ربما سيأتي اليوم الذي تصدّق فيه ما يقال - وقد ثبت في ثلاثة حروب على الاقل - بان مستقبل هذا الكيان قد انتهى فعلاً ، وبان هزيمتها لم تعد محل شك ، بل ان صمود عدة آلاف من المقاتلين في غزة ، وقبلها في لبنان ، بالقليل من الامكانيات ومع الكثير من التواطؤ والصمت ، كان يكفي لهزيمة جيش كبير ، هو رابع جيش في العالم ، وهو درس أدركته اسرائيل الان رغم كل محاولات الظهور بموقف «المنتصر» ، لكن الحقيقة ان ما تحقق من «انتصار» لم يكن الا في اطار القتل والتدمير ، وترسيخ فكرة «الحرب المجنونة» التي تعبر عن الهزيمة النفسية والوجودية ، اكثر مما تعبر عن هزيمة الخصم الذي ما زال يتمتع بأعلى مستوى من الصمود والعزّة والقدرة على الرفض والمقاومة.
لست مع الذين يذهبون بعيداً في جلد الذات ، او يدعون الى «نعي» الامة وغسل اليدين من نهضتها واستعادة عناصر قوتها ، فهؤلاء الذين يقاومون في غزة هم جزء عزيز من ابناء هذه الامة ، وهؤلاء الذين ما زالوا يهتفون بالشوارع ضد العدوان ، ويرفعون «غزة» شعاراً للصمود والعزّة هم ايضاً جزء من احرار هذه الامة ، ولا أبالغ اذا قلت بان ما صنعته «ملحمة» غزة لامتنا في الاسابيع الماضية يعادل ما صنعته نخبنا السياسية والفكرية على مدى عقود ، بل ويزيد ، وهو بذاته يطمئننا على ان القادم سيكون افضل ، وعلى ان المخاضات ستلد نظاماً سياسياً اكفأ وأقدر ، واجيالاً أوعى واكثر التزاماً وانحيازاً لقضايا امتنا.
ان دماء اكثر من الف شهيد ، وجراح اكثر من خمسة الاف مصاب ، ستؤسس - مهما بلغ اليأس بنا - لطاقة جديدة ، ولتحولات جديدة ولموازين عدالة وقصاص ، ربما لا ندركها وسط هذه الاحزان والآلام ومشاعر الغضب والضعف ، ولكنها - بالتأكيد - ستأتي.. وستغير الكثير من المعادلات التي ألفناها في العقود الماضية: معادلات الهزيمة والانتصار ، ومعادلات الخضوع والتحالف ، ومعادلات التسوية والمقاومة.