23-12-2009, 08:17
|
رقم المشاركة : ( 15 )
|
لوني المفضل :
#360000
|
رقم العضوية :
1761
|
تاريخ التسجيل :
16 - 10 - 2009
|
فترة الأقامة :
5671 يوم
|
أخر زيارة :
17-03-2025
|
المشاركات :
2,517 [
+ ]
|
عدد النقاط :
11 |
|
|
رد: الجمهورية العربية السورية ...لشيماء الشام ...
دمشق عاصمة الدولة الأموية
بين قاسيون والغوطة تحتفظ دمشق بكنوز التاريخ وجمال الحياة
بائع الفول يفخر بزيارة عبد الناصر لمحله العتيق.. والقناعة سر نجاحه
عاصمة الأمويين مدينة المقامات.. والمجتمع ينتزع من الحداثة مكانا للتقاليد والأصالة
بين جبل قاسيون والغوطة تنام دمشق برفق مثل طفلة حالمة. من أعلى جبل قاسيون تبدو المدينة العريقة بعد الغروب كجوهرة عظيمة متلألئة، أو كحبات لؤلؤ براقة، نشرت على قماش أبيض بديع الجمال. ومن ناحية الغوطة تختفي دمشق خلف أشجار الحور الكاشفات عن سوقها كالجواري المصفوفة، وقد تطيبن وأخذن زينتهن، وبين أغصان الصفصاف وأوراق المشمش وشجر الجوز والكرز وثماره الشهية المتدلية، يختفي العمران، ولا تجد سوى الخضرة والجمال والريح الطيبة.
حين بدأت السيارة تصعد بنا أعلى جبل قاسيون، كان على السائق أن يزيدها من البنزين حتى تقدر على مواجهة قسوة الصعود. وحين استوينا على أعلى الجبل بدت دمشق بأضوائها الساحرة مثل جوهرة بديعة الجمال.. القمر ينتصب في كبد السماء، يزيد المشهد جمالا ودلالا، يرافق سيرنا الهوينى، ومآذن المساجد والجوامع الكثيرة في المدينة الأعرق على وجه الدنيا تبدو ليلا بلونها الأخضر الساحر مثل حبات لؤلؤ أو مرجان ترصع تاجا بديعا عظيم الأنوار.
على مد البصر تبدو خضرة المآذن منتشرة في سائر أطراف المدينة الضخمة. ويتزايد حضورها كلما اقتربت من الشام القديمة.. هنا يحجز الجامع الأموي، وهو أحد أهم معالم دمشق التاريخية، مكانة بارزة له في قلب المدينة، وحوله تنتشر الأسواق ومحلات الحرف اليدوية والمقاهي القديمة، حيث الحكواتي لا يزال يردد قصصه الأثيرة إلى القلوب منذ عقود أو قرون بعيدة.
رغم غياب الشمس فالجو لا يزال شديد الحرارة في هذا اليوم الصيفي القائض. لكنك حين تصعد قاسيون يأتيك الهواء المنعش باردا كاليقين حين يتمكن من أعماق الروح.. مئات من الناس يسيرون زرافات ووحدانا برفق على الطريق المعبد على سفح الجبل، والسيارات تتزاحم برفق صعودا أو نزولا، دون أن تنال من الراجلين، وأضواء المطاعم والمقاهي العامرة بالناس تدعونا للدخول.. لكن المشي في صحبة القمر ورؤية المدينة الزاهية المتلألئة تشدنا إليها، وتتغلب على ما نكابد من جوع.
الوقت يسير بخطو أسرع من خطونا.. والجو رائق، والهواء لطيف، والمدينة تتلألأ لا تعبئ بأحد، كأنها طاووس يتيه في خيلائه.. تخيرت ورفيقي الصحفي عبد الكريم مكانا هادئا في أحد المطاعم، حيث نرى القمر، ونطل على جمال دمشق الحالمة بأنوارها الزاهية ومساجدها ذات التاريخ العريق.. وكنا نغرق في أحاديث ونقاشات لا تخضع لترتيب مسبق، ثم نغرق في الصمت، لنصغي لصخب مدينة سحرت ملايين القلوب.
مدينة التاريخ والمقامات العظيمة
في النهار وفي زحمة الحياة في دمشق الشام، وبين الأسواق القديمة، والمحلات الحديثة، والشوارع المكتظة بالسيارات، تشد انتباهك كثير من معالم التاريخ والتقاليد الدمشقية الجميلة.. فدمشق مدينة عامرة بعبق التاريخ، وهي قبلة للزوار من كل مكان، وخاصة السياحة الدينية القادمة من العراق وإيران وباكستان وأجزاء من الخليج العربي، ومن سائر بلاد الدنيا الأخرى..
هنا قلعة دمشق شامخة على مر الزمان.. هناك المسجد الأموي الذي يفاخر به الدمشقيون ويعتبرونه أقدم معبد في التاريخ البشري.. يزوره الناس على مدار اليوم، وتأتي إليه العائلات الدمشقية من كل مكان للعبادة والسياحة.. هناك مقام السلطان العظيم صلاح الدين الأيوبي، مخلص القدس من أيدي الصليبيين.. مقام بسيط، قرب الجامع الأموي، لكنه لا يخلو من زائرين.. يأتونه لتلاوة الفاتحة على روح السلطان الفاتح، ويستمدون منه العزيمة، ويستلهمون منه الروح العظيمة، التي حررت العرب والمسلمين من فرقتهم ووهنهم وضعف نفوسهم، وردت عنهم موجة طغيان جارف عظيم.
هنا وهناك مقامات عديدة لعدد من أصحاب النبي محمد عليه السلام، ولبعض آل البيت الكرام، ولعدد من التابعين.. ففي طرف من دمشق الشام، وتحديدا في منطقة الميدان، مقبرة عظيمة تضم رفات العديد من الصحابة والتابعين وآل بيت النبوة، منهم أم حبيبة وأم سلمة زوجتا النبي محمد عليه السلام، ومقام الصحابي الجليل بلال بن رباح مؤذن الرسول، ذلك الحبشي الأسود الذي صدح صوته بالأذان فأسمع الدنيا عدالة وأخوة هذا الدين السمح.
وفي المقبرة ذاتها مقامات أخرى للسيدة فاطمة الصغرى بنت الإمام الحسين، وميمونة بنت الإمام الحسن، وأسماء بنت عميس زوجة جعفر الطيار، وحميدة بنت مسلم بن عقيل، وعبد الله بن الإمام جعفر الصادق، وعبد الله بن جعفر الطيار، وفضة جارية فاطمة الزهراء.. وفيها رفات الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي، وفيها العديد من وجوه الشام الحديثة وسلاطين الزمان القديم.
وفي طرف آخر من المدينة، على بعد بضعة أميال، مقام السيدة زينب: صرح عظيم ممرد من قوارير. نقوش بديعة، وفنون جميلة ساحرة، وعبقرية في استخدام زجاج المرآة المتعاكس، يعطي للمقام هيبة وجمالا وبهاء قل لها المثيل. هنا في هذا المقام ترى حركة وتسمع دعاء وصلاة وتلاوة وترانيم لا تكاد تنقطع. ترى أناسا من بلاد شتى، يتكلمون لغات شتى، يتزاحمون على المقام.. يقبلون جدره المشبكة ويمسحون مناديل خضر يحفظونها في جيوبهم لما فيها من بركة وخير كما يعتقدون.
وقد فاءت ظلال المقام الكريم على من حوله.. فمعظم المتاجر والمغازات والفنادق تخدم زوار هذا المقام.. فندق ضخم جميل المنظر بارع الترتيب، يتبع شبكة "سفير" العالمية من فئة 4 نجوم، أقيم قبل عامين لخدمة زوار المقام.. متاجر عديدة وحركة للبيع والشراء تستمر حتى الفجر. وتجار الشام "الشواطر" جاهزون للخدمة، طالما كان ذلك يدر عليهم المال.. ترى محلات وقد كتب عليها لافتات باللغة الفارسية.. وتسمع شبانا يكلمون زبائنهم بكلمات فارسية أو إنجليزية قليلة حفظوها قصدا أو بحكم المخالطة، لتيسير حركة تجارتهم مع هؤلاء القادمين من بلاد بعيدة.
قرب المقام ينتشر اللباس الأسود لدى النساء بشكل كبير.. سيدات سمينات يتمايلن في حركة ثقيلة، وأخريات نحيفات كعصا الخيزران.. نساء في أول العمر أو آخره، يتلحفن بأردية سوداء لا تكاد تنكشف منها سوى بعض أطراف الوجوه والأيدي، وتجد من ترتدي منهن نقابا أسود لا يبين منه شيء. وترى رجال دين من المذهب الشيعي بعمائم سود وبيض.. ومعظم القادمين يأتون لزيارة المقام، ولهم من حوله مآرب أخرى كثيرة. أحد رجال الدين قال لنا إنه قدم من العراق. وأن هذه هي المرة الرابعة التي يزور فيها المقام.. وحين سألته عن غرض الزيارة المتكرر، وهو الذي تقدم به العمر، قال إنه يأتي للصلاة وللدعاء على "ظلامة" أهل البيت، مشيرا إلى أنه يستمر في فعل ذلك لمدة ثلاثة أشهر كاملة في كل زيارة له.
الغوطة خضرة وجمال
غوطة دمشق، وتقع شرق العاصمة السورية، من أشهر الأماكن التي اقترن اسمها بالمدينة التاريخية العريقة منذ قرون مديدة. في هذه الغوطة هزم الصليبيون، وتحالفت الأشجار والأرض مع سكان البلد في محاربة الغزاة الزاحفين فهزموهم شر هزيمة.. في الغوطة، التي قصدناها ذات مساء وقد بدأت الشمس تميل إلى الزوال ظل ظليل وخضرة وجمال. أشجار الحور كأنها الحور وقد كشفن عن سوقهن فزادهن ذلك روعة وبهاء.
لا تبعد الغوطة عن دمشق سوى أميال قليلة. وبسبب قربها من العاصمة فإن العمران بدأ يزحف باتجاهها بشكل متسارع، وبدأ يأكل منها كل يوم مساحات جديدة. هنا بدأت فيلات الأثرياء تتزايد، والعمران يقترب.. لكن الحياة لا تزال رغم ذلك على طابعها القديم.. بعض القرى الصغيرة تتمتع بجمال حياة الريف وروعة عيش المدن.. إنها على البرزخ بين العاصمة وبين حياة الريف. لكن المنطقة محافظة، يبدو ذلك جليا من أشكال اللباس ونمط العلاقات بين الناس المائلة إلى الدفء والبساطة، وقلة التكلّف، وكرم الضيافة، ومن حشمة النساء وأزيائهن الوقورة.
وإذا ابتعد المرء دقائق معدودة عن تلك القرى زكمت أنفه روائح الأرض والأشجار وروث البقر والماشية.. هنا الخضرة الرائعة والظل الظليل.. يمكن للمرء أن يسير ساعات متتالية من دون أن يغادر ظل الشجر. أشجار من كل نوع وصنف وثمار دانية زكية الروائح رائعة الجمال.. هنا مكان مناسب لمئات العائلات السورية، التي تخرج من دورها، في هذا الصيف الحار، في تقليد دمشقي عريق يسمى السيران، وفيه تتجه العائلات نساء ورجالا وأطفالا، إلى الغابة العظيمة، تستظل بظلها، وتعيش فيها ساعات في أكل وشرب، ولهو ولعب، بعيدا عن صخب العاصمة وضجيجها.
في طرف من أطراف الغوطة وجدنا أنفسنا أمام حفل عرس كبير.. الضيوف صفوا صفوفا متقابلة.. العريس يتصدر المجلس، وفرقة المنشد السوري الشهير نور الدين خورشيد تملأ الفضاء طربا.. سوريان بلباس تقليدي يتبارزان بالسيف وبه يرقصان في عرض رائع جميل، يذكر بالسنين الخوالي.. ورجلان وطفل "يرقصون" رقصة المولوية في حركة دائرية بديعة الجمال، وهم في ثياب بيض يرفعها الدوران إلى أعلى، مما يجعل منها دائرية الشكل شديدة البهاء.. ويحار المرء كثيرا كيف لا يصابون بالدوار.
دخلنا إلى مكان الحفل فاستقبلنا بالترحاب الشديد.. شربنا القهوة المرة، ووزع علينا "الملبس"، وسمعنا من الأناشيد ما طاب لنا أن نسمع، وصورنا العريس بين أقرانه من الشباب في دبكة تلقائية متناغمة مع أصوات المنشدين، ثم غادرنا المكان.. غير بعيد من مكان العرس مررنا بتجمع لأسر بدوية جاءت بغنمها وماشيتها إلى الغوطة، ترعى بها في الأرض الحصيد.
تقيم تلك العائلات خياما عظيمة متقابلة صفوفا، أو متناثرة بغير نظام، وامرأة بدوية قرن زوجها الواقف إلى جوارها الأغنام بطريقة عجيبة، وهي تتنقل بين النعاج تحلبها.. سألنا البدوي لم لم يذهب إلى العرس.. قال "مالنا بهم علاقة.. ما دعونا للحفل.. هم نَوَر ونحن من عرب الجلمان"، المنتسبة إلى عشائر شمر، التي تقيم في شمال المملكة السعودية وغرب العراق وشرق وجنوب سورية وأطراف من بادية الأردن.
ودعنا البدوي وزوجه وأبناءه ونعاجه وكبشه الضخم، الذي بدا فخورا به، وطلب منا أن نصوره، وأصر على أن يراه في شاشة "الكاميرا" شامخا ورأسه إلى السماء.. توغلنا أكثر في الغوطة الجميلة، بين الأشجار، ورأينا كيف يكتب بعض العشاق أسماء من أحبوا على جذوع الشجر، يشكون إليه ما يكابدون من وله وشوق، أو يرسمون عيونا حوراء سبتهم، ومنها تتقاطر دموع الفراق.. سرنا في الغابة أكثر حتى أدركنا الليل، فكان لابد من العودة إلى دمشق، وقد كانت حصيلة يومنا وافرة، وليس للقارئ من حظ فيها سوى كلمات تقربه من المشهد.. ولكن الوصف دوما ليس كالعيان.


|
|
|
|