ابو المعتز
25-04-2009, 22:08
(http://3itab.jeeran.com/archive/2009/3/841670.html)بسم الله الرحمن الرحيم
العالم اليوم في مأتم كبير ، ضحاياه أمم لا أفراد ، وصرعاه ممالك وعروض ، ومباديء وحريات ، ودمار في الأنفس والأموال ، وخراب في كل مكان ، والأمم التي لم تكتو بنيران الحروب إلى الآن ، مكتوية بعذاب الانتظار ، وتوشك أن تدرك النار أخراها كما أدركت أولاها .
تضع كل أمة يدها على صدرها واجفة من مصيرها ، والناس كلهم في عماء ، لايدرون إلى أين ينتهون ، وكأنهم يمثلون يوم الفزع الأكبر وما صورته الأديان عند قيام الساعة .
إن الخيال ليعجز عن أن يتصور حقيقة مايحدث في العالم الآن من كوارث ، فقد غطيت الأرض بالأشلاء ، وصبغت بالدماء ، وجاء دور العلم يقدم للإنسانية أقصى ما يستطيع من شر ، كما قدم لها في السلم أقصى ما يستطيع من خير ، وهرعت الملايين من مكامنها تطلب الملجأ وتسير على غير هدى ، وتشتت الأسر لا يعرف بعضها مصير بعض إلى مايحصى من أهوال .
ومن قديم خلق الإنسان وخلقت معه مصائبه ، حتى لتوقع الملائكة منه ذلك قبل أن يخلق ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) فكانت المصائب ملازمة له ، وكأنها عنصر هام من عناصر وجوده ، وكأنها خاضعة لقانون النشوء والارتقاء ، تبدأ بسيطة ساذجة كما بدأ الإنسان ، وتعظم وتهول كلما تقدم الإنسان في العظم والرقي .
وتقرأ التاريخ فتراه سلسلة مصائب وسلسلة حروب ، نصرتها مصائب وهزيمتها مصائب ، فإن فترت الحروب حينا ، تتداول الأمم أنواعا من الكوارث الأخرى السلمية تختلف أشكالا وألوانا .
حتى كان من غريب أمر الإنسان أنه لايدرك اللذة إلا بالألم ، ولا الفائدة إلا بالمصيبة ، كما لا يدرك الحلو إلا بالمر ، ولا يمكن أن نتصور سعادة إلا بشقاء ، ولا شقاء إلا بسعادة ، فكأن السعادة والشقاء وجها القطعة من النقود ، لا يمكن أن يتصور وجود أحد الوجهين إلا بالآخر .
وتعجبني قصة صوفية ، وهي أن أحد المتصوفين دخل بلدة فأعجبه مافيها ، ثم زار مقبرتها فقرأ على أحد شواهدها هذا قبر فلان ، ألف كتاب كذا ، وكان عالما فاضلا ، ومات وعمره يومان ، وقرأ على قبر آخر ، هذا قبر فلان القائد العظيم الذي انتصر في موقعة كذا ، ومات وعمره ثلاثة أيام ، وفلان ملك الناحية ، وقد مات وعمره يوم ، فعجب من هذا كله ، وتوجه إلى خبير بالبلدة وسأله عن هذا اللغز الذي لم يفهمه ، فقال : إننا لا نعد من أيام حياتنا إلا الأيام السعيدة . فقال الصوفي : إني أود أن أموت ببلدكم ، وأرجو أن تكتبوا على قبري : هذا قبر صوفي رحالة ، جاب الأقطار وزار الأمصار ، ومات قبل أن يولد .
على أن المصائب نفسها ليست تخلو من وجه جميل وناحية رائعة ، فهي ليست قبحا صرفا ولا شقاءا خالصا ، بل كثيرا ما تكون بلسما كما تكون جروحا ، ودواءا كما تكون داءا.
إن الرخاء قد يفسد الطبيعة البشرية ، فلابد لها من شقاء يصلحها ، والحديد قد يفسد فلابد له من نار تذيبه حتى تصلحه وتذهب خبثه ، فكذلك النفوس قد يطغيها النعيم ويصدئها الترف ، فلابد لها من نار تكوى بها لتنصهر ويذهب رجسها .
ثم إذا أردت أن تعرف نفوس الناس حقا فتعرفها في أوقات المصائب لا في أوقات النعيم .
ويعجبني قول القائل : إن أعرف الناس بالناس الممرضات بالمستشفيات ، فهن اللائي يرين الناس في الكوارث ، فيعرفن كيف يجزعون أو يحتملون ، وكيف يفزعون أو يصبرون ، وكيف يضعفون أو يقوون ، أما خارج المستشفى فكلهم شجاع وكلهم قوي .
في أوقات الرخاء ترى الجمال المتصنع والقبح المتصنع ، وترى القبيح في شكل جميل والجميل في شكل قبيح ، أما في الشدة فترى الجمال عاريا والقبح عاريا ، وترى الحق حقا والباطل باطلا ، وترى الأوضاع تنقلب والقيم تختلف ، فيصبح لا يساوي شيئا من كنت تظنه يساوي ألوفا ، وُيقوم بالألوف من كنت تظن أنه لا يساوي شيئا .
حتى الموت – وهو ما يعد بحق ملك المصائب – هو الحجر الأساسي لنظام العالم ، ومصلح شأنه ، ولابد من الموت للحياة ، وهو بعد ذلك كما قال القائل : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا .
ثم الأمم لا تخلق إلا من المصائب ، ولاتحيا إلا بالموت ، ولا يكون زعماءها إلا الشدائد ، ولا يصهر نفوسها إلا عظائم الأمور ، ولا تنال استقلالها إلا بضحاياها ، وماترك الجهاد قوما إلا ذلوا ، ولا استسلم قوم للترف والنعيم إلا هانوا ، تلك هي قوانين طبيعية للعالم بمنزلة قوانين الحرارة والضوء والجاذبية ، لا تتغير ولا تتبدل مادام العالم هو العالم .
ويبلغ الرقي في بعض الأفراد أن يروا لذتهم في أن يألموا لإسعاد غيرهم ، وسعادتهم في تضحيتهم .
قد أرانا التاريخ – مع الأسف – أن الإنسانية لا ترقى إلا عن طريق المحن ، سواء في ذلك أفرادها وأممها ، فالفرد الذي يجد كل شيء ممهدا سهلا لا يصلح لشيء ، والغني المترف الذي يجد كل ما يشاء في الوقت الذي يشاء ، ثم لا يكلف نفسه شيئا أكثر من أن يستمتع بالحياة ، هو نبات طفيلي يستهلك ولا ينتج ، يوم تعصف به عاصفة من شدة يذهب مع الريح ولا يستطيع مقاومة ، إنما يثبت للحياة ويصلح للبقاء من عركته الأحداث ، وربته المصائب وصلبته الكوارث ، وهكذا شأن الأمم ، أصلبها عودا أصلحها للحياة ، وخير رجالها أقدرهم على التضحية ، والأمم التي تنعم تؤذن نعومتها بفنائها ، ولم تبلغ الأمم مثلها السامية من عدل وإخاء ومساواة وحرية إلا من طريق المصائب .
وصحة الأمم كصحة الأفراد ، فالمرض ينتاب من الأجسام أنعمها وأكثرها إخلادا للراحة ، والصحة لا تنال إلا بالأعمال الرياضية الشاقة ، وبذل الجهد المضني ، ولا لذة للراحة إلا بعد التعب ، ولا لذة للماء إلا بعد العطش ، ولا للأكل إلا بعد الجوع .
كذلك الأمم لا تدرك قيمة الخير إلا بالشر ، ولا الفوائد إلا بالمصائب ، ويوم تنزل بها الكوارث تؤمن بالحد ، وتحتقر التافه ، وتطلب المثل ، فأهلا بالموت إذا كانت فيه الحياة ، وبالشر إذا كان يتبعه الخير ...و:
مرحبا بالخطب يبلوني إذا
كانت العلياء فيه السببــــا
منقول
العالم اليوم في مأتم كبير ، ضحاياه أمم لا أفراد ، وصرعاه ممالك وعروض ، ومباديء وحريات ، ودمار في الأنفس والأموال ، وخراب في كل مكان ، والأمم التي لم تكتو بنيران الحروب إلى الآن ، مكتوية بعذاب الانتظار ، وتوشك أن تدرك النار أخراها كما أدركت أولاها .
تضع كل أمة يدها على صدرها واجفة من مصيرها ، والناس كلهم في عماء ، لايدرون إلى أين ينتهون ، وكأنهم يمثلون يوم الفزع الأكبر وما صورته الأديان عند قيام الساعة .
إن الخيال ليعجز عن أن يتصور حقيقة مايحدث في العالم الآن من كوارث ، فقد غطيت الأرض بالأشلاء ، وصبغت بالدماء ، وجاء دور العلم يقدم للإنسانية أقصى ما يستطيع من شر ، كما قدم لها في السلم أقصى ما يستطيع من خير ، وهرعت الملايين من مكامنها تطلب الملجأ وتسير على غير هدى ، وتشتت الأسر لا يعرف بعضها مصير بعض إلى مايحصى من أهوال .
ومن قديم خلق الإنسان وخلقت معه مصائبه ، حتى لتوقع الملائكة منه ذلك قبل أن يخلق ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) فكانت المصائب ملازمة له ، وكأنها عنصر هام من عناصر وجوده ، وكأنها خاضعة لقانون النشوء والارتقاء ، تبدأ بسيطة ساذجة كما بدأ الإنسان ، وتعظم وتهول كلما تقدم الإنسان في العظم والرقي .
وتقرأ التاريخ فتراه سلسلة مصائب وسلسلة حروب ، نصرتها مصائب وهزيمتها مصائب ، فإن فترت الحروب حينا ، تتداول الأمم أنواعا من الكوارث الأخرى السلمية تختلف أشكالا وألوانا .
حتى كان من غريب أمر الإنسان أنه لايدرك اللذة إلا بالألم ، ولا الفائدة إلا بالمصيبة ، كما لا يدرك الحلو إلا بالمر ، ولا يمكن أن نتصور سعادة إلا بشقاء ، ولا شقاء إلا بسعادة ، فكأن السعادة والشقاء وجها القطعة من النقود ، لا يمكن أن يتصور وجود أحد الوجهين إلا بالآخر .
وتعجبني قصة صوفية ، وهي أن أحد المتصوفين دخل بلدة فأعجبه مافيها ، ثم زار مقبرتها فقرأ على أحد شواهدها هذا قبر فلان ، ألف كتاب كذا ، وكان عالما فاضلا ، ومات وعمره يومان ، وقرأ على قبر آخر ، هذا قبر فلان القائد العظيم الذي انتصر في موقعة كذا ، ومات وعمره ثلاثة أيام ، وفلان ملك الناحية ، وقد مات وعمره يوم ، فعجب من هذا كله ، وتوجه إلى خبير بالبلدة وسأله عن هذا اللغز الذي لم يفهمه ، فقال : إننا لا نعد من أيام حياتنا إلا الأيام السعيدة . فقال الصوفي : إني أود أن أموت ببلدكم ، وأرجو أن تكتبوا على قبري : هذا قبر صوفي رحالة ، جاب الأقطار وزار الأمصار ، ومات قبل أن يولد .
على أن المصائب نفسها ليست تخلو من وجه جميل وناحية رائعة ، فهي ليست قبحا صرفا ولا شقاءا خالصا ، بل كثيرا ما تكون بلسما كما تكون جروحا ، ودواءا كما تكون داءا.
إن الرخاء قد يفسد الطبيعة البشرية ، فلابد لها من شقاء يصلحها ، والحديد قد يفسد فلابد له من نار تذيبه حتى تصلحه وتذهب خبثه ، فكذلك النفوس قد يطغيها النعيم ويصدئها الترف ، فلابد لها من نار تكوى بها لتنصهر ويذهب رجسها .
ثم إذا أردت أن تعرف نفوس الناس حقا فتعرفها في أوقات المصائب لا في أوقات النعيم .
ويعجبني قول القائل : إن أعرف الناس بالناس الممرضات بالمستشفيات ، فهن اللائي يرين الناس في الكوارث ، فيعرفن كيف يجزعون أو يحتملون ، وكيف يفزعون أو يصبرون ، وكيف يضعفون أو يقوون ، أما خارج المستشفى فكلهم شجاع وكلهم قوي .
في أوقات الرخاء ترى الجمال المتصنع والقبح المتصنع ، وترى القبيح في شكل جميل والجميل في شكل قبيح ، أما في الشدة فترى الجمال عاريا والقبح عاريا ، وترى الحق حقا والباطل باطلا ، وترى الأوضاع تنقلب والقيم تختلف ، فيصبح لا يساوي شيئا من كنت تظنه يساوي ألوفا ، وُيقوم بالألوف من كنت تظن أنه لا يساوي شيئا .
حتى الموت – وهو ما يعد بحق ملك المصائب – هو الحجر الأساسي لنظام العالم ، ومصلح شأنه ، ولابد من الموت للحياة ، وهو بعد ذلك كما قال القائل : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا .
ثم الأمم لا تخلق إلا من المصائب ، ولاتحيا إلا بالموت ، ولا يكون زعماءها إلا الشدائد ، ولا يصهر نفوسها إلا عظائم الأمور ، ولا تنال استقلالها إلا بضحاياها ، وماترك الجهاد قوما إلا ذلوا ، ولا استسلم قوم للترف والنعيم إلا هانوا ، تلك هي قوانين طبيعية للعالم بمنزلة قوانين الحرارة والضوء والجاذبية ، لا تتغير ولا تتبدل مادام العالم هو العالم .
ويبلغ الرقي في بعض الأفراد أن يروا لذتهم في أن يألموا لإسعاد غيرهم ، وسعادتهم في تضحيتهم .
قد أرانا التاريخ – مع الأسف – أن الإنسانية لا ترقى إلا عن طريق المحن ، سواء في ذلك أفرادها وأممها ، فالفرد الذي يجد كل شيء ممهدا سهلا لا يصلح لشيء ، والغني المترف الذي يجد كل ما يشاء في الوقت الذي يشاء ، ثم لا يكلف نفسه شيئا أكثر من أن يستمتع بالحياة ، هو نبات طفيلي يستهلك ولا ينتج ، يوم تعصف به عاصفة من شدة يذهب مع الريح ولا يستطيع مقاومة ، إنما يثبت للحياة ويصلح للبقاء من عركته الأحداث ، وربته المصائب وصلبته الكوارث ، وهكذا شأن الأمم ، أصلبها عودا أصلحها للحياة ، وخير رجالها أقدرهم على التضحية ، والأمم التي تنعم تؤذن نعومتها بفنائها ، ولم تبلغ الأمم مثلها السامية من عدل وإخاء ومساواة وحرية إلا من طريق المصائب .
وصحة الأمم كصحة الأفراد ، فالمرض ينتاب من الأجسام أنعمها وأكثرها إخلادا للراحة ، والصحة لا تنال إلا بالأعمال الرياضية الشاقة ، وبذل الجهد المضني ، ولا لذة للراحة إلا بعد التعب ، ولا لذة للماء إلا بعد العطش ، ولا للأكل إلا بعد الجوع .
كذلك الأمم لا تدرك قيمة الخير إلا بالشر ، ولا الفوائد إلا بالمصائب ، ويوم تنزل بها الكوارث تؤمن بالحد ، وتحتقر التافه ، وتطلب المثل ، فأهلا بالموت إذا كانت فيه الحياة ، وبالشر إذا كان يتبعه الخير ...و:
مرحبا بالخطب يبلوني إذا
كانت العلياء فيه السببــــا
منقول