رد: "مرج الزّهور".. وحكاية الوعد المنقوش
بعدان من مرج الزهور يرويان لـ «السبيل» ذكرياتهما مع الشهيد الرنتيسي
فلسطين المحتلة (نابلس)
كشف الدكتور عزيز دويك – والذي كان ينام في ذات خيمة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في معسكر مرج الزهور- عن سرٍ قال إن الكثيرين لا يعرفونه وهو محاولة اغتيال تعرض لها الرنتيسي خلال وجوده في مرج الزهور.
وقال الدكتور دويك في تصريحات خاصة « كانت أول محاولة لاغتياله في مرج الزهور في خيمة الإعلام في اليوم الأول من شهر رمضان، يومها حضر شخص يتحدث العربية ادعى بأنه مترجم لصحفي ياباني دخل الخيمة وترك حقيبة فيها قنبلة موقوتة».
وأضاف: «انفجرت هذه القنبلة مع أذان المغرب بالضبط وأحرقت الخيمة بأكملها، ومن رحمة الله بنا أن الجميع كانوا على مائدة الإفطار، وقد سمع الجميع صوت الانفجار وهبوا لإطفاء الحريق، وحاولوا البحث عن الصحفي ورفيقه فلم يجدوا لهم آثاراً».
يقول أحمد الحاج علي -أحد ابرز قيادات حركة حماس في الضفة الغربية وأحد رفقاء الدكتور الرنتيسي في مرج الزهور- سمعت عن أبي محمد قبل مرج الزهور، فتعلقت به وتمنيت من الله أن أقابله، وهذا ما تحقق بالفعل عندما أبعدت قوات الاحتلال قيادات الحركة من الأراضي المحتلة إلى جنوب لبنان فالتقيت به في مخيم «مرج الزهور» وهناك بدت لي شخصيته بشكل أوضح، ورحت اكتشف جوانبها، وكانت قدرته على القيادة ظاهرة للجميع.
وأضاف الحاج علي: «اتفق المبعدون على اختيار مجموعة تقود المعسكر وتدير شؤونه، ولأن حماس تؤمن بالشورى فقد أجرينا فيما بيننا انتخابات، لاختيار 25 شخصاً يديرون شؤوننا من كافة النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية حاز فيها الدكتور الرنتيسي على ثقة كاملة من إخوانه، حيث امتاز بمجموعة من الصفات التي تؤهله لذلك.
صفات شهيدنا
ويستطرد الحاج علي معدداً صفات الشهيد الرنتيسي بالقول: «كان لماحاً وشديد الذكاء، وإذا آمن بفكرة يدافع عنها بكل قوته، ومع هذا فهو يلتزم بما يجمع عليه الآخرون، ولا يتزمت برأيه لكنه يتعصب للحق سواء لرأيه أو رأي إخوانه.
وتابع: «إنه ذو عقلية منفتحة، وبديهة حاضرة، لديه عمق في التفكير، يدرك تماماً ما يقال حوله، ويملك القدرة الهائلة على إقناع المستمعين بفكرته، كما أنه بعيد النظر يمتاز بالصبر والهدوء والانضباط، شخصية تتدفق حيوية منقطعة النظير.. مهما ذكرنا من صفات فلن نوفي أبا محمد حقه.. عليه رحمة الله».
ومنذ ذلك اليوم بات الرنتيسي مكلفاً بمخاطبة العالم الخارجي ومسئولاً للجنة الإعلامية، فاستحق بجدارة أن يكون الناطق الرسمي باسم حركة حماس.
ويشير رفيق الشهيد إلى أن الدكتور عبد العزيز كان يستقبل يومياً في خيمته عشرات الوفود الصحفية من كافة أنحاء العالم ولا يكل أو يمل ولديه القدرة أن يتحدث مع كل وفد بما ينسجم مع أفكاره وآرائه، وكأنه يضع أمامه خريطة العالم الجغرافية والسياسية، وكثيراً ما كنا نذهب للنوم بعد منتصف الليل وتبقى خيمة الرنتيسي عامرة.
وأضاف: «لم يكن ينام أكثر من ساعتين أو ثلاث فقط، لكثرة الوفود التي كانت تزور المخيم، ومع هذا فلم يكن يشعر بالتعب أو الإرهاق»، وهذا ما زاد من ثقة إخوانه فيه، ليفوز في الانتخاب الثاني بعد 6 أشهر، ويستمر عطاؤه اللا محدود».
علبة البسكويت
ويذكر الحاج علي أنه كان مسؤولاً عن التبرعات التي تصل للمعسكر، وفي إحدى الليالي الباردة جداً، وبعد منتصف الليل بقليل سمعتُ صوت أبي محمد ينادي علي «قم يا أبا علي» ، فتوجستُ في بادئ الأمر من السبب الذي يدفع الدكتور للخروج من خيمته والقدوم عندي، وعندما دخل الخيمة فإذا به يحمل بين يديه علبة بسكويت، لم يكن بداخلها أكثر من 10 حبات فقط، وقال لي إن هذا البسكويت جاءه به الصحفيون والإعلاميون الذين زاروه. وعندما سألته ما المطلوب مني، قال أنت مسؤول الصندوق وهذا ليس من حقي بل من حق الإخوان لذلك جئت لأرده إليك لتقوم أنت بتوزيعه عليهم، فقلت له إن الأمر لا يستحق فهم بضع حبات ولك كامل الحق أن تأكلهم خاصة انك مشغول دوماً عنا ولا تتناول الطعام في وقته وتشعر بالإرهاق والتعب، فرفض أن يأخذ ولو حبة واحدة وترك العلبة عندي وخرج».
يقول الحاج علي أن ما قام به الرنتيسي يدل على اتصافه بخصلة الإيثار وعدم أنانيته، وحبه لإخوانه والعمل على مصلحتهم، وكل صفاته لازمته حتى ساعة استشهاده فكونه قائداً لحماس لم يغير منه شيئاً، بل على العكس تماما كان حريصا على الحركة أكثر من أي وقت مضى».
وختم الحاج علي حديثه عن الرنتيسي واصفاً إياه بـ«أمين هذا الجيل»، واستشهد بكلامه على قول الرسول صلى الله عليه وسلم «الناس كإبل المئة لا تجد فيها الراحلة»، وكذلك ما قاله سيدنا عمر بن الخطاب عندما سألوه ما يتمنى فأجاب بأنه يتمنى أن يكون البيت الذي يتواجد فيه مليء بأشخاص من مثل أبو عبيدة»، ونحن نتمنى وندعو الله أن تمتلئ فلسطين بأمثال الرنتيسي، فنحن بأمس الحاجة لقادة يتصفون بصفاته ويسيرون على دربه ويرفعون شعار الإسلام ويبيعون أنفسهم لله وهذا هو البيع الرابح».
أول لقاء في 92
أما الدكتور عزيز دويك فيقول إنه يعجز عن وصف الشهيد فقد كان قائداً مميزاً ومجاهداً فذاً عجزت النساء في هذا الزمان أن يلدن أمثاله».
واسترجع دويك اليوم الذي التقى به بالرنتيسي قائلاً: «كان أول لقائي به ليلة الإبعاد في كانون الأول عام 1992 سمعت صوته وهو يصيح رافضاً ان يتفرق المبعدون في ربوع لبنان أو غيرها من البلاد العربية ومصرا على ان يكون المبعدون قبالة ارض فلسطين الغالية.. ومن اليوم الأول للإبعاد كان الرنتيسي قائدا للمخيم وناطقا إعلاميا رسميا باسمه استطاع من خلال آلاف اللقاءات الصحفية والإعلامية ان يجسد قضية فلسطين حية ماثلة في النفوس والأذهان وقد أمكنه ان يجعل قائدا مثل حافظ الأسد يقول لمن حوله: «من أراد ان يتعلم السياسة فليذهب الى مرج الزهور». وبعدها توالت لقاءاته الصحفية بحيث أمكنه ان يحول هو وإخوانه محنة الإبعاد الى منحة انعكست باليُمن والخير والبركات على قضية فلسطين وشعبها.
نعم اقبل بـ«إسرائيل»!
ويتابع دويك وهو يحبس دموعه وقد تحشرج صوته «كان الرنتيسي يؤمن بوحدة ارض فلسطين؛ فقد قابله صحفي يوماً وسأله: «هل تقبلون بدولة إسرائيل؟» فأجابه: «نعم» ثم سأله من أي البلدان أنت، أجاب الصحفي: «من سويسرا» فسأله: «وهل تقبل بدولة إسرائيل داخل دولة سويسرا؟» فرفض الصحفي بشدة قائلاً: «لالالالا» فقال له الرنتيسي: «وأنا مثلك، فكيف تريد لي ان اقبل ما ترفضه أنت؟».
وكثيرا ما قال «فلسطين للفلسطينيين كما ان فرنسا للفرنسيين وإيطاليا للإيطاليين».
ويضيف: «الحياة بالنسبة للرنتيسي عقيدة وجهاد، قد كان دائم الاعتقاد بأن «المنهج أبقى من الأفراد» لان الأفراد يستشهدون ويموتون، لكن المناهج باقية خالدة لها رحيقها ولها تأثيرها في الأفراد والجماعات وصناعة التاريخ».
موقفه من السلطة
ويشير دويك إلى أن الشهيد الرنتيسي رفع شعار (لئن بسطتَ إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يديَ إليكَ لأقتلك) خاصة عندما تواردت الأنباء عن مجيء السلطة الى ارض الوطن وأن هذه السلطة ستسجن وتقتل أبناء حماس، وقد كان لهذا الشعار آثاره بالحفاظ على شمل فلسطين موحدا وقد كان لذلك آثاره أيضاً في تحمل أبناء الحركة لحلقات اعتقال مستمرة مارستها السلطة بضغط من «إسرائيل» وأمريكا وضغط من الحكومات العربية المختلفة.
رسالة لطفله
ويضيف: «أذكر عندما أرسل رسالة الى ولده احمد وقد كان طفلا (11عاماً) يحفزه فيها على ان يلتزم بطاعة والدته واحترام أقربائه ويدعوه فيها ان يبقي قضية فلسطين حية في نفسه وان يحفظ ثار أهله ممن كانوا سببا في معاناتهم ولجوئهم وطردهم من كل فلسطين ومن «يبنا» التي هي مسقط رأسه.
ويقول دويك: «لا أنسى موقفه عندما زار أطفال من البوسنة مرج الزهور وقدم الأطفال قليلا من المال تعبيرا من الشعب البوسني لدعم هؤلاء المبعدين وقدر المبلغ بـ 120 دولاراً فقام الرنتيسي وإخوانه المبعدين بتقديم كل ما يملكون من المال تصل يومها الى 4 آلاف دولار أمريكي لأطفال البوسنة كي يحملوها الى شعب البوسنة المسلم تعبيرا منه ومن إخوانه عن عميق الشعور بمأساة هذا الشعب المسلم الذي قتل شر تقتيل وشرد شر تشريد لا ذنب له سوى انه شعب مسلم.
ويختم دويك حديثه عن حبيبه الرنتيسي بالقول: «كان صقر فلسطين ولسانها وقلبها النابض إلى آخر لحظة من حياته، ويحمل لها ما وسع من جهد بيقين لم تنفصم عراه موقناً ان طريق رسول الله والجهاد في سبيل الله هو طريق الحل الأقصر لرفع المعاناة عن شعب فلسطين وعودة اللاجئين الى مدنهم وقراهم وإنهاء حالة اللجوء التي كان لأخر لحظة يعتبرها صفعة على جبين ما يعتبره العالم المتحضر، هذا العالم الذي مارس النفاق وما زال».
|