الآثار الاقتصادية : علاوة إلى أن المدمن إنسان غير منتج، فإنه يلحق بمجتمعه خسارة كبرى في الانفاق على علاجه من الأمراض التي ينتجها الإدمان، وعلى إنشاء مصحات لعلاج آفة الإدمان بالذات، وعلى الأجهزة الأمنية المكلفة بمكافحة المخدرات وملاحقة الاتجار بها والمهربين لها. ثم إن أسعار المخدرات الباهظة تستنزف الدخل القومي لتجتمع في أيدي قلة من الناس تعمل لحساب جهات إجرامية من المافيا وسواها(3).
الآثار الصحية والنفسية:
لكل مخدر أثره الخاص على العضوية، ذكرناه في أول البحث وسنلخص هنا الآثار المدمرة التي تشترك بها كافة المخدرات " المكيفة "[1]
فالإدمان يؤدي إلى ضمور قشرة الدماغ التي تتحكم في التفكير والإدارة. وتؤكد الأبحاث الطبية (8).أن تعاطي المخدرات، ولو بدون إدمان، يؤدي إلى نقص في القدرات العقلية وإلى إصابة خلايا المخيخ بالضمور مما يخل بقدرة الشخص على الوقوف من غير ترنح.
أما انحلال نخاع القنطرة الوسطى عند المدمن فيؤدي إلى شلل النصف السفلي من الجسم. كما يصاب المدمن بنوبات من الهذيان والارتعاش وفقدان الوعي وتتليف كبده وتضخم طحاله كثيراً، ويصاب التهاب الأعصاب المتعددة، ومنها العصب البصري، المفضي إلى العمي وإلى التهاب مزمن في البلعوم والمرئ قد يفضيان إلى سرطان المرئ.
والقيء المتكرر، وفقدان الشهية يؤديان بالمدمن إلى الهزال الشديد، كما أن المخدرات تهيج الأغشية المخاطية للأمعاء والمعدة وإلى احتقانهما وتقرحاتهما.
وما ينجم عن ذلك من نوبات إسهال وإمساك وسوء هضم مع سوء امتصاص للغذاء يزيد الطين بلة .
وكل المخدرات، يدعي متعاطوها أنها مثيرة جنسياً وأنها تزيد في متعتهم غير أن الباحثين يؤكدون أن الإدمان في خاتمة المطاف يؤدي إلى العجز الجنسي والعنانة الكاملة عن الرجل وإلى البرود الجنسي عند المرأة .
من أبرز أضرار المخدرات النفسية الشعور بالاضطهاد والكآبة والتوتر العصبي النفسي وحدوث أهلاس سمعية وبصرية مثل سماع أصوات ورؤية أشياء لا وجود لها، وتخيلات قد تؤدي إلى الخوف فالجنون أو الانتحاء، كما يحدث اضطراب في تقدير الزمان والمكان مما ينتج عنه أحكام خاطئة، وضعف في التركيز. مما يقلل من تفاعل المدمن مع محيطه بحيث لا يسعده شيء سعادته بالحصول على المخدرات (7).
هل المخدرات مسكرة أم لا ؟
هناك صفات مشتركة بين الخمر والمخدرات، فكلاهما يحدث نشوة وطرباً بادئ ذي بدء، ثم إنها تشترك في تخدير العقل وإحداث فتور عام في البدن وما يتصل بذلك من الشعور بتخيلات فاسدة غير حقيقية قد يترتب عليها بعض الجنايات .
وقد اختلف الفقهاء (3)رحمهم الله، في تكييف هذه المخدرات، هل هي مواد مسكرة تلحق بالخمر أم هي مواد مخدرة قائمة بذاتها ولا تلحق المسكرات ؟ ولهم في ذلك قولان مشهوران:
القول الأول: أن هذه المواد مسكرة وهي ضرب من الخمر، ويجب أن يطبق على متناولها ما يطبق من أحكام على شارب الخمر لاشتراكهما في علة التحريم وهي الإسكار. ومن هؤلاء من يرى أن التخدير الذي يلحق بالأطراف والحواس وهي الإسكار. ومن هؤلاء من يرى أن التخدير الذي يلحق بالأطراف والحواس لمتناول هذه المواد هو من جملة آثارها السيئة التي تجعلها أكثر شراً وأعظم ضرراً من الخمر(10).
وممن قال بهذا الرأي الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام النووي وابن حزم. وابن حجر الهيثمي وابن عابدين في حاشيته. وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول في فتاويه "و أما الحشيشة الملعونة المسكرة فهي بمنزلة غيرها من المسكرات وهي من أعظم المنكرات وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه والمسكر شر منها من وجه آخر، فإنها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولاً، فهي تورث التخنيث والديوثة وتفسد المزاج ".
ويقول الإمام الزركشي في الحشيشة " والذي أجمع عليه الأطباء والعلماء بأحوال النبات بأنها مسكرة" .
أما الإمام ابن قيم الجوزية فيقول : " واللقمة الملعونة ـ الحشيش ـ لقمة الفسق التي تحرك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن فإن هذا كله خمر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح (كل مسكر خمر) وصح عن أصحابه، الذين هم أعلم الأمة بخطابه أن الخمر ما خامر العقل".
القول الثاني : أن هذه المواد مخدرة (مفترة ) وليس مسكرة وممن قال بهذا الرأي على المسكر يقتضي المغايرة وللمسكر حكمه وللمفتر حكمه(3).
أما الدكتور النسيمي (2) فيقول : " أن المفتر الذي ورد النهي عنه هو الذي يسبب النشوة الحادثة قبل عوارض السكر الواضحة، وهذا موجود في المسكرات وفي المخدرات المكيفة فيكون ذكر المفتر بعد المسكر من ذكر العام بعد الخاص.
ويضيف النسيمي " أن لبعض الأدوية النفسية فعلاً مرخياً للعضلات، وأن لأدوية الانحلال العصبي فعل مثبط للحركة، وأن المنومات تعطي كسلاً وميلاً للنوم، فتدخل بهذا العموم تحت اسم المفتر وتصبح بذلك محرمة لا يجوز تناولها إلا للضرورة ويقع حرج كبير للأطباء في مداواة الأمراض العصبية والنفسية، وأميل ـ والله أعلم ـ لعدم دخولهم في المفتر المنهي عنه لعدم وجود النشوة لدى تناولها " .
تحريم تعاطي المخدرات وأدلته :
ذهب فقهاء المذاهب الأربعة والظاهرية والإمامية إلى تحريم تعاطي المخدرات[ المكيفة ] قليلها وكثيرها لضررها وإفسادها العقل، وأجازوا تناول القليل النافع من أجل المداواة لا للهو لأن حرمتها ليست لعينها بل لضررها[2].
قال ابن عابدين في حاشيته :" وإلا فالحرمة عند قصد اللهو (المتعة واللذة ) ليست محل خلاف بل متفق عليها".
وقال ابن تيمية " هذه الحشيشة الملعونة حرام سواءً سكر بها أم لم يسكر".
فإذا تناول شخص من هذه المخدرات لغير قصد دوائي ضروري عوقب شرعاً العقوبة التعزيرية التي يراها القاضي محققة للزجر والردع. وقال ابن تيمية : " يجلد متعاطي الحشيشة كما يجلد شارب الخمر لأنها أخبت من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير الرجل في تخنث ودياثة، وكلاهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة" .
ومذهب الإمامية إلحاق الحشيشة بالمسكرات في وجوب الحد على متعاطيها .
والمختلف فيه حكم التداوي بها فيما لو أشار طبيب ذو مهارة في الطب وثقة في الدين بتناول قدر يسير من المخدرات بقصد العلاج:
فمن يرى أنها مسكرة ويعطيها حكم الخمر حرم التداوي بها، بهذا يقول ابن تيمية وابن القيم. كما أن ابن حجر الهيثمي(1)يقول : "وإذا ثبت أن هذه المخدرات مسكرة فاستعمالها كبيرة وفسق كالخمر، وكل ما جاء في وعيد شاربها يأتي في هذه المذكورات لاشتراكهما في إزالة العقلن المقصود للشارع بقاؤه لأنه آلة الفهم عن الله ورسوله والمتميز به الإنسان عن الحيوان".
وذهب أكثر الفقهاء إلى جواز التداوي بالمخدرات، وبالمقدار الدوائي اليسير الذي يحدده طبيب حاذق بدينه وأمانته، ومن هؤلاء الإمام النووي وابن عابدين والزركشي والقرافي والدسوقي والذي يرجحه النسيمي (2.3).
أما د. الطيار فيرجح حرمة تعاطي المخدرات من كل وجه، ملكها وشراؤها وبيعها والتداوي بها، إلا في حالات الضرورة وبالحدود الضيقة وبعد استفادة كل الوسائل المباحة.
أما المخدرات العامة الطبية(2).
فلا يلجأ إليها أصلاً إلا لضرورة طبية وللأعمال الجراحية حصراً، والضرورات تبيح المحظورات. وقد يلجأ إليها بدافع إجرامي فيكون الفعل والدافع محرمين. أما تعاطيها بغير مقصد طبي فذلك محرم قطعاً لأنها تغيب العقل والحواس ولا يستيقظ المخدر بها قبل إطراحها من الجسم.
أدلة التحريم :لا يوجد نص صريح في القرآن الكريم أو السنة المطهر على تحريم تعاطي المخدرات لأنها لم تكن معروفة في عصر التنزيل إنما جاءت الشريعة الغراء بنصوص عامة تبين للأمة المسلمة وإلى يوم القيامة، ما يضرها وما ينفعها ضمن قواعد ثابتة يؤيدها العقل والعلم.
1.تحريم الخبائث:
قال تعالى : (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)الأعراف 157.
فالقاعدة الكلية في الشريعة تحرم الخبائث وإباحة الطيبات، ولا يوجد عاقل يقول أن المخدرات من الطيب المباح لما لها من الأضرار الخطيرة التي لا تخفى على أحد، وقد حرمتها كل الأمم في قوانينها الوضعية. فهي قطعاً من الخبائث، وأي خبيث أعظم مما يفسد العقول التي جاءت الشريعة لحفظها.
2.تحريم المسكرات :
يستدل العلماء بنصوص تحريم الخمر على تحريم المخدرات، فالخمر هي ما خامر العقل، أي ستره وغطاه، وهذا المعنى موجود على أشده في المخدرات.
عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام" متفق عليه .
وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام "[3] .
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر "[4] . يقول ابن حجر العسقلاني في تفح الباري : " واستدل بمطلق قوله صلى الله عليه وسلم " كل مسكر حرام" على تحريم ما يسكر ولو لم يكن شراباً فيدخل في ذلك الحشيشة.
قال ابن حجر الهيثمي(1): وحكى القرافي وابن تيمية الاجتماع على تحريم الحشيشة قال ومن استحلها فقد كفر ". وقال الذهبي في كتابه الكبائر " وبكل حال فالحشيشة داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر المسكر لفظاً ومعنى " .
3.ذكرنا ما ثبت طبياً من أن المخدرات تؤدي إلى ضياع العقل والصحة وقد تؤدي إلى الهلاك والموت، ومن هذا يتبين أن تعاطي المخدرات اعتداء على الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة لحفظها قال تعالى : (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً) وقال أيضاً ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ضرر ولا ضرار "[5].
4.تعاطي المخدرات يصد عن ذكر اللهوعن الصلاة كالخمر تماماً بل هي أولى لأنها مع ستر العقل تورث الخدر والوهن والنحول والاستكانة والضعف، كما أنها تدفع متعاطيها لارتكاب الجرائم، لأنه يستميت للحصول عليها ولو اضطربت للنهب والسلب والقتل.
حكم زراعتها والاتجار بها: إن زراعة المخدرات والاتجار بها حرام مهما كانت الدوافع إلى ذلك لما فيها من الضرر الكبير على الفرع والمجتمع ومن تعاون على الإثم والعدوان ونشر الرذيلة وإشاعة الجريمة(3).
فقد صح في السنة تحريم بيع الخمر فيما رواه جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " رواه البخاري ومسلم .
وجاءت نصوص تؤكد أن ما حرم الله الانتفاع به حرم بيعه وأكل ثمنه. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها "رواه الشيخان.
وإن في زراعة المخدرات إعانة على المعصية بترويج المخدرات ونشرها في المجتمع وفيها رضاً من الزراع بتعاطي الناس لها والرضا بالمعصية معصية كما هو معلوم .
قال ابن قيم الجوزية (11) :" فأما تحريم بيع الخمر فيدخل فيه تحريم بيع كل مسكر، مائعاً كان أو جامداً.. واللقمة الملعونة ـ الحشيشة ـ فإن هذا كله خمر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجمال في متنه ".
مراجع البحث :
1.الإمام ابن حجر الهيثمي : عن كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر.
2. د. محمود ناظم النسيمي : " الطب النبوي والعلم الحديث" مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1991ز
3. د. عبد الله الطيار: " المخدرات في الفقه الإسلامي " مكتبة التوبة ـ الرياض 1993.
4.د. عبد اللطيف ياسين : " الضار والنافع وتأثير المخدرات والكحول والتدخين " مؤسسة الرسالة ودار المعاجم ـ دمشق ـ 1993.
5.الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي : " البداية والنهاية " مكتبة المعارف لبنان.
6.يوسف العريني : حجم المخدرات، مطابع الفرزدق، الرياض.
7.د. محمد إبراهيم الحسن: المخدرات والمواد المشابهة المسببة للإدمان ـ الرياض.
8.د. محمد علي البار : " المخدرات والخطر الداهم " دار القلم ـ بيروت 1988.
9.عبد الرحمن الجزيري : " الفقه على المذاهب الأربعة " .
10. أحمد علي طه الريان : " المخدرات بين الطب والفقه " دار الاعتصام .
11.الإمام ابن قيم الجوزية : " زاد المعاد من هدي خير العباد" .
12.العلامة محمد أمين بن عابدين وكتابه " حاشية ابن عابدين " مكتبة مصطفى الباني الحلبي ـ القاهرة .
13.مقالة بعنوان " الحشيش كمادة محتملة لإحداث تشوه الأجنة عند الإنسان" للدكتور Carakushanskyوزملاؤه مجلة " Lancet" العدد 1 لعام 1965.
[1]من أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب الزميل الدكتور محمد علي البار وعنوانه " المخدرات الخطر الداهم ".
[2]عن الموسوعة الفقهية الكويتية
[3]رواه أبو داود والنسائي وقال النووي : حديث حسن غريب.
[4]رواه أحمد وأبو داود وصححه السيوطي وقال المناوي عن الزين العراقي أن أسناده صحيح .
[5]رواه الدار قطني والحاكم والبيهقي وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم، وقال النووي : حديث حسن