رد: كم مضى من عمرك
لما سكن الليل ورقدت الحياة وأرخت أسدال جفونها على الأرجاء وانطفأت السرج في المنازل ولم يبق من الأنوار إلا لمعات النجوم المتناجية والشهب المترامية وأشعة القمر المنسكبة على هدوء السحر وأرواح ندمائه وخلانه. كانت العادة أن أخرج كل ليلة وقت الهزيع لأغتسل بماء السحر وسكون الزمن فلا لسان ينطق سوى لسان الطبيعة ولا صوت يهتف إلا صوت الحكمة ولا فكرة تعلو على فكرة التأمل والتمرد عن قيود النفس وأغلال الروح فأجد الحجى منفلتا من عقاله والقلب متزحزحا من مكانه, فأرسل النظر إلى تلك الروابي والمروج المطرزة بألوان الزهور الضاحكة والخضرة اليانعة, فتلامس تلك الألوان وهاتيك الخضرة آمال قلبي وحنينه فيشرب من خمرتها حتى يرتوي ولا يرتوي أبدا.
وأميل بعيني وقلبي إلى النهر الكبير فأعانقه وأنساب معه وقد سكرت نفسي من تلك الخمرة السماوية فأجاريه في أحاديثه وهواجسه ويسارني بأخبار محبوباته اللواتي يغشين سواقيه بوجوههن الجميلة, وعيونهن الوسيعة, وأرواحهن المكسوة بفتنة الشبيبة وغنج الأنوثة,ويحدثني عن آمالهن وآلامهن ورغائبهن وأشجانهن فلا يزال بي حتى يبثني كل ما أحصاه من كلامهن.
وبعد ساعة من الأحاديث والتذكارات أفارقه وأرمي بالنظر إلى العالم العلوي إلى الغيب بقدسيته فتتصاعد أشباح الرهبة مسرعة من أعماق نفسي وتتجمع في داخلي معاني متفرقة وتنتشر أشجان مطوية, ويحملني الوجدان من مكان إلى مكان وتطوف بي الأخيلة في المحيطات وتطير بي الأماني إلى أقطار السماوات, فإذا أنا أجوس خلال ديار المجهول بين الحقيقة والخيال وأقطع مفاوز الغيب بين لهيب الظن ولذاذات اليقين,يحدوني شوق يحدوه شوق يحدوه شوق, …
ثم أرجع بصري إلى نفسي هذه الجائعة المستعطية هذه المانعة الراتعة في مراعي الغفلة ومفازات الحيرة, كم سقتني هذه التي بين جنبي الكأس العلقمية وأوردتني الردى بسن ضاحكة وكم أدخلتني لجج الآلام والأحزان وغلقت علي أبوابها وقالت هيت لك, وما تعلم الشقية البئيسة أن هلاكي هو عين هلاكها وسقمي هو ذات سقمها وذنوبي لن يحملها أحد سواها, فعلام هذا الشقاق وفيم ذاك الخصام ؟؟
ثم أنظر في هذا الجسد فيتمثل أمامي تاريخه وماضيه قبل اجتماعه في هذه الهيئة واتساقه على تلك الصفة فأراه ذرات جامدة منتثرة في الكون فإذا هي بسر ’كن’ تداعت من الأطراف و العناصر والأنواع و دخلت في نظام دقيق وقانون وثيق وتحزبت فتلاحمت بتقديرعجيب فصارت نطفة وسلكت طريقا متسلسلا إلى عالم المواليد.
وأبيت أناجي الليل وأغتسل من روحه الدافئة وأغازل أجفانه الناعسة حتى تمحي حلكته أنوار الفجر ويرج صوت الأذان العذب الأجواء
|