - جميل هذا . واتفقا على الموعد. منذ عام لم ترتد ذلك المقر. أخذتها الهموم والمسؤوليات. كانت تلتقي هناك بالأصدقاء. الدكتور حسّان، وماجد، وسامي، وبعض الصديقات العربيات الأصل، وكانت ترى في المناسبات بعض الصحفيين الأمريكان، ووجوهاً أمريكية، ومستشرقين. يلتقون هناك. يطرحون هموم العرب وقضاياهم، وكم نظّمت الحفلات الخاصة بالجالية العربية، وكم ساهمت هند بمشاريع إنسانية، كان أهمها ما يعود ريعه للمعاقين، أو ذوي الحاجة، وكم نظّمت الحفلات الخاصة بالجالية، وكم غنّوا ورقصوا (الدبكة) وأكلوا ما صنعته أياديهم من المأكولات العربية. هنالك التقت بالكثيرين، فقد تميّزت توليدو بكثرة العرب المغتربين، وهم يلاحقون أخبار بعضهم بعضاً، أما هو؟ تقلّبت هند ذلك النهار كثيراً، فتركن هادئة. ساهمة، أو تنهض وعلى فمها أغنية. تعانق العاملات أو تلقي عليهن السلام. كان هانك يبتسم وهو يدخل المطبخ، أو يخرج وبيده شيء ما. يهزّ رأسه وهو يتمتم بكلمات عن حالة تصيب هنداً في بعض الأوقات. تكون سعيدة ومتأسية في وقت واحد، فتبدو وكأن الهم يترصّد كل حركة أو نأمة تصدر عنها، وتنتقل فجأة إلى حالة من البهجة، فتغني. كان هانك والعاملات يضحكون. أما تينا التي حفظت بعض الكلمات والألحان العربية، فكانت تردّد بعضها. غير أن الجميع علّقوا بأن اللغة العربية صعبة النطق، وأخذوا يتبارون بلفظ الأحرف. الضاد. العين القاف، فتزداد هند ثقة بلغتها . كانت هند ذلك النهار منسجمة مع ذاتها أكثر من أي يوم مضى. كان الصباح في أوله. استعادت الكلمات. أصرّت على كلمتي الجالية العربية. بدا خالد رجلاً مختلفاً. لا يشبه الرجال من حولها. يشبه رجال بلدها، أو رجلاً في الذاكرة، رجلاً لا يعرف الموت، لا يعرف الانتهاء. يتجدّد. يحملها ويطير، حيث تعود طفلة. تركض في الحقول. تشم خبز التنور. تراقب البيدر والعصافير، وحين تتعب. تجلس تحت شجرة التين المزروعة في أرض جدّها. سترتاح هناك طويلاً. في أجواء الوطن ومناخاته تحلو الحياة. تحلو الذكريات. منذ زمن لم تعش هذه المشاعر. لماذا نسيت أجمل ما في حياتها ؟ أجمل أيام عمرها ؟ لماذا تتذكّر الآن؟ هل هو خالد؟ ما الذي يخبئه لها القدر؟ ومن هو خالد؟ وماذا يريد؟ وهل أخطأت بالاستجابة لرغبته؟ هل أخطأت بإعطائه موعداً ؟ لم تكن تلك اللحظات تفكر بالإجابات على الأسئلة المتلاحقة. كان كل شيء جميلاً. تحوّلت توليدو إلى قطعة تغفو عند شاطئ اللاذقية الحبيبة. يغمرها الموج تارة، والنسمات، والدفء والحب. شعرت بأنها لم تنم، وكان الصباح يقترب. إنه بحاجة لها. هذا ما أكّد عليه. كيف سيلتقيان؟ ما الذي سيقوله؟ وما الذي ستقول؟ أولاً ستلقي السلام. سيرحّب بها. إنه بحاجة إليها. إلى خدماتها. لكن ماذا يريد؟ وحين لم تتوصّل إلى جواب. راحت تخلق الأحاديث والحوارات، وحين أخذ بيدها ونظر بعينيها، خافت. هربت. لكنها سعيدة بكل ما سيحدث. سيكون لها صديقها الخاص. صديق يسألها. يهتم بها. توقفت فجأة عن التفكير. إنه يعرفها. كيف ومتى حدث ذلك؟ لكن من هو؟ من أين جاء؟ في كل الأحوال، شعرت بأنها ستحب كل ما ينتمي إليه، وكل ما سيقول، وقبل أن تغفو كانت تعد الأيام المتبقية لذاك اللقاء . لاحظت الخالة كآبة جمانا، وكانت تراقبها من طرف خفي، وحين اعتكفت في غرفتها لحقت بها. آثرت جمانا الصمت خلال حديث الخالة الطويل . تجاوزت خالة جمانا الثمانين من العمر، فبدت بوجهها المتهدّل أكثر حكمة. أفرغت عبر حديث طويل مع ابنة الأخت مزيداً من النصائح، انصب أكثرها على زواجها من جورجي، ولم تفتها الإشارة إلى احترام آرائها، فهي ناضجة التفكير. لها تجربتها في الحياة، وباستطاعتها اختيار الزوج والطريق الصحيح لحياتها . لم ينم عن جمانا حرف في البداية، واستمعت إلى الخالة بهدوء. إلى أن طيّبت خاطرها قائلة : - سأتزوج منه يا خالة .. لكن ليس الآن . - متى إذن؟ لستما صغيرين. هو يقترب من الخمسين، وأنت من الأربعين ! ضحكت جمانا كثيراً ثم قالت : - ذلك يتوقّف على جورجي ! - ما أعرفه. إنه يريد الزواج وكفى . - أعرف هذا . - أين المشكلة إذن ؟ - المشكلة في شخصيته . - لم أفهم ؟ كانت الخالة معجبة بجورجي وتراه أفضل الرجال، وكانت جمانا تراه يعيش الازدواجية باستمرار. قالت : - إنه أمريكي. بعقل عربي. حين يصبح واحداً سأتزوج منه . - هل تريدينه أمريكياً؟ ضحكت جمانا قالت : - لا تهزئي يا خالة. أنا أريده رجلاً. كانت أخباره تأتيها تباعاً، وكان آخرها أسوأ ما سمعته. لم تستطع تفسير تصرفاته، وانغماسه الكبير بالمقامرة. أرقت كثيراً، وتوصّلت إلى أن ذلك يعود إلى شعوره، بمدى الخسارة التي سبّبتها تلك الحادثة، فالشرط الهام للزواج هو مغادرة تلك الصالات، وباقترابه منها تبتعد هي عنه. إنه يعاقب نفسه، أو يعترف بالخطأ الذي ارتكبه في حقّها. لم تكن مذنبة تلك الليلة، وهو مدرك هذا، لكن معالجته للموقف كشفت لها أموراً هامة في حياته. أما بينها وبين نفسها فكانت مدركة أنها غفرت له منذ اللحظة الأولى، وأرجعت ذلك لما يكنه لها من حب، وكأنه سيحملها ويطير إلى عالم آخر بعيد عن العيون . كان الصباح يقترب، وكانت تحلم بالسفر إلى توليدو كما وعدت هنداً في آخر هاتف. كانت في قرارة نفسها تشتاق لذلك البلد، الذي أحبته منذ اليوم الأول، ليس لأنه الأجمل. تذكّرت حلو الأيام التي قضتها فيه، كما تذكّرت مرّها. تذكّرت قسمها بمقاطعة الزواج، حين رزحت هند تحت وطأة الطلاق. كانت صادقة يومذاك وهي تصل إلى حقائق في حياة الإنسان، ومواقفه العدائية أمام ما يمسّ مصالحه، وكانت تستغرب تصرفات زوج هند، التي اختلفت بين ليلة وضحاها، وتجاهله لكل ما كان جميلاً، ويبحث عن الثغرات التي كانت في يوم عابرة، ليجعل منها قضية تستحق حلاً سريعاً ينتهي بالطلاق . رفضت يومذاك الزواج من جورجي. لم تطالب بشرط ما. كان الرجال في عينيها كتلة من المساوئ. بفوقيتهم. بقوة أجسادهم. بنبرات أصواتهم. بأنانياتهم. لا علاقة لجنسيته أو لتربيته. لا فرق إن كان أمريكي الجنسية أو غير أمريكي، فزوج هند عربي الأبوين، وفي لحظة أنانية عاد رجلاً كأكثر الرجال، قوياً. بيده الفصل والقرار . تذكّرت جمانا أحداثاً كثيرة، غير أنها ولسبب ما، توصّلت إلى اختلاف جورجي عن الكثيرين، فسترتبط به حتماً، وبارتباطهما سيشكّلان مثال الزوجين الطيبين. كانت سعيدة بتفكيرها، وكانت تنتظر الجديد في كل ثانية تمر . اجتمعت الصديقات الأربع. تينا وميكي وساندي وجينا، وانضمت إليهن شيري. انتقين أحد البارات النائية، وجلسن يحتسين الخمرة. بدون محبطات، وقد انتشرن على مقاعدهن. كان لكل منهن الهم الذي يشغلها. بدت ساندي متأثرة فهي ستفقد زاهي عن قريب. انتهت المهمة التي شغلتها عامين. سيحدث الطلاق. ويجف النبع الذي تدفّق بغزارة. سحبت نفساً عميقاً من لفافة الميروانا، وهي تنقل عينيها على رواد البار. أوعزت تينا بالهدوء، فالأمر يحتاج إلى رويّة، طالما ابتدأ بحث ساندي عن صيد جديد. ضحكت الصديقات. لم لا؟ مهنة جميلة. تدخّلت ميكي، فصفقتها هي متجدّدة، ولذلك فشباكها أمتن نسجاً، غير أن تينا علّقت على أن الضعف ليس في شبكة ساندي، إنما في متانة الصيد. كانت شيري تستمع، وهي التي لم ترتبط بزواج، وكانت علاقاتها تنتهي في مهدها. شعرت لأول مرة باشتياق لعلاقة تنتهي بالزواج. ستحب زوجها، وتتقاسم معه النفقات والمصاريف، وتلد ابناً، أو بنتاً. توقفت فجأة عن التفكير، فقد استفاقت أعماقها رافضة الفكرة، ونعتت الزواج بمختلف النعوت. فاجأتهم تينا بكشف أسرارها التي لم تعد خافية كما تعتقد، وأسهبت بتفاصيل علاقتها مع الرجل الثري، والمتزوج للمرة الرابعة. إنه يغدق عليها بلا حساب. إنه مولع بها. كادت أن تفقد عملها بسببه. هي لا تشعر بالحب نحوه، إنما بالتعلّق به، فهو يرضي غرورها كأنثى. إنه مختلف عن بقية الرجال بكرمه وتقديره للأنثى. إنه طفل كبير، وغرقت فجأة بالضحك وهي تصف عضوه الذكري الصغير، المشوه خلقياً، فشاركنها الضحك. كانت جينا أكثر الجميع إحباطاً، فهي التي خسرت الزوج والأبناء دفعة واحدة، وتعلّق بأنها تحب أبناءها، لكنها تكره كاظماً الذي استغلّها فترة من الزمن، ورماها للآخرين، هي تحب ابنيها، وتحب عاداتها الجديدة التي كانت سبباً في حرمانها منهما. علّقت تينا على إحدى عاداتها الماضية. ضحكت الأخريات وتأسفت هي، فما زالت تحنّ إلى تلك الأيام، وربما تحسد زوجته نور، التي تسرّبت أخبارها عن طريق ابنيها، حيث يمارس كاظم ميوله، فقد أشبعها ضرباً إثر مشادة قامت بينها وبين أمه. تلقّفت الصديقات أخبار نور بلهفة، ورحن في سؤال وجواب، فأكثرت من الأحاديث، واختلقت القصص، وكأنها تتشفّى بالفتيات العربيات، وتحلم أن ينتهين إلى العهر، فهن أكثر فتيات العالم قاطبة قدرة على تحمّل الظلم، وهن المرغوبات بين الرجال، لبناء أسرة لاتتفكك، وتستغرب مدى استعدادهن للمحافظة على أنفسهن من ممارسة الجنس. تضحك بسخرية. هنالك ما يسمّونه البكارة. تهدى للزوج عربون وفاء وإخلاص. يحلم الشاب العربي بفض بكارة عروسه. لا يهمّه ماذا فعلت؟ هل مارست الجنس قبلاً؟ هل خضعت لعلاقة ما؟ قد تكون مريضة أو شاذّة، أو؟ تدّخلت تينا التي على معرفة أوسع في هذه التقاليد، وعلّقت على النسبة الكبيرة التي تتخللها حتماً هناك ما هو مخالف، وأشارت إلى أن ممارسة الجنس نوع من تعوّد. يستيقظ في فترة معينة، أو مع الحب، في كل الأحوال قد يغفو ثانية إذا لم يحدث الوصال، وانتقلت للحديث عن نور. مرّ على زواج كاظم أشهر ثلاثة، لم تخرج خلاله من البيت. يتلو عليها كل صباح الواجبات، التي أهمها مرافقة الأم في كل خطوة، لتحذو حذوها، وحين يصفق الباب وراءه، تنهال نور بالشتائم، والتنديد بيوم قريب تخرج فيه إلى النور. حافظت الأم على تفاؤلها، مع أن التشاؤم كان يزورها بين الفينة والأخرى، فتأمل بعودة نور إلى رشدها، وترضخ لحياتها التي سيحوّلها كاظم إلى نعيم، مستشهدة بزيجات تخلّلتها المشاكل والمشاحنات، إلى أن اعتاد كل من الطرفين على طباع الآخر. لم تكن نور تعرف أحداً في توليدو، أما كاظم الذي أقسم ألاّ يحقق وعداً من وعوده لها، إن لم تنصع لأوامره وتحقق رغباته، فقد ابتعد عن أصدقائه العرب، وكل ما يربطه بمن له علاقة بهم، وبقي رقم هاتفه سرّاً من أسراره . لم تبح جينا لصديقاتها عن تلك العلاقة التي تربط ابنيها بنور. احتفظت بما كانا ينقلانه لها، فهي ترعاهما. تحضنهما بحب. تبكي لأنهما ظلما معها، وفي مرة بكيا. إنهما يتمنيان لو كانت نور أمهما. غضبت جينا يومذاك، وصمتت على مضض. لكنها وفي قرارة نفسها. شعرت بالاطمئنان لأنهما يعيشان في كنف بيت له ملامح الأسرة والعائلة . كان قلبها يخفق، وكأنها على موعد مع حبيب، كأنها شابة أتعبها الهجر والغربة. أبطأت خطواتها. كل الأشياء تتحوّل إلى أصابع تشير إليها. كان الشارع خالياً من الناس، عدا السيارات المتراصّة، والتي تعبر جيئة وذهابا. فكرت بما هي به، فهل يعقل أن تذهب لموعد رغب به هو؟ وكيف انساقت ببساطة. ما الذي يفسّره موعد كهذا في بلد لا تتم المواعيد خفية؟ المواعيد لها طابع الحرية والعلاقات الشخصية. لماذا أراد للقائهما أن يكون خارج عملها؟ لو اختلف المكان، هل كانت لتلبّي الدعوة؟ منذ زمن لم تذهب إلى مقر الجالية العربية. كانت في كل مناسبة تذهب إلى هناك. تلتقي بالأصدقاء. تصنع لهم أصناف الطعام العربي. يهرعون . تجمعهم أكثر من قضية. الغربة والحنين. يطرحون هموم الوطن ومشاكله، لماذا الآن تتدفّق شوقاً. رغبة تملؤها بالإسراع. كل شيء جديد. جديد أن تفرح. أن تغتبط، وجديد أن تخاف. أن تتوجّس. لكنها جديدة. مملوءة حياة. أصبح كل شيء مختلفاً. إنها تتحرّك من أجل شيء يخصّها. شيء لها هي. ابتسمت. كانت قد اختارت الثوب بصعوبة. ترى! ما الذي يحب؟ الأبيض أم الأسود؟ أم كلاهما ؟ هاهي تقترب من المدخل، وكأنها المرة الأولى. هذا المكان الذي أحبته كثيراً. كأنها لا تعرف هذا المكان. هل تعود؟ لا إنه المكان الذي جمعها بأبناء الوطن أيام الغربة الأولى، فيتساءلون في كل لقاء، لماذا تمر بلادهم بالصعاب؟ في طفولتها وصباها قرأت التاريخ، حقبة وراء حقبة. مئات الأعوام مرّت، لا حرية . لا سلام. دائماً يوجد متسلّطون تحت كل الأسماء والشعارات. لماذا يحدث لبلادها ما يحدث؟ بلادها التي حباها الله بالجمال والتميّز؟ لماذا يحدث لشعبها ما يحدث؟ وهم المتفوّقون في كل المجالات ؟ هم النخبة حيث يوجدون. هم الأكثر قدرة على الاستمرار. على التحمل. على الحياة . شيء يدفعها للجري واقتحام الأبواب. وجدت نفسها بين مجموعة من الأصدقاء . كان الدكتور ماجد وسامي وحسان وغيرهم، وكان الجميع يرحّبون بها، وكان هو، وبين الترحيب حلّت الطمأنينة. شعرت هند بالراحة والعفوية، وانطلقت على سجيتها كما كانت تفعل في أيام ماضية. كرّر الدكتور سامي اسم خالد، وتابع، فهو صديق قديم. يعمل في الصحافة. لا يعرف الاستقرار. يتنقّل من بلد لآخر. يحمل همومه المتجدّدة باستمرار. ضحك خالد مؤكّداً صحّة ما سمع. كانت هند مندهشة، فما سمعت هو آخر ما فكّرت أو تفكّر به. كان قلبها يخفق. إنها المرة الأولى التي تعقد فيها موعداً هاماً، كما حصل معها. لم تعد تفكّر لماذا هي هنا؟ شعرت بأنها مكتفية بتلك الدقائق القليلة وهي بصحبة خالد، الذي انتقاها لسبب ما. دخل الجميع في حوارات كثيرة. كانت منشغلة عنهم. استمعت إلى بعضها. تحدّثوا عن الواقع العربي. أبدى خالد استياءه من أبناء بلده، الذين يسخّرون طاقاتهم لغير الوطن، فقد لاحظ من خلال تجواله الطويل. أن أهم الأعمال في أمريكا، تقع على عاتق الشباب العربي، ولو سخّر طاقته للوطن، أو لو لم يتجاهل قضيته الأولى، لاختلفت أمور كثيرة. هيئ لهند فجأة. أنها ستستيقظ ذات يوم في الوطن. تراءى للحال وجه أبيها يبتسم، ووجه أمها ينضح بشراً، وخلال ومضة سحبها خالد من شرودها، معلّقاً ببساطة. قال: - هاهي هند تزداد جمالاً. أخفت ارتباكها. قالت وهي تبتسم: - كأنك تعرفني سابقاً؟ تدخّل الدكتور سامي وماجد. قالا: - ربما يعرفك حقاً... زارنا في السابق مرّات. قال خالد : - وحضرت مناسبتين، ضمّتا أكثر الوجوه العربية في توليدو. حلّ صمت قصير. قطعه خالد قائلاً: - ومن المصادفة أن هنداً كانت في المرّتين زوجة . مرة لجاد الصغير، وأخرى لجورج. ضحكت هند للملاحظتين، ثم سألته قائلة: - هل مكثت طويلاً في هذا البلد؟ - لا.. عدت سريعاً.. كان لدي عمل آخر. - والآن؟ - سأمضي هنا أطول إجازة. أسبوعاً كاملاً،. ثم . تدخّل الدكتور ماجد. قال: - إنه مدعو من قبل الجاليات العربية في بعض المقاطعات الأمريكية. ومن قبل بعض الجامعات .سيلقي أكثر من محاضرة. حول الشباب العربي والهجرة، وغيرها مما يتعلق بقضايا الوطن. شعرت أنها قد غابت طويلاً عن وطنها وأخباره. ارتبكت. قالت: - في توليدو أيضاً جالية عربية. ألا تستحق الاهتمام؟ ضحك. كان الدكتور سامي يجيب قائلاً: - لقد خصّ توليدو بمحاضرتين. غداً وبعد غد. يجب أن تكوني في المحاضرتين. بدت مبتهجة. أجابت: - طبعاً. بكل تأكيد. هزّ خالد رأسه. تمتم: - وأغادر.. بعد أن أنهي مشكلة أجد نفسي مسؤولاً عنها. تدخّل الدكتور سامي موجهاً حديثه قائلاً: - لقد رشّحناك لمساعدته. انبرى خالد محتجّاً. قال: - بل أنا الذي اخترتها لمساعدتي. التفت إلى هند. نظر بعينيها طويلاً. ردّد بهدوء: - حدسي يلاحق انطباعي الأول عنك. كنت امرأة مميّزة. أهلاً للمسؤولية، وتأكد حدسي في اللقاء الثاني، ثم الآن ومنذ حضوري. أسألك . هل ستفعلين وتساعدينني؟ شعرت للوهلة الأولى بالرهبة. استمدّت الجرأة من وجهي الدكتور ماجد وسامي. تساءلت: - لست أفهم! بماذا أستطيع المساعدة؟ قالا: - اسأليه! كان خالد يتأملها بهدوء. خفق قلبها. تذكّرت لقاءه الأول والثاني. لم تشأ السؤال. شعرت بالاستسلام، وخلال أحاديث قصيرة انتهى اللقاء. كان يطبق على كفّها بثقة وهي تغادر، وكان الدكتور سامي يصر قائلاً: - لا تنسي موعدكما. وقع جاد الصغير في المرض. أصابته نوبة قلبية مفاجئة، وخلال دقائق أقله الإسعاف إلى المشفى، ليلحق به الجميع. أخضع إلى إجراءات طبّية كاملة، وأشارت النتائج إلى ارتفاع مفاجئ في ضغط الدم. إلى جانب الشحوم والسكر المرافقين له. أسعف جاد الصغير ونجا من خطر الموت، الذي أحاط به ساعات الليل والنهار، وغادر كل إلى عمله، عدا هند التي بقيت إلى جانبه حتى الصباح. تلك اللحظات التي لا تنسى، وهو يحدّق في الفراغ. كان يتمتم الكلمات، وكانت عيناه مغرورقتين. مسحت هند فوق جبينه، وقد مرت لحظات من الماضي، فمن الدهشة أن يتحوّل جبروت جاد الصغير. أن يهزم. أن تتهاوى يده الفولاذية، وجسده الذي أدمى كلاب الصيد. إنها اليد التي أودت بها إلى المشافي مرّات ومرّات، وهو الرجل الذي غادرها دون أسف إلى أحضان روزا، وغادرته إلى عشيق آخر. إنه هو بضعفه واستسلامه، وبكلماته المتقطّعة الآسفة همس لها متسائلاً: - هل غفرت لي يا هند؟ لم تجب هند التي غفرت قبل سنوات. سألها ثانية: - لماذا تزوّجت من أخي؟ لم يفاجئها السؤال. غرقت في صمت. قال: - هل بسبب أذيتي؟ لم تجب هذه المرة أيضاً. كان الشريط يمر. قبل عشرات السنين، وكانت صغيرة. يوم اقتلعت من أرضها الأم، لتحطّ عروساً في هذا البلد، ويتحول حلمها الكبير إلى عالم صغير هو بيت العمة، الذي هو الملجأ والأمان، وخلال قسوة الحياة، والزوج في عالم لا يمت لها بصلة، وبين ألم الغربة والحنين. القهر والحرمان، وجدت نفسها ثانية، وفي هذا العالم الغريب. تقتلع من جديد. لم تتزوّج من جورج لتؤذي أحداً. كان لها ولابنتها آخر ملجأ تحطّان به. كانتا غريبتين، وكان غريباً ضائعاً كما كانتا، فموت زوجته التي أحبها طويلاً أسقطه في ضياع. ربما جمعتهما الحاجة والغربة المشتركة. كان جاد الصغير ينتظر الجواب. ربتت هند على كتفه بنعومة. قالت بصوت لم تستطع إخفاء نبرة الأسى فيه: - إنه الخوف يا جاد الصغير. خفت التشرّد والضياع. خفت من عالم جديد لا يمتّ لجذوري بصلة. من الصعب شرح هذا، وكيف هو أو كيف يكون؟ شيء يشبه الوطن والتشبث بالأرض. كان جاد الصغير يتوسّل إليها أن تصمت. صمتت. شدّ على يدها وتمتم: - أحبكم جميعاً. أنت ولين وكاتي وأخي الأصغر، كما أحب أخي جورج. - أعرف هذا يا جاد الصغير. ونحن نحبك أيضاً. ظهر وجه جمانا التي أسرعت بالحضور، وكانت عينا هند مغرورقتين. ابتسمت هذه وهي تسرق نظرة من جاد الصغير وقالت: - إنه ابن عمتي، ووالد لين، وأحبه. حضرت لين في اليوم الثاني لمرض والدها. وجدته أحسن حالاً. لكنها بقيت متخوّفة. عانقته قليلاً ثم بكت، وخرجت إلى صالة الانتظار. لحقت بها هند التي فوجئت بوجود بعض الأصدقاء، الذين جمعهم مرض جاد الصغير كما جمع أفراد العائلة. كان جورجي متلهّفاً للقاء جمانا، التي لم تحتف به كعادتها في كل لقاء. تذكّر آخر ما حدث بينهما. وآخر حديث على الهاتف. فهل قبلت اعتذاره؟ كان مدركاً أنها ستغفر وتبرّر. كان باستطاعته قراءة ما يعتمل في داخلها، وصفته ذات مرة بالعاصفة التي تهب وتقتلع كل جميل، وبالبحر الهائج الذي يبتلع الأحياء. كانت تخاف على اختيارها من السقوط والفشل. لكن! لم تعد تذكّره بشروطها؟ إن أدمن، أو لم يدمن؟ إن أحبها أو لم يفعل؟ إن اختارها هي أم صالات القمار؟ شعر فجأة بالأسى. نهض وغادر المكان. غرقت لين في حديث طويل مع عمّيها، اللذين أزاحا من مخيّلتها فكرة الموت. ساهمت أختها كاتي أيضاً بتخفيف توتّرها. حدّثتها عن ابنتها (ليس) التي بلغت، فتبدو أكبر من عمرها. طويلة القامة، وجميلة. تشبه جدّها جاد الصغير، وتشبه أفراد الأسرة. أما عمّاهما فكانا ينصتان أو يصمتان، وكانت هند تخرج وتعود للاطمئنان على لين، بينما انزوت جمانا وراحت في التفكير. كان جورجي متأثراً لموقف جمانا. ذلك الجانب الذي لمسته لا يمت لحقيقته. إنه مختلف في ظروف أخرى. تمنّعها يفعل به ما لا يرغب. إنه يخاف أن تهرب منه. أن تضيع. أصبح عصبي المزاج. ضيّق الخلق. إنها تذكّره بأيام غربته الأولى. بحنينه الدائم إلى الوطن. حين كانت ذكرى الوطن توقعه في الأخطاء. يغوص في التفاهات لينسى. هو يخطئ لأنها بعيدة عنه. إنها وطنه. إنها عالمه الذي تغرّب عنه طويلاً، ويحلم بالركون إليه، والنوم في أحضانه. إنها العودة إلى الوطن بما يحمله هذا الوطن من دفء وحنين. كانت جمانا خلال ذلك تفكّر بجورجي، وكانت تحلم بيوم يجمعهما فيه بيت واحد. تسأل عن أشيائه وأموره. تمسح عنه تعب السنين، والغربة. كانت واثقة أن أحلامه قد استيقظت يوم مجيئها الأول إلى توليدو. حدّثها ذات يوم عن طفولتها الجميلة، التي يذكرها كالحلم، بعينيها الملوّنتين. لم يخطر في باله أنها ستكبر وتلحق به، واعتقد حين رآها أن العناية الإلهية أرسلتها لتنقذه، وتعيده أو تعيد له الحياة. بقي الاهتمام بجاد الصغير متواصلاً إلى اليوم الثالث، حيث أعلن الطبيب إمكان خروجه من المشفى. كانت هند أكثر الجميع بهجة، ففي غمرة الأحداث، بقيت صورة خالد ترافقها، وكأن حيّزاً من الذاكرة يعمل، فالموعد اقترب، وغداً سيلتقيان. تفرّغت هند مساء للصغيرة فالن، التي ارتمت بين ذراعيها. وضعت رأسها على صدرها ومسحة خجل فوق وجهها البرئ، وخلال ثوان دارت بها وهي تنشد. (طيارة طارت بالليل). توقّفت. سألت فالن: هل تعرفين من كان فيها يافالن؟ رفعت فالن وجهها المندهش. تابعت هند مردّدة ( فيها ابراهيم هنانو. راكب عاظهر حصانو) قاطعتها لين قائلة: - يجب أن تنام فالن .إنه موعد نومها. لكن. من هو ابراهيم هنانو؟ أسمع به منذ طفولتي. هل هو أحد أقاربنا؟ ضحكت هند من أعماقها. قالت: - هو يقرب كل عربي. إنه مناضل سوري. حارب الاستعمار الفرنسي في بلادنا. ابتسمت لين، وقبل أن تأخذ فالن إلى النوم. هتفت لعمّها جورج. أخذت موعداً للقاء صباحي، ولم تنس تذكيره بإحضار سيّارته الخاصّة، التي وعدها بها، لتعينها على التنقّل في المدينة، والترفيه عن الصغيرة فالن بعض الوقت. كانت هند تفكّر بمحاضرة خالد التي لم يتسنَّ لها حضورها، ومنّت النفس بالمحاضرة الثانية. فشعرت بالراحة. انشغلت تينا منذ الصباح بأخبار صديقاتها. نهرتها هند أكثر من مرة، فتغتنم الفرص لثرثرة تقصر أو تطول، فقد أعلن زاهي اقتراب موعد طلاقه من ساندي، التي لم توافق على ذلك، فهي مرتبطة بزوج لا تريد فقدانه. ثار هذا، فهي تخلّ باتفاقهما، وستعيق عملية الطلاق، ودخلا في مواجهات عدّة، ابتداء من ابتزازه إلى معاناته من إهمالها في البيت، وعدم توفير الوقت اللازم للدراسة. قرّر مغادرة البيت والعيش في سكن آخر. مواظباً بنشاط على الدرس والعمل، وهو الذي خسر عمله أكثر من مرة بسبب كتبه، التي تراقفه حين يكنس الأرض، أو ينظف الصحون. لم ييأس. كان نصب عينيه النجاح والجنسية الأمريكية، التي يعتقد بأنها كلّفته مزيداً من الذل والإهانة. نصحها نبيل بمساومته، فباستطاعتها كسب المال للمرة الأخيرة. أعجبتها الفكرة كما أعجبت ميكي التي أشارت بذكائه، كان بيده زجاجة كحول. أفرغها في جوفه، ثم رماها جانباً، واستلقى. نهرته بتحبب، وأشارت عليه بالنهوض، فهي بحاجة لبعض المال. صرخ أنه معدم. اتجهت نحو الهاتف تدير رقماً. هبّ واقفاً. كان في الطرف الآخر والده. حدّثه عن اسمه الذي أصبح في مرتبة الشرف. عن تفوقه المستمر. سيعود ذات يوم حاملاً أفضل الشهادات، وهو متشوّق لهذا. غير أنه في ضائقة. ينقذه منها تحويل مبلغ من المال على أسرع وجه. جلس وقد غطّى وجهه بكفّيه. أحضرت ميكي لفافة الميروانا. رفعها بين أصابعه. أخرج ملقطاً خاصاً. أشعل طرفها، وأخذ يمتصّها بعمق، وخلال دقائق. كانت ميكي تداعب قطّتها. أطلق نبيل شتائمه على جميع الطلبة العرب، وخصّ زاهي الذي يمقته. كانت ميكي تعرف هذا. نهضت تستعد للخروج. حين عادت . كان قد أغمى عليه. اتصلت بالإسعاف الذي نقله إلى المشفى، وهنالك أحيل إلى المعالجة النفسية، وأطلق على حالته صفة الاكتئاب الشديد، ويتحتم مراقبته خوف لجوئه إلى الانتحار. كانت ميكي متخوّفة من انتشار الخبر بين الطلاب العرب، خشية تسرّبه إلى أهله، فأخذت تبتعد عن الأسئلة والأصدقاء. وقع الخبر على جينا بطريق المصادفة. لم تتأثر. تمنّت لكاظم حالة مشابهة، فربما تستعيد أبناءها، كان قد حضر إليها في عملها. بدا أكبر من عمره. جلس خلف البار. سألها كأساً من الكحول. كان يراقب صدرها المكشوف، وشعرها الذي طال. تلك اللحظة تجاذبتها الأفكار. لماذا أتى؟ هي لا تريده. هل من أجل الأبناء؟ لا. كانت قد وضعت أمامه الكأس. لم تنظر بعينيه، وكأن جداراً ينهض بينهما. راحت تلبي بقية الطلبات، وتفكر! هل هو كاظم الذي تنتظر عودته طالباً الغفران؟ وهي التي أعلنت أن له عودة إليها؟ لأنه لا يستطيع أن يكون رجلاً إلاّ معها، وتعترف أنها تستطيع معاشرة الرجال. كل الرجال. لكنها لا تشعر بأنها امرأة إلاّ معه. طلب منها اللقاء. فوجئت، وأصرّت على معرفة السبب، وحين توصّلت إلى حقيقة ما يريد. كان أكثر من شيء يتصارع في أعماقها. شيء يشبه التشفّي الذي تمنّته طويلاً، وآخ أقرب للرفض والكره. بينما صورة نور تتأرجح في عينيها. نور التي غادرها من أجلها، وتكبّد مشقّة السفر، لتكون امرأته الحقيقية. زوجته أمام الأسرة والمجتمع. هاهو يعترف بخطأ اختياره، وفجيعته الكبرى، فنور لا تمتّ للبشر. منعزلة. انطوائية. ترفض الحياة، والمجتمع. إنها دخيلة على حياته. عالّة. يجب أن يطلّقها. يجب. اعتذرت جينا عن تلبية رغبته باللقاء. تذرّعت أولاً بالعمل، ثم بارتباط مع تينا، ثم مع ساندي،إلى أن انفجرت في وجهه، فهي لا ترغب بلقائه أبداً. كان هو يلملم أشياءه ويخرج، وبالمقابل كانت تستعد لمغادرة المكان إلى غير رجعة، فقد أخلّت بنظام العمل، وسبّبت مشاجرة كان باستطاعتها تجنّبها. ضحكت تينا، فهي ستتعرّض لفعل مشابه، مع اختلاف في الرغبات، فصديقها الثري مصمّم على السهر قريباً منها، ولقد أقسم أنه سيفاجئها كل ليلة، ومع توسلاتها وعدها بالهدوء، وعدم التعرّض لها، ومعاملتها كما يعاملها روّاد البار الآخرون. لكنها تشكّ بمدى انفعالاته، خاصة بعد أن يصبح مخموراً. باتت هند شديدة مع العاملات بعض الشيء. كانت تراقبهن عبر شاشة التلفاز المخصًصة لذلك. جمعتهن ذلك الصباح. أشارت إلى انشغالها. كانت تستعد لمتابعة المحاضرة التي سيلقيها خالد، وتفكّر بموعدهما. فكّرت أيضاً بموعد الانتخابات الذي أصبح قريباً. تراءى البيت منظّماً بطريقة لافتة. تحيط به حديقة خضراء. تتوسّطها مقاعد بيضاء ومنضدة مستطيلة، وفي زواياها أشجار ضخمة. تروح السناجب حول جذوعها وفروعها. يتدلّى من أحد فروعها إناء خاصّ يوضع فيه طعام الطيور، ويلاصق الحديقة مرآب يبدو وكأنه لم يستعمل منذ زمن. في ذلك البيت تقطن عائدة. كان خالد يفتح الباب. توقّف وأشار بأدب للدخول. تشجّعت. كانت تفكّر بكل ما يتعلّق بهذا البيت. من يعيش فيه؟ هو أم آخرون؟ أم هو ورئيفة؟ راحت تبحث عن حياة فيما حولها. كل شيء منظّم بدقّة. مرتّب بطريقة لافتة، وخلال لحظات كانت في الداخل. يسبقها خالد الذي أشار بالجلوس في غرفة واسعة بدت وأنها معدّة للاستقبال. كانت الغرفة أنيقة المظهر، بلوحات الجدران التي توزّعت بطريقة هندسية جذّابة، لكل لوحة قصّة. هذا ما فكّرت به هند. بعضها زيتي الصنع، وبعض آخر من قماش وخيوط قطنية ملونة، أما الوسائد العديدة الموزّعة فوق الأرائك، فبدت متقنة الصنع. كل شيء في ذلك المكان يوحي بالهدوء والسكينة والجمال. عاد خالد من الغرفة المجاورة بصحبة امرأة. تجاوزت الخمسين من العمر. ترسم ابتسامة، وتمد يداً للمصافحة. قال إنها أخته عائدة. نهضت هند. لم تتحدّث عائدة بكلمة. جلست في إحدى الزوايا. كتّفت ذراعيها، وبطريقة لاشعورية، اتجهت عيناها على التلفاز الذي كان يبثّ برنامجاً خاصّاً عن توليدو، وحين تلتقي عيناها بعيني هند، ترسل ابتسامة باهتة، وتعود إلى التلفاز من جديد. سألت هند قائلة: - يا سيّدة عائدة. هل عندك أبناء؟ تدخّل خالد. قال: - حدّثيها ببطء..لغتها العربية ركيكة. - أنا آسفة.. هل تتكلم الإنكليزية؟ ابتسم خالد..قال: - لا..تفهم قليلاً منها. ساد صمت. نهضت عائدة، وعادت تحمل صينية يتدلّى منها غطاء جميل الصنع، عليها أقداح من القهوة العربية التي فاحت رائحتها، وخلال دقائق شعرت هند وكأنها في بلد عربي، أمام امرأة تتقن الضيافة والاستقبال. تذكّرت إشارة خالد في الطريق عن أخته الأرملة التي لم تنجب. بدا كل شيء عادياً في بلد أمريكي. أن تكون أرملة أم مطلّقة. أن تصبح أماً أم لا، فلكل امرئ شؤونه وحياته التي يختار. لم تطل الجلسة، وفي طريق العودة، استمعت كثيراً إلى خالد. حدّثها عن طفولته. عن حياته. نشأته. أين وكيف عاش؟ عمله. تنقّلاته. حدّثها عن كل ما يتعلّق بعائدة منذ أن غادرته. عن زواجها وغربتها. عن تحوّلها إلى امرأة منسية، مهجورة. لا تعرف من حولها أكثر من حديقتها، وقطط المنطقة، والعصافير، وموعد مجيء السناجب. بكت أكثر من مرة، وهي التي اعتقدت في يوم، أنها أكثر النساء شقاء، وأكثر الناس همّاً وعذاباً. صمتت أخيراً، وسألت بكل ما تستطيع من صدق . قائلة: - ما الذي أستطيع تقديمه؟ إني على استعداد. قال: - عائدة! هي أمانة ريثما أعود. لم تجب بكلمة. مدّت يدها بثقة . قالت: - أعاهدك على ذلك. رفع كفّها . لثم أصابعها، وبيده الأخرى شدّها برفق وتمتم: - سأذكر هذا دائماً. كان موعد رحيله يقترب، فافترقا. يذكر خالد من طفولته. أحداثاً ضبابية الصور. بيت وأسرة. أرض وحديقة. يذكر أطفال القرية. يذكر أمه أباه. شقيقه الأكبر. كانت عائدة تكبره بسنوات قليلة، وهي التي ساهمت بتثبيت الذكرى في مخيّلته. كانت عائدة أثناء ذلك طفلة أيضاً. لم تكن تتعدّى الثامنة من العمر، وكانت مع خالد وبعض الأطفال يلعبون في الحقل الملاصق. يذكر أن دوياً أنزل الرعب في أفئدتهم. التصق بعائدة، وراحا يركضان كما فعل بقية الأطفال. يذكر أنهما أضاعا البيت. كانا يعبران فوق أنقاض لبيوت متفرّقة، متشابهة المعالم. هضاب من حجارة وغبار، وكانت عائدة تصرخ برعب، وكان بعض رجال ونساء يهرولون. بين عويل وبكاء. يذكر أنه من خلال لحظات الدمار التي شملت أكثر المنطقة، بكى ونادى أمه، وصرخ في وجه أخته عائدة أن تأخذه إليها، فهو خائف ويريدها إلى جانبه. اعتقد تلك الفترة أن بيت الأسرة قد انتقل إلى جهة أخرى، وسيلتقي ذات صباح بأمه وأبيه وأخيه الأكبر، ويلعب مع أصدقائه الصغار خلف الدار، وتناديه أمه، فيختبئ خلف جذع شجرة، ويصمت، فتهرع خائفة. يرتمي بين أحضانها. تقرصه من أذنه. يتظاهر بالضحك. كم كان هذا جميلاً؟ كان من الطبيعي أن ينسى، وهذا ما أراده الرجل الطيّب وزوجته اللذان تبنّاهما، وحاولا طمس مرحلة ستجلب الشقاء له ولأخته عائدة، التي مع صغرها احتفظت بتفاصيل كثيرة. كانا بين الفينة والفينة يتحادثان، ويستعيدان الماضي، وكانت عائدة تبكي، فيبكي معها، تضحك، فيضحك، تتذكّر، فيتذكّر. وشيئاً فشيئاً غابت الذكريات، لكنه لم ينس أن أحلامه قد ضاعت ذلك اليوم، يوم فقد كل أشيائه الجميلة، وكل ما يربطه بالجذور. قد يكون من أي بلد في هذا العالم الكبير. هذا ما أراده الرجل الطيب أن يزرعه في ذاكرته، ويحفظه ويفهمه، فنزعة العدوان موجودة في تاريخ الإنسان، وربما لن يستطع الخير الوقوف أمام وحشيته. لكن الرجل الطيّب لم يستطع أن ينزع من رأسيهما، هو وعائدة. أنهما عربيا المنبت، والجذور. مات الرجل الطيّب، وترك ثروته الصغيرة. كانت عائدة آنذاك في السادسة عشرة من عمرها، يوم تقدّم لها ذلك الشاب الذي أصبح زوجها، والذي قرّر فجأة السفر إلى أمريكا، ولم يستطع هو الذي كان في الرابعة عشرة من عمره، الوقوف في وجه المستقبل الذي كان يشغل زوج الأخت آنذاك. غابت عائدة سنوات طويلة، ولم تعرف أخبارها. كان الزوج ينتقل من بلد إلى آخر. أنفق ما كان معهما من أموال، وحطّ أخيراً في توليدو. لم يتوقّف خالد - بعد أن شبّ - في البحث عن عائدة، وأتاحت له ميوله الصحافية السفر. وضع البلاد الأمريكية نصب عينيه. زار توليدو أكثر من مرة، وأيقن أن لا أحد يعرف امرأة في هذه المواصفات. زار الجالية العربية، والكنائس، وحضر المناسبات الاحتفالية، ومع هذا لم يصل إلى ما يجعله يأمل لقاء الأخت التي أيقن من ضياعها آنذاك. وقع حادث لزوج عائدة وهو يعمل. نقل إلى المشفى، وجاء من يخبر الزوجة ويرافقها إلى حيث هو، بناء على رغبة الزوج الذي يفارق الحياة. لكنه توفي. كانت تراقب زملاءه برعب، وخوف. كانت ضائعة. تائهة. ماذا تفعل؟ ما هي الإجراءات التي ستقوم بها؟ التفّ حولها موظّفو السكك الحديدية حيث كان يعمل. يقدّمون أسفهم وتعازيهم ويغادرون. كانت تهزّ رأسها . لم تكن تتفهّم مجمل الكلمات. لكنها أيقنت من موت الزوج، الذي كان على مدى أربعين عاماً، هو المفكّر عنها، وهو مدبّر الأمور، وهو الذي يعرف التصرّف، والتنقّل، وكل ما يتعلّق بأمور الحياة من حولها. ذكر الميت في قدّاس الكنيسة، وذكرت زوجته الفاضلة، وجاء أكثر من وجه يقدّم تعازيه، وخلال أيام انتقل الخبر إلى أفراد الجالية العربية، وكان الدكتور سامي أول من توصّل لذلك، فبذل جهداً في نقل الخبر إلى خالد، وإعلامه بوجود عائدة التي تعيش في توليدو منذ أكثر من عشرين عاماً. وصف خالد اليوم الأول لملاقاتها. كانت تجلس على إحدى الدرجات الثلاث المؤدية إلى مدخل البيت. ضعيفة . واهنة. كان قد مضى ما يقارب الشهر على موت الزوج، وكانت في حالة من اليأس الشديد. كانت هي ولم تكن. امرأة مسنّة. وخط الشيب رأسها. غارت عيناها. نظرت إليه طويلاً. من أنت؟ لم يكن ذلك الصبي الذي غادرته ذات يوم. لكنها ابتسمت. ربما بلقاء وجوه جديدة، أو لحدس هاجمها، فقد هلّلت بالاستقبال. بكت لأنه بكى. حدّثته عن دموعها التي جفّت، واستغرابها من عودته، فتعود للسؤال مجدّداً. هل أنت هو؟ إذن لماذا لم تأت إلي ؟ انتظرتك ولم تأت، وكان هو صامتاً . هل ذهب العمر الذي اعتقد أنه يحمل له مزيداً من الأماني؟ قال فجأة: - لنترك هذا. أشعر برغبة في البكاء. كانت هند تستمع وهي بين الدهشة والأسى، وبين الألم الذي سببّته الذكرى، وتفكر، فلو أن لعائدة أبناء لاختلف الأمر. لتغيّر مجرى حياتها، ومارست حقّها الطبيعي في الحياة، ولاستعاضت عن حنينها بالواقع، الذي سيحمل لها الجديد في كل ثانية تمر. لكن عائدة لم تنجب، ولم يكن زوجها قادراً على العطاء. كان رجلاً محباً لنفسه. همّه أن يأكل جيّداً وينام جيّداً، وأن يعود من عمله أو من سهراته الحافلة ليراها في انتظاره . لم تعرف التمرّد لأنه أجاد القمع، انحصرت أساليبه في عزلها عن العالم. كان مدركاً أنها في عالم غريب عالم لا يعرف أحد فيه أحداً، لا يتدخّل أحد بشؤون غيره. أن تبكي أم تصرخ، ذلك شأن آخر، له علاقة بالرضا أو التمرد، وما دام المرء صامتاً فهو قانع بما اختاره من الحياة. هكذا عاشت في هذا البيت. في هذه المنطقة السكنية الممتدة. والمزروعة بأناس من مختلف الألوان. وجوه متعدّدة الملامح والأشكال. فتراقب العابرين. أحياناً من نافذتها المطلّة على زاويتي الشارع، وأحياناً من حديقتها التي زرعتها ببعض أصناف الخضار، وكم تمنّت أن يفاجئها وجه عربي، أو صوت عربي، فتعيد لذاكرتها ولأحاديثها الحياة. كان الحلم مستحيلاً، وكان الأمل حلماً، وكانت توقن شيئاً فشيئاً أنها تبتعد عن الحياة. عن الناس. الذين يمرّون أمامها ببساطة، أو يلقون التحيّة دون انتظار لحدث أو اهتمام. رضيت عائدة بحياتها، أو أنها تعوّدت على هذه الحياة. كانت تبكي الساعات الطوال، وحين يشاهد أحد العابرين دمعتها، يتأسف، أو يحاول الابتعاد، فربما أوقعه التدخّل في قضايا هو بغنى عنها. كانت تفتقد اللغة التي هي الصلة والطريق، فبقيت غريبة في بلد مليء بالغرباء. هكذا عاشت بين قضبان حياتها، وقضبان التواصل مع الآخرين. عالمها بيتها، وما يعبر قرب النافذة من عصافير، وما تمر في الحديقة من قطط وكلاب أو سناجب، فتشعر بصداقة تجمعها معها. تطعمها. تتحدّث إليها بإسهاب. تتحدّث أكثر مما تتحدّث إلى الزوج، الذي يطلب الراحة بعد تعب النهار. كان هذا عالم عائدة، الذي حوّلها مع الأيام إلى جسد يتحرّك بلا حياة. لم تكن لها أحلام أو تمنّيات. تتحرّك وتأكل وتنام. نسيت أولى الأيام. بوم فرّغت ضجرها بالحياكة والتطريز، بالوسائد واللوحات، والانتظار، ولم تنس أشياءها البسيطة. كان لها وقتها الخاص، فتخرج في ساعة محدّدة إلى الطريق، تمشي وتمشي. تدور في المنطقة أو حول البيوت المتباعدة، وتعود. تجلس في الحديقة. تطعم قطاً أو كلباً. تحتسي شايا أو قهوة . تعود إلى التلفاز. أكثر ما كانت تشاهده هو برامج توليدو. تراقب الأخبار، خاصة أخبار المساء، وتفاصيل يوم جديد، فيعلق في ذاكرتها بعض المفردات المتفرقة، والمكرّرة عبر استماع طويل. تفسّر ما تريد وتعبر فوق ما تريد. لا تذكر أنها رافقت الزوج إلى نزهة أوسوق، لكنه وقبل أن يسافر إلى بلده الأم، وعدها بيوم يجدّد فيه حياتها. ستتعلم اللغة في معهد خاص. ستزور الأصدقاء. تقتني ما تريد. سيارة خاصة بها. تذهب إلى السوق. تنتقي ملابسها. أشياءها، وحين عاد. كان ضائعاً مشتّتاً. نسيها ونسي نفسه، ونسي الوعود. لكنه مات، فخافت أكثر ما يكون الخوف. أكثرت من الخروج . تسير إلى أول الشارع. تدور باتجاه آخر. تدور مرة أخرى، وأخرى . تصبح أمام البيت. تلتقي في الطريق ببعض الناس. رجل يمتطي سيارة. امرأة تسقي وروداً. طفل يداعب قطة، وتعود ثانية إلى البيت الذي ضمّها سنوات طويلة. إنها وحيدة. لا تعرف الحركة. لا تتقن اللغة. لم تتّكل على نفسها في يوم . كانت تتبع الرجل الذي أدار لها دفة الحياة. في الأسبوع الأول. تناولت بعض الأطعمة المتبقية في الثلاجة. في الأسبوع الثاني أخرجت ما لديها من معلّبات، وبحثت في خزانة المؤن عن حبوب الحمص والرز. قطفت من دالية العنب بعض الأوراق. حشتها بالتوابل. التهمت تلك الأيام أكثر مما تستطيع. كانت خائفة من جوع مقبل. لم تعتقد في يوم بأنها على موعد مع أخيها الذي حلم كثيراً بهذا اللقاء. تذكّرت هند آخر ما كان بينها وبين خالد. تمتمت: - لن أحنث بوعدي أبداً. استيقظت على صوت فالن. أسرعت إليها. كانت تمد ذراعيها. عانقتها، وتسللتا معاً إلى غرفة المعيشة. بدت الأشياء جميلة. لعب فالن. صورها. حذاؤها. دبّت الحياة في هذا البيت الصغير. انهمكت هند بتحضير وجبة فالن، بينما راحت هذه إلى التلفاز. اختارت شريطاً. أدارته. برز وجه (بارني) بصحبة أطفال صغار. يغنّون ويرقصون. وقفت جانباً. تمايلت. رفعت ذراعيها. قدمها. لاحقت الحركات، ثم الأغنية، وخلال ومضة، كانت هند قربها. أمسكت يدها الصغيرة، وراحتا معاً تغنّيان وترقصان بين بارني والأطفال. حضنت الطفلة بغبطة. إنها تعيدها إلى أجمل أيام حياتها. إلى طفولتها. في أعماقها طفلة تهوى اللعب والفرح. تذكّرت قرية جدّها، ولعبها القماشية. تذكّرت جدّتها الطيبة، وراحت تقطف الذكريات، وتقدّمها لحفيدتها المندهشة، والتي تبتسم في لحظات، أو تضحك وتعانقها من جديد. تسنّى لها في ذلك اليوم استعادة آخر الأحداث. فكّرت بخالد الذي أودع بين يديها عائدة، التي هي قضيّته، وشغله، ومع أنهما لم يتحادثا في الحب، غير أنها ازدادت حبّاً له. كانت عيناه تحدّثانها بأشياء كثيرة. تعدانها بالمقبل. لقد اختارها لهذا الطريق. أعطاها الثقة. ملأها بالأمل، وقال دون أن يدري كل ما حلمت أن تسمعه، فهي اختياره الذي أراد. رحل لأنه لا يستطيع إلاّ الرحيل، ولأنه قال ما يريد، ولأنه سيقول أيضاً. شعرت وهو يلقي محاضرته، بأن ما قاله مزروع في أعماقها. نبتة تنتظر البزوغ. تسعى ليد تحنو عليها. تحثّها . توقظها. هي أيضاً تحب وطنها. تحب أهلها. تحب كل شبر من أرضها. ترغب أن يتآلف العرب. كل العرب. أن يكونوا يداً واحدة. يخدمون قضاياهم. يثبتون بأن حقوقهم لم تذهب . بل ستعود. نحن الذين نصلح قضايانا أو نفسدها. نحن الذين نقاوم ونرفض الاستسلام، وعلينا أن نتشبث بالآتي دون يأس أو انهزام. كم كان جميلاً وهو يضع يده على مواطن الجروح؟ وكم كان رائعاً وهو يبحث في الدواء.؟ تحدّث بصدق في الفعل والتحقيق، وكان جميلاً بانفعاله. قوياً بحجّته. صادقاً كل الصدق مع الكلمات التي انساقت بعفوية وجمال. سحبتها لين من شرودها. سألتها إن كانت في حالة جيّدة؟ هي في حالة جيدة، ومدركة لماذا خصّت خالداً بالحلم. غير أن للواقع وجوداً، فموعد خروج جاد الصغير من المشفى قد آن، وعليهم الاستعداد، وعليها تقديم الواجب بكل طيبة، وخلال ساعات كان جاد الصغير يعود إليهم، وهو منهك الجسد، لكنه مبتهج بوجود لين وفالن، التي كما قال يحبهما كأكثر ما أحب في حياته. نهضت هند معلنة عن رغبتها بإحضار عائدة، لتمضية بقية النهار بينهم، ونهض كل إلى عمله. وعند الغداء. التف الجميع حول مائدة الطعام. جاد الصغير بوجهه النحيل. عائدة بصمتها. بينما انشغل جورجي وجمانا والأصغر بالشواء . كان جورج خلال ذلك يراقب هنداً، ويرسل لها بين الفينة والفينة كلمة إعجاب. أما هي فكانت منشغلة بعائدة وفالن معاً. كانت فالن في أثناء ذلك تقطف الورود البريّة. تحضرها إلى هند التي تبتهج في كل مرّة. تراقبهما ليلى التي انهمكت بحديث مطوّل مع آنا، حول دراستها وقراءاتها، واهتماماتها في عمر هو أقرب للمراهقة، وكانت آنا المعجبة بليلى سعيدة بكل فكرة أو موضوع. أما والد فالن الذي تشوّق للين والابنة، فقد هتف أكثر من مرّة للاطمئنان على صحة جاد الصغير، ولشوق يعصف به. وعدته لين بالعودة إلى لاس فيغاس، ووعدها بالمقابل أن يساعدها بالعناية بفالن، وقال إنه ينتظرها على أحر من الجمر. لم يكن من هند سوى الصمت، فقد عيّن موعد السفر. كان جاد الصغير يبتسم لابنته. دار حوار حول صحّتة الجيّدة. كانت عينا هند مغرورقتين. لم تشأ التعليق، فالعلاقة بين الابنة والزوج على ما يرام. كان هذا أقصى ما يسعدها، وأقصى ما تحلم به. كان جورجي أسعد الناس بقرب جمانا . لم يعودا للحديث عن الماضي، وكأن كلاًّ منهما قد قرّر النسيان. كان هذا أهم حدث يطرأ على علاقتهما. شعر جورجي بأن جمانا تكبر في كل يوم أكثر، أو أنه يقع في دين آخر. كان يعاهدها بينه وبين نفسه، بالحب والإخلاص، ويمنّي النفس بيوم يمسح فيه عن عينيها شقاء الغربة. في الطريق إلى بيت آنا، حلّ الصمت. كان جورجي يشعر بالراحة والهدوء، وشيء في أعماقه يزغرد. هاهي جمانا قربه. كل شيء جميل. إنه يريدها. هي الأمان والاستقرار. هي البيت والأسرة. الحاضر والمقبل. مدّ يده . لامس بكفّه أصابعها. ابتسمت وهي تسحبها برفق. لم يتحدّث بكلمة. كان يعاهدها بينه وبين نفسه بتحقيق أحلامها، التي هي أحلامه أيضاً. في الطريق. التفتت هند إلى عائدة. سألتها: - هل تعرفين حدود توليدو يا عائدة؟ - لا.! - لكي تتحرّكي بثقة وقوّة. عليك معرفة موقعك، وكل ما حولك. مرّ الوقت سريعاً. كانتا تتجوّلان في وسع البلد. قرأت هند أسماء الشوارع، والمنعطفات. النقاط الهامة والأساسية. مرّتا في شارع (روزا بارك) الذي أطلقت تسميته نسبة إلى اسم المرأة الزنجية التي سبّبت إشعال ثورة الزنوج . شارع (أنتوني واين) نسبة إلى اسم الجنرال الذي حارب الهنود الحمر. الجامعة. المتحف. المشفى. الحدائق. الغابة القريبة. نهر(مومي) وعدتها بزيارة منطقة البحيرات القريبة، وعدتها بجولة وجولات، ولم تنس المرور على أحد معاهد اللغة، وتسجيل عائدة التي نسيت خجلها، وهي تشاهد رجالاً ونساء يفوقونها في السن، ومن مختلف البلدان، وراحت تنصت إلى المدرّس، الذي كان عنده إلمام ببعض اللغات، ومنها العربية. كان هذا بداية الطريق، الذي ساهم اندفاع عائده بعبوره. لم يكن الأمر بسيطاً. بل شاقاً وعذباً في آن معاً، وكان الوقت يسمح للانطلاق، خاصة وأن عائدة بعيدة عن المسؤوليات بأنواعها. كان لديها متّسع من الوقت للمثابرة. تهجّت الحروف. قرأت الكلمات. ساعدها في ذلك استماعها الطويل إلى برامج التلفاز، واجتهادها الذي بدا واضحاً في كل تصرف تقوم به. لم يكن من السهل التأقلم مع الحياة الجديدة، فهي التي تعوّدت الصمت واللامبالاة، وحدود البيت، والاستسلام. تجد نفسها فجأة في قلب المسؤوليات. كانت تخاف من كل فكرة، أو حديث، فتتراجع، فهي لم تعد تريد شيئاً. هذا قدرها. لم تعد صغيرة. لقد فات الزمن الذي أملت أن تحياه كما تمنّت، وكما رغبت. ترتبك إذ تشجّعها هند. تتجمّع على نفسها، فهل تشبه الآخرين؟ ربما كنت أفضلهم يا عائدة! التجربة ستكشف كل شيء. جرّبي. لا تخافي. سأبقى معك إلى النهاية. حين تحدّث عنها خالد، وصفها بالذكاء، وصف صباها المتّقد بالجمال والحيوية، وصف أحلامها في رسم غد غزير بالحب والعطاء. كانت تحلم بمزيد من الأبناء. تحكي لهم عن غربتها. تحدّثهم عن طفولتها. عن فقدانها لأرضها. لأمها. لأبيها. حين سافرت. عانقته. وعدته بعودة طويلة. أقسمت أنها لن تنسى بيتها، وأرضها، وبيّارة الليمون، وشجر التين والزيتون. عانقها هو أيضاً، وأقسم مثلها أن يعيش ليتذكّر، ويرسم من جديد، مواقع البيت والحي، والقرية وكل ما كان. سألتها هند: - هل تعبت يا عائدة؟ أجابت بخجل الأطفال: - لا..لم أتعب. - إذن.. تتعلّمين قيادة السيّارة. أجفلت عائدة. قالت: - لا. لا أستطيع . هذا صعب يا هند. بل مستحيل. - لا شيء مستحيل يا عائدة. تلك اللحظات التي لا تنسى. كان في عينيها بريق غريب. هل هو الولادة؟ التفتت إلى هند. سألتها بحياء: - لماذا تتعبين نفسك؟ وكيف سأردّ لك الجميل؟ - أنت صديقتي، وبين الأصدقاء لا يردّ الجميل. - سأتعبك . - سأتعب. هذا جميل جداً. يحدث هذا كل صباح. تخرج هند. تغادر البيت والمطعم. تلحق بها ميري الطيبة: - لا تفكري بشيء. ستكون الأمور على ما يرام. - أعرف هذا.. إلى اللقاء. ذلك الصباح. لاحظت ثوب عائدة. لم تعلّق بكلمة. لكنها وفي أعماقها شعرت بالغبطة. غير أن عائدة قالت ببساطة: - إنه ثوب قديم. ما رأيك؟ - جميل.. لونه رائع! - إنه يذكّرني ببلدي! - هل تذكرينه؟ - أذكره كالحلم! حلّ صمت قصير. كانتا تتجوّلان في شوارع المدينة. سألتها هند فجأة: - حدّثيني عن خالد! أجابت بعفوية: - انتظرته طويلاً. كان لي الحلم والأمل اللذين سيعيدان لي الحياة، أو سيعيداني إليها، ونسيته بعد ذلك طويلاً أيضا. - لماذا استسلمت ياعائدة؟ - أنا امرأة. أشبه الأرض التي تحتاج لرعاية وحب، أو أسقط في عقم طويل. - من أجل هذا سنعمل أكثر. ألا توافقينني؟ ابتسمت عائدة. كانت عيناها تبرقان سعادة، وكانت مندفعة، فبدت مشرقة وهي تفرد خصلات شعرها. قالت هند فجأة: - ما أجملك ! - ربما كنت جميلة. أما الآن؟ - الأمس والآن وغداً. أنا أتحدّث عن جمال يدوم. له علاقة بالماضي والحاضر والمستقبل. - إذن.. أنت جميلة أيضاً! وضحكتا معاً. عاهد جورجي جمانا للمرّة الأولى بجدّية، كما لم يحدث قبلاً. ابتعد عن المزاح واللف والدوران، وهو يجزم بمقاطعة تلك الصالات. شدّ على يدها بثقة . للمرة الأولى تصدّق وعوده. تمنّت أن تقول شيئاً. صمتت، وحين انسحبت، وغابت شيئاً فشيئاً. أغمض عينيه على صورتها، وجلس فوق أول مقعد عاقداً ذراعيه. حين أقلعت الطائرة. كان يعود من مطار ديترويت إلى توليدو. راحت عيناه تجولان في السماء الصافية. عادتا تحملان الفرح. كان كل شيء جميلاً. الشارع العريض. الأرض اللامتناهية. الأشجار. الغيوم البيضاء المتفرّقة، التي أضفت الصفاء على الصورة الممتدة . شعر بأنها ستعود، ولن تفارقه. لأنه أرادها دون زيف. لأنها الحقيقة، وعليه مغادرة كل شيء من أجلها. شعر بأن اليوم الآتي قريب وبعيد. قريب لأنه يحمل الفرح، وبعيد لأنه يحمل الانتظار. سيولد من جديد. تذكّر لحظات الوداع. أيقن من صدق الوعد. شعور جلب له مزيداً من الدفق والثقة. تعوّد منذ الأسبوع الأول فرح الانتظار. استغربت آنا، فموعدها معه نهاية الأسبوع. إنه يريدها كل يوم. عليها إنهاء واجباتها المدرسية ولقاؤه. يذهبان إلى هند أو ليلى. يتّصلان بجمانا. ينقل لها تفاصيل يومه. تغمره السعادة. يعيد آنا إلى أمها، ويعقد المواعيد ليوم آخر. لأول مرة، ومنذ عشرات السنين، يغيب عن تلك الصالات أياماً متتالية. أخذت ليلى تحصي الدقائق والساعات، وبقدر استغرابها وخوفها من عودة مجدّدة. شعرت بالسعادة. كان الأمل ينمو في داخلها. أمل يكبر لترى جورجي كما تمنّت أن تراه. كما أرادت له، واستطاعت أن تستعيد الماضي البعيد، وطفولتها. كان جورجي يكبرها بسنوات. يعقد والداه عليه الآمال. كانا يحلمان له بمستقبل جميل. تميّز هو بطبعه الهادئ، وحبه لأسرته . يخصّ أخوته الصغار باللعب . يهتم بهندامه، وأناقته، وحين تزوّجت هند من ابن العمة، واستعدّت للسفر. حلم مع صغره باللحاق بها. ومتابعة الدراسة في البلد الأمريكي، وجاء ذلك اليوم، وقرّر الرحيل. لم يتابع جورجي دراسته في تلك البلاد. لاحقته ظروف هند الصعبة، واضطر للعمل في إحدى شركات الجيب الهامة، ثم استهدى إلى أندية الأحصنة، التي بهرته . هناك يقضي الوقت. يقتله. تلوّنت حياته. أصبح للحياة في هذه البلد طعم الاستمرار، في عالمه الجديد، ما بين عمله الذي يدرّ عليه ما يكفيه لإنفاقه بين أقدام الأحصنة. لم يتزوّج، لأنه رفض زواحاً أمريكياً، وحين ولدت آنا، أنكر أن تكون له ابنة. وعن طريق المحكمة، ذكّرته الأم بيوم مضى. كانت ترسم خطّتها قبل أشهر، فهي تريد لابنها أباً يعرف معنى الأسرة، والأبوة. أصرّ جورجي على الإنكار، فهو يذكر ذلك اليوم جيداً، لكنه لا يصدّق أن امرأة تستطيع تعيين الأب بتلك البساطة. غير أن التحاليل أثبتت أن الطفلة ابنته. شعر للحال بحبه لها، ودعاها (آنا - ميشيل) نسبة إلى اسمي أبويه. هكذا أصبحت آنا هدية القدر لجورحي وأخوته. التزم الجميع بها كفرد من أفراد العائلة، والتزم جورجي بمشاعر الأبوة وواجباتها. لم يخلّ بوعد قطعه بتقديم جميع لوازمها، ورعايتها. كان لها الأولوية في كل شيء، وكانت أمها سعيدة بما حقّقته ابنتها من مكاسب، وكانت جمانا من بين تلك المكاسب . حين حضرت جمانا. ابتهج. فالحنين للوطن يتجلّى بحضور أبنائه. أهرع لذاك اللقاء. بمزيد من الأسئلة والاستفهامات، سيسأل عن كل شيء. الناس والمدينة. الشوارع والبحر. الشجر والعصافير. سيقع في دهشة الإجابات، ويزغرد الشوق، ويطفو الحب. ينهض متدفّقاً نشوة، ويؤكد جمال بلده. سرى الحب متدفّقاً. من الوطن إلى جمانا. هكذا وصفه لها ذات مرة، ومنذ ذلك اليوم أقسم أن يتمسّك بها، وألاّ يقايض عليها، وأن يفعل ما يستطيع ليحافظ على وجودها قريبة من عينيه. تذكّر صالة الأحصنة. شعر بذكرى بعيدة. فكّر بتلك الأيام التي ستعبر ذاكرته بين الفينة والفينة. لأول مرة يشعر بالامتنان لها، فما الذي كان سيفعله ؟ لقد حمته من أشياء كثيرة. لقد أخرجته من شعور الفشل الذي تسلّط عليه. ابتسم . كانت حياته أقوى من أن تتغير، وكانت جمانا أقوى من تلك القوة بكثير. كانت السيارة تطوي الأرض، وكانت هند تخترق الطريق المؤدية لعائدة، الشوق يغمرها . رغبة تشبه الطيران، وضم الكون. كانت عيناها تجمع التفاصيل. تلملم الذرات. تحوّل الأشياء إلى صور. تنحت في الفضاء اللامتناهي تماثيل عشق لأمل لا يموت، وبصوت حمّلته عذوبة الذكرى، وبسعادة. راحت تنشد للوطن، وتكتشف أنها لم تنس تلك الأناشيد، وتشعر بأن من سيراها سيكتشف خلودها، فهي من عالم لا يموت، عالم يحيا ليستمر، ليبقى. تاركاً بصمة. مجلّلاً ثقة، وحين تذكّرت عائدة، كان وجه خالد الذي لا يفارق عينيها، يحمل لها الحب والأمل والاشتياق. أثبتت عائدة خلال الأسابيع الأولى الجدارة. علّق أستاذ اللغة الإنكليزية مازحاً وهو يشبّهها بالطفلة التي مشت دون أن تحبو. أشار إلى ذهنها الصافي الذي يتلقّف ما حوله بعطش ونهم شديدين، أما هي التي استرجعت أكثر المفردات العربية باتت في شوق أكبر، وأخذت تبحث عن القراءات في كتب هند، ولم تنس طلب المساعدة من بعض أعضاء الجالية العربية، وكانت محط اهتمام الكثيرين. كانت كالطفلة بعينيها المندهشتين. تكتشف أهمية وجودها مع استمرار الثواني. لأول مرّة تتذكّر نفسها التي نسيتها طويلاً. تتذكّر زوجها الذي ربما - عن غير عمد - تجاهل حقوقها. تتذكره بأسى، وتدرك الآن أنه منساقٌ - دون أن يدري - إلى تلك الحياة. كان يعمل بصمت، وحين يعود متأخّراً ورائحة الكحول تفوح منه، فلأنه أراد النسيان. كان يلعن في كل صباح غربته الطويلة، تتذكره في أول زيارة إلى البلاد. تذكره عائداً متهدّل الجسد، حاملاً معه غربة أخرى. وصف حالته بحزن. كان في أرضه ومحبيه، كأنه لا يمت لأحد بصلة. كان كالشجرة المقطوعة، وكان غريباً . مختلفاً، وأدرك ذلك اليوم بأنه منشطر. هو قلب وجسد، وكتب عليه العيش بأحدهما. القلب أو الجسد، أما البلد الأمريكي فقد علّمه أن للجسد مهام أقوى، وأسهل. أودع قلبه في الوطن، وجاء بجسده إليه، ولم يكن يدري أن عقله الذي خضع لكل ما كان. راح يردّد باستمرار، أنه يحب الوطن ولا يعرف العيش فيه، فهو مبرمج على حياة لا تشبه تلك الحياة الجميلة. كانت عائدة هي الذكرى الوحيدة، التي يجب الحفاظ عليها، وحمايتها من الانشطار والتجزئة، فمارس عليها الضغوط والحجر الطويل. ابتسمت في سرّها. هذه الأفكار التي دهمتها. كم كان زوجها مخطئاً؟ وكم أخطأت باستسلامها؟ وما الذي كان باستطاعتها فعله؟ فكّرت! كانت كالشجرة التي قطعت ورميت. كيف تتمرّد ولا رصيد لها؟ لا لغة تنقلها إلى الآخرين. لا معالم تستدلّ بها عن موقعها؟ أين ستذهب؟ وكيف ستتحدّث؟ عادت تلوم الزوج الذي جهل الطريق إلى الوصول، عن طريق الحق والمعرفة. كانت تفضي لهند بهواجسها، بينما تكتشف هذه مقدرتها على ضبط المقود، وضبط الحديث معاً. قالت: - أرأيت يا عائدة! ما نريده يحتاج إلى التصميم والإرادة. - إذن! هل سأصلح للمتابعة؟ أسندت هند رأسها . تذكّرت وصية خالد. كان مؤمناً بمقدرة عائدة. واثقاً بها. مدركاً أنها كالطفل النائم، الذي ينتظر الصحو للانطلاق، كالنبتة التي تنتظر نقطة الماء، كالحلم الذي ينتظر التحقيق. مجدّة. مثابرة. لا تعرف الكلل أو الملل. التفتت إليها. قالت: - يكفي اليوم يا عائدة. لقد تعبت! - لم أتعب . عودي لعملك، وأنا أتابع. ضحكت هند من أعماقها، واستعادت حصيلة الأسابيع. خطوات عائدة الأولى. اندفاعها. مثابرتها، واكتشفت مخزونها وهو يتفجّر ثقة، ورغبة، وما خوفها سوى بداية الأمل، الذي أخذ يتحقّق، وكانت مع مرور الوقت ترسم الأشياء. الطرق والأشجار. الحروف والكلمات، وتستعرض ما مرّ، وتحسب للغد، وتغفو حالمة بالجديد. هاهي تينا تقتطع بعض الوقت. تسرّ في أذن ميري شيئاً. ضحكت هذه من أعماقها. كانت تينا تضرب كفّاً بكفّ، وتلمح أن المال سيتساقط عليها كالمطر، وأن عرض العمل ما زال قيد الدراسة، وهي تفكر به جدّياً، وستتغاضى عن قلّة الحياء الذي يكتنفه، لأنه أصبح طبيعياً، طالما أن الذين يمارسونه لا يخجلهم القيام به، وطالما أن الراتب الشهري الذي سيمنحه لها الطبيب المشهور لقاء إنجازاتها، مغر وكبير. لم يمر الوقت حتى انتشر خبر العمل الجديد، إلى شيري وجينا، وتسرّب إلى ميكي وساندي. جميعهن صدّقن في البداية. لكن تينا التي تلقّت عرض الطبيب بطريقة جادة، ستتحدّث عنه بجدّية أيضاً لجلب الدهشة إلى المحيط. لم يكن هذا عاراً في ذلك البلد، ولم يعد يعتبر شذوذاً، طالما أن الذين يمارسونه، يخضعون لفيزيولوجية أجسامهم. أما الذين يربطونه بالتدهور الأخلاقي والفكري، فلا يعنيهم أيضاً سوى التصنيف الواضح لهم، أما تينا التي تعشق المال، فقد جلبت الشك لمحيطها، وكانت تختال مستعرضة أنوثتها، وكأنها تثبت بينها وبين نفسها، رؤية الرجل الهرم صاحب الفكرة. لم تستسغ هند ما يدور حولها، وخلال أيام توصّلت إلى أسرار تينا، التي غمزت لهند مازحة، فالطبيب المشهور والذي يشارف السبعين من العمر، سيمنحها عشرة آلاف من الدولارات شهرياً، لقاء ممارستها الجنس مع زوجته السحاقية، بينما يجلس هو يراقبهما، وأعقبت تينا حديثها بأن الفكرة قيد الدراسة، فالمال يستحق التضحية، سيّما وأن الطبيب وعد بمضاعفة الأجر، إن تمّت تلك الخلوات كما يشتهي. هزّت هند رأسها مستخفّة، على عكس ما اعتقدت تينا. نظرت إلى ساعتها. نهضت، بعد أن أشارت للجميع بالابتعاد عن الأمور السخيفة، أشارت بأنها ستغيب حتى المساء، واتّجهت إلى الخارج. اقترب شهر الانتخابات، يترتّب عليها أكثر من مهمّة، كتوزيع المناشير والكتيّبات، المتعلّقة بسيرة حياة كولمان، والتذكير بخصاله التي تلمّست حقيقتها عن كثب، ووعوده التي سيفي بها استناداً لوفائه الطويل، ومقدرته على العطاء، ودعمه بالصدق الذي رافق حياته عبر سنوات طويلة. لم تفارقها عائدة خلال ذلك اليوم، كانت هذه تراقب تحرّكات هند، وتسترسل في التذكّر. فكّرت بسنوات صباها التي ضاعت، وتحوّلها مع الأيام إلى آلة، تتحرّك ضمن نظام متكرّر لا خروج منه، علّقت هند بطريقة لا تخلو من الجدّية، عن تميّز لكل ما يتعلّق بأمور بيتها، الذي لفت انتباهها منذ اللحظة الأولى. توزيع الأثاث. اللوحات. الأرائك، ثم تلك اللمسات الفنية التي شملت كل شيء، إنما تعبر عن مخزون سيتدفّق في يوم، وربما زاحم أكثر الناس تطوراً. لم تكن عائدة متفائلة، ومع أنها أتت إلى الحياة متأخرة، فقد تمنّت تحقيق ما سمعت، فكل ما يعترضها صعب، ربما لأن الجميع قد سبقها في الوصول. قضيتها الآن تكمن في مجاراة ما حولها. في استطاعتها اللحاق بخطوات الآخرين. لاحظت هند دمعتها، وتمنّت لو تستطيع إزاحة الحزن من عينيها. كانت في شرود، حين أكّدت لها أن باستطاعتها تحقيق ذاتها، وذلك لا يأتي بالأسف على ما فات، يأتي بالاستفادة من أخطاء الماضي، من أجل المقبل، عبر عمل خلاّق ودؤوب يغني الحاضر، ويدفعه للاستمرار، واستشهدت بكولمان الذي لم ييأس، واستطاع الوقوف أكثر من مرة، ومجابهة الظلم والتحدّيات. وسيصل في وقت ما إلى تحقيق الحلم، الذي لم يغادره وهو في أحلك الظروف. كانتا منهكتين في المساء، وكانتا سعيدتين. لأول مرة تجد عائدة نفسها تعمل للآخرين. لم تكن تعرف كولمان، لكنها تشعر بالظلم الذي ألحق به. هي تعرف معنى السجن، ومعنى الحرمان والذل، وتعرف معنى الحق والحرية، والحياة. سمعتا ضحكاً متواصلاً وهما يعبران مدخل المطعم. كان زوّار البار يتغامزون. وكان صديق تينا الثري، يتوسّط الجميع وهو في حالة شديدة من السكر. وكان يطالبها بقضاء الليل معه. تذكّرت هند حديثها في الصباح، وثرثرتها حول الشذوذ والجنس. لاح وجه الزوج محبطاً حزيناً. أنبأته هند بأنها ستستعيض عن عمل تينا، لأسباب تخص النظام. جمدت هذه. كانت واثقة من حب هند التي أكّدت أن ذلك لمصلحتها، كما لمصلحة العمل، وأن كل شيء سيعود كما كان، حين تتحرّر من ذلك الثري. علت البهجة وجه الزوج. في اليوم الثاني. كانت جينا تأخذ مكانها. بدت تتدفّق حيوية، وقد برز نهداها وساقاها بجرأة. ألقت ابتسامة طويلة على وجوه الزبائن، وراحت تقدّم الطلبات، وتوزّع عليهم الاهتمامات. حضر أبناء العمة صباح الأحد. اختاروا إحدى الطاولات، جلسوا للإفطار. أسرعت ميري تلبي احتياجاتهم. التفت الأصغر إلى أخويه، وهو يلقي نظرة فاحصة على المكان. تمتم بمزاح: - لا أرى بيل..أين هو؟ كان جاد الصغير متهدّل الوجه. بدا فكّه العلوي فارغاً. ابتسم لجورح الذي قال: - هند أيضاً ليست هنا! عاد الأصغر يقول: - ماذا تقصد يا جورج؟ هل هما معاً؟ تنحنح الأصغر، وقال: - لا لم أقل هذا! إني أسأل عن هند. حضر بيل بصحبة هانك، وكعادته نهض جورج لاستقبالهما. خطا وهو يمدّ ذراعه مرحّباً، أما هانك الذي حفظ ألاعيبه، فقد أيقن أنه سيتناول هذه المرة بيل بالأقاويل، فبادر بالسؤال عن أسماء المرشّحين للانتخابات، وعن آراء الشعب بكل منهم. علّق الأصغر على الأسماء المطروحة، التي تنتمي للحزب الديموقراطي، الذي ينتمي إليه مع إخوته، ولكل منهم شعبيته. أشار إلى كولمان الذي سيعطيه صوته حتماً، والذي يعمل من أجله مع لفيف من الأصدقاء. أكّد ذلك أيضاً كل من جاد الصغير وجورج. كان جاد الصغير يتذكر علاقة الصداقة التي ربطت بين كولمان وسيليا، التي أصبحت زوجته، وبين هند قبل ربع قرن. تمتم: - ستعمل هند أيضاً من أجل كولمان. دخلت هند بصحبة عائدة. كانتا مبتهجتين. اتجهتا نحوهم تلقيان السلام. كانت العيون على عائدة التي بدت منشرحة الصدر، وكانت تراقب الجميع، حين أشار الأصغر مازحاً أنه أصغر إخوته. كانت تعلم ذلك. ابتسمت. تابع يحدّثها عن حياته، فهو يحب أمريكا، ويحب الأطعمة الدسمة. مضغ اللقمة، ورفع الفوطة التي تتدلّى من رقبته. مسح شفتيه وما تساقط على ذقنه، وأخذ يضحك. راح فجأة يحدّثها عن دكسي، التي أحبها قبل عشرين عاماً، وكيف تصالحت مع زوجها الذي يعرف مدى العلاقة بينهما. إنهما متحابان إلى الآن. كانت عائدة مندهشة، وكانت تراقب أخويه. كانوا بأجمعهم أمريكيي الهيئة. كأنهم لا يمتّون لأصولهم. كان خالد يقول ( لو صرف أبناء العرب طاقاتهم في بلدهم الأم، لتغيّرت أشياء كثيرة) إنهم يغادرون الوطن. تجمعهم في البداية المعاناة، وأحاديث الوطن والغربة، ويعيشون الحنين ويرفضون الجديد. يلهبهم الشوق، وتمر سنتان أو أكثر. بعضهم يتحدّى البلد الجديد. يتعب. يثابر. يتفوّق.، وبعض آخر تهزمه الغربة، أو تتسلّط عليه، فيستسلم للجديد، فيعيش مهزوماً. غير أنه في الحالتين، تكون السنوات قد مرّت، وتعوّد الجميع. مسحت المكان بنظراتها. طالعها وجه جينا وميكي، ثم ميري. انتقلت إلى صور الجدران، ثم عبر النافذة. السماء صافية والأشجار خضراء جميلة. حطّ عصفور الكاردينال على أحد الأغصان. كان سنجاب أشقر يقفز فوق جذع شجرة. ابتسمت لكل شيء. السناجب والعصافير والقطط، والكلاب أصدقاؤها الطيبون. كانت هند تنظر إلى الساعة. نهضت عائدة. تطاول أبناء العمة برؤوسهم. تساءل جاد الصغير ببساطة. ما الذي يجمعهما؟ كانتا تتّجهان إلى الخارج، وكانت عائدة تلقي نظرة أخيرة على جينا التي تتحرّك بإغراء شديد، وتحدّجها بنظراتها. أشارت هند ببضع كلمات إلى زواجها من كاظم وطلاقها، وعن ابنيها منه.كان الوقت لا يكفي للثرثرة. ذلك اليوم أثبتت عائدة جدارة في أكثر من مجال، وأسهبت في الحديث، فهي تستعيض عن عمر فات بالاجتهاد. تغفو والكتاب بين يديها، وتهجس بما يترتّب عليها في يوم آخر، فتصف كل حركة تقوم بها. تصبح جادّة أحياناً، وأحياناً خائفة. لكنها لم تستطع إخفاء ما يعتمل في أعماقها من سعادة. بعد انتهاء وصلة عملها، اتجهت ميكي لتمضية ما بقي من الليل، في أحد ملاهي المدينة، ولملاقاة تينا التي ما فتئت تهرب من زوجها، الذي يلاحقها بنظرات الغيرة. كان المكان يغصّ بالزوّار، وأصوات الموسيقى تتصاعد، بين رنين الكؤوس وعلب البيرة الفارغة. لم تلحظ تينا قدوم ميكي. كانت منتشية بغزل الصديق، الذي احمرّ وجهه وأذناه، وبدا رأسه الأصلع مصقولاً لامعاً تحت الأنوار الخافتة. ردّت على تحيّة ميكي بضحكتها المعهودة، وهي تغمز بعينيها، وكأنها تؤكد ثانية أنها تحبّ جيوبه الملأى، فهو يصرف لها ثمن المشروب، ووقود السيارة، ويغمرها بالهدايا. يختلف عن بقية الرجال بكرمه، وستحاول جاهدة التمسّك به للأزمات العابرة والصعبة. أما ميكي التي تحبّ في الرجل شبابه وحيويته، فهي تراه بعيداً عن الرجولة، لكنها لا تفصح لتينا عن رأيها، وتفضّل ألاّ يكون لها صديق خاص، فهي تكتفي بنبيل، أو بصديق تجمعها به المصادفة ذات ليل، وتنتهي العلاقة قبل مجئ الصباح. قالت تينا لميكي، إنها لا تريد خسارة زوجها لسبب هام، فما زال أبناؤها صغاراً. يحتاجون للرعاية، ففي ليلة كهذه، تغيب مطمئنة البال، لا تفكر بهم أو بما يحدث معهم، خاصة حين تضيع منه، فيضطر للمبيت باكراً. تأففت حين تذكّرت ساعة نومه، فسينتظر عودتها. ضحكت . ستحدّثه عن سهرتها مع ميكي البعيدة عن الشبهات. هي لا تريد خسارته، فهو يحبها بجنون، هذا الحب الذي يعيق حركتها وخصوصيّاتها. حافظت ميكي في الطريق على توازنها. كان الشرطي يراقب سيارات الليل. ابتسمت له. لوّح بيده غامزاً، وهو يستمع إلى شتيمتها المعهودة. أخذت تدمدم لحناً، وكانت تقترب شيئاً فشيئاً من البيت، حين لاحت لها الأنوار المنبعثة من النوافذ. تلك اللحظة تذكّرت ابنها. شعرت بالحب لأمها التي ترعاه. ذلك الشعور الذي وصفته في يوم آخر لزميلاتها. بدا ابنها أجمل ما في حياتها. كان قلبها يخفق، وقد ارتسمت صورته في عينيها. قرّرت البقاء في السيارة. عانقت المقود. كانت بعيدة عن العالم. عن الناس. عن نبيل، ثم راحت تطوف في الشوارع على غير هدى. لا تدري لماذا بكت؟ كانت تبكي بصوت عال. تذكّرت طفولتها. تذكّرت شبابها. تمنّت في لحظة وهي تسترجع أحاديث هند عن البيت والأسرة. تمنّت لو أنها ولدت في مكان آخر. أو بيت آخر. تمنّت لو أنها زوجة حقيقية، في بيت حقيقي له صفة العائلة. أب وأم وأبناء. فكّرت بتينا التي تفوّقت في دراستها، وبرزت في حياتها الجامعية، ولها زوج محب، وابن متفوّق. تينا الذكية ترفض الاستقرار، والاستمرار الهادئ، والنظيف، على عكس جينا التي لم ترض بديلاً عن كاظم، إلى أن حدث الطلاق، وحين استبدلته فلأنها أرادت استعادته، وأرادت أن يكون لها بيت تضم فيه أبناءها، فكانت أكثرهن إباحية، وأكثرهن جنوناً وانطلاقاً. فكّرت بزميلاتها الكثيرات، اللواتي ترتبط معهن بعلاقة عمل أو بزمالة. ميري الهادئة التي أنجبت أبناءها - كما قالت - من الزمن والحياة، والتي تكرّس وقتها لإطعامهم، قد تنجب أيضاً، ربما تنجب، فما زالت صبية، ولها قلب محب، ولسوف تصدّق حبّاً آتياً ذات ليلة. كانت دموعها تبلل خدّيها، حين تراءت لها ساندي التي تحب ابنها جداً، مستلقية أرضاً، وبين أطراف أصابعها بقايا لفافة الميروانا، غيّرت مسارها واتّجهت إلى حيث ابنها الذي كان غافياً بهدوء، وقد ركن بين ذراعي الجدة التي استسلمت للنوم. غفت بعمق تلك الليلة، وبقيت حتى ساعة متأخرة في الفراش، إلى أن نهضت على الخبر الذي هزّها من الأعماق. كان نبيل في المشفى، إثر تعاطيه كمية كبيرة من المخدّرات، وريثما يتم الكشف والمعاينة، كانت ميكي تستعد للرد على الأسئلة، التي ستوجّه إليها عبر التحقيقات. لم تعتد نور على الحياة في بيت كاظم وأمه. اعتادت الصمت والاعتكاف. كان كل ما يربطها بوجودها هو الطفلان اللذان على صغرهما، كانا يستغربان ما يدور أمامهما، وقد يعقدان المقارنة بينها وبين أمهما، أو بين بقية النساء. كانا يشبّهان ما يحدث بقصص شاهداها في (التلفاز) الذي يبثّ باستمرار من المشاكل الأسرية، والقضايا العائلية، ما يقف القضاة في عجز أمام حلّها، فتتمرّد الابنة على أمها، ويتنكّر الأب لابنه، وتموت امرأة بين يدي الزوج، أو تتخلّى امرأة عن أبنائها لمراضاة عشيق لها. كان لهما من الخيال، ما يسمح بنقل الصور إلى أمهما ببساطة. كانت جينا تستغرب، وتحلم في يوم يعلن كاظم فيه الطلاق، ويعود إليها لتنبذه أو لتتشفّى به. بقيت أحلام كاظم في تجدّد، فنور امرأته التي حفظت وتعلّمت أصول الزواج، ومعنى الاستمرار، ومعنى أن ترتبط امرأة برجل لتحيا معه بقية الحياة. حدّثته أمه عن قصص مشابهة، وأسهبت في تبسيط الأمور. كان عليه التمهيد لها. كانت المفاجأة كبيرة. لم يحدّثها عن زواجه الأول، وعن ابنيه. ستستسلم في يوم. لكل امرأة طريقة في التعامل والأسلوب، وعليه التوصّل إلى قلبها في الدرجة الأولى. وستكون الأمور على ما يرام. كان كاظم مدركاً معنى أن ترفضه نور، ومعنى أن يتسرّب ذلك إلى المحيط، ومعنى أن تتمرّد ويصل صوتها، فازداد حيطة، وحاول الدخول إلى عالمها. حدّثها عن شهر عسل بعيد عن الأجواء. عن أجمل الفنادق والمناطق. المدن. الجزر. الشلاّلات، فأدرك من خلال صمتها، رفضها لكل المغريات، ووجد في عينيها اتهاماً، زادها رغبة في الابتعاد عنه. طالبته ذلك اليوم بالعودة، والرجوع من حيث أتت، وهي التي هدّدته في آخر حوار، وكانت أن ذبلت ووهن عودها، ومع هذا لم ييأس. كان يأمل بيوم آت، فوقت الاستسلام قد حان. تنقّلت نور كعادتها بين النوافذ. كان البيت منعزلاً جميلاً. يبدو الطريق الفرعي الذي يصل إليه طويلا بعض الشيء. تحدّه أشجار متنوّعة، تتلوّن أوراقها في فصل الخريف. الأحمر والأصفر والليلكي. تأتي أصوات السيارات عن بعد. مسافة عشرات الأمتار. أما ملامح البيوت المتفرّقة فتظهر في المساء، مع إضاءة الأنوار. كانت أم كاظم تتباهى، فهم يقطنون في مناطق الأغنياء، وتعد مآثر السكن. الهواء النقي والابتعاد عن الضجيج. أما نور فقد ضبطتها أكثر من مرة وهي تكفكف دمعتها، وتغني مواويل حب للوطن، ولا تنسى حين تخرج مع ابنها، لقضاء حاجات السوق والمشتريات، أن توصد الباب الرئيسي، والآخر المؤدي إلى الحديقة. ذلك اليوم. كان كاظم قد رسم خطّته. وضع أمه في السوق، وغادرها متذرّعاً ببعض الأعمال، ليعود إليها وقد ابتاعت لوازمها. كانت الأم سعيدة وهي تتنقّل بحرّيتها، وكان كاظم يعود إلى البيت. وجد نوراً فوق الأريكة. رأسها بين يديها. اقترب يمسح شعرها. رفع وجهها بكفّيه. أجفلت. هربت. كانت تصرخ برعب. هدّدته ألاّ يمسّها. ألاّ يقترب منها. كان في عينيه شيء لم تره قبلاً. أما هو الذي تذكّر جينا في أول لقاء، والتي خذلته في آخر لقاء. رفع كفّه وأسقطها فوق وجهها، وبين الدهشة والرعب. انهال عليها ضرباً. رماها أرضاً. مزّق ثيابها، وخلال دقائق كان يفض عذريتها، ولم ينهض إلى أن أصبحت بين يديه كخرقة قماش بالية. أغلق الباب وخرج. حين عادت أمه. كانت نور قد اعتصمت في إحدى الغرف. أقفلت الباب وأعلنت عدم الخروج. بدت الدقائق طويلة. تلك اللحظات العاصفة، بين برق السماء وخيوط المطر الغزير. كانت عينا عائدة مملوءتين دمعاً. بدت حزينة. بائسة، وهند تراقبها بوجل. تمنع نفسها من ولوج ذلك العالم، الذي يتخبّط باحثاً عن الراحة والسكون. حين هدأت العاصفة . كانت عائدة تلملم دمعها. أسندت رأسها على كتف هند. قالت إنها حزينة لعمر مضى. عمر مات بصمت. باستسلام. حين تسترجع الذكريات، تشعر بالخجل، بالعار. شيء يشبه الموت. كانت ترى وتسمع وتتلقى، كما تأكل وتنام. نسيت التفكير والكلام. من هي؟ من تكون؟ حفظت وجوه التلفاز، وحركة الشفاه، فتربط كلمة بموقف أو حدث، ويهيأ لها في أحيان كثيرة أنها ضمن الفكرة، أو في قلب الموضوع. لكنها الآن تعرف أنها بعيدة عن نفسها، بما تحمل هذه النفس من هموم وآلام. قالت فجأة: - كيف حال بلدي؟ - ألم يحدّثك خالد عنه؟ صمتت عائدة. كانت تلملم دمعتها. سألتها هند فجأة: - غداً فحص السواقة.. هل أنت مستعدة؟ كانت خائفة. قالت: - مستعدة. هدأت العاصفة. كان هذا مناخ توليدو المتقلّب. سطعت الشمس وزقزق عصفور. كان صوت فيروز ينساب صافياً نقياً، كما وصفه خالد الذي أحبته، دون أن يقول شيئاً. أحبته منذ اللحظة الأولى. دون أن يلمح أو يشير. كان إحساسها نحوه مختلفاً. كانت تنساق إليه. كان أجمل الرجال، وأكثرهم ثقة، وحين اختارها، فلأنه أحبها. لأنه أرادها، فقدّم لها_ ودون أن يدري_الثقة، فاكتشفت إنسانيتها التي نسيتها، في خضم الهم والحزن والشقاء. وتلمّست أن لوجودها ثمراً، ولها القدرة على العطاء والمنح، ولأنه انتقاها ستكمل الطريق، وهي الآن مع عائدة التي قرّرت أن تثبت وجودها، وأن تحيا. عائدة التي نسيت نفسها، ونسيها الآخرون، تعود لها الحياة، وتعود للحياة من جديد. كثّفت عائدة جهودها، وأكثرت من ساعات العمل. شغلت نفسها بكل أمر. شغلتها الصحف والمجلاّت، وأخبار العالم، فتنهمك بما تسمع أو يقال، واكتشفت في نفسها مقدرة على تحليل الأمور، أو إرجاع أسبابها. استفاق فيها حب الوطن. تأتيها الذكرى بعيدة. أمها. أبوها. أخوها. قريتها وأشجار التين والزيتون. طفولتها ولعبها، وبفرح طفولي تنشد ما حفظته تلك الأيام. أغان لها طعم المجد والإيمان. لها ملامح الحب والأمل. غير أن آخر الصور، تسكب في جنباتها مرارة الفقدان، والتشتت والضياع. تندفع أكثر. تنهض. تدور في أرجاء البيت. تفتح النوافذ والأبواب. تشم رائحة ياسمين، وزهر ليمون. تهتف إلى هند. تحدّثها عن ذكرياتها. عن آمالها. عن شعور يحثّها للركض. للإسراع. للوصول. تكون هند في رحلة طويلة. تبحث عن خالد. تخبره أن عمر عائدة لم يضع، وأن حلمه بتعويض ما فات، بات قيد الوصول. استطاعت عائدة الانخراط فيما حولها وبين الآخرين، فبدت قوية. واثقة، ومن خلال الفرح الذي كان يتسلّط عليها بين الحين والحين، أخذت تسرد قصّتها مع الغربة الطويلة والنسيان. تحكي عن زمن رزحت فيه تحت القيود. كانت مكبّلة. مقيّدة. مستعمرة. تضحك من أعماقها، فهي التي ساهمت أيضاً، بعد أن فقدت الطريقة والأسلوب، وطرق التعامل مع الحياة، وسلّمت أمرها ودفّة حياتها، إلى زوجها الذي سخّرها لتأمين راحته، ومتطلّباته. مستغلاًّ استسلامها، وطيبتها، وعاش عالة على أحلامها التي ماتت في المهد، دون أن يتسنّى لها التفكير بنفسها، أو العودة إلى موطن تلك الأحلام، وإتاحة الفرص لها للظهور. انشغل الناس بالانتخابات، وبأسماء المرشّحين. هذا يتبع الحزب الديموقراطي، وهذا الجمهوري. لكلٍ أتباعه وجمهوره وآماله. خصّصت هند آخر الأسابيع للعمل، وهي المؤمنة بجدارة كولمان. طافت على شركات المدينة، ومكاتبها، وتعمّدت زيارة الأسواق التجارية. أناس كثيرون. منهم العربي الأصل، ومنهم الصيني والياباني، والزنجي، ومن كان من الهنود الحمر. تجمعهم الجنسية الأمريكية. أكثرت هند من الحديث عن كولمان، وعن ثقتها به وبتاريخه عبر عشرات السنوات. إلى جانب طموحاته وأحلامه، من أجل الشعب الأمريكي الذي يحبّه، وما سيقدّمه من وعود وتحقيقات لخدمته. كانت متفائلة، على خلاف الانتخابات السابقة. نقلت أحاسيسها إلى عائدة التي رافقتها في كل خطوة، والتي حاولت المساعدة. كانت تحمل حقيبة المنشورات والكتيّبات، وتبتسم. أما بينها وبين نفسها فتمنّت لو كانت في الوطن، وأن تتفانى في خدمة أرضها وشعبها. حدّثتها هند عن الإنسانية التي هي جزء لا يتجزأ من العمل الوطني، فقد علّمها الوطن معنى ذلك. بلدها الذي لا يؤمن بالتفرقة، فالكل سواسية، والكل أبناء وطن، وما مشاركتها لكولمان الزنجي وتعاطفها معه، إلاّ جزء من قناعة بحقه واستمراره في الحياة، كما يرغب أو يشاء، كمثيله الأمريكي صاحب البشرة البيضاء. استفاق عند عائدة الحنين،فتمشي بدعة وقد ضمّت ذراعيها. قالت إنها تعانق أرض بلدها وسماءه،وأن نجاح كولمان سيحقق عندها الحلم،والإيمان بإنسانية البشر. كانت هند تضحك وتفكر بخالد الذي آمن بانطلاقها، وممارسة حقّها في متابعة الحياة، بظروف حرّة توازي غيرها من البشر. كان واثقاً من نجاحها، ومن أهليتها للمسؤولية، وربما فاقت غيرها في أكثر المجالات. أتيح لميكي تلك الأيام، التقرّب من عائدة، فبعد أن تعافى نبيل واعترف بأن لا علاقة لها بما أصابه، انشغلت مع هند كما فعلت ميري وجينا. كان الاستعداد المسبق لما سيقدم في ذلك اليوم من وجبات طعام للناخبين، كان لديهن من الوقت ما يجعل الأمور تسير على ما يرام. تحتّم عليهن خلال ذلك، التعرّف والاحتكاك بعائدة عن كثب، كانت قد لفتت انتباههن، وهي تسعى لإثبات وجودها، فتستفيد من الوقت وممن حولها، وحين يصمت الجميع، تخرج كتاباً وتحاول القراءة. كان بحوزتها كتاب قدّمه لها الدكتور سامي، وكان يخصّ تاريخ بلدها، وما تعاقب عليه منذ مئات السنين من أحداث. أما ميكي التي لا يهمّها جذور والديها، فقد أدهشها اهتمام عائدة بالتاريخ، وبحديث الأجداد. كانت جينا خلال ذلك تسرق الوقت، وتشاركهم في الاستماع. باتت أكثر دهشة، وأصرّت على أصلها الأمريكي. لامتها هند بشدّة على جهلها بحقيقة نسبها، وعلّقت على الأكثرية في هذا البلد التي نسيت جذورها، ولم يفتها المرور على الهنود الحمر، سكان المنطقة الأصليين، الذين مازال قسم منهم يعيش كأجداده، ربما لقناعتهم بالتاريخ والجذور. لم تستطع كل من ميكي وجينا، إخفاء إعجابهما بعائدة، فتنتهزان الفرص لجلسة معها. تسألانها عن حياتها. ماضيها. حاضرها. أظهرتا في البداية أسفهما لظروفها الصعبة، وحاولتا التخفيف عنها، فالمجتمع الأمريكي ملئ بقصص الظلم، خاصة ما تتعرض له الكثيرات، من اضطهاد، وهذا ما تحاول شاشات الإعلام طرحه، والمطالبة بوقف العدوان على المرأة وإعادة النظر بما يلحق بها من إجحاف. أصرّت جينا على مراقبة عائدة، وبرغم ما تكنّه للعرب من عداء، لم تستطع سوى التعاطف معها، وتحوّل موقفها إلى إعجاب. كانت عائدة مندفعة بإيمان لتعويض ما فات، ومصمّمة على المثابرة إلى آخر الطريق، فتبدو بجسدها الضئيل وعينيها السوداوين، وهدوئها، أكثر عزماً وثقة. تقف جينا أمامها. تسألها. تتابعها. إلى أين وصلت يا عائدة؟ تبتسم عائدة، فالطريق طويل وشاق. لكنها لن تتوقّف عن المتابعة، فهي ما زالت في بداية الطريق. تندفع ميكي مع جينا، وقد شحنت كل منهما نفسها لاستقبال المزيد، فتلاحظ هند في عيونهما ملامح الجد، وتلاحظ في أوقات أخرى، ما يردّدانه عن عائدة التي لم تستسلم، وعن استطاعتها الوقوف أمام الصعب، بتغيير مجرى حياة، كانت قد اعتادت عليها عشرات السنين، ففي أعماقها طاقات من العطاء المتجدّد، الذي ينتظر الانفجار والتدفّق. جلس جورجي مساء، وقد أعدّ حقيبة السفر. كان يعدّ الدقائق والأيام. لقد اقترب الموعد. جمانا تنتظره، وهو ينتظر ساعة اللقاء. مرّت أيام الاختبار الأخير، وربحت جمانا. ذلك المساء، وكان يتنقّل عبر طاولات (الروليت، والبوكر، والبلاك جاك)، وكانت أصوات الآليات تتعالى، والعاملات بلباسهن الموحّد، عاريات الأكتاف والأفخاذ. يحملن الخمرة والماء. يوزّعن الابتسامات. تجوّل جورجي في المكان. إنه في ( أتلانتيك سيتي) مدينة (الكازينوهات). قضى ثماني ساعات في سيارته، ليصل إلى هنا. ليختبر قراره. هنا ستكون تجربته مع الرفض. صراعه مع الإدمان. كل شيء من حوله يناديه. يغريه. للمرّة الأخيرة. لم تكن هذه أولى التجارب. كان يتعمّد تلبّية النداء. يغرق نفسه في كل أنواع المقامرة، ويمني النفس، معتقداً أن حالة من إشباع تبعده عن كل ما يمتّ إليها، وكان يعود في كل مرّة، أكثر نهماً وجوعاً. هاهو في امتحان جديد. أن تحوم حوله المغريات ويرفض. أن يتخلّى عن المقامرة التي هي أهم علاقاته التي بناها في توليدو. أن يتنكّر لما قدّمته هذه الصالات من خدمات. يوم حاولت أمريكا قتل الحنين، يوم قايضته على النسيان. تموت وتولد، فاختار الطريق. كان وجه جمانا يملأ ساحات المكان. حين تأتيه بوجهها الجميل يستمدّ القوة، إنها ثقته التي فقدها منذ أعوام طويلة. أمله الذي غاب. شعر بالشوق إليها. إنها قربه. تلامسه. هي أجمل الأشياء. أجمل الكائنات. إنه يريدها. لا يريد بديلاً عنها. كل الأشياء تتوقّف عداها. إنها استمراره، وأمله الذي يتدفق بين حناياه، يزيده ألقاً وبهجة. كان يغادر (اتلانتيك سيتي) في الصباح، قويّاً، سعيداً. كان قلبه يخفق، وفي أعماقه يتراقص الفرح. شعر بنقاء غريب، بذكرى بعيدة، ذكرى حملته إلى بلدة اللاذقية، حبيبته الأولى. إلى يوم حلم فيه بمجد يكلّل سماء الوطن، وكان آنذاك يحلم بالحب، الذي سيأتي ذات يوم. يغمره بالفرح الذي لا يموت. غادر تلك المدينة بقلب جديد وروح جديدة، لأول مرة وفي عودة كهذه، يستطيع رؤية الطريق، ويحسب المسافات. إنه جديد، ومتجدّد. لقد ربح نفسه أخيراً، وترك بصمته قبل المغادرة، حين قال إنه موجود، له كيان حر، له الكلمة، والقول. تململت آنا في فراشها. فتحت عينيها. سألت: - متى سنسافر يا أبي؟ - حين تستعدّين. نهضت على عجل، وخلال وقت قصير كانا يتّجهان نحو مطار توليدو، وقد بدت البهجة على وجه آنا . سألها: - هل تحبينها يا آنا؟ - أحبها. هل ستتزوّج منها؟ ابتسم جورجي. قال: - هل تريدين ذلك؟ قالت: - أمي أيضاً ستتزوّج. - حقاً؟ - حضر قبل أيام. لم يحبه أخي، لأنه سيأخذ أمي. ضحك جورجي. سأل: - أين سيأخذها؟ - لا أدري! كان في جواب آنا مزيد من المرارة، وكانت شاردة، هل بسبب زواجه من جمانا؟ أم بسبب زواج الأم وخوف ابنها. قرّر التدخل لأول مرة في شؤونها، عبر حديث مع أمها وأخيها، في وقت شعر بالاطمئنان، فزواج الأم سيضفي على البيت جوّاً أسرياً. كان عليه المساهمة في مساعدة الأم، التي ربما تعاني من كيفية مراضاة ولديها. اجتمعت صديقات تينا. ميكي وجينا وساندي. أخذن يخطّطن للاحتفال بعيد ميلادها. كعادتهن في مناسبة كهذه، تقتصر الدعوة عليهن، بعيداً عن الجنس الذكوري. كان لكل منهن رأي وملاحظات، فأعدن الشروط التي تخلّ بها إحداهن أحياناً، فالغاية تكمن في قضاء أمتع الأوقات، ولفت انتباه الرجال دون الاقتراب منهم، فهذا يوم خاضع للتجربة، بمعزل عن القيود. يحق لهن تعاطي كل ما يشتهين من خمور وحشيش، وكحول، عدا ممارسة الجنس، الذي يعد في ليلة كهذه خطيئة، فالمعاهدة شريفة، وتحقّق لهن مزيداً من التحرّر والانطلاق. أكثرن من المزاح والضحك. كانت ساندي تدخن الميروانا، فأشارت أن عليهن ممارسة الجنس قبل موعد الرحلة. من أجل المقاومة. ضحكت الزميلات. علّقت ميكي أن زوجها في محنة، من حالة سيئة إلى أسوأ، فقد عمّت أخباره بين الطلبة العرب، وقيل أنه يرتاد بعض النوادي الخاصّة بالعراة. قاطعتها ساندي وهي تطلق النعوت على زاهي الذي حصل على الطلاق أخيراً. لم تكن آسفة عليه، فقد خرجت بمكاسب تكفيها عاماً أو أكثر. وهي لن تتزوّج ثانية. الزواج من أجل الأبناء. لديها ابن. قد تحب رجلاً وتحيا معه، يكون شرطها عدم الزواج. ربما تتزوّج من أجنبي لكسب المال. وقفت تينا. برز ثدياها، وظهر قسم من بطنها وظهرها وكتفيها. بدت ساقاها أطول . كان خدّاها حمراوين، وحول عينيها أمواج من ألوان. انفرجت شفتاها عن ابتسامة عريضة. برزت أسنانها المتراصّة والكبيرة. أخذت تخطب بتحدّ، فهي أقلّهن حظاً مع الجنس لسببين، أولهما اضطرارها لمعاشرة الزوج الذي لم يعد مثيراً، وثانيهما أن الصديق الثري لا يملك عضواً مناسباً. ألحقت حديثها بضحكة عالية، وهي تقيس بأقصر أصابعها، إذ لا كمال في الرجال، فالكل خاضع للنقصان، أما في حالات التجلّي، فربما استعاضت عن الاثنين برجل يخضع معها للتجربة، يتم التراجع أو الاستمرار، فالتوازن ضروري في حياة المرأة. ستدرس الفكرة بجدّية، بتنسيق واهتمام جديدين. تخلّل اجتماعهن أحاديث عدّة عن مختلف الرجال والنساء، فاقتحمت عائدة الجلسة دون استئذان، فجينا معجبة بهذه المرأة، وترى نفسها مشدودة إليها وإلى أحاديثها. تدخّلت ميكي بعقد المقارنات بين عائدة ونساء أمريكيات. خضعن لظروف مشابهة، واكتشفت أن مقدرتها على التحمّل تفوقهن بأضعاف، فأكثرهن أصبحن منعزلات أو مكتئبات، واستشهدت بأسماء نساء انتهين بمصحّات، أو أنهين حياتهن بالانتحار. أخذت ساندي نفساً من الميروانا. قالت أن جميع الأمور تنتهي بالموت، وعلى الإنسان العيش بأبسط الطرق. أما مشكلتها مع زاهي فقد استغلتها، وكسبت أكبر مبلغ يعيلها مع ابنها الذي تحبه جداً، والذي لم تهتد إلى أبيه الحقيقي. تذكّرت تينا أمراً وهي تحسب سنوات أعمارهن، وكم بقي من مرحلة الشباب. عليهن في هذه الحالة، الاستمتاع والاستفادة من الوقت، وتعتبر نفسها أهم امرأة، بجسدها المثير وذكائها الحاد، وقدرتها على صيد الرجال، وتتحدّى نساء العالم قاطبة، مهما عظمت المباراة، وأساليب السباق. لكنها ترفض الحياة الملتوية، ورفضت عرض الطبيب المشهور، وشراءها بالمال، ولم ترض ممارسة الشذوذ مع زوجته السحاقية. إنها تعرف ما تريد، وتمسك أمورها جيداً. كانت جينا خلال ذلك شاردة. أتتها صور أبنائها. إنها أم منذ أكثر من عشر سنوات. لكنها لا تمارس أمومتها. لا تعيش تلك اللحظات التي تستعيض بها عن زوج غادرها، أو غدر بها. شعرت بحنين إلى حضن دافئ، ويد واثقة . كان باستطاعتها الركض. تعبر. تطير. وتعانق كل ابن، وتذرف دمعة، وتركع تبثّهم الحب والشوق، وتستمع إلى نداءاتهم، وتطرب بالكلمة، وتدرك أنها أم، ولها أبناء. نهضت. لم يكن بوسعها التحدّث مع ساندي، حول الهموم العابرة، أو نقل أخبار زاهي، الذي يعيش حالة حب، مع ابنة رئيس الجامعة، التي يدرس بها. كانت هذه تطفئ عقب اللفافة، وكانت تينا وميكي تتجاذبان الحديث. نهضت جينا. غادرت دون كلمة وداع. تلك اللحظات التي لا تنسى في حياة جينا. كانت دموعها تغسل وجهها، وتسيل فوق الوجنتين والعنق. بصمت وقنوط، والعالم من حولها يتّسع، وهي تائهة. لا أرض أو سماء. تضيع مع كل ثانية، وتكتشف أن الأشياء الجميلة هربت منها للأبد. سقطت قطرات مطر فوق زجاج السيارة. ابتسمت، ثم ضحكت. لأول مرة تشعر بأن للمطر شأناً. لم يكن الوقت شتاء. في الصيف أيضاً تسقط الأمطار. لكنها الآن مختلفة. تشاركها الألم. ستهطل أكثر. ستهب عاصفة. هاهي تتحرّك. تدور. تذكّرت عائدة. دهمتها مشاعر الدهشة. ما الذي يحرّك عائدة؟ ما الذي يدفعها للحياة؟ استطاعت أن تستعيد بعض المواقف. بعض الصور. غرقت في حالة من استغراب. شعرت برغبة في لقائها. كانت عائدة أهم حدث يعبر حياتها. امرأة تستيقظ بعد سبات طويل. تنهض لتخترق ما فاتها من سنوات. ترمّم ما تصدّع في جدران ذاتها. تسير مع الآخرين. كأن العمر لم يفت. كأنها واكبت كل عصر. خطوة خطوة. هكذا بدت عائدة لعيني جينا. فكّرت . إنها امرأة مختلفة وجميلة برغم سنوات عمرها. عاد جورجي وآنا بصحبة جمانا، وأعلن خبر الزواج القريب. غمرت الفرحة الجميع، فهذا يعني أموراً كثيرة، فموافقة جمانا إقرار على سلوك جورجي الجديد، الذي التزم أخيراً بعهده في مقاطعة الماضي، والابتعاد عن عادات تحكّمت فيه سنوات طويلة. لم تصدّق ليلى. أتت والسعادة بعينيها، واعترفت أنها مذ غادرت بلدها الأم لم تبتهج كما يحدث الآن. طفرت دمعة هند التي انتظرت هذا اليوم طويلاً. كان الجميع يتعانقون، وكانت آنا المندهشة، تتجاهل ما يحدث. لفتت نظر ليلى. حضنتها، ودار بينهما حوار طويل، فآنا تحب جمانا، وتستغرب ما يحدث. هل ستعيش مع أبيها؟ وحين ستأتي لقضاء عطلتها، أو لزيارة والدها. أين ستنام؟.وكيف ستتصرّف؟ ألم يعد البيت بيتها؟ لم لا يتزوّجان ويبقى كل في بيته؟ لماذا تعيش جمانا هنا؟ فلوريدا أجمل من توليدو. كانت ليلى تربت على كتفها. سألتها: - ألا تحبين جمانا يا آنا؟ - أحبها جداً. وهي تحبني. - لماذا لا تريدين لها العيش مع أبيك إذن؟ صمتت آنا قليلاً. قالت: - ربما أخذته مني. أخفت ليلى ضحكتها. قالت: - لا أحد يأخذ أباك منك. أعتقد أنك ربحت أماً صمتت آنا. كانت ليلى تمسح شعرها. قالت فجأة: - أمي أيضاً ستتزوّج، وأخي لا يرغب بهذا. - لماذا؟ - لأن رجلاً سيأخذ أمي. كان حب ليلى للأطفال يبرز في كل مناسبة، ويأتيها شعور بأنها لو أنجبت، لكانت أماً صالحة، ولتميّز أبناؤها، فهي تحمل في ذاكرتها أجمل الذكريات، عن الأسرة والأبناء. عن أبيها وأمها. تلك العلاقات التي تجمع الأفراد. ذلك التضامن الذي ينبع من البيت، وينمو، ويصبح وطناً وقضية، ويستمر مع الزمن والاستمرار. لم توفّق ليلى في زواجها الأول، وترك الطلاق في نفسها ما ألغى فكرة زواج ثان، فانصرفت للعمل، بكل ما أوتيت من عزم وتصميم. فرّغت طاقاتها التي تميّزت بها، في أيام الطفولة، وأيام الصبا، كانت أكثر الفتيات نشاطاً وحيوية، واعترف معلموها بذكائها وبديهتها، وأكثر ما كانت تحبه، هو تكوين أسرة وأطفال. ذلك الحلم الذي تحوّل مع الأيام إلى علاقة حب وعطاء مع أفراد أسرتها، فتعتبر أبناء أخوتها أبناءً لها، فيحثّها الواجب للتدخّل في شؤونهم، أو تهرع في ساعات الحاجة لتلبية نداءاتهم، وتدرك أنها تحمل في أعماقها من الحب، ما يكفي ويفيض. شغلتها آنا تلك الفترة، كما شغلت جورجي وجمانا، غير أن ليلى، آمنت بأن تحقيق فكرة الزواج، يجب أن ينبع من داخل آنا، المرتبطة أيضاً بأسرتها الصغيرة، بأخيها وأمها التي ستتزوّج أيضاً. تلك الفكرة التي أوقعت الأخ في هم الفقدان، وخسران الأم. كان هذا أمراً عادياً في أمريكا، وقد يكون أبسط من قصص أخرى، وقضايا إنسانية أخرى، وأفضل من أبناء فقدوا الأب قبل الولادة، أو أطفال ولدوا لأمهات صغيرات، يعجزن عن المسؤولية والالتزام، وكم فكّرت ليلى بهم، وحاجتهم إلى وسادة حب، ورعاية ليغفوا باطمئنان. ضحك جورجي الذي يدرك أبعاد ما تفكر فيه ليلى، وكان قد خطّط لجلسة مع آنا وأخيها، فربما تمسح ما تركته فكرة الزواج من رأسيهما، القلق والخوف. تلك اللحظة ابتسمت ليلى، وهي تعانق آنا باطمئنان. توقّفت الليموزين أمام أحد البارات. هبطت الفتيات الأربع. بدت تينا بثوبها القصير أكثر طولاً. كان شعرها قد طال، وتناثر على ظهرها وكتفيها، وكانت مسرعة في ولوج البار الذي اكتظّ بالناس. جلسن على إحدى الطاولات يتضاحكن، ريثما تفرغ لهن المقاعد. احتست تينا كأسها دفعة واحدة، وتنهّدت. نهضت إلى صندوق الأغاني. أدارت قرصاً. نادت زميلاتها. لم تحرّك ساندي ساكناً، بينما راحت جينا في شرود. كانت ميكي تلبي الدعوة. أخذتا ترقصان وتضحكان، وخلال دقائق كانت تينا محط أنظار الجميع. كانت سعيدة ومنتشية. رقصت كما لم ترقص قبلاً. كان جسدها يهتز قطعة قطعة. وصفت شعورها بعد ذلك، وكأنها تحلّق في السماء. تحت قدميها العالم. امتلكت تلك الليلة عقول الناس. أثارت غرائزهم، وكان قلبها يقفز بهجة. هكذا أحبّت أن تكون في ليلة ميلادها. قريبة بعيدة. تحكم وتتحكّم، وتتشفّى بالرجال، وهي تصدّهم واحداً إثر واحد. انهمكت ساندي بتصيّد شاب له صفات الأجنبي، ولعدم توفّره، قررت الركون وحرق لفافات الميروانا، واحتساء الخمرة. التفتت إلى جينا. سألتها: - أليست محقّة في ذلك: لم تجب جينا التي كانت شاردة. الأيام تمر، والسنوات. في الأمس كان عيد ميلادها هي، وبعده ميكي، وأليزابيت، ونعود إلى تينا، ما الذي جنينه في رحلاتهن؟ أو ما الذي سيجنينه وراء هذه الرحلات؟ قاطعت ساندي تفكيرها. سألتها: - بماذا تفكرين؟ ابتسمت جينا بسخرية، واكتشفت أن لملامحها دلالة على ما يعتمل في أعماقها. لم تكن تبحث عن السرية، فيما يتعلّق بأمورها. قالت: - بنا! ضحكت ساندي. سحبت الكأس من أمامها. قالت: - أنت ثملة! يكفي هذا. أعادت جينا الكأس . قالت بسخرية: - هل نحن أناس عاديون يا ساندي؟ - ماذا تقصدين؟ - قصدت السؤال. من يستحق الحياة؟ نحن أم عائدة؟ - قلت لك أنك ثملة. اتركي هذا. نحن هنا لتمضية وقت جميل. لا لننشغل بك! - لست ثملة. لقد كرهت هذه الحماقات. ضحكت ساندي من أعماقها، وأخذت نفساً من الميروانا. هل هذه جينا التي لا تكفّ عن الحركة؟ والتي في رحلات سابقة خلّت بجميع الاتفاقات ؟ هل هذه جينا التي أشعلت الشهوة في أجساد أكثر من رجل، وتشفّت بهم؟ تمتمت بأسى: - ياإلهي. أنت جننت! - ربما. وضعت جينا رأسها بين كفّيها، وراحت تنشج. أما ميكي التي صفّقت لتينا طويلاً. لحقت بها وهما تلمحان أن الوقت المخصّص لهذا البار قد انتهى. خرجن. كانت تينا نجمة الرحلة، والبارات، والليموزين، وانتهى المشوار دون خلل بالشروط، فلم يلمس رجل ما إحداهن قط. عدن منتصرات على الليل والخمرة والسهر. كانت المفاجأة التي أسقطت نبيل في ارتباك وذهول، قدوم أبيه، الذي تعمّد السريّة في المجيء، فأراد التوصّل للحقيقة، التي وصلته ضبابية الصورة، وكان حلمه في أن يصبح ابنه طبيباً قد تضاءل، غير أن أسباباً كثيرة دفعته للكشف عن الحقائق، والظروف التي ألحقت بابنه الضرر، فالخطأ يلد الخطأ، وما فشل الابن في دراسته، التي كان مندفعاً لإكمالها سوى تأكيد على مسار ملتو، وطريقة خاطئة في الحياة. لم يفاجأ بحالة نبيل، التي ألمّ ببعض أجزائها، عن طريق الطلبة العرب، بل إن خياله الذي صعّدته وسائل الإعلام، من تردّي واضح في بعض المجتمعات، قد صوّر له الأمر بطريقة أسوأ مما اعتقد. أصبح حلمه الآن كسب ابنه، والعودة به، وهو الرجل الميسور، فيعمل معه بالتجارة، ويتابع الحياة. كان نبيل خائفاً في البداية، فهو لم يحقّق حلم والديه، وعاش مراحل طويلة من الكذب والنفاق. ابتزّ والده الذي ربّاه على الصدق والأمانة، فنقله من وهم إلى آخر. التفوّق. النجاح. الشهادة التي سيفخر بها، وكان بينه وبين نفسه يشعر بالذنب الذي فجّره قدوم أبيه. لم يحاسب الأب ابنه على ما فات، وكأنه خشي الاقتداء بالشاب الأمريكي، فيغادره إلى غير رجعة، أو يواجهه بأقسى ما يمكن أن يوجّهه ابن لابنه، فقرّر الصمت. لم يتفوّه نبيل بكلمة، ولم يخب أمل أبوه به، فقد استسلم لمشيئته. بكى بصدق وطلب السماح، والغفران، وما سبّبه له ولأمه من فجيعة. أما ميكي التي غادرت المنزل منذ اليوم الأول لمجيء الأب، فهي ما فتئت تتابع تطورات الأحداث. تراقب البيت. متى استيقظا؟ أو ناما؟ متى خرجا أو عادا؟ واكتشفت شيئاً فشيئاً أن الأمور ما بينهما على ما يرام. كأن شيئاً لم يحدث، إلى أن تيقّنت من أنهما يزمعان على الرحيل. - والجنسية الأمريكية؟ سألت ساندي بتلهف. - لا يريدانها! - من لا يريدها؟ - هو وأبوه! - يا إلهي.. لم؟ - لقد أقسما، أنهما لن يعودا إلى هنا ثانية. - كيف عرفت؟ - هذا ما يدور بين الطلبة العرب. وما أكّد عليه زاهي، ويقولون أن الأب لا يرى بديلاً عن بلده، التي هي أرقى وأجمل مما شاهده، وتلمّسه في هذه البلد. أعلن زاهي خبر زواجه من ابنة مدير الجامعة. طبيبة ومتفوّقة. لم تعلّق ساندي بكلمة. كانت بينها وبين نفسها، تدرك مدى طموحاته، لكنها لعنت بيئتها، ولأول مرة شعرت بفروقات المجتمع، وأنها قدّمت الفرص لزاهي الذي استغلّ اسمها ووجودها أكثر من عامين، وأنها أتاحت له التعلّم ومتابعة الحياة كفرد من أفراد المجتمع الأمريكي. تمتمت: - لن أتزوج ثانية من أجنبي. لوّحت هند بيدها تلقي السلام على بيل وهانك. ردّا التحية بابتسامة. انهمكت مع ميري في المطبخ، وعادت إليهما. كانا يحتسيان البيرة، ويجلسان متلاصقين. كان هانك مستغرقاً في الحديث، وبيل يستمع بإنصات. اقتربت تسألهما الجلوس، وهي تعلّق على سرّ ما يجمعهما. ضحكا لم لا؟ إن كان الحديث عن كولمان يتّصف بالسرّية. تأسّفت إذ شعرت بتقصير في واجباتها نحوه. لم يوافقاها على شعورها، فهي قدّمت ما بوسعها. أشارت بضرورة المتابعة الجدّية، فالأيام معدودة، ويترتّب على الجميع العملّ. تخلّل الجلسة أحاديث شتى . قطعها هانك فجأة وهو يقول: - يريد بيل أن يسألك أمراً. التفتت نحو بيل . قالت: - حقاً. ماهو؟ كان أحمر الخدّين. برقت عيناه. ارتبك. نظر إلى هانك بلوم وهو ينفي ذلك، غير أن هذا نهره قائلاً: - ما بك؟ لم لاتفعل الآن؟ ألست مصرّاً على الأمر؟ قال بيل، وقد ازداد ارتباكاً: - إنه يمزح. قاطعه هانك: - وهل سؤالها عن الزواج منك مزاح؟ صمت، وصمتت هند، ثم قالت تستدرك الأمر: - طبعاً هذا مزاح. بيل صديق قديم، ويعلم أنني لن أتزوج أبداً. العمل يأخذ وقتي، وسأتفرغ للين وأبنائها؟ هل علمتما؟ لين حامل الآن. حلّ صمت. أعقبه أكثر من حديث لا علاقة للزواج به، وافترق الثلاثة بودّ كعادتهم في كل لقاء. غادرت هند المطعم. ذلك السؤال العابر أيقظها من جديد، وخلال دقائق. كانت تتجه نحو نهر (مومي) الذي يعبر توليدو، وعلى الطريق الخشبي، والمقاعد الخشبية. جلست ساعات طويلة. كان الهدوء يعمّ المكان، عدا زقزقة عصفور الكاردينال، وصمت النهر، وربما همس أقدام عاشقة تعبر بين الفينة والفينة. لماذا يسكنها خالد؟ لماذا لا تفارق عيناه ذاكرتها؟ كأنهما يفترقان للمرة الأولى، بعد عشق طويل، بعد عمر طويل، بعد زمن من التعوّد، بعد عقود. لم لا يناديها؟ ستقطع المسافات، تطوف في الأماكن، وتلبّي النداء. أين هو الآن؟ ومتى سيأتي؟ ألم يشتق لها؟ لعائدة؟ لماذا تشتاق إليه؟ كان المساء يقبل بهدوء، ويضفي الصمت على الأشياء. سارت بمحاذاة النهر. أطبقت ذراعيها تتأمل. كل شيء جميل. الماء. الطريق. الزوارق، والأشجار. شعرت بصفاء، وبأنها نقية وجميلة، وعاشقة. تلك اللحظات سيذكرها. سيفكّر بها. إنها تؤمن بذلك، وهي التي خطّت له رسائل حب، وشوق. سيأتي حاملاًً اللهفة والحنين، ويبعث فيها الأمل من جديد. قبل أن تعود. تنبّهت إلى أن الوقت قد طال، وأنها تجاهلت بعض الالتزامات الهامة. تذكّرت كولمان والانتخابات. تذكرت عائدة التي تنتظرها. شعرت بالخجل. أسرعت كطفلة، وخبأت أحلامها من جديد. نهضت هند على عجل. إنه يوم الانتخابات. أعطت تعليماتها في نقل وجبات الطعام، المعدّة لمواقع التجمّع. هتفت لعائدة، ولأبناء العمة وبعض الأصدقاء، وأسرعت تلبّي نداء الواجب. كان مكان التجمّع يغصّ بالناس. التقت كثيراً من معارفها، ومن الأصدقاء القدامى. كانت سعيدة وهي تكتشف مدى شعبية كولمان. منشرحة الصدر، ومع مظاهر الاطمئنان، كان الخوف يعبث بها، وأرجعت ذلك لدورة انتخابات سابقة، ولحرب شنّها خصومه. أما ابنته فقد استبشرت خيراً، عانقتها هند بشوق. كانت برفقة الخطيب، وكانا سيتزوّجان قريباً. عبّرا لهند عن رغبة في وجودها، فأصرّت على حضور حفل الزواج الذي أسعدها خبره كثيراً. كانت هند خلال ذلك منشغلة التفكير، فقد حضر الكثيرون، عدا أبناء العمة. تساءلت عائدة: - أنت منشغلة عليهم؟ - لست منشغلة..لكن! - ماذا يا هند؟ - ربما لموعد قطعوه لي، وربما لحدسي. - ماذا تقصدين؟ - أرجو خيراً! - أنت تحبين أبناء العمة! - هم أهلي. تعوّدت على وجودهم. انشغلت هند بالمنتخبين. بتوزيع ما تبقّى من مناشير. بالإشراف على وجبات الطعام. التفّ حولها العاملات، وابنة كولمان وخطيبها، وعائدة التي كانت تتحرّك بين الناس. تحادثهم. تستمع إلى آرائهم، وتعود حاملة أخبار الانتخابات. من علت أسهمه؟ من تراجعت؟ كانت أخبار كولمان تبشّر بنجاح ملحوظ. في ذلك الزحام. ظهر وجه ابن العمة الأصغر. كان ممتقعاً. عجولاً، وفي اللحظة التي التقت عينا هند بعينيه، تأكدت من أمر ما قد حدث. أجاب على تساؤلاتها على عجل، فجاد الصغير(والد لين) في المشفى. عرفت في الطريق كيف جرى الحادث، فقد انهمك منذ الصباح الباكر، بالاستعداد للانتخاب، ولأسباب تخصّ السائق الذي هو ابن عشيقته السابقة (روزا) والذي لم يستطع جاد الصغير تسديد أتعابه، فتخلّف عن موعده الصباحي، مما جعله يقود السيارة بنفسه، غير أن بصره الضعيف، إثر مرضه بالسكر، هيّأه للخروج عن الطريق العام، والاصطدام بجدار من إسمنت، فكان الحادث الذي أوقعه في غيبوبة. ما هذا العمر الذي يركض؟ ما هذه الحياة المليئة بالمفاجآت؟ كان قلب هند يرتعش، وهي تفكّر بلين، لقد هتف لها الأصغر، فوالدها في خطر الموت. تلك اللحظات الطويلة. كانت الذكريات تمر. بقسوتها وصقيعها. لماذا يمارس الإنسان سلطته دون رحمة؟ لقد دخلت المشافي مرّات ومرّات، إثر ضرب مبرح منه. كان يتفاخر بقوّته، وبيده التي أودت بحياة زنجي بضربة واحدة، وبقدرته على عراك أضخم حيوان. هذا هو جاد الصغير، الذي جلب الرعب لمشاغبي الليل، فتعمّ السكينة حيثما يكون. كان له جسد ضخم، وكتفان عريضتان، وكان جميل الوجه والابتسامة، واثقاً من قوّته وقدرته. جريئاً لا يهاب الموت. لا يعرف الهزيمة. كان أخوه جورج يروح ويجئ في ممر المشفى. مذهولاً. خائفاً، وآثار دموع فوق خدّيه. أشار برعب إلى الخطر الذي يهدّد أخاه، أما ابنته كاتي والتي غادرها مع أمها ليتزوّج من هند، فقد استفاق عندها شعور الطفلة، المحتاجة إلى أب لا يغيب. بكت بغزارة ذلك النهار، وخلال ساعات، غصّت قاعة الانتظار بالأصدقاء. كانت عائدة بين الحاضرين. حاولت نقل أخبار الانتخابات إلى هند، وكانت تلاحظ حزنها، ودموعها، وتستمع إلى أحاديثها، وتدرك أن من الصعب عليها التفكير بأن جاد الصغير سيغادر الحياة. إنه جزء من ارتباطاتها في توليدو، ومن وجودها. بموته ستفقد جزءاً هاماً من حياتها. تريده أن يبقى. أن يعيش، ويتابع، لأنها تريد أيضاً أن تعيش وتتابع، ولا تريد أن يتسرّب الحزن والألم إلى أهم ما في حياتها، إلى لين التي أحبّت أباها بصدق وإيمان. بقي جاد الصغير في غيبوبة، وحين حضرت لين مساء. كان وجهها ممتقعاً. لأول مرة لا تعانق أحداً. جلست على أحد المقاعد، وقد حضنت وجهها بكفّيها، وأخذت تبكي بغزارة. ما حدث في اليوم الثاني للانتخابات، أثار الضجّة في توليدو، التي تزداد نسبة العرب المقيمين فيها يوماً عن يوم، فقد نقلت نور إلى المشفى، إثر تعاطيها كمية كبيرة من الحبوب المهدئة. انهمك الأطباء بالإجراءات اللازمة، ووضعت تحت إشراف ومراقبة شديدتين، من قبل رجال الأمن والأطباء المشرفين، ريثما يتم التحقيق في أسباب الانتحار. وجدت جينا نفسها تندفع لملاحقة المجريات، فهي معنية بالأمر، فابناها جزء من ذلك البيت، الذي دب فيه الذعر صبيحة ذلك اليوم. كان الخوف يحملها لتطير إليهما. تحضنهما وترحل بهما، وتهرب ولاتعود، وفي غمرة الأحداث، وجدت نفسها تهرول إلى بيت كاظم، وتسأل عنهما. وجدتهما يبكيان. تسابقا لاحتضانها. عبّرا عن خوفهم على نور، وحبهما لها، فهي تحبهما، وترعاهما، وتحنو عليهما. بكت جينا معهما كما لم تبك قبلاً، وحين غادرتهما، كانت - ودون أن تدري- تتّجه إلى المشفى للسؤال عن صحة نور. وجدت هنداً وعائدة في صالة الانتظار. اندفعت تعانق عائدة للمرة الأولى بعد معرفتها. كانت اللهفة في عينيها، وحركتها. حدّثتها عن نور الطيبة، والتي تحتاج لإنقاذ سريع، وكانت متلهّفة لخبر عن صحّتها التي هي أهم ما تنتظره. أما عائدة التي أصغت بعمق، فقد كانت تفكر بنور التي هي جزء من الوطن، وأن ممارسة العنف عليها، يدعوها للاندفاع نحوها بكل ما تؤتى من عزم. شعرت برغبة في البكاء، فقد تذكّرت حياتها الأولى مع زوجها، مع اختلاف في الطريقة، فهل تمرّد نور يفسح الطريق أمامها لترسم حياتها من جديد؟ وكما تريد؟ لم تبارح جينا المشفى. تابعت التطوّرات. كيف أصبحت نور؟ وهل تعافت؟ ومتى ستخرج؟ وعزمت بينها وبين نفسها، أن تكون أول المحتفين بشفائها، وأنها ستقدّم خدماتها. ستفعل. لأنها تستطيع. ولأن عائدة أيضاً تستطيع. - ما رأيك يا عائدة؟ - يعود الرأي لنور! - نجرّب! لم يستطع كاظم خلال ذلك إخفاء توتّره. كان منكمشاً على نفسه. يسترق النظر إلى الوجوه العابرة بخوف وريبة، وحين وقع نظره على جينا أجفل، وتذكّر للحال وجود جاد الصغير. صحت نور ممتقعة الوجه. هزيلة. كان الخوف بعينيها. أين هي؟ من أين أتت؟ ماذا تفعل في المشفى؟ ثم. لماذا لم تمت؟ لماذا تبقى حيّة؟ أين أهلها؟ تريد أمها. أباها. هرعت الممرضة لتهدئتها، ونقلت التطوّرات إلى الخارج. تحسنت نور سريعاً، ولم يأت الصباح حتى تعافت، أما جاد الصغير فانتقل إلى مرحلة أسوأ من سابقتها. عمّ الأسى وجه أخويه، وحاولا إخفاء ذلك عن لين، كان لهند رأي آخر، فيجب نقلها إلى تطوّرات المرض خطوة خطوة، في حين لم تكن هي تصدّق أنه سيرحل، وتحاول أن تستشفّ الأمل في وجوه الأطباء. تبكي. تنهض إلى لين تعانقها. كانت تعلم أن الحزن سيهاجم ابنتها بقسوة. بقي جاد الصغير في غيبوبته إلى اليوم الثالث، وبقي الخوف يسيطر على الجميع. خاصة لين وكاتي اللتين أتاهما اعتقاد، أن أباهما لن يموت. كانتا تنتظران صحوته، ولم تستطيعا خلال ذلك إخفاء مشاعر الحب له. لم تفارق جينا عائدة. كانت تعتبرها القوة، وأكثر الجميع استطاعة على الوقوف في وجه الصعاب، بينما هند تراقب كل شيء، لكنها لم تستطع التكّهن بالآتي من الأحداث. اضطر جورجي وجمانا للإسراع بالزواج. تمّ ذلك بصمت ودون ضجّة، فحادثة جاد الصغير أعاقت الجميع عن اهتماماتهم، وقد تطول مدة مرضه، أو كما قال الأطباء، فالأمل ضعيف في شفائه، أو خروجه معافى، فقرّرا كسب الوقت. أما هند وليلى اللتان انتظرتا هذا اليوم طويلاً. فقد أخذتا وعداً بالاحتفال به في يوم آخر. لم يستطع جورجي وجمانا التعبير عن سعادتهما، أو العيش بها، فقد قضيا أول أيام الزواج في الحركة والعمل، يتذكّران حلمهما بهذا اللقاء ويضحكان، ويحاول جورجي المزاح، فهو رجل شرقي. همّه امتلاك المرأة، وحصل عليها، وهي الشرقية التي ستطيعه، وتلبي رغباته، فتشيح جمانا وجهها. كأن الأمر لايعنيها، أو أنها راضية، طالما يجمعهما الحب والتفاهم، فيتراجع. يضمّها إليه، ويقسم أنهما شريكان في جميع أمور الحياة. حدث هذا في اليوم الثاني للانتخابات. كان أمامهما عمل متواصل، وتوزيع الوقت، ما بين المشفى لزيارة جاد الصغير والاطمئنان على صحته، وبين الإشراف على ما يجري على ساحة الانتخابات، ونقل الصورة إلى هند. كانت جمانا تضحك، وتعلّق بأنه شهر عسل مميّز، فيهبّ جورجي مغتاظاً، لقد ذهبت خططه أدراج الريح. يصمت قليلاً، فيتذكّر أنه حقّق حلمه. يلوم نفسه. يشعر بسعادة ويعود ليهمس بالحب، ويعد بالتعويض، ويقسم أنه أسعد الناس، فهو إلى الآن لا يصدّق ما حصل، فتبدو ببراءتها طفلة تعد بالحب والأمل. في غمرة انشغالهما لم ينسيا آنا وأخاها، ووعدهما بزيارة خاصة. أتى الموعد مع ليلى منذ الصباح، وكان الجميع يستعد لهذا اللقاء، خاصّة آنا التي ما فتئت تختال زهواً، فلها أب يرعى أمورهاً، ولها أكثر من عمّة تهمّها مصالحها، وتعاملها بحب وحنان شديدين. في جو من الود والألفة. دارت أكثر المواضيع أهمّية. زواج الأم، وزواج جورجي الذي تمّ وانتهى الأمر. كانت آنا مندهشة، فهي لا تشعر بجديد طرأ على العلاقات ما بين أبيها وجمانا، أو بينها وبين جمانا، أو بينها وبين أبيها. كل شيء يسير كما كان. حضنها أبوها. حضنتها جمانا. لاشيء قد تغيّر. هذه جمانا التي تهتم بها، وهذا أبوها الذي يحبها، وخلال ذلك كان الأخ يراقب مايحدث، وربما قد أعجبته الفكرة. أن تكبر الأسرة، وأن يعيش الجميع في وئام. راح يبتسم وهو يراقب آنا وتطوّرات الحدث، ووقعه عليها، وكأنه أراد مزيداً من الثقة. اقترب من آنا، وهمس يسألها بصوت خافت: - هل حقاً تحبين جمانا يا آنا؟ - فهمت ما تقصد.. هي لم تأخذ أبي، وهو أيضاً لم يأخذها. سيعيشان معاً، وحين أغيب . سأعرف أن أبي ليس ضجراً، وأنا أحبها، وهي تحبّني، والتفتت تسأل جمانا ببراءة قائلة: - ألا تحبّينني يا جمانا؟ - جداً . ضحك الجميع . قالت ليلى: - نحن جميعاً نحبك يا آنا، ونحب أخاك أيضاً، وحين تكبرين ستعرفين مدى حب الجميع لك. تساءلت ببراءة، وكانت تسترق النظر إلى أخيها. قالت: - وأقاربي في سورية. هل يحبونني؟ ضحك الجميع.. - جداً حين همّوا بالمغادرة. عانقت آنا كلاً منهم. ودّعتهم إلى الخارج. كان أخوها مبتهجاً وهو يراقب لحظة المغادرة، غير أن جورجي الذي طفرت دمعته، والذي اطمأن إلى التزام الأم بالبيت والأسرة. كان يحلم لابنته بحياة مختلفة، وبقي صامتاً طوال الطريق. لم تغب تينا عن الساحة تلك الفترة. شاركت في الانتخابات، وقدّمت خدماتها إلى هند التي تشكّرتها بصدق، واطّلعت على حادثة نور، التي انتهى التحقيق فيها بعد اعترافها بمحاولة الانتحار. اغتنم كاظم حالة نور وهي تعترف بمحاولتها الانتحارية، والأسباب التي دعتها لطلب الموت. أصيبت بنوبة من بكاء وهي تسترجع الأحداث الماضية، فتنتقل من فكرة إلى فكرة، ومن حدث إلى حدث، إلى أن صرخت بكل ما أوتيت، بأنها تكره كاظماً، ولا تريد العيش معه. في أقواله. تحدّث كاظم عن نوبات من عصاب، تباغتها باستمرار، وعن حالات من هدوء تتذكّر فيها الموت، فتعدّد ببساطة طرق الانتحار. السم مثلاً. السقوط من عل. قطع شريان، وكان هو وأمه يستعدّان لكل طارئ. فهي شديدة الانطواء على نفسها. متخلّفة اجتماعياً. تهوى البيت، والمكوث ساعات طويلة في غرفتها، وكان عبر أحاديثه يستغلّ بساطة الشعب الأمريكي الذي يصدّق كل ما يقال. رفضت نور العودة مع كاظم، الذي أكثر من الملاطفة، وأكثرت هي من الرفض. كانت ترتجف خائفة، ولا تريد منه شيئاً. تريده أن يبتعد. أن يتركها وشأنها. لأنها تكرهه. تكره أمه. تكره العيش معه. تريد أمها. تريد أباها. تريد العودة إلى بلدها. أشار الطبيب المعالج، إلى وضع نور السيء، وحاجتها إلى مصحّ، فالبيت سيؤزّم الوضع، إلى جانب حالة من فقر الدم، والحاجة الماسّة إلى الرعاية. على اعتبار أن أمر الزوجة المريضة يهمّ الزوج، وسيتابع علاجها إلى النهاية. حملت تينا ما شاهدته، وخلال ساعات انتقل إلى الطلبة العرب، وتكفّلت الزميلات بتفاصيل الحادثة، وربما أضفن من المخيّلة. كان الحديث عن الغرباء، الدخلاء. الذين يتزوّجون منهن لغاية في نفوسهم، ثم يطلّقون. قد ينجبون وقد لا. في الحالتين هي ليست شريكة العمر، فشريكة العمر تنتظرهم في بلادهم الأم. هنالك تحفظ الزوجة شرف زوجها. تحفظ عاداته وتقاليده، فهي ملك له، لا تعرف التمرّد. تتقبّل العذاب، وتستسلم للطاعة. استمعت جينا إلى ما قيل، فهي معنيّة أيضاً، لكنّها لم تتزوّج من كاظم لغاية. تزوّجا لأن شيئاً قويّاً ربط بينهما. هل كانت تحبه؟ هل كان يحبّها؟ لا تذكر أ نّهما اجتمعا للقاء هام أو لحديث، أو ربط بينهما فكر أو رأي. التقيا لممارسة الجنس، ولأنه لا يريدها زوجة حقيقية، مارس عليها ساديّته، ففي أعماقه يرفضها كزوجة. يريدها عشيقة. ترضي غريزته. لم يحبّها. أحب جسدها ورفضها هي، واستطاع الاستغناء عنها ببساطة. ردّت تينا على الحديث الطويل قائلة: - تستحق نور ما حدث لها! - لم؟ - كيف تتزوّج منه، وهي لا تعرفه؟ وتابعت: - حين تزوّجت. كنت أحفظ كل ما سينمّ عن زوجي خلال حياتي، وأنني سأقود دفّة البيت، وخصوصيّاتي باستمرار. قالت جينا التي اشتاقت لابنيها: - لكن ! ما أجمل أن يتعاون الزوجان على أمور الحياة؟ - على العكس. يجب أن يرأس البيت سيّد واحد. ذلك يشبه ما يحدث لكل بلد في العالم. سيد واحد يرأس كل بلد. - ماذا تقصدين؟ - أقصد. أن على الجهة الأكثر ذكاء وحنكة وخبرة، استلام القيادة. - على حساب البيت والأبناء. كما حصل لي؟ - هذا ما أقصده! كنت الخاسرة في هذه الصفقة. لم تشأ جينا إطالة الحوار، كانت تراقبها بذهول. هذه هي تينا التي أعجبت بها في فترات سابقة، وهي التي تسرّ لها مكنونات قلبها، تينا التي لا تعترف بخيانة زوجها، وتعتبر علاقتها مع الرجل الثري، حقاً من حقوقها. ضحكت تينا وهي تصحّح أهم المعلومات قائلة: - لقد تركته! أنا اليوم في أوج حالات العشق! شاب مختلف، ويعرف معنى الحب! - ماذا قلت ياتينا؟ وزوجك المسكين. أقسم . لا يعرف امرأة بعدك! - قلت لك . هذه مشكلته. حين غادرتها. كانت نور لا تفارق ذاكرتها، كما لم تغب صورة عائدة عن عينيها. لماذا تشعر بالحب نحوهما؟ لماذا تكبران في أعماقها؟ كانت صورة ابنيها تلاحقها (نحبها يا أمي) وكانت صورة عائدة تلاحقها. بصدرها المفتوح للحياة، وهي تتابع الطريق دون شكوى أو ملل، وكانت ذلك المساء تبكي بغزارة، فقد تذكّرت أياماً ماضية، تلك الأيام التي تملّك بها الضياع، فباعت نفسها وجسدها، كانت امرأة تافهة، لم تكن أماً، أو إنساناً. كانت تشابه قطط الليل. بكت أكثر. تلك اللحظة، تراءت لها صورة عائدة، بابتسامتها العذبة. نهضت بقوة، وراحت تبحث عن لقاء بها . ضجّة حدثت في الوسط الشعبي، بنجاح الزنجي كولمان، كان معارضوه شديدي القسوة، فلم ينج من أقاويلهم، واعتبروا أن فترة غامضة في حياته، ستودي بوعوده إلى الجحيم، أو ستوقظ شذوذه الفطري. كانت ابنته تتحدّث عبر المذياع عن افتخارها به، وعن حلمها بعودة وضعه اللائق الذي استحقّه عن جدارة، وكانت تقدّم الشكر لكل من ساهم بالمساعدة، واعتبرت أن القسم الأكبر في هذه البلد قد توصّل إلى الحقيقة، التي هي أهم ما يجب أن يشغل الإنسانية جمعاء. لم يتسنّ لهند التعبير عن فرحتها، فقد تزامن ذلك مع موت جاد الصغير، الذي أيقظ الجانب المأساوي في حياتها، وسقطت في التساؤلات، فهل لو تغيّر نمط الحياة عند جاد الصغير، هل كان سيتغيّر نمط حياتها؟ لماذا تحزن عليه كوالد للين، وابن عمّة لها؟ لماذا لا تحزن عليه كزوجة عاشا في السرّاء والضرّاء؟ لماذا تخلّل حياتهما ما كان؟ لماذا استبدلها بالعابرات؟ وهل تزوّجت من أخيه لترد له الصفعات؟ هاهي تبكي من أعماقها. كان طيّباً بعد الطلاق، فيعلن في كل مناسبة أنه أحبّها دائماً. يثور إن لامها أحد. أو تحدّث عنها بالسوء.إنها ابنة خاله التي أحضرها صغيرة من البلاد. ربّاها على يديه. علّمها كيف تقوى وتعيش، فيعلو صوتها. اصمت يا جاد الصغير. سجنتني وضربتني، وقضمت أنفي، وأدخلتني المشافي. يضحك جاد الصغير، ومع هذا فهو يحبّها، وأنا لم أكرهك في يوم. كنت أبي وأخي، وجميع أقاربي، وأنت أكثر من نبذني وغادرني، وكنت راضياً بزواجي، لأنك لم تلمني. لم تحاسبني، ربما لأنني لم أخرج عن العائلة، ولم آت لابنتك بغريب. بلغ حزن لين أشدّه. بكت أباها طويلاً. تحضن كاتي وتبكي. تحضن عمّيها اللذين لم يعتقدا أن الموت سيقترب في يوم إلى أحد منهم. فهم لا يفترقون إلاّ في أوقات العمل. أما في أوقات الراحة فيلتفّون حول بعضهم بعضاً. فيظهرون بالتتابع . يصحبهم بعض الأصدقاء، فيبدون بتجمّعهم، وسني أعمارهم، حلقة رجال. وخط الشيب رؤوسهم. تهدّلت أكتافهم. يضحكون أو يتمازحون، وكانت هند تشاركهم في أكثر الجلسات. كيف سيتصرّفان بغياب جاد الصغير؟ ماذا سيفعلان؟ بكيا كثيراً، وحضنا ابنتيه، وكانا أكثر تهدّلا وألماً وأسى. في صالة الكنيسة، حيث وضع جاد الصغير، أياماً ثلاثة، وحيث تمّت الاستضافة على أكمل وجه. دار أكثر من حديث. كان أهمها ما دار في صفوف المنتخبين، من مؤيد ومعارض، وحين حضر كولمان بصحبة ابنته وخطيبها للتعزية. قدّم أسفه الشديد لحادثة الموت. تجمّع حوله كثيرون. هنئوه، وحاوروه في بعض المواضيع، وفي غمرة الحزن لم تستطع هند سوى التعبير عن سعادتها بنجاحه. عانقته، وأرادت التأسّف لانشغالها في أهم الأيام، فأقسم أنها عملت من أجله سنوات طويلة. أكّدت ابنته ذلك، وهمست في أذنها، بأنها تحبّها جداً، فطفرت دمعتها. كان كولمان بلونه الأسود، وعينيه البراقتين، وثيابه الداكنة، بقميصه الناصع البياض. نقياً جميلاً، وكان بابتسامته الثقة. يضفي على ما حوله الراحة والاطمئنان. في صباح باكر. كان نبيل وأبوه يحزمان أمتعتهما، ويتّجهان نحو مطار ديترويت. من شاهدهما، قال أن وجه الأب كان يطفح بشراً، وكان يحنو على ابنه، كهدية أتته من السماء، أو كأنه يعود به غانماً ظافراً. لم يكن آسفاً، أو إنه لم يظهر ذلك. لم يبد عليه الأسف، فهذه تجربة ابنه التي خرج منها في الوقت المناسب، أما نبيل فكان يواري خجله، فلا تلتقي عيناه بعيني أبيه، ربما كان يفكّر بأمه وأخوته، وبلده الذي يعود إليه خائباً. ربت الأب على كتفه أكثر من مرّة، وحين امتطيا السيارة. لم يلتفتا إلى الوراء. عادت ميكي إلى البيت . تنقّلت بين الغرف. ألقت نظرات باهتة. اعتصمت طويلاً وهي تستعيد أيامها مع نبيل. لأول مرة تشعر بالذنب. تحمّل نفسها فشله في الدراسة، وإدمانه. تذكّرت ساندي، وزاهي المتفوّق، فهل لإليزابيت علاقة بما وصل إليه من نجاح؟ لم تنتشلها تلك المقارنة ممّا هي به. كانت صور الأب تتتابع أمام عينيها، منذ مجيئه إلى يوم السفر. كم كان دوره صعباً؟ فهل لكل الآباء دور لا ينتهي كأبي نبيل؟ ألا يتحمّل الابن ذنوب أخطائه بعد أن يشبّ؟ لماذا غفر له؟ وكيف يسامحه؟ وهل لعبت ظروفه الاقتصادية الدور الأساسي، في انتشال ابنه من بؤرة الأحداث؟ لو اختلفت الأوضاع. هل أنقذت حياة نبيل؟ أسئلة لم تستطع ميكي الإجابة عليها. كان الحدث يكبر في أعماقها، ويتحوّل إلى إعجاب، فهذه الأيام القليلة علّمتها معنى الأبوّة، والترابط بين أفراد الأسرة، حتى الرمق الأخير. تذكّرت عائدة وأحاديث الأسرة والجذور، هنالك معان تفتقدها، معان سمعت عنها، أو قرأتها، أو شاهدتها في قصص السينما والتلفاز، معان تدخل حياتها للمرة الأولى، وتعطي لأيامها روحاً مختلفة. أشياء تجدّد تفكيرها، وتفسح المجال للخطوة والاستمرار، وراحت دون أن تدري، تستعيد دور خالد الذي بحث عن أخته، فالتقاها، وأقسم أن يعيد لها الحياة، وربما تفانت عائدة لإسعاد الأخ الذي يحلم لها بالاستمرار، ودون أن تدري. طافت هند في الذاكرة، ثم ليلى. إنهما أيضاً مختلفتان. ومع أن النساء الأمريكيات، والبارزات في أكثر من مجال، كثيرات، غير أن هنداً وليلى، استطاعتا شقّ حياتيهما ضمن ظروف، لا تفسح المجال لغير من يترك بصمته، عبر اجتهاد شخصيّ، وتصميم، ولابد من أن ذلك يعود لأصالة بهما، ولاستعداد فطري صقلته التربية، ونمّته الأصول. على خلاف تينا التي تجاهلت تفوّقها الدراسي، وشهادتها الجامعية، وسخّرت ذكاءها لتوافه الأمور، بحجّة الاستئثار بأكبر عدد من المحيط. أخيراً رحل نبيل، وترك في أعماقها ما يشبه الوجل، أمام كل ما كان، وأقسمت ذلك المساء، بأنها تحترم تلك الأسرة، التي تسنّى لها الاطلاع، على جزء من نمط حياتها، وشعرت نحوها بالتقدير، وأقسمت ثانية ألاّ تتزوج لمصلحة ما، بعد زواجها من نبيل. لم تتحدّث أمام زميلاتها بهواجسها. طوت صفحة من حياتها. كانت تعمل بصمت، وتراقب جينا التي انخرطت بمساعدة نور. تجاهلت انفعالاتها، واحتكاكها بعائدة، وخلال أيام استطاعت الابتسام ثانية، والتحدّث عن نبيل الذي رحل، واكتشافها بعد فوات الأوان مدى تعلّقها به، وكانت تتأسف في كل حديث لخسارته التي لا تعوّض. حضر زوج تينا ذلك المساء بصحبة الرجل الثري، وكانا غارقين في حوار طويل، أما هند التي فوجئت بوجودهما معاً، فلم تصدّق أن زوج تينا يجالس الرجل الذي جلب له الغيرة والأسى. فوجئت أيضاً بدعوتهما لها. اقتربت بذهول، وجلست بينهما لتكتشف من أحاديثهما، علاقة تينا الجديدة، حيث استبدلت الرجل الثري بشاب ربما كان أصغر منها بأعوام. استمعت إلى الحديث الذي طال، والذي أنهاه الزوج باتّهام الرجل بالتقصير. في حين لم تفارق هند الدهشة خلال ذلك. كان صادقاً وهو يكرّر الكلمات قائلاً: - أنت سبب ما حدث. أنت ضعيف أمامها. كان عليك ردعها بالقوّة، وتهديدها. - وبماذا أهدّدها؟ - لا أدري! أكرّر أنت السبب. كان باستطاعتك الحفاظ عليها. - لماذا لم تحافظ عليها أنت؟ - أنا الزوج.. ولست العشيق. عبرت جينا حديقة المصحّ، ونصب عينيها لقاء نور. كيف ستلقاها؟ بماذا تتحدّث إليها؟، فتخلق بينها وبين نفسها الحوار، وتعود ثانية للبداية. ستعرض صداقتها عليها، وحبها. ستقول لها بأنها أثبتت جدارة في متابعة العيش، بكرامة وصدق. لقد اختلفت عنها في مقاومة الخطأ. رفضت الذل. قالت لا. لم تساوم على حياتها. صرخت بأعلى صوتها، وجابهت الموت، وخرجت إلى الحياة. فوجئت جينا بابتسامة نور وهي تحادث الممرّضة. كانت تسألها المساعدة، وكانت هذه تنظر إليها بأسى، وتحاول تشجيعها في آن معاً. أشارت نور إلى إسوارة يدها، فربما تعينها ريثما تتّصل بأهلها. التفتت الممرضة إلى جينا المندهشة . قالت: - ستخرج خلال أيام .. إنها سليمة النفس والجسد. كان أهم ما شغل جينا ونور الحديث عن الطفلين. مرّ الوقت وكل منهما تستعيد علاقتها بهما، وكيف تعاملت معهما. ماذا قالا؟ وماذا فعلا؟ فتضحكان لفكرة أوموقف، أو من لغة نور الإنكليزية، والتي تعلّمتها في بلدها الأم، ولا تشبه الأمريكية كثيراً، وتعود نور فجأة للخوف من أيام قادمة، وتصرّ أنها لن تعود إلى كاظم، الذي أراد أن يبتدئ الحياة معها بالكذب، لقد زيّن لها كل شيء. حدّثها عن كل شيء، عدا ابنيه. حين تبنى الحياة الزوجية على أمر ما، مهما كان تافهاً أو صعباً، يصبح من السهل الاستمرار به. وهي لن تستسهل ذلك، أو تعتبره خطأ قابلاً للغفران. كان ذلك خطيئة في حق حياة، يجب أن تبنى على الصدق والثقة، أو تنهار أجمل علاقة كان يجب أن تتّصف بالإخلاص والتميّز. لم يسحب جينا من دهشتها سوى قدوم عائدة وهند، وفي اللحظة التي وقعت عيناها عليهما، سمعت كلمات تخصّها. كلمات موجّهة لها، وكيف لا؟ وهما تلقيان سلاماً عربياً، بلغة جميلة تحبّها، وانخرطت معهما بحديث مطوّل. من أين هما؟ ومنذ متى تعيشان في هذا البلد؟ وهل هما سعيدتان؟ هل أنجبتا؟ هل أحبتّا الغربة؟ كانت كل منهما تنظر إلى الأخرى. هل تحدّثانها أم تصمتان؟ كم كان شاقاً على كل منهما التذكّر أو الحديث؟ كم كان صعباً ما مر؟ لن تحدّثاها بشيء. لن تتذكّرا. لن تستعيدا. إنهما ولدتا من جديد. ولدا هكذا بلا أحقاد. لقد علّمتهما الحياة أن الإنسان يصنع قدره، أو يصنعه له الآخرون. لقد تغيّرت الحياة كثيراً. استطاعت نور أن تتمرّد وتصرخ. أن تقوم بفعل يثبت وجودها، كانت عائدة تتذكّر يوم راودتها فكرة الموت، فخافت أن يكتشف الزوج ذلك. تذكّرت وابتسمت، وكانت هند أيضاً تبتسم. لم تجد كل من هند وعائدة صعوبة، في إقناع نور بالإقامة عند إحداهما. أصرّت عائدة على المباشرة، وأن تكون في استضافتها هي. أبشرت نور، وكانت تهمّ بالذهاب، حين قالت فجأة: - وكاظم؟ هل سيسكت على ذلك؟ تدخّلت جينا بعصبية وهي تقول: - أنت في أمريكا..لا سلطة لزوج أو رجل عليك. كان على عائدة تقديم ما يثبت اصطحابها لها، وتقديم جميع العناوين والمستندات اللازمة. أسرعت هند إلى غرفة الإدارة، ولم يمض الوقت حتى تمّت الأمور كما أراد الجميع. أقسمت نور وهي تدخل بيت عائدة، أنها لم تشعر بالأمان كما شعرت تلك اللحظات. كانت الطمأنينة تعمّ الأجواء. كل شيء مرتّب وجميل. تلك اللمسات الهادئة. الستائر. اللوحات، وكانت الموسيقى العربية تنساب عذبة في أنحاء البيت. وكان باستطاعتها نسيان الأشهر الطويلة التي عاشتها في بيت كاظم. انخرطت جينا بالحركة. سألت عائدة عن طريقة صنع بعض المأكولات العربية، التي كانت تتذوّقها في مطعم بيروت. تداخلت الأصوات. هند وعائدة ونور. كل على طريقته، وكانت نور بين الفينة والفينة تتساءل عمّا سيحدث. كان الهاتف في بيت أهلها يعطي بعض الإشارات والرموز، التي تدلّ على عطل ما، فيطمئنها الجميع، فكل شيء سيكون على ما يرام. خلال ذلك، كانت هند وعائدة قد اتفقتا على إعلام السفارة في واشنطن. كان الهاتف مطوّلاً. حول وضع نور، وبعض التفاصيل المتعلّقة بحياتها خلال الأشهر الماضية، وريثما يتم إعلام أهلها في بلدتها اللبنانية، ستقيم عندها. أملت عائدة عنوان بيتها كاملاً. أكثر ما كان يسعد هنداً تلك الأيام، هو ذكرى خالد. هذا البيت الذي أغلق عن الحياة زمناً. دبّت الحياة فيه من جديد. دبّت الروح. هل سيصدّق ما حدث؟ ترى! أين هو الآن؟ ماذا يفعل؟ ومتى سيأتي؟ وهل سيفاجأ بالتطورات التي حدثت؟ هل سيصدّق ما حقّقته عائدة في غيابه؟ كانت هند تنتظر قدومه بفارغ الصبر. حضرا كعادتهما صباح كل أحد. جورج وأخوه الأصغر. كانا متهدّلي الأذرع. في وجهيهما حزن مشترك، أضفى على الملامح تشابهاً. جلسا متلاصقين، كطفلين هدّهما الحرمان. كأنهما يمارسان عقوبة ما، فهما وبعد موت جاد الصغير لا يفترقان. يتحرّكان وكأنه معهما. يذكرانه، فيبكي الأكبر. أما الأصغر الذي اعتنق المزاح، فقد تجاهل الابتسام، فيجلس صامتاً، غير أنه يطالب بوجبة سريعة من الطعام. أسرعت ميري تلبّي، بهدوئها المعهود. جلست هند بينهما صامتة. تحدّثا عن لين التي سافرت إلى لاس فيغاس، وعن ملاحظة الأصغر لحملها، ومتى ستلد؟ أما كاتي التي تعيش مع ابنتها، فهي في ضائقة وعليهما مدّ يد المساعدة. تطوّع جورج بالمبادرة، وتحدّث عن حياة تافهة لا تستحق ادخار المال، أما أفضل ما فعله جاد الصغير، فقد كان صرف أمواله قبل الموت. عاش كما يحلو له. دون تردّد أو حساب، وكان نصيب ميري من (البخشيش) ما أذهلها، على غير العادة، فكّرت هند وهي تحسب سنوات عمره، وما يملكه من أسهم وعقارات، ويده المقبوضة طوال عمر طويل، ومع هذا كان شعوراً جميلاً أن يعيشه، ويستمر فيه دون تراجع. حضر هانك ثم بيل. جلسا بينهم، ودار أكثر من حوار حول الحياة والموت، وانتقلا إلى نجاح كولمان، وهل سيكون على قدر المسؤولية؟ ثم تحدّثا عن نور، ولم يستطع الأصغر كبت رغبته في المزاح، فقال فجأة إن نور تذكّره بهند ومجيئها الأول. نهره أخوه تلك اللحظة فصمت. كان بيل يسترق النظر من هند، التي أطرقت، ولم تتفوّه بكلمة، على عكس ما كانت تفعله في السابق، وحلّ صمت قصير، عادوا ثانية لأحاديث الموت. كان هانك متأثراً، فعرض خدماته، فهو صديق قديم للعائلة. انبرى بيل مؤكّداً هو الأخر صداقته، التي سيحافظ عليها. كانت هند تستمع وتشعر بالامتنان لهما، فقد أكّدا عمق صداقتهما لها، وهما يمدّانها بالمساعدة. أما بيل الذي ذكّره حديث الموت بزوجته الراحلة، فقد انبرى يعدّ محاسنها، وعلى ذكر الموت حلّ على الجلسة نوع من الإجلال . ألحقه الأصغر بتنهيدة طويلة، وتأسّف، فهو أيضاً فقد زوجته التي انتحرت، بسبب عصاب ألم بها. رمقته هند . أبعد عينيه عنها، فهي أعلم الجميع بخصاله، التي أودت بها إلى الانتحار. أما جورج الذي ماتت زوجته تحت مبضع الجرّاحين، لأتفه الأسباب، فما زال يذكرها بالخير، لتميّزها بين النساء. قاطع الأصغر حديثه مؤكّداً بأن الجميع أموات، اليوم أو غداً، وأطبق على الجميع صمت. تململ بيل وكأنه تذكّر شيئاً. التفت إلى هانك وتعمّد البساطة في السؤال قائلاً: - ماذا قال طبيبك؟ هل سيجري لك العمل الجراحي؟ هزّ هانك رأسه، وقال: - وحدّد لي موعداً. تدخّلت هند التي اعتقدت بأن هانك متأثر بأحاديث الموت . قالت: - العمل بسيط. لا خطر فيه. لكنه سيتابع التدخين على ما يبدو. ضحك هانك. قال: - إنه صديقي. أحتاج إلى عمر آخر لنسيانه. كان الأصغر يلوك طرف السيجار، ويبتسم مستهزئاً، قال بطريقة لا تخلو من السخرية: - كلنا سنموت من هذا. وأشار بإصبعه إلى السيجار الذي بين شفتيه. نهضت هند تلك اللحظة، تعتذر عن متابعة الجلسة لأمر هام. سألها بيل قائلاً: - ما أخبار الحفل الذي ستقيمه الجالية العربية؟ - لم يعد بعيداً. كانت عائدة بانتظارها. ودّعتهم وخرجت. انتقل عمل ليلى إلى مطعم آخر أكبر مساحة، وأجمل موقعاً، فقد تكفّلت وارداتها خلال سنوات مضت، لتجعلها قي حالة من اليسر، وتعطيها فرصة لتوسيع عملها. كثرت مسؤولياتها، فلا تكاد تستيقظ في الصباح الباكر، حتى تتدفّق نشاطاً. كانت أحلامها تكبر، وآمالها تكبر، فهي تحب الحياة. تحب البذخ والسفر. تحب عملها وأسرتها، خاصّة جورجي الذي حقّق أمنيتها بزواجه، واستقراره، وتحوّلت جمانا إلى النبع المتدفّق جمالاً وعطاء، فأخذ البيت طابع الملجأ الذي يأوي إليه الجميع، في ساعات الفراغ أو العطل. يقيمون مآدب الفرح. يتسابقون إلى حيث ولد الحب واستمر. يكون جورجي في رحلة مع السعادة، وهو الذي لم يمرّ ببيته زائر أو ضيف. لقد تجدّدت حياته، هاهو يثبت وجوده بين إخوته والأصدقاء، فيتذكّر أمه وأباه واللاذقية، وساحة الشيخ ضاهر، ومنضدة الطعام التي لم تخل يوماً من الأصدقاء والمحبّين، فينتشي. يجب ألاّ يموت الآباء، كما لم يمت الأجداد. يحيون بنا، ونحيا بهم. نصبح أقوى، وأكثر قدرة على الحياة. نجحت ليلى في حياتها العملية، بعيداً عن الكسل والخمول. سخّرت قدراتها لتثبت وجودها بطريقة ما. وجدت أن العمل في المطاعم يعود بأكثره للنساء. النسبة الكبيرة من مالكي المطاعم، هن سيّدات. كانت العاملات ينظرن إليها، أحياناً بإعجاب وأحياناً بحسد، فتلومهن في أكثر من موقف. كان باستطاعتهن استقاء العلم، وتستشهد بالكثيرات من حولهن، فالجامعة في توليدو من أهم الجامعات في العالم، والعلم متاح للجميع، ومع هذا يتخرّج كل عام من الطلاّب الأجانب، وبتفوّق ملحوظ، نسبة كبيرة، وكم خضعت معهن للحوار، فالاعتقاد السائد بين الأكثرية، مادام التقاعد يسري على الجميع، فهم في بلد يحمي أبناءه، أما الذين ينهجون العلم والمعرفة، ويقضون الحياة لأجلها، فلا فضل لهم، لأنهم ولدوا ومعهم ميولهم، العلم يثبت في كل يوم جديداً. الجينات والوراثة، فتتذكّر أيام دراستها، وتفوّقها، تتذكّر جامعة تشرين، وانتسابها لكلّية الآداب، وتميّزها. لم تشأ الاستماع إلى نصائح هند. كان الحلم يكبر في عينيها، وكان البلد الأمريكي يكبر، وقرّرت السفر، وفوجئت هناك بأنها لن تستطع متابعة العلم. كان وضع هند آنذاك في أسوأ حالاته، إلى جانب وضعها مع جاد الصغير الذي ينذر بالطلاق. بكت كثيراً تلك الفترة . تمنّت العودة. لم تكن تملك نفقات السفر، ولم تستطع هند تقديم المساعدة. تلك الفترة تزوّجت من كارل. ثم طلّقت منه إثر إدمان كبير على المخدّرات. لا تحب ليلى تذكّر ما ليس جميلاً، فتنسى، وتغفر. ألم يكن أخوها مدمناً بطريقة أخرى؟ ألم يطعم تعبه وعرقه إلى الأحصنة وصالات القمار؟ لا تريد التفكير بما هو سيء! ستفكّر بكل جميل! غداً موعدها عند جمانا. سيكون الجميع هناك، هند وآنا، وربما عائدة ونور وجينا، وستستمع إلى أخيها يقسم، ويقول: - أعيش كأفضل الرجال ياأختاه! فيأتي صوت جمانا، وهي تعد مائدة الطعام: - لأنك أفضلهم يا جورجي! هل سيستمرّان؟ فكّرت ليلى! أجل سيستمرّان. استيقظ جورجي على الخبر الذي هزّه من الأعماق. لقد ماتت شيري، صديقة أحلامه، ورفيقة لياليه في النوادي والسباقات. كان يبكي كطفل صغير، فقد كان يعلم أنها ستنتحر في يوم، ستنهي عذاباتها. كانت تشكو له همومها، فهي تكره الرجال. تخاف منهم. كانت صورة والدها الشاذ تقتحم كل علاقة لها، وحين أحبّت شاباً، وكانت له حلم المستقبل، غادرها، فذكرى أيام المراهقة تلاحقها، وذكرى المصحّات وما أصابها من انهيارات عصبية ونفسية أيضاً تلاحقها. لقد تخطّت تلك المرحلة منذ سنوات، لكنها تعود بين الحين والحين، فتهرع إلى المهدّئات، أو احتساء الخمر، أو تتقوقع، فتهرب من كلمة مدح أو لمسة، أو ما له علاقة بالجنس، فتبكي. كانت الذكرى تؤلمها. تلك الصفعات التي تلقّتها منذ الطفولة، وصحت عليها مع الوعي، تركت في نفسها ووجدانها مزيداً من الألم، والرفض لكل ما له علاقة بالحب بكت جمانا مع جورجي، الذي راح يستعيد ذكرياته معها. ماذا قالت شيري؟ ماذا فعلت؟ وكم كانت رقيقة؟ لقد أنهت حياتها التي لم تحبّها قط، والتي هيّأتها لوضع حدّ للضياع، والتشتّت اللذين تغلغلا في كيانها. أما صديقتها السحاقية التي كانت تعيش معها، بسبب الاقتصاد والتوفير في المصاريف، فقد بكتها بمرارة، وأقسمت أن جسدها بقي في صومعة العزلة. لم تكن صديقتها هذه محبوبة من الآخرين. لكنّهم في هذا البلد كما في كل البلدان الأمريكية، يسألون عن العلاقات الأخرى، لا يهمّهم ما يتصرّفون به في حياتهم الخاصّة، بقدر ما يهمّهم تعاملهم مع الآخرين، فلكل حياته التي اختارها. لا تلاحقه الذنوب والخطيئة، في وقت تكشف فيه الخصوصيّات، وتعرف أعمال وتصرّفات كل فرد، غير أنهم وفي النهاية تعوّدوا قبول الآخر كما هو، فاستمعوا إلى أقوال صديقة شيري التي تلتها بصدق، وهي تسهب في مدح شيري الراحلة. كانت أم شيري صامتة، فهي التي حاربتها يوم اتهمت أباها للمرّة الأولى، وقست عليها، واتّهمتها بالجنون. كانت شيري في أثناء ذلك تبتعد عن ذكر أبيها، وتلقي التهم أمام الأطباء على زوج الأم. كان تحسّنها بطيئاً، واكتشف الأطباء أن الحلقة المفقودة، ما زالت في أعماق شيري، التي دهمتها نوبة من بكاء، وكانت تصرخ أن الفاعل هو أبوها وليس زوج الأم. بكت الأم يومذاك كثيراً، ومع اكتشاف الحقيقة، حنت على ابنتها، وغادرت الزوج إلى غير رجعة، لكن شيري لم تنس ما كان، ولم تنس أن الجرح الذي أدماها، كان من أقرب الناس إليها وأهمهم. تأسّفت تينا وهي تخرج من المأتم، وفي اللحظة التي تذكّرت وصلة عملها الجديد، تذكّرت أيضاً موعد الصلاة، وفي الكنيسة مارست طقوس العبادة الهامة، هجمت على المصلّين بالسلام، كما هجموا عليها، وراحت تؤنّب ربّها على أفعاله مع شيري التي لا تستحق العذاب، ثم غادرت مكان العبادة، واتّجهت إلى النادي الذي ستعمل به. كان نادياً خاصّاً بالنساء السحاقيات، سترقص هناك عارية، وهي التي حلمت براتب شهري يفوق، ما عرضه عليها الطبيب الشاذ، ويغنيها عن الأعمال الأخرى، كان الزوج خلال ذلك يقعي في الخارج بذل، وكان ينتظر انتهاء وصلة عملها، ليتأبط ذراعها بخنوع، فهو كما قال راض بالفتات، وكانت هي في أسعد حالاتها، فهو وفي أوقات الضيق، تقع على عاتقه مسؤولية الاهتمام بالأبناء، بتيو المتفوّق وإخوته. أما حين تريد لقاء أحد عشّاقها فلها أكثر من طريقة للتخلّص من الزوج الثقيل. منذ أن لفتت هند انتباه جينا، والأحلام تراودها. تلك اللحظات التي حملت لها التفاؤل، تدغدغ مشاعرها، وحلمها باستعادة ابنيها. حياتها الماضية حرمتها منهما، وباستطاعتها الآن، ومن خلال حياتها الحاضرة استعادتهما. الماضي والحاضر. الخطأ والصواب. يحقّ لها أن تحلم، ويحق لها ترجمة أحلامها إلى واقع، يحق لها استعادة ابنيها. لم لا؟ أليس القانون الأمريكي في مصلحة الأبناء؟ أليست الغاية تأمين الحياة المثلى لهم؟ وجلب الراحة إليهم؟ حين سلبوها ابنيها، بكت، وكانت تدرك أنها المخطئة، فقد ضبطها المسؤول عن شؤون الأطفال، أكثر من مرّة، وكانت مخمورة وفي حالة من سكر شديد، وفي أوضاع لا تليق بأم، وتحرمها حق ممارسة أمومتها. استغلّ كاظم تلك الفترة من حياتها، واستردّ ابنيه، فأمهما امرأة ملتوية بشهادة القانون والمجتمع. هذا القانون، من بين القوانين التي تحمي النظام الأمريكي، فتدرس الأوضاع، أوضاع الأم والأب، ضمن شروط مسؤول عنها الطرفان، يدرس الوضعان بدقّة ودون تحيّز، ويكون للأفضلية حق الرعاية، بدءاً من البيت وطابعه الأسري، والتدرّج إلى واقع أفضل، من يقدّم الرعاية بطريقة أنسب؟ من هو متفرّغ أكثر؟ في حين وفي الحالات العادية، لايحق للقانون أو للمجتمع التدخل، في شؤون الآخرين، فحرية المرأة تعادل حرية الرجل، وهما متساويان في الحقوق، حق التصرّف والقول والفعل. في حين سرت عملية قمع لتصرفات بنات الليل، اللواتي يبعن أجسادهن على الطرقات، وهنّ فقط اللواتي يطلق عليهن المجتمع صفة الساقطات. استردّ كاظم الطفلين ببساطة، وحقّ لجينا اللقاء بهما في عطلة نهاية الأسبوع، وقبلت الواقع على مضض. لأول مرة، ومنذ أن خرجت من حياة كاظم، تشعر بالتفاؤل. كانت عائدة تراقبها بود، وتستطيع دخول عالم أفكارها، فهي تحلم بالاستقرار، وتكريس حياتها للطفلين، وسيكون على الأب المساعدة كما ينصّ القانون. لكن . متى ستبادر بالفعل؟ وكيف ستبتدئ؟ كان عليها استشارة المحامي، وكان عليها أيضاً الالتزام والاستمرار. شغلها بناء بيت يحمل صفة الأسرة. حلمت بصديق يكون الزوج والصديق، استعادت صور رجال مرّوا في حياتها. لا.. إنها تريد رجلاً مختلفاً، قد تلقاه، وقد لا تجده أبداً، غير أنها وفي الحالتين ستختار الحياة مع ابنيها، ريثما يشبّان، ويصلان إلى بر الأمان. عادت كلمات هند ترنّ في سمعها: - حياتك الآن تبشّر باستعادة ابنيك . سقطت دمعتها. نهضت تبحث عن نور، التي ستحكي لها عن علاقتها بهما، وكيف كانا يعيشان؟ تذكّرت زميلتها ساندي التي تزوّجت قبل أيام من شاب ينتمي إلى الصين. يطمع بعمل يدرّ عليه أرباحاً، ويلزمه لذلك بطاقة إقامة، فوجد ذلك بالزواج من أمريكية، وكانت ساندي التي قالت : سيكون صفقة عمرها. قبضت مقدّماً مبلغاً هامّاً، وعاهدها بمنح راتب شهري لها ولابنها، إلى جانب المصاريف وما تنفقه خلال عامين قادمين، وقالت إنها رأت بعينيه رغبة قويّة لمعاشرتها كزوجة. كان هذا أكثر ما أسعدها، فذلك سيخوّلها ابتزازه بطريقة أفضل. تذكّرت جميع زميلاتها. تينا التي ترقص عارية أمام النساء السحاقيات. ميكي التي تحلم بقضاء يوم عابر وجميل. ساندي التي تخطّط لعامين قادمين برفقة الزوج الصيني. وكانت هي تفكّر بشيري وهي توارى التراب . رأت بعيني نور مزيداً من الحب، وكانت تستعد لمختلف الأحاديث التي ستجري بينهما. أتى هاتف من لين. يبشّر بيوم ولادتها، فقد حدّد الموعد، اليوم والتاريخ، ففي منتصف الشهر الحالي تلد ابنها . كان صوتها عذباً، وكانت مبتهجة بقدوم الأم، وأكّدت على العلاقة الجميلة التي تربطها مع بيرت، الذي ينتظر قدوم ابنه بفارغ الصبر، وأسهبت في الحديث عن تشوّقه لمزيد من الأبناء. كانت هند خلال ذلك تحسب الأيام العشرة المتبقية للسفر، والإحاطة بلين، وكانت سعيدة بخبر الولادة، ومرتبكة لما يحيط بها من مسؤوليات، أما عائدة التي شاركتها الفرح، فقد بسّطت لها الأمور، وراحت تصف شعورها، وكيف ستتابع التجربة بعيدة عن الاتّكالية، واعترفت لهند أنها تستمدّ القوة من وجودها، وستتكفّل هذه الأيام القليلة بمنحها مزيداً من الثقة، فمن الضروري لها أن تكون في قلب المسؤولية، وأن تصل إلى بر الأمان، وعاهدتها على التحرّر من شعور التبعية الذي يتسلّط عليها بين الحين والحين. أما مسؤوليات هند الأخرى فانحصر بعضها بالعمل، فتكفّلت العاملات وهانك بجلب الطمأنينة، خاصة ميري المتفرّغة، والتي لم يتغيّر نمط حياتها. كانت هند تشعر بالذنب أمام مرض هانك، وضرورة إجراء العمل الجراحي، فيضحك هذا ويتحدّث عمّا هو أهم من الجراحة، فالحركة والعمل يعطيانه الدفع والاستمرار، وينتقل إلى الحديث عن الموت كصديق حميم، وسيأتي للقاء أخير إن عاجلاً أم آجلاً، أما بيل الذي يساهم في ترتيب موعد مع الطبيب المختصّ بمساعدة ليندا وهند، فكان متلهّفاً ومتفائلاً بتخطّي المرحلة بسلام، وعودة عمل القلب أفضل ممّا كان. كانت أيضاً تفكّر بنور، ومسؤولية عائدة تجاهها، خاصّة وأن المسؤول في السفارة أشار إلى موعد قريب لحل لمشكلتها، وعليها الاستعداد بين ليلة وضحاها، للقاء الأهل، ربما يحدث هذا بهاتف ينتهي بوضع الترتيبات اللازمة. أشارت نور ذلك اليوم عن شوقها لأهلها وبلدها، وشعرت بالمقابل بذلك الشوق الذي سيربطها مع ذكرياتها الأخيرة، فهي لن تنسى وقوف عائدة وهند إلى جانبها، كما لن تنسى جينا التي أحبّت ابنيها بصدق. وجدت هند الفرصة للحديث عن توليدو، فهي بالنسبة إلى بقية المدن الأمريكية، كأصغر مدينة بالنسبة إلى بلادها، وأقل حظاً في مجال العمل، لكنها تفعل السحر في نفوس سكّانها، فحيث يذهبون يشعرون بالغربة، ويعودون بشوق، وتصبح توليدو أهم مدن أمريكا، وأكثرها حظّاً على الإطلاق. لقد مرّت الأيام بسرعة، هاهي عائدة تتحرّر من الجهل، وكولمان يفوز بلقب السيناتور، وجورجي يتزوّج، ونور تستعدّ للعودة إلى بلادها، ولين ستضع ابنها، وربما يفاجئها خالد بمجيئه كما قال. خالد الذي لم تنسه، ولا يفارق ذاكرتها. كانت عائدة تستعد للحفل السنوي الذي تقيمه الجالية العربية. تذكّرت هند أولى الحفلات، وكانت آنذاك في حالة يأس. هنالك التقت بكثيرين من أبناء الوطن الكبير، الذين سيصبحون أصدقاء لها، وهنالك أيضاً استمعت إلى معاناة كل منهم، كان أكثرهم يضع اللوم على ظروفه الاقتصادية، التي جعلته يقسو على نفسه، وينسى، وقسم آخر هوي العلم، فجدّ من أجل الوصول، فتفوّق وبرز وكان له شأن واسم بين علماء العالم أجمع. تمّ الاتفاق بين عائدة وهند، على ساعة الانطلاق إلى مقر الحفل، وكانت نور مبتهجة، أما جينا التي ستحضر للمرّة الأولى في حياتها، فقد كانت متهيّبة وسعيدة في آن معاً. حدثت الأمور بسرعة فائقة، وتمّت الأمور على أكمل وجه، ما بين السفارة والبلد المقيم فيها أهل نور، وحدث الاتّصال بينها وبين أهلها، وأثمرت الأحداث عن تحديد موعد السفر، وحجز على متن إحدى الطائرات وكانت نور ستنطلق خلال يومين إلى موطنها الأم. لم يصدّق أحد تلك السرعة في الإجراءات، كان الجميع يتعاون لحزم الحقائب. لم تكن نور تملك مالاً، غير أن عائدة وهند رغبتا في التسوّق وشراء بعض الهدايا، وشاركتهما جينا رغبتهما، وأقسم الجميع أن تحمل معها من توليدو، ما وعدت بها أصدقاءها، يوم جاءت عروساً إلى هذه البلاد. كان يوماً لا ينسى، فقد خرجت أكثر من سيارة إلى المطار. كان هانك وبيل، وميكي التي أشارت بأنها ستتابع رؤية آخر المشاهد مع نور، وكانت عائدة وهند، ورافقهم جورجي وجمانا، ولحقت بهم ليلى وديف. كان الجميع صامتين، وقد أحاطت بهم رهبة الوداع الأخير. حضنت نور جينا. بكت، وطالبتها بنقل أشواقها إلى الطفلين، وتمنّت ألاّ ينسياها، وأن تبقى في ذاكرتيهما، وكانت تتنقّل بين الجميع، تعانق كل واحد، وكانت تبكي بغزارة، وكأنها تبكي نفسها وما حدث معها، أو أن اللقاء مع أهلها الذين ينتظرونها، قد جدّد في أعماقها الحزن. كانت ميكي تراقب كل شيء. بكت أكثر من مرّة، وتقلّبت بين الإعجاب والدهشة أكثر من مرّة، تذكّرت نبيلاً وأباه، لكنها وأمام لحظات الوداع الأخير، بدت قطعة جامدة، تتحرّك باستسلام، وكأنها تنقاد إلى شيء لا تعرف موقعه، لكنها سترضخ إليه. لكن ماهو؟ وكيف سيكون؟ لم تكن ميكي تدري! حلّقت الطائرة، وعاد الجميع. كان الصمت يطغى على الوجوه. ابتسمت عائدة. أشارت إلى يوم قادم. سترحل فيه مع خالد، إلى حيث كان موعدهما، مع الوعد والأرض. كانت هند التي تنتظر مجيء خالد بفارغ الصبر، تفكّر بأشياء أخرى، فبقدر حبها لبلدها، ولعالمها الذي في الذاكرة، والذي يتدفّق حنيناً وجمالاً، والذي حوّلته الغربة إلى حلم وأمل. تشعر بالانشطار الذي رافقها سنوات طويلة، فقد تعوّدت على الحياة في أمريكا، أو أن أمريكا هي التي عوّدتها على نمط من حياة، خلقت منها إنساناً آخر، شبّهت جسدها لآلة لا تعرف الهدوء، أو السكينة، فهي تملك روحاً وجسداً، تلك الروح التي لم تستطع أمريكا التوصّل إليها، ولم تستطع أن تنتزع من أعماقها حبها وأحلامها التي نمت في الوطن، فهي تعيش الواقع والحلم معاً، وتعلم أنهما لن ينفصلا أبداً. تفرّق الجميع مساء. كانت ميكي تتّجه إلى أحد البارات، وهناك شربت حتى الثمالة، كانت تنقّل نظراتها بين الآخرين. هؤلاء الناس. كان من الممكن أن يولدوا في مكان آخر، فهل حدث هذا لصالحهم؟ لم تفكّر كثيراً. هذا قدرها الذي ستعيشه كما يعيشه الآخرون. عليها أن تبتهج وتنسى، وتتذكّر أن اليوم الجميل لا يتكرّر. ستعيش حياتها دون تفكير. كما تأتيها، وستستقبلها ببساطة. يكفيها أن تعانق ابنها مرّة في اليوم، وأن ترى عملاً يقضي على الفراغ والملل، وتنخرط مع الآخرين، تعيش اليوم كما يفرضه الظرف، وبما يحمل من مفاجآت. هزّت ميكي رأسها. لكنّها، ستحفظ في ذاكرتها ذلك الشعور الجميل. إعجابها بعائدة، ومن أحاط بها، ويبقى أبو نبيل خالداً في أعماقها، صورة جميلة لا تتبدّل. في الحفل السنوي الذي تقيمه الجالية العربية، وجد عدد كبير من مختلف الجنسيات، فصدى تلك الحفلات، ونجاحاتها السابقة، مهّد لحضور مميّز من بعض الصحفيين، والأصدقاء، والمستشرقين، وكان الدكتور ماجد وسامي وحسّان، وكانت إلى جانب هند، عائدة، وكانت جينا التي صرّحت بأنها المرّة الأولى التي تشارك بمناسبة كهذه، وهنالك في الصالة الكبيرة. كانت المأكولات العربية بأنواعها، والموسيقى العربية العذبة. رقص الجميع( الدبكة، والدلعونا) وأقيم مزاد صغير، على بعض أنواع من الزهور، خصّص ريعه لمساندة بعض الجهات، بالإضافة إلى نفقات الحفل الذي دعي إليه مطرب مشهور. كانت هند تفكّر بخالد، متى سيأتي؟ لماذا لم يأت؟ لقد طالت جولته. في هاتفه الأخير أخبرها أنه آت. قال كلمته وصمت. كانت خجلى من تكرار السؤال، فهي تجد له الأعذار، يتطلّب عمله مزيداً من التضحية، والمثابرة. في كل بلد يلقي المحاضرات، في الجامعات، أو بين الجالية العربية. يحدّثهم عن الوطن، وقضايا الوطن. يستعرض ما حدث وما يحدث. يذكّرهم بالواجب، والعمل، وضرورة التشبث بالأرض، والعودة إليها، وهي أولاً وأخيراً الأم التي لا بديل لها. ظهر وجه كولمان بين الجموع. أسرعت هند لملاقاته. كان يحمل باقة زهور من مختلف الأنواع. قدّمها باسم ابنته المنشغلة، فهي تستعد للاحتفال بزواجها. تلك اللحظة تذكّرت هانك، وتذكّرت أنه يستعد لإجراء العملية . رقصت هند كما فعلت عائدة، وكما أرادت جينا التي توصّلت إلى الخطوة بعد تعب شديد. غمرت الجميع سعادة. كانت حلقة الدبكة واسعة، وكان مشهد الأيادي المتشابكة يبعث الثقة والحب، وخلال وقت قصير، عمّت البهجة تلك النفوس، وكان أن أعلن عن بدء المزاد. كانت الوردة جميلة بألوانها وعبيرها، وكانت هند تستعد كعادتها لإطلاق أول رقم. تلك اللحظة. أتى صوت من بين الجموع، يردّد رقماً آخر. بحثت هند عن صاحب الصوت. كان بيل يبتسم لها، وعرفت أنهما سيتنازعان هذا المساء للاستحواذ على الوردة الجميلة. كان الغد يقترب، وموعد ولادة لين يقترب، ففي الغد ستحزم الحقائب، وترحل إليها. كان قلبها يزغرد من الفرح. كيف سيكون حفيدها؟ هل يشبه فالن؟ وكيف ستستقبله هذه؟ لقد اشتاقت إلى الجميع. ستضمّهم إليها، ويبتهجون معاً باستقبال الحفيد الجديد. سحبتها عائدة الجميلة من شرودها. عائدة التي التفّ حولها كثيرون. هل كانوا يسألونها عن تجربتها مع الحياة؟ مع العزلة؟ مع الانطلاق؟ مع . مع. كان في أعماق هند فرح لا حدود له. هاهي أخيراً تصل إلى لحظة أمل افتقدتها طويلاً. تصل إلى نقطة اعتقدت في يوم أنها بعيدة المنال. ألقت نظرة فيما حولها. تنهّدت. كل شيء جاهز. الحقيبة. بطاقة السفر. نظرت إلى الساعة.. بضع ساعات وتنطلق إلى المطار. رنّ الهاتف. أسرعت. أمسكت السمّاعة. أتاها صوت عائدة مستبشراً. شعرت بدوار. خالد آت. سيكون مساء في توليدو. وضعت السماعة. أغلقت باب غرفتها، وعم الصمت. تحدّثت العاملات عن مكوثها تلك الساعات في غرفتها. لم يكن يسمع صوت أو دبيب حركة. جلّل السكون كل شيء، وكنّ مستغربات، وهي تطالبهن بالهدوء والمغادرة. سيكون مساء في توليدو. يمكث أسبوعاً ويرحل. سيتسنّى لها رؤيته، ورؤية الحب في عينيه. سترى لهفته، ودهشته. ستستمع إلى حديثه. تشاهد صدى آماله، وأحلامه. تراه يقف بإجلال أمام عائدة، ثم يعود إليها. يحيطها بالشوق. يعلن عن اختياره، فهي اختياره، وهي أمله، وهو؟ لملمت دمعتها. إنه انتظارها الطويل. عمرها الذي ترقّب اللقاء. حلمت أن يعود. أن يأتي. يحملها ويطير. ستذهب معه. سيهمس لها بالشوق. ينقلها إلى عالم هو الحلم. ستقول أنها حلمت به، وأنها معه تولد وتتجدّد، وتكون الحبيبة، ويكون اللحظة والاستمرار. طرق الباب برويّة. أتاها صوت ميري. هل تريد شيئاً؟ صمتت... ستعانقه. تقبله، وبأصابعها تمسح جبينه. تمسّد شعره. ستقول له إنه الحياة والعمر، وإنه الأمنية والحلم. سيضمّها إليه. تضمّه. يبثّها شوقه. تبثّه. يتعانقان، ويقسمان، أنهما لن يتوقّفا، وأنّهما الوعد الذي قطع ذات صباح، ولن ينتهيا، ابتدأا ذات لقاء، وسيستمران. كانت ابتسامتها تعبق في أرجاء الغرفة. تعبر الأشياء. تتوضّع في كل مكان. النوافذ والزوايا والجدران. ابتسمت ثانية. خالد آت، ويجب الاحتفال بلقياه. طرق الباب .. لقد اقترب الموعد. انتفضت. نظرت إلى الساعة. أخذ قلبها بالخفقان. كانت السماء صافية، وثمّة نسمة تعبر الحديقة، محمّلة برائحة الورد. كان عصفور ينقر زجاج نافذتها، بينما يتسلّق سنجاب أشقر جذع الشجرة. كانت أوراق الدالية تعلن اقتراب المواعيد. نهضت بتثاقل. صوت عائدة. صوت لين. حبّها لخالد. حبها للين. كيف ستكون صورة حفيدها؟ اقتربت من باب الغرفة. أسندت رأسها، وبيدها فتحت الباب. طالعها وجه ميري، ثم هانك، ثم جينا. طالعها وجه ليلى وجمانا وجورجي. لم يجبها أحد على تساؤلاتها. كان في نظرات الجميع أكثر من حديث. تمتمت.. أين عائدة؟ - ذهبت تستقبل أخاها. صوت لين في أذنيها.. تأخرت يا أمي! وهي؟ وهو؟ هل تأخرا كثيراً؟ مشت بتثاقل، وفي الطائرة. داعبت أحفادها. أنشدت لهم. طيّارة طارت بالليل.. سقطت دمعتها. - ما اسم حفيدها؟ - ستناديه.. باسم ..خالد. سيرد النداء. لقد وعدها باللقاء. سيلتقيان. أجل سيلتقيان. أغمضت عينيها على صورة عذبة التقاطيع. ابتسمت، وغابت في رحلة من الذكريات. المصدر: شبكة ومنتديات صدى الحجاج |
||||||||||||
|
|||||||||||||
الموضوع الحالى: رواية - اول حب آخر حب / ماري شو -||- القسم الخاص بالموضوع: منتدى الصدى الثقافي -||- المصدر: شبكة ومنتديات صدى الحجاج -||- شبكة صدى الحجاج |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 15 ( الأعضاء 0 والزوار 15) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
رُقْيَةِ الْعَيْنِ | أم جود احمد | منتدى الرقيه الشرعيه من الكتاب والسنه | 2 | 23-03-2011 18:42 |
السِّحْرِ | أم جود احمد | منتدى الرقيه الشرعيه من الكتاب والسنه | 3 | 23-03-2011 18:35 |
عبدالله بن رواحة - يا نفس، الا تقتلي تموتي | م.محمود الحجاج | منتدى رجال حول الرسول | 1 | 16-11-2009 19:54 |
كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ( صحيح مسلم) | العربي بوعلام | الموسوعات الاسلاميه | 5 | 18-10-2009 16:29 |
ماري كوري | ريما الحندءة | المنتدى العام | 9 | 15-05-2008 19:03 |
|
عدد الزوار والضيوف المتواجدبن الان على الشبكة من الدول العربيه والاسلاميه والعالميه
انت الزائر رقم
كل ما يكتب في المنتديات لا يعبر بالضرورة عن رأي إدارة شبكة ومنتديات صدى الحجاج
شبكة ومنتديات صدى الحجاج لا تنتمي لاي حزب او جماعه او جهة او معتقد او فئه او
مؤسسة وانما تثمل المصداقيه والكلمه الحرة
...