المساواة بين المسلمين وغير المسلمين
في القضاء وسار المعاملات
أقام الإسلام المساواة بين المسلمين وغير المسلمين
في القضاء وفي سائر المعاملات
وقد سجل التاريخ نماذج رائدة لهذه المعاملات
التي تعتبر قمة ما وصلت إليه المعاملات الإنسانية العادلة
في تاريخ البشرية جمعاء.
فعندما شكا رجل من اليهود علي بن أبي طالب
للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال عمر لعلي: قم يا أبا الحسن فاجلس بجوار خصمك
فقام علي وجلس بجواره
ولكن بدت على وجهه علامة التأثر
فبعد أن انتهى الفصل في القضية
قال لعلي: أكرهت يا علي أن نسوي بينك وبين خصمك
في مجلس القضاء؟
قال: لا، ولكني تألمت لأنك ناديتني بكنيتي فلم تسو بيننا
ففي الكنية تعظيم، فخشيت أن يظن اليهود
أن العدل ضاع بين المسلمين.
وتتابعت وصايا رسول الله
بأهل الذمة والمعاهدين حيث قال
:
"من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة
وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما
" فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج12 ص259
ومعنى "لم يرح رائحة الجنة": لم يشمها.
وقال
:
"ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته
أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس
فأنا حجيجه يوم القيامة"
سنن أبي داود، ج3 ص437، سنن البهيقي، ج9 ص205
ومما يدل على المساواة بين المسلمين
وغيرهم في القضاء، وعلى انتشار الإسلام بسماحته
وحسن معاملة المسلمين لغير المسلمين
: هذه الواقعة التي حدثت بين الإمام علي بن أبي طالب
وبين رجل من أهل الكتاب
، وذلك عندما فقد الإمام علي رضي الله عنه درعه
، ثم وجدها عند هذا الرجل الكتابي
فجاء به إلى القاضي شريح قائلاً:
إنها درعي ولم أبع ولم أهب
فسأل القاضي شريح الرجل الكتابي قائلاً:
(ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟).
فقال الرجل: ما الدرع إلا درعي
وما أمير المؤمنين عندي بكاذب
فالتفت القاضي شريح إلى الإمام علي رضي الله عنه يسأله: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟
فضحك علي وقال: أصاب شريح ما لي بينة
فقضى بالدرع للرجل، وأخذها ومشى
وأمير المؤمنين ينظر إليه
إلا أن الرجل لم يخط خطوات حتى عاد يقول:
أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء
.. أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقضي عليه؟
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين
انبعث الجيش وأنت منطلق إلى صفين
فخرجت من بعيرك الأورق
فقال الإمام علي رضي الله عنه:
"أما إذ أسلمت فهي لك".
وهكذا نرى كيف وصلت سماحة الإسلام إلى هذا المدى
الذي يقف فيه أمير المؤمنين نفسه أمام القاضي
مع رجل من أهل الكتاب
ومع أن أمير المؤمنين على حق
فإن القاضي طالبه بالبينة
وهذا أمر جعل أمير المؤمنين يضحك؛ لأنه على حق، وليس معه بينة
وواضح أنه المدعي، والبينة على المدعي
واليمين على من أنكر
ثم تكون النهاية: أن يحكم القاضي للرجل بالظاهر
حيث لم تظهر البينة .. إن هذه المعاملة السمحة
التي لا يفرق فيها بين أمير وواحد من الرعية
من أهل الكتاب جعلت الرجل يفكر في هذا الدين
ويتملكه الإعجاب بهذا الدين
الذي يقف فيه أمير المؤمنين أمام قاضيه
ويحكم قاضيه عليه لا له، بظاهر ما أمامه وإن كان ذلك خلاف الواقع
فأنطلق الله الرجلان يقول: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء
وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
ويعترف ويقر بالحقيقة قائلا: الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، انبعث الجيش
وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق
ولكنه قد اعترف وأحب الإسلام ودخل فيه
مما جعل أمير المؤمنين يتنازل عن الدرع للرجل قائلاً:
(أما إذ أسلمت فهي لك).
إنها صورة من صور القضاء في قمة عدالته
حيث يسوي بين هذا الرجل وبين أمير المؤمنين
وصورة سماحة الإسلام في ذروتها
حيث كان الحكم بالظاهر وعلى أمير المؤمنين لا له
، إن مثل هذه المعاملة السمحة مع غير المسلمين
هي التي قربت الإسلام إلى الناس
وجعلتهم يدخلون في دين الله أفواجاً.
أما صور التعصب الممقوت التي يساء فيها إلى الإسلام
فإنها لا تدفع الناس إلى الدخول فيه
بل تدفعهم إلى النفور منه.
ومن أجل هذا كان القرآن الكريم يجلي هذه الحقيقة:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ
لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
(سورة البقرة الآية 256)
وأيضاً لا حرج فيه ولا مشقة:
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ
وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ
وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ
هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
(سورة الحج الآية 78)
إنه دعوة إلى اليسر والتسامح لا إلى العسر والغلظة:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
(سورة البقرة الآية 185)
سماحة الإسلام مع غير المسلمين
كما راعى الإسلام السماحة والمساواة بين المسلمين
وغيرهم في القضاء، فإنه راعى السماحة
في معاملة المسلمين لغيرهم:
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
(سورة الممتحنة الآية 8)
بل قرر الإسلام حماية أهل الذمة والمستأمنين
ماداموا في دار الإسلام
وهذا الحق الذي قرره الإسلام لحمايتهم
يجب أن يعمل به أهل الأديان الأخرى
في معاملة الأقليات الإسلامية حماية لهم
وتمكيناً لعبادتهم حتى يتم التعاون بين عنصري الأمة
ولننظر كيف أكد الإسلام على حقوق
أهل الكتاب والمعاهدين، قال رسول الله
:
ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته
أو أخذ شيئاً بغير طيب نفس
فأنا حجيجه يوم القيامة
" سنن أبي داود، ج3 ص437، البهيقي، ج9 ص205
ومن وصايا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
"أوصيكم بذمة الله، فإنه ذمة نبيكم ورزق عيالكم"
وإرساء لأسس التعاون والتواصل بين عنصري الأمة
أحل الله طعامهم فقال:
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ
حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
(سورة المائدة الآية 5)
وشرع الزواج بالمرأة الكتابية، ولا رابطة في الظواهر الاجتماعية أقوى من ذلك
قال تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُواْ الْكِتَابَ }
(سورة المائدة الآية 5)
وإذا كان التسامح وحسن المعاملة وعدم التعصب
أموراً مطلوبة من المسلمين في معاملتهم
مع غير المسلمين
فإنها كذلك مطلوبة من غير المسلمين مع المسلمين
حتى تتم معاملة كل طرف للآخر
في دائرة التعاون والتضامن، فلا يسئ أحدهم إلى الآخر
بل يتعاملون بروح الفريق الواحد في الوطن الواحد.
وإن سر انتشار الإسلام، واعتناق الناس له
ودخولهم في دين الله أفواجاً، هو منهاجه الرباني
الذي أنزله رب العزة سبحانه وتعالى على رسوله
صلوات الله وسلامه عليه هذا المنهاج
الذي أمر الله تعالى فيه بالدعوة بالحكمة
والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن
إنه منهج دعوة، وليس إكراهاً ولا تشدداً ولا عنفاً
قال الله تعالى:
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
(سورة النحل الآية 125)
وقال سبحانه لموسى وهارون
حين بعثهما إلى فرعون الذي ادعى الألوهية:
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }
(سورة طه الآية 44)
وعندما خافا أن يبطش بهما بين الله تعالى
أنه معهما يسمع ويرى ويؤيدهما في دعوتهما
فالله سبحانه يؤيد كل داع يستجيب لمنهاجه
ويدعو بالقول اللين الذي لا ينفر
فقال تعالى ردا عليهما:
{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }
(سورة طه الآية 46)
وقاوم الإسلام العصبية، ودعا إلى التسامح، ففي الحديث:
"ليس منا من دعا إلى عصبية"
