بسم الله الرحمن الرحيم
حمد  لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد  							الصادق الوعد الأمين . 							 							 							       أيها الإخوة الكرام ؛ في القرآن الكريم عدة  							آياتٍ ، تشير إلى طبيعة الإنسان .
 							 							
 							 							 							قال تعالى : 
 							 							 							 							 							 							 							 							 							( سورة المعارج : 19 إلى 23 )
  							 							 							عدة آيات لا تزيد عن أربع آيات ، تتحدث عن طبيعة  							الإنسان ، فهذه خصائصُ في خلقه، ليست ذنباً يعزى إليه  							، لكن الله هكذا خلقه .
 							 							 							أولاً ... الله سبحانه وتعالى قال : " وخلق الإنسان  							ضعيفاً "، لماذا خلقه ضعيفاً ؟
 							 							
 							 							 							لو أن الله عز وجل خلق الإنسان قوياً ، لاستغنى بقوته  							عن الله  ، وحينما يستغني بقوته عن الله يشقى  							باستغنائه .
 							 							 							لماذا خلقه من عجل ؟ وخلق الإنسان من عجل ، قال  							العلماء : لأنه لو خلقه يحب الآجلة ، واختار الآخرة  							وفق طبيعته لما ارتقى عند الله ، لكن ما الذي يحصل ؟  							لو أن الإنسان خلق يحب الآجلة ، والدنيا بين يديه ،  							فالشهوات يقظة ، الفتن مستعرة  ، الملذات أمامه ،  							لوجدته يعرض عنها كلها ، ويختار ما عند الله في  							الآخرة  ، فخالف طبيعته ، والإنسان لما يخالف طبيعته  							يرقى عند الله ، ولما يستجيب إلى طبيعته الأرضية فإنّه  							لا يرقى .
 							 							 							شاءت حكمة الله أن يكون الإنسان عجولا ، وجعل الله  							الدار الآخرة بعيدة المدى ، لو كان عرضاً قريباً ، أو  							سفراً قاصداً لاتبعوك ، ولكن بعدت عليهم الشقة ، يقول  							بعضهم: يفرجها الله .
 							 							 							فالناس يندفعون إلى إرواء شهواتهم ، إلى اقتناص  							الأموال الحرام ، إلى الاستمتاع  بما حرم الله ، لأن  							هذه الشهوات بين أيديهم ، وفي متناولهم ، والإنسان  							عجول ، أما إذا اختار الآجلة فالأمر على عكس العاجلة .
 							 							 							 							كلا بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة " .
 							 							 							 							( سورة القيامة : 20 ـ 21 )  
  							 							 							 							إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا " 							
 							 							 							
 							 							 							فالإنسان إذا استجاب إلى طبعه ، وإلى عجلته ، عندئذٍ  							يعصي  ويرتكب الموبقات ، ويعيش كما يقول الوجوديون:  							ليعِشْ لحظته ، فهو الآن قوي ليستمتع بقوته ، غني  							ليستمتع بماله . 
 							 							 							أما الإنسان إذا أحكم عقله ، فإني أضرب لكم مثلاً  							بسيطاً ، لكن له دلالة كبيرة ؛ قبل سنين ، حافلة حي  							المهاجرين ، كانت تقف بساحة المرجة أمام مركز التسويق  							العراقي ، في أيام الصيف الحارة ، صعد للحافلة راكبٌ ،  							فوجد على اليمين شمسًا ، وعلى اليسار ظلاً ، بحكم  							طبيعته قعد في الظل على اليسار ، فلما انطلقت الحافلة  							، ودارت بساحة المرجة ، فخلال دقيقة واحدة ، انعكست  							الجهة لآخر الخط ، وبقي طيلة الوقت في الشمس ، فأنا  							لما أركب الحافلة كنت ألاحظ الركاب ، فالذي يشغِّل  							فكره يقعد بالشمس ، والذي يستجيب لطبيعة جسمه يقعد في  							الظل ، لكن بعد دقيقة واحدة عندما تدور الحافلة تنعكس  							الجهة ، فمَن اختار الظل تمتع به دقيقة ، ومَن اختار  							مقعده تحت الشمس تحملها دقيقة ، ثم راح يتمتع بالظل  							عشرين دقيقة ، ومَن اختار الظل راح يتنعم دقيقة ،  							ويتحمل أشعة الشمس الحارة عشرين دقيقة ، فالفرق بين  							الراكبَيْن ، واحد أعمل عقله ، والآخر عطل عقله ، وهذا  							المثل لو أنه مثل بسيط ، لكن له دلالة كبيرة .
 							 							 							فأيّ إنسان بحكم عقله ، ويفكر فإنه يختار الآجلة إلى  							الأبد ، وأي إنسان يعطل عقله ، فبين يديه الكثيرُ مِن  							في شهوات ، أموال حرام ، نساء كاسيات عاريات ، طعام  ،  							احتفالات ، اختلاط ، مكاسب ، يا نصيب تارةً ، واختلاط  							تارةً ، ورحلة سياحية تارةً ، فإنه يختار العاجلة ،  							والله عز وجل قال : "كلا بل تحبون العاجلة ، وتذرون  							الآخرة ".
 							 							 							 							إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ،  							نحن خلقناهم وشددنا أسرهم.
 							 							 							فلما يحكِّم الإنسان عقله فإنه يختار الآخرة ، مع أنها  							بعيدة المدى ، ويرفض الدنيا مع أنها في متناول يديه .
 							 							 							أما إذا عطل عقله ، فإنه عيش لحظته كالوجوديين ، فما  							دام يعيش إذاً هو يأكل ويشرب، ويتمتع بدون ضوابط ،  							بدون قيم ، دون مبادئ ، دون افعل ولا تفعل ، دون منهج  							، دون دستور ، كالدابة السائمة ، كالدابة الطليقة ،  							تفعل ما تشاء بدون قيد أو شرط .
 							 							 							إذاً لما فطَرَ ربنا عز وجل الإنسانَ على حبِّ العاجلة  							مِن أجل أن يرقى ، إذا جاهدها ، لأنه لو اختار الآجلة  							لعاكس طبيعة نفسه .
 							 							 							وبالمناسبة إخواننا الكرام ؛ الإنسان له طبع ، وله  							فطرة ، ولديه تكليف ، والطبع يتناقض مع التكليف غالباً  							، التكليف أن تصلي الفجر في وقته ، وجسم الإنسان يميل  							إلى النوم والاسترخاء ، ولا سيما في أيام الشتاء  							الباردة ، والفراش وثير ، ودافئ ، نام الساعة الواحدة  							متأخرًا ، وهو مرتاح ، فطبعك يدعوك إلى النوم ،  							والتكليف يدعوك إلى الصلاة ، والمؤذن يقول الصلاة خير  							من النوم ، وطبعك يدعوك إلى إطلاق البصر في النساء ،  							كي تستمتع بحسنهن ، لكن التكليف يدعوك أن تغض البصر عن  							محارم الله ، طبعك يدعوك أن تقبض المال ، والتكليف  							يأمرك أن تنفق المال ، طبعك يدعوك أن تتحدث عن عورات  							الناس ، عن قصصهم ، عن فضائحهم ، عن سقطاتهم ، عن  							مشكلاتهم ، عن خصوماتهم ، لماذا طلق فلان فلانة ؟  							ولماذا تزوج فلانة ؟ وما خلفية الموضوع ؟ 
 							 							 							طبعك يدفعك إلى تقصي أخبار الناس ، لكن التكليف يقول  							لك : "ولا يغتب بعضكم بعضا" .
 							 							 							 							 							"من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه  							".
 							 							 							الملاحظ إذاً أن الطبع يختلف مع التكليف ، لماذا يختلف  							مع التكليف ؟ من أجل أن ترقى، لو توافق الطبع مع  							التكليف لارتقى أبداً ، والتغت العبادة ، والتغت الجنة  							، ولم يعُد هناك ثواب ولا عقاب ، إذا توافق الطبع مع  							التكليف ، لكن التكليف يتناسب مع الفطرة ، أنا قلت  							الطبع ، والطبع أقرب إلى الجسد ، والفطرة أقرب إلى  							النفس .
 							 							 							فلما يتعرف الإنسان إلى الله ، ويستقيم على أمره ،  							تهدأ نفسه ، ويطمئن قلبه ، ويشعر بسعادة لا توصف ،  							لأنه توافق مع فطرته .
 							 							 							إذاً من ينشد السعادة الحقيقية ، فعليه بتطبيق أمر  							الله عز وجل ، ولو كان أمر الله في ظاهره فيه تكليف ،  							وكلفة ، وجهد ، لولا هذا الجهد لما ارتقى  إطلاقاً .
 							 							 							 لو فرضنا أنّ جامعة وزعت على الطلاب أوراق الإجابة ،  							مطبوع عليها الجواب التام، فما عليك إلا أن تكتب اسمك  							ورقمك ، كله طالبٍ يحصل على مئة درجة ، ومنحت تلك  							الجامعة الشهادات العليا ، الليسانس ، والدكتوراه  هذه  							الشهادات هل لها قيمة عند الناس؟ هل لها قيمة عند  							الطلاب ؟ لا قيمة لها ، صفر في الحقيقة ، لأن هذه  							الشهادات لم يكن لصاحبها جهد مبذول .
 							 							 							أما لما تكون المواد صعبة ، ولا بد لها مِن دراسة شاقة  							، ودخول امتحان صعب ، وأسئلة معقدة ، وسُلَّم دقيق ،  							وتصحيح دقيق ، فعندئذٍ لما ينجح الطالب يتيه على  							أقرانه بهذا النجاح الذي مقابله في جهد مُضنٍ .
 							 							 							فالإنسان لا يطمع أن يكون التكليف موافقًا للطبع ،  							يطمع أن يجد الدين مثل ما يريد تمامًا ، يريد من الدين  							أن يُسمَح فيه بكذا ، وكذا ، وكذا ، يأخذ ما فيه راحته  							، ويتصيد الرخص .
 							 							 							لذلك فقد أردت من هذا الدرس ، أن أشير إلى ناحية واحدة  							، أن الإنسان خلق عجولا ، يحب الشيء الذي بين يديه ،  							ولا يحب الشيء البعيد ، فالمؤمن إذا اختار الآخرة ،  							وما عند الله ، فقد خالف طبعه، و لما خالف طبعه ارتقى  							عند الله .
 							 							 							وغالباً الطبع أقرب إلى الجسد ، والفطرة أقرب إلى  							النفس ، وتكاليف الشرع لا تتوافق مع الطبع ، لقوله  							تعالى : "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى  							، فإن الجنة هي المأوى" .
 							 							 							 							( سورة النازعات : 40 ـ 41 ) .
  							 							 							لكن الإنسان إذا طبق أمر الله عز وجل وعاكس هواه ، في  							النهاية ترتاح نفسه ، لأن هذا الكمال الذي حصله ، وتلك  							الطمأنينة التي اكتسبها ، هذه غذاء الفطرة .
 							 							 							لذلك قال تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله  							التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين  							القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
 							 							 							 							إخوانا الكرام ؛ أقول لكم هذه الكلمات وهي دقيقة ، في  							النفس فراغ لا يملؤه المال ، قد تملك مئات الملايين ،  							وفي النفس فراغ لا تملؤه القوة ، وقد تكون أقوى  							الأقوياء ، في النفس فراغ لا تملؤه الشهادات العليا ،  							والدرجات العلمية العالية ، في النفس فراغ لا تملؤه  							الأسرة الناجحة ، في بالنفس فراغ لا يملؤه إلا الإيمان  							، من دون إيمان يعيش الإنسان في قلق ، والدليل :"  							ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم  							القيامة أعمى " .
 							 							 							 							أما لو أنّ الإنسان استقام على أمر الله فالحياة  							الطيبة هانئة ، قال تعالى : "من عمل صالحا من ذكر  							أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " .  							
 							 							 							 							 فنحن موعودون بالحياة الطيبة ، من قبل الله عز وجل . 							
 							 							 							والله أيها الإخوة ؛ لزوال الكون أهونُ على الله من  							ألاّ تتحقق وعوده ووعيده بأي عصر ومصر ، وبأي وقت ، من  							أي منبت طبقي أنت ؟ من أي أم وأب ؟ من أي بلدة ؟ من أي  							مكان ؟ من أي زمان ؟ من أي إمكانيات كنت ؟ حينما  							تستقيم على أمر الله ،  فلك من الله حياة طيبة ، وأي  							إنسان مهما كان قوياً ، مهما كان غنياً ، مهما كان  							جباراً ، إذا أعرض عن الله عز وجل فإن له معيشة ضنكا . 							
 							 							 							والله أيها الإخوة ؛ لو لم يكن في القرآن الكريم إلا  							هاتان الآيتان لكفتانا  من عمل صالحا من ذكر أو  							أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة .
 							 							 							
 							 							 							 							ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم  							القيامة أعمى  							.
 							 							 							 							أمّا الآية الثالثة ، فدققوا فيها  ، والله لو  							أنني أتلو هذه الآية آلاف المرات ، لا أرتوي منها . 							
 							 							 							 							"أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا  							وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون "  							.
 							 							 							 							 أَيُعامَل المؤمن من الله كما يعامل الكافر ؟ في بيته  							، في عمله ، في صحته ، في زوجته ، في أولاده ، في  							طمأنينته ، في سعادته ، في إقباله ، في إشراق نفسه ،  							في تفاؤله في المستقبل ، تجد شخصًا غنيًا لو أنفق كل  							يوم مئة ألف لبقي لديه ما يفيض على حياته ، ولو عاش  							مئة سنة ، ومع ذلك فهو متضايق ، وقلق ، ويقول : السوق  							مسموم ، ولا نربح ، وما هذه الحياة ، ولا يُعاش في هذا  							البلد ، ومعه أموال واللهِ لا تأكلها النيران ،  							ويقابلك مؤمن لا يملك إلا قوت يومه ، ويقول : الحمد  							لله من أعماقه ، راضيًا بعيشه .
 							 							 							هذه السعادة لها سّر ، السعادة أيها الإخوة لا تأتي من  							الخارج ، لا تأتي من بيت واسع ، ولا من زوجة جميلة ،  							ولا من أموال طائلة ، ولا من بيت بالمصيف ، ولا من  							مركبة فاخرة .
 							 							 							السعادة تنبع من الداخل ، لما يتجلى ربنا على المؤمن  							يشعر بالسرور والسعادة ، إذ قال لك : أنا أسعد الناس  							فصدِّقْه ، ذات مرة قال لي شخصٌ كلمة ، أقسَمَ بالله  							ليس في الأرض - "أقسم بالله" - مَن هو أسعد مني ، فقلت  							: هذا الكلام ليس معقولاً ، ثم استدرك قائلاً : إلا أن  							يكون أتقى مني ، ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن  							يكون أتقى مني .
 							 							 							فلما يتعامل الإنسان مع خالق الكون ، ويمشي على منهج  							الله ، يجعل بيته إسلاميًا ، وعمله إسلاميًا ، يقرأ  							القرآن ، يذكر الله ، ويترك هذه الأجهزة التي تسمم  							حياتنا ، وتجعل حياتنا كلها حياة جنس ، حيث المصيبة  							الكبرى ، والخسارة المردية ، فنعوذ بالله مِن ذلك ،  							والحمد لله رب العالمين . 
 					تفسير القرآن الكريم
					لفضيلة  					الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي