يا بيت جدي ، دماء زرقاء .

يا بيت جدي ، دماء زرقاء .

اعجبني فأخذته من حبطرش
دماء زرقاء "
بيت جدي..

ألملم شيئا عميقا في صدري .. عابرا تجاه الغرب ..
انها فلسطين الحلم ...
قبل اعوام ,كانت الصورة المعلقة بذاكرة لطفل طاغية الاحلام ..ولكن بتفاصيل حناء نقي ,,
شيء مذهل ان تستعيد ذلك المذاق .نفس المذاق .. ولكن برطوبة اكثر.
اتحدث هنا عن حكاية حجارة ..مجرد حجارة قديمة ...! ورحلة حيث هناك .
انثى حجرية تقف امامي ,,معلقة على جدار الذاكرة ..
وقفت امام الدار الكبيرة ,او " العلية " كما تسمى ,, وتأملت تأمل المدرك لما بعد الحلم ..
تفاصيل تأخذني للماضي ثم تغوص في أعماقي اكثر, جدلية تعبث مريرة بين المرسوم في وعورة الذاكرة وبين المتسمر امامي
حجارة ونوافذ وشرفات .. مشربيات.. وشجرة مجنونة تتسلق طابقين من الحجارة ..
انسخُ الحاضر بكل خطوطة لالصقةُ فوق الماضي حتى يمتزج الخيال , ويُخوض في حلم لمستقبل .ومن يدري ؟؟ قد لا اعود وقد لا اراها ..وقد اكون كهؤلاء الذين كانوا هنا وعبروا ..وايديهم مخضبة بحنائها العطر !!!
ياللخيال حين يجنح جنوحي ويفصل حكاية ما !!!
. هنا بشر مروا .. وما زالوا ,,, هنا كان الليل سرمديا .. والنهار مساحات طلقة . فخامة الماضي في قرية عاشت تحت ظلال العوز ,,و نقيضها في كل ما حولها .
اقف كطائر مهاجر عاد الى غصنه المكسور بعد غياب ..او كشرنقة خرجت لتوها تنفض الاجنحة وتستعد للطيران .. ..أتحسس المكان بهمس .. واعيد لبصر مرة ومرات ..
قالوا اني درجت هنا , وان صباي هنا ,, وكنت صبي ناحل العود ..واني سقطت هنا .وهناك . وقالوا اني كنت طفلا بجدائل طويلة ..!! وكأنهم يتحدثون عن الامس ..و عن صبي لا اعرفه .. "وعلى هذة الارض ما يستحق الحياة ". لانها الحياة ,
وقالوا اشياء كثيرة .. اشياء تمنيت للحظة ان استعيدها , فنفرت مني كالسهم الشارد .. لتعود تنهش ذاكرتي بطيئة كخيط النمل في صيف حار ق.
استلم لدرج الحجري لاصعد الى الشرفة الطويلة المزنرة بسياج حجري وقواوير الورد . الجوري هنا مشتت الالون .ولكن القرنفل يطغى .. ...
يتململ كياني قليلا .. ودوامة الماضي تجتاح النبضات المتسارعة ... والوجوه التى ادركت شيئا منها ترتسم على كل حجر ... والوجوه التي غابت قبل ان ارسمها في ذاكرتي تتقاطع بصمت مع رجع الذكريات ...
كل شيء في هذة الدارة حلم .. راق وعريق.. كل تفصيلة لها قصة وحكاية .
حكاية نسينا معظمها ..ولم نزل نردد دواليها ,,في حنين لشيء ما .. حنين لعهد كان خير لهم ..و طحن لرقاب الاخرين ,, .حنين لسياط يلهب الاجساد..وترضى به قانعة بمصيرها .
من على هذة الشرفة الرائعة يمتد البصر بعيداً الى كل القرية الكبيرة ,,
هذا صباح فنجان قهوة لا ينسى ..
صباح فلسطين .. قدس الاقداس .. ومنقع الدم .
صباح الخير يا بلدي ,, انا هنا عالي الهامة ,, انشر اذرعتي للشمس ,
صباح الخير يا اخت امي ..!!
ولعجوز واقفة تتفرس بوجهي بقساوة الاخاديد المحفورة على وجهها .. كاد السمع ان يختفي منها ولكن العيون الخضراء الجميلة تروي قصة اخرى ... الف قصة في كنانة القلب ..وفي كل تطريزة من ثوبها ..والف حكاية بكل عرق لم يزل ينبض ... او كاد .
كبر الصبي وطالت قامته .... هل تعرفيني اليوم ؟ هل اهمس لها بمن انا ؟؟؟!!!
وقفت العجوز .. دققت البصر ,, لمعت البوارق في جوف عيونها الخضراء ... ويالقلبي ...
انت ابن " س" ؟؟؟؟ وقبل ان اجيب رمت عكازتها اجتاحتني بيديها المرتجفة ... كدت اعُد دقات قلبها وهي تتنهد بألم موجع .. اذهلتني قوتها المفاجئة .. ودفنت راسي عند نحرها .. تتحدث لي او لنفسها ..او لكل الحياة ,," يااابيييييييي ع الدنيا يمه "".. يا غالي يا ابن الغالية ,,!! وفاضت انهار ..وانهار ..
في كل عناق هنالك عطر لنفس ؟؟ الا عناقها .. كان الدفء كله .. لحنين تعرى .. والوجع اليم ...
مزقتني العجوز ارباً متناثرة ,, وانا اسمع شهقتها الملتاعة بحسرة ,, تقطع قلبي من انين حنانها الدافق ,,فشددتها نفسي منهارا وامسكت برأسها اقبلة ,, اودع فيها شيء من حنين الغالية التي راحت ,,,, حنين اخت لاختها ,, شردتهم سنون الاحتلال ..وقسى عليهم زمنه الصعب ,,وتفرقت سُبل الدم الواحد . الدم التائه في كل فج عميق .. وضاعت اجيال ومن بعدهم اجيال .. تبحث عن بقايا عزيزة بين شقوق حجارة الدار .وفي فتات روحي ..والحلم لم يزل يعبر نهر الاردن كل صباح .
من هذة النوافذ الواسعة يدخل النور .. وقافلة حجيج ..
ومن هذة الابواب الكبيرة عبر الكثيرون .. وماتوا .. وبقيت ملامح منهم تتحدث عن طيب ومغفرة ورحمة ..تباعدت الخطوات ونسينا لهم الرحمة !
افرك عيوني ولا اصدق .. لم تزل الدارة كما هي مغروسة في ذاكرة الطفل الصغير .. كل التفاصيل التى اريدها موجودة .. وان غابت الوجوه ..
مداخل واسعة .. واعمدة مستديرة .. شرفة انيقة .. قوارير ورد .. مقابض الابواب .. تفاصيل الجدران .. الدارة تحفة فنية انتزعت من فم الجمال بالامس لا قبل خمسة وتسعين عاماً ...
الطقوس لم تتغير .. والاعتزاز بالارث متأصل في مجرى الدم ..والنكهة الارستقراطية تعبق بالمكان .. والدم الازرق يعرف كيف يثبُت في عاتيات الزمن ..والاوابد تحكي , وتروي ..
وللقلب هنا خفقة لا توصف .. هذه فلسطين يا فتى ,, الارض التى جُبلت في لون دمك . فلسطين التى زُرعت في صميم روحك بالنار والنوار . بالشجر والحجر .. بزهر اللوز والزعتر .. فلسطين العسل والكافور ... انت هنا ..في رحمها .تلامس عفتها ..تدنوا من طهرها ,,
فلسطين كلها هنا .. شجن يذيب لقلب وصباحات منسوجة من حرير العيون .
حين صعدت على الدرج الحجري المحاط بأكوام الورد ,والمتناغم مع اشجار التين والزيتون والبرتقال ,,, اشتد بصر العين ليحفظ كل جزئية في الذاكرة .كل التفاصيل يجب ان تكون حاضرة قوية , لا تنسى ..
هنا الماضي يقف على خاصرة الوجع الجميل .. يحكي عن القريب البعيد .. ويتحدث عن الطبقات الاجتماعية ..وعن فصول السنابل والحصاد .. عن قطعان الاغنام عائدة عند المغيب ..
" برجوازية مبكرة في عصر شد الحجارة على البطون الجائعة ..!!
اصعد السُلم المكلل بروائح نفذت من تحت ابوب الجنة لتسقط هنا ..على هذه العتبات ..
على اليمين هنا بهو النساء .. نسخة مكررة عن " بهو الرجال ...الذي يقابله .. حيث دخلت ...

اقف قليلا الف المكان بنظرة شاملة واتجه ناحية وسط الديوان .. لاجلس بثقة الواثق من نفسه ومن المكان .. عاد من جديد الدم الازرق يتدفق ..والعرق الدساس .شيء ما يحدث لخلايا الدم ,,..
اتأمل ...السجاد الثري .. على االارض ,, والمقاعد كبيرة الحجم , الفخامة طاغية .. والوسائد والستائر .. والنجفة الكبيرة التي تزين صحن الديوان .. لكل شي حكاية منسية ..
سيوف وخناجر وبنادق قديمة ,,صورة بالاسود والابيض للجد البرجوازي . صورة في القدس لثلة من الرجال .. شجرة عائلة مطرزة بالفضة .. قلادات ثمينة ,, اًيات قرأنية .. دلال قهوة نحاسية ..وثيقة تركية لاثبات وضع اجتماعي متميزاً .. شبكة من خيوط حريرية وبها عدد من بيض النعام ...!!!! """ وكرباج الباشا ""؟؟؟!!!
كل شيء يدل على اصالة عريقة .. كل شيء يدل ع عهد الاقطاع ... وعلى برجوازية عتيقة . افندية تامة ..
اتأمل صورة الجد الوقور .. اكاد اسمع حوافر حصانة تدق الارض .. يلوح في خيالي صورة الكرباج التركي .. وعهد الفرسان .. والسفر برلك ..
الان تأكدت ان في عروقي دماًء زرقاء !!!!
ما بين دمي لكادح الاحمر ,, ودمي البرجوازي الازرق .. معركة طاحنة تدور رحاها بشراسة في اوردتي ..
رحمك الله يا جدي .. ترى كم من الظهور الهبتها بسياطك العتيد ؟؟؟
لو ادركت زمنك الجميل .. لاعلنت عليك الكفاح المسلح وثورة بلشفية الحمراء ..
وثق انني كنت سانتصر ,,, وانك لن تمر الا على جسدي .. حتى لو طحنت اضلعي سنابك خيلك والهبت صدري لسعات كرباجك ..
كل ما يغفر لك عندي انك انهيت حياتك في الصف الاول .. بطريقة برجوزية مريحة ..
قالوا بانك ذهبت الى معركة عصيون وكنت في الصف الاول .. وقالوا بانك يوم الطعان كنت في الصف الاول ..وانك كنت واقفاً تردد في الصفوف " المنية ولا الدنية " وانك تلقيت الرصاص في الصدر .. وبقي ظهرك كجبال الخليل لا ينحني ..
كل الصفوف عادت ... ولم تعُد انت ..

المصدر: شبكة ومنتديات صدى الحجاج