رد: قصة الاندلس ...
بعض الأسئلة والرد عليها
بعد استشهاد عَبْد الرّحْمَن الغَافِقِيّ رحمه الله في موقعة بلاط الشهداء في منطقة "بواتيه" وبعد هزيمة المسلمين فيها انسحب المسلمون وتوقفت الفتوحات الإسلامية في هذه المنطقة. وقبل استكمال الطريق والخوض في تفاصيل ما حدث بعد بلاط الشهداء هناك بعض الأسئلة المهمّة، والتي نودّ الإجابة عليها وهي:
السؤال الأول:
لماذا لم يقم أهل الأندلس بالثورات في عهد الفتح وأوائل عهد الولاة رغم ضآلة الحاميات الإسلامية عليهم؟
كان قوام الجيش الإسلامي في بلاد الأندلس أربعة وعشرين ألف مقاتل، كان مع طارق بن زياد اثنا عشر ألفًا، وقد استشهد منهم في وادي برباط ثلاثة آلاف، واستشهد مثلهم في الطريق من وادي برباط إلى طليطلة، فوصل طارق بن زياد إلى "طليطلة" بستة آلاف فقط من الرجال، ثم عبر موسى بن نصير بثمانية عشر ألفًا، فأصبح قوام الجيش الإسلامي أربعة وعشرين ألف مقاتل تم توزيعهم على كل مناطق الأندلس الواسعة وبعض جنوب فرنسا، كحاميات إسلامية وفاتحين لمناطق أخرى لم تفتح...
فكان التعجب لماذا لم يقم أهل هذه البلاد- على سعتها- بالثورة على المسلمين أو على الحاميات الإسلامية الموجودة عليهم رغم قلتها الملحوظة التي لا تقارن بعدد السكان على الإطلاق؟!
ومثل هذا السؤال هو العجب كل العجب، فالسؤال الذي يجب أن يُسأل هو لماذا يثور أهل الأندلس؟ وليس لماذا لم يثوروا؟ كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون ظلمًا مريرًا وضنكًا شديدًا، تُنهب أموالهم وتنتهك أعراضهم فلا يعترضون، حكامهم في الثروات والقصور يتنعمون، وهم لا يجدون ما يسد الرمق، يزرعون الأرض وغيرهم يأكل ثمارها، بل إنهم يُباعون ويُشترون مع تلك الأرض التي يزرعونها.
فلماذا إذن يثور أهل الأندلس؟! أيثورون من أجل هذا الذي أذاقهم العذاب ألوانًا؟! أم يثورون من أجل ظهور لوذريق أو غيطشة جديد؟! أم يثورون من أجل ذكريات أليمة مليئة بالجوع والعطش والنهب والسرقة والظلم والتعذيب والتنكيل، والفساد والرشوة والجبروت؟!
ثم ماذا كان البديل المطروح؟ إنه الإسلام الذي حملته أرواح المسلمين الفاتحين، إنه الإسلام الذي حرّم كل ما سبق وجاء ليقول لهم: تعالوا أعطكم بدلا من الظلم عدلًا ليس هبة مني، لكنه حق لكم ولقومكم وأولادكم ولذريتكم من بعدكم، إنه الإسلام الذي لم يفرق بين حاكم ولا محكوم، فإن حدث لأي منكم مظلمة قام القاضي لا يفرق بين مسلم ولا يهودي ولا نصراني أيًا كان شكله أو لونه أو جنسه.
إنه الإسلام الذي لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر أموالهم أو صورهم أو أجسامهم، إنما بقدر أعمالهم، والأعمال مفتوحة لكم جميعًا، الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، إنه الإسلام الذي يقول الحاكم فيه لك: قد رفعنا عنك كل الضرائب إن كنت من المسلمين وكنت غنيًا فلن تدفع إلا ( 2.5 % )زكاة لأموالك إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، وإن كنت فقيرًا فلن تدفع شيئا، بل ستأخذ من بيت مال المسلمين إلى أن تغتني.
أما إن كنت من غير المسلمين وكنت غنيًا وقادرًا على القتال- وليس غير ذلك- فستدفع جزية هي أقل بكثير من زكاة المسلمين، نظير أن يدافعوا عنك، وإن هم فشلوا في الدفاع عنك فسترد إليك أموالك.
إنه الإسلام، خلاص الشعوب؛ حين عرفه أهل الأندلس تمسّكوا به واعتنقوه اعتناقًا ولم يرضوا عنه بديلًا، فكيف يحاربونه ويضحّون بهذا النعيم المقيم في الدنيا والآخرة من أجل حياة المرارة والعذاب والذل والحرمان؟!
السؤال الثاني
هل من المعقول أن كل أهل الأندلس أُعجبوا بهذا الدين ولم يكن هناك ولو رجل واحد يثور ويعترض حبًا في سلطان أو مصلحة كانت قد ضيّعت عليه؟!
والإجابة عن هذا السؤال هي: نعم؛ كان هناك كثير من الناس من أصحاب المصالح الذين كان لهم أعوان كثيرون أرادوا أن يثوروا على حكم الإسلام؛ ليسترجعوا مجدهم ويحققوا مصالح كانت لهم، أمّا لماذا لم يثوروا؟ فالجواب عنده سبحانه وتعالى في قوله: [لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ] {الحشر:13}.
فالمؤمن في الفتوحات الإسلامية كانت له رهبة في قلوب النصارى واليهود، وفي قلوب المشركين بصفة عامة، فالله سبحانه وتعالى يلقي على المؤمن جلالاً ومهابةً فيخافه القريب والبعيد، يقول صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه البخاري: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ. ويقول سبحانه وتعالى: [فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ] {الحشر:2}.
والعجب أن هذا الرعب لم يكن متولدًا عن بشاعة في الحرب، أو عن إجرام منقطع النظير، إنما هي هبة ربانية لجنده ولأوليائه ولحزبه سبحانه وتعالى، بل على عكس ذلك تمامًا كانت حرب الإسلام رحمةً للناس كل الناس، فها هو صلى الله عليه و سلم كما جاء في صحيح مسلم عن بُريدة رضي الله عنه حين كان يودع الجيوش فكان يخاطبهم قائلا: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا. وفي رواية: وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً.
فأين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين؟! أين هذا من قتل مائتي ألف مسلم من المدنيين في البوسنة والهرسك وكوسوفو؟! أين هذا من فعل الروس في الشيشان، وفعل الهنود في كشمير، وفعل اليهود في فلسطين، وفعل أمريكا في العراق؟!
فرغم أن الرهبة والرعب أُلقيت في قلوب الأعداء إلا أن حروب المسلمين كانت رحمة على العالمين، حتى لقد سعد الذين لم يدخلوا في الإسلام من اليهود والنصارى في ظل حكم الإسلام أيما سعادة [لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الممتحنة:8}.
فقد تُركَتْ لهم كنائسُهم، وكان لهم قضاء خاص بهم، ولم يفرّق بين مسلم ونصراني ويهودي في مظلمة، فكان العجب حقًا أن يثوروا، العجب كل العجب أن ينقلبوا على الإسلام، والعجب كل العجب أن يرفضوا حكم الإسلام وقد جاء من عند حكيم خبير، يعلم ما يصلح كونه وأرضه وعبيده [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] {غافر:19}.
السؤال الثالث:
وهو خاص بعوامل الهزيمة في بلاط الشهداء، إذ كيف تتعلق قلوب هذا الجيل القريب من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته - وهو جيل التابعين أو تابعي التابعين - بالغنائم وحب الدنيا، وكيف تظهر فيهم هذه العنصرية القبلية؟!
وللإجابة على الشق الأول من هذا السؤال، نقول: إذا كانت هذ العوامل قد حدثت في سنة 114 هـ= 732 م فإنها قد حدثت مع الصحابة رضوان الله عليهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 3 هـ= 625 م وذلك في غزوة أُحد، والتي نزل فيها قوله تعالى مخاطبًا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ] {آل عمران:152}. وكأن غزوة أُحدٍ تعيد نفسَها من جديد في "بلاط الشهداء".
فقد نزلت هذه الآية في الصحابة رضوان الله عليهم حين خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل الرماة وتركوا مواقعهم بعد أن تيقنوا بالنصر، وذلك طلبًا للغنيمة، فكانت الهزيمة بعد النصر، حتى إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنت أحسب أن منا من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية: [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ] {آل عمران:152}.
وهكذا في بلاط الشهداء، كانت الغلبة للمسلمين في أول المعركة في أول يومين أو أول ثلاثة أيام، ثم لما التفّ النصارى حول الغنائم يأخذونها، وكان قد وقع حبها في قلوب المسلمين، حدث الانكسار في الجيش ثم هُزموا.
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ] {آل عمران:152}. يقول: لقد عفا عنكم أي لم يستأصلكم في هذه الموقعة، وأعطاكم الفرصة للقيام من جديد.
وهكذا أيضا في بلاط الشهداء، لم يُستأصل الجيش الإسلامي، لكنه عاد وانسحب ليقوم من جديد.
وإذا جئنا إلى ما قبل أُحد وإلى الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة بدر وجدنا أيضًا صورةً من صور بلاط الشهداء، وذلك حين انتصر المسلمون ثم اختلفوا على الغنائم، حتى إن سورة الأنفال التي نزلت بعد ذلك تعظّم من هذا النصر المجيد قد بدأت بقوله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {الأنفال:1}. كلام له وقع السهام على الصحابة، لكنه أمر قد حدث وهو أصيل في النفس البشرية.
ومن هنا فما حدث في بلاط الشهداء ليس بجديد؛ لأنه من عيوب النفس، وقد حدث مثله في بدر وفي أحد، لكن كان هناك اختلافًا، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد تدارك الأمر بسرعة؛ فحمّس المسلمين على الجهاد وذكّرهم بالآخرة حتى قاموا في حمراء الأسد فكانت الغلبة وردّ الاعتبار، أما في بلاط الشهداء فإن كان قد قام من جديد رجل من المسلمين وهو عقبة بن الحجاج رحمه الله يحمّس المسلمين ولكن بعد العودة إلى الأندلس، إلا إنه لم تحدث موقعة بعد بلاط الشهداء كما حدثت حمراء الأسد مباشرة بعد أحد.
كذلك كان الاختلاف في أن غالب جيش المسلمين في بلاط الشهداء باستثناء عبد الرحمن الغافقي رحمه الله الذي استشهد لم يزل حب الدنيا وحبّ الغنائم رابضًا في قلبه، فهم يريدون الدنيا، أما في أُحد فقد قال عنهم سبحانه وتعالى: [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ] {آل عمران:152}. ولذلك لم يعد المسلمون بعد بلاط الشهداء مباشرة كما عادوا بعد أحد.
ومن أوجه الشبه الكبير أيضا بين "أحد" "وبلاط الشهداء" أنه عندما أُشيع خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد حدث الانكسار وحدث الفرار والهزيمة المرّة، وكذلك بالنسبة إلى بلاط الشهداء، فحين قتل عبد الرحمن الغافقي رحمه الله انسحب المسلمون، وانكمشوا على أنفسهم إلى الداخل، وهنا تكمن العبرة والعظة من أحداث المسلمين المتكررة والشديدة الشبه.
|