رد: قصة الاندلس ...
عَهْدُ عَبْد الرّحْمَن الأَوْسَط
بعد الحكم بن هشام تولى ابنه عبد الرحمن الثاني، وهو المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط (فهو الأوسط بين عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل وعبد الرحمن الناصر كما سيأتي)، وقد حكم من سنة 206 هـ= 821 م وحتى آخر الفترة الأولى (عهد القوة) من عهد الإمارة الأموية، وذلك سنة 238 هـ= 852 م وتعد فترة حكمه هذه من أفضل فترات تاريخ الأندلس، فاستأنف الجهاد من جديد ضد النصارى في الشمال وألحق بهم هزائم عدّة، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، محبًا للعلم محبًا للناس.
قال عنه الصفدي: كان عادلاً في الرعية بخلاف أبيه، جواداً فاضلاً له نظر في العلوم العقلية، وهو أول من أقام رسوم الإمرة وامتنع عن التبذّل للعامة، وهو أول من ضرب الدراهم بالأندلس، وبنى سور إشبيلية، وأمر بالزيادة في جامع قرطبة، وكان يشبه بالوليد بن عبد الملك، وكان محباً للعلماء مقرباً لهم، وكان يقيم الصلوات بنفسه، ويصلي إماماً بهم في أكثر الأوقات... وهو أول من أدخل كتب الأوائل إلى الأندلس، وعرف أهلها بها. وكان حسن الصورة ذا هيئة، وكان يكثر تلاوة القرآن ويحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقال لأيامه أيام العروس، وافتتح دولته بهدم فندق الخمر وإظهار البر، وتملا الناس بأيامه وطال عمره، وكان حسن التدبير في تحصيل الأموال وعمارة البلاد بالعدل حتى انتهى ارتفاع بلاده في كل سنة ألف ألف دينار.
ومن أهم ما تميّز عهد عبد الرحمن الأوسط:
أولًا: ازدهار الحضارة العلمية:
كان عبد الرحمن الأوسط لتقديره العلم يستقدم العلماء من بغداد ومن كل بلاد العالم الإسلامي، فجاءوا إلى بلاد الأندلس وعظّمهم وأكرمهم ورفع من شأنهم، وأسّسَ نواة مكتبة قرطبة العظيمة، وأشاع التعليم في كل بلاد الأندلس.
وقد اشتهر العلماء في هذه الفترة في كل مجالات العلوم، وكان من أشهرهم في ذلك الوقت عباس بن فرناس - رحمه الله -، وهو أول من قام بمحاولة طيران في العالم، وقد راح ضحية هذه المحاولة البكر، وفضلًا عن هذا فقد كانت له اختراعات كثيرة في شتى المجالات، فاخترع آله لتحديد الوقت، واخترع آله تشبه قلم الحبر، وقد كان لهذا الاختراع أهميّة كبيرة في ذلك الزمن الذي انتشر فيه العلم والتعليم، ويعد أيضًا أول من اخترع الزجاج من الحجارة.
ثانيًا: ازدهار الحضارة المادية:
اهتمّ عبد الرحمن الأوسط بالحضارة المادية (العمرانية والاقتصادية وغيرها) اهتمامًا كبيرًا، فازدهرت حركة التجارة في عهده، ومن ثَمّ كثرت الأموال؛ الأمر الذي أجمع فيه المؤرّخون أنه لم يكن هناك في الأندلس ما نسميه بـ "عادة التسّول"، فقد كانت هذه العادة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى لكنها لم تُعرف أصلًا في بلاد الأندلس.
كذلك تقدّمت وسائل الريّ في عهده بشكل رائع، وتم رصف الشوارع وإنارتها ليلًا في هذا العمق القديم جدًا في التاريخ، الوقت الذي كانت أوروبا تعيش فيه في جهل وظلام دامس، كما أقام القصور المختلفة والحدائق الغنّاء، وتوسع جدًا في ناحية المعمار حتى كانت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهده - رحمه الله -.
ثالثا: وقف غزوات النورمان:
النورمان هم أهل إسكندنافيا، وهي بلاد تضم الدانمارك والنرويج وفنلندا والسويد، وقد كانت هذه البلاد تعيش في همجية مطلقة، فكانوا يعيشون على ما يسمى بحرب العصابات، فقاموا بغزوات عرفت باسم "غزوات الفايكنج"، وهي غزوات إغارة على أماكن متفرقة من بلاد العالم، ليس من همٍ لها إلا جمع المال وهدْم الديار.
في عهد عبد الرحمن الأوسط وفي سنة 230هـ= 845 م هجمت هذه القبائل على إشبيلية من طريق البحر في أربع وخمسين سفينة، دخلوا فأفسدوا فسادًا كبيرًا، فدمّروا إشبيلية تمامًا، ونهبوا ثرواتها، وهتكوا أعراض نسائها، ثم تركوها إلى شذونة وألمرية ومرسية وغيرها من البلاد فأشاعوا الرعب وعمّ الفزع، وهذه هي طبيعة الحروب المادية بصفة عامة، وشتّان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم.
ما كان من عبد الرحمن الأوسط - رحمه الله - إلا أن جهّز جيشه وأعدّ عدته، وخلال أكثر من مائة يوم كاملة دارت بينه وبينهم معارك ضارية، أغرقت خلالها خمس وثلاثين سفينة للفايكنج، ومنّ الله على المسلمين بالنصر، وعاد النورمان إلى بلادهم خاسئين خاسرين.
لم يجنح عبد الرحمن الأوسط - رحمه الله - بعدها إلى الدّعة أو الخمول، وإنما عمل على تفادي تلك الأخطاء التي كانت سببًا في دخول الفايكنج إلى بلاده فقام بما يلي:
أولا:
رأى أن إشبيلية تقع على نهر الوادي الكبير الذي يصبّ في المحيط الأطلنطي، ومن السهولة جدًا أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من المحيط الأطلنطي إلى إشبيلية، فقام بإنشاء سور ضخم حول إشبيلية، وحصّنها تحصينًا منيعًا ظلّت بعده من أحصن حصون الأندلس بصفة عامة.
ثانيا:
لم يكتف بذلك بل قام أيضًا بإنشاء أسطولين قويين جدًا، أحدهما في الأطلسي والآخر في البحر الأبيض المتوسط، وذلك حتى يدافع عن كل سواحل الأندلس، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار وتصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون، وتصل في البحر الأبيض المتوسط حتى إيطاليا.
وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية، (كنا قد ذكرنا أن الذي فتحها للمرة الأولى كان موسى بن نصير - رحمه الله - وذلك قبل فتح الأندلس سنة 91 هـ= 710 م ثم سقطت في أيدي النصارى في عهد الولاة الثاني حين انحدر حال المسلمين آنذاك، وهنا وفي سنة 234 هـ= 849 تم فتحها ثانية).
كذلك كان من نتيجة هزيمة الفايكنج في هذه الموقعة قدوم سفارة من الدانمارك محمّلة بالهدايا تطلب ودّ المسلمين، وتطلب المعاهدة معهم، وهكذا فالبعض من البشر لا تردعه إلا القوة ولا تصده إلا لغة الأقوياء.
|