أنيسة
13-01-2017, 16:55
http://up.3dlat.com/uploads/13614152893.gif
إنَّ المحاسبة الصَّادقة للنَّفس في ظلال التوحيد وعلى ضوءٍ من الكتاب والسنَّة - لا بدَّ وأن تُسلِم النفسَ إلى التوبة الخالصة لله ربِّ العالمين؛ لأنَّها إمَّا أن تشعر بالتقصير الشديد في حقِّ الله العزيز الحميد، وإمَّا أن تُحِسَّ بفظاعة الذَّنب وشناعة المعصية؛ لذلك فإنَّها تعزم عزمةً صادقة على التوبة والتطهر: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 2222].
ولكن التوبة لا بدَّ لها من شروطٍ ثلاثة؛ لتكون توبةً صحيحة مقبولة، وهي:
1- النَّدم على ما كان من تقصيرٍ أو عصيانٍ في الماضي.
2- والإقلاع عن ذلك في الحال.
3- والعَزم على عدم العودة إليه في المستقبل.
وللتوبة المقبولة علامات:
• منها أن يكون الإنسان بعد التوبة خيرًا منه قبلها؛ فإن كانت توبتُه من تقصيرٍ فإنَّه يسارِع إلى الخيرات ويتنافس في الطَّاعات، وإن كانت تَوبته من معصيةٍ فإنَّه يتطهَّر منها ويُقبِل على طاعة ربه ويحرص عليها.
• ومنها أن يَمتلئ قلبُه خشيةً لله وخوفًا أن لا تُقبل توبته؛ فيُكثر من الاستغفار والاعتذار إلى الله وما حدث منه؛ لعلَّ الله أن يتوب عليه؛ لأنَّ العبد لن يَتوب إلى ربِّه إلَّا إذا تاب عليه ربُّه أولًا؛ كما قال تعالى عن الثلاثة الذين خُلِّفوا: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 1188].
• ومنها أن لا يَأمن مَكر الله تعالى، فيَرجع عن توبته إلى ما كان عليه مِن قبل؛ فهو لا يزال في خوفٍ ووَجَل، لا يأمن مَكر الله طرفةَ عين: ﴿ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 999]، فهو لا يزال خائفًا حتى يُنادى عند قبض روحه: ﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 300]، حينئذ يطمئنُّ على حسن عاقبته.
ومما يساعِد العبد على التوبة: أن يَرى قُبح ما نهاه الله عنه، وحُسن ما أمره به، وأنَّه كان يَفعل القبيحَ حين كان يَفعل ما نهاه اللهُ عنه، وكان يَترك الحسَن حين كان يَترك ما أمره الله به، ولا يَستوي في الفِطرة السليمة القبيحُ والحسَن، فهل يستوي الخبيثُ والطيب؟! ومعنى ذلك أن يوقِظ الفطرةَ السَّليمة في نفسه، فتحبَّ الحسَن - أي: الطاعة - فتَعود إليها، وتَكرهَ القبيح - أي: المعصية - فتقلِع عنها.
وقد قال بعضُ العلماء: إنَّ الله لم يَأمر بشيء فقال العقل: ليتَه نهى عنه، وما نهى عن شيء فقال العقل: ليتَه أمَرَ به، ولا أحَلَّ شيئًا فقال العقلُ: ليتَه حرَّمه، ولا حرَّم شيئًا فقال العقلُ: ليتَه أباحَه؛ أي: العقل السليم، لا السَّقيم.
وكذلك التوَّابون حينما يَثوبون إلى رُشدهم يَعلمون أنَّ ما تركوه هو الخير، وما فَعلوه هو الشر فيلزمهم العدولُ عن الشرِّ إلى الخير، وإلَّا كانوا خارجين عن فِطرتهم مخالِفين لأمر الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 366].
وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 144].
وكم في القرآن الكريم من عِظاتٍ وعِبَر! ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 377].
وكم في الكون من آياتٍ وحِكَم! ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43].
أما إذا كانت تَوبة العبد من حقِّ آدميٍّ عليه؛ فإنَّها لا تُقبل إلَّا بشرطٍ رابع؛ وهو أن يُعطيه إيَّاه ويردَّه عليه إن كان حقًّا ماديًّا، أو يعطيه لورثَته إن كان قد مات، أو يتحلَّله منه إن كان حيًّا، أو من الورثَة إن أمكن؛ فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن كانت عنده مَظلمة لأخيه؛ من عِرضه أو من شيء فليتحلَّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا دِرهم؛ إن كان له عمَلٌ صالح أُخِذ منه بقَدر مظلمَته، وإن لم يَكن له حسنات أُخِذ من سيِّئات صاحبه، فحُمِل عليه))؛ رواه البخاري.
وإن كان حقُّ الآدمي أدبيًّا؛ كغيبة أو قَذف، فهل يُشترط في توبته منه إِعلامه بعَينه والتحلُّل منه؟ أو إعلامُه بأنَّه قد نال من عِرضه بدون تعيين؟ أو لا يُشترط هذا ولا ذاك؟
على خلافٍ بين العلماء في ذلك، والأقرب للصحَّة والله أعلم أنَّه إذا ترتَّب على إعلامه بذلك فِتنة وعداوة وبَغضاء؛ فإنَّه يُعلِمه بذلك في الجملة دون تعيين، لا سيما إذا كان الحق حقَّ قَذفٍ، أو يتوب إلى الله من ذَنبه ويَستغفر لصاحب الحقِّ عليه، ويُكثر من عمل الحسَنات؛ فـ ﴿ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 1144]، وقد اختار هذا الرَّأيَ شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ دَرءًا للمفاسِد التي قد تترتَّب على المصارحة، وخاصَّة إذا كانت تتعلَّق بالأعراض التي يَغار ويَغضب من أجلها الإنسانُ، ويتمنَّى أن لم يكن قد سمِع وعلِم بها.
ويؤيِّد ذلك ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رجلًا أصاب من امرأة قُبلة، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل اللهُ تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 1144]، فقال الرجل: أَلي هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((لجميع أمَّتي كلِّهم))؛ متفق عليه.
فقُبلة المرأة لا شك أنَّ فيها إلى جانب حقِّ الله حقًّا للآدمي، والرجلُ جاء تائبًا، وقد قَبِل الله توبتَه، وأمره بالمحافظة على الصَّلاة؛ فإنَّها تكفِّر سيِّئتَه، وجعل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لجميع المؤمنين، ولم يَأمره بأن يَذهب إلى أهل المرأة يتحلَّلهم من ذنبه.
قالوا: والفرق بين الحقوق الماليَّة والحقوق المعنويَّة من جهتين:
1- أنَّ الحقوق الماليَّة يَنتفع بها أصحابُها إذا رُدَّت إليهم، فلا يجوز إخفاؤها؛ فإنَّها مَحض حقٍّ يَجب عليه أداؤه مع الاستطاعة، بخلاف الغيبة والقَذف وغيرهما من الحقوق المعنويَّة؛ فليس لأصحابها مَنفعة فيها، بل على العكس ربَّما تهيِّجهم وتغضِبهم.
2- إذا علِم صاحبُ الحقوق الماليَّة بما له عند الآخرين ربَّما فرِح بذلك وحلَّله منه عن طِيب خاطر؛ لأنَّ المال غادٍ ورائح، بخلافِ ما إذا علم أنَّه قد نال من عِرضه ووقع فيه؛ فإنَّ ذلك يسوؤه ويحزِنه، وليس من السَّهل أن يحلِّله منه؛ بل ربَّما كلَّما رآه تذكَّر إساءتَه له، فتظل العداوةُ بينهما، والله أَرحم بعباده من أن يَتركهم هكذا متخاصِمين متعادِين ولو في الباطن: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 1433].
ولكن ما هي التوبة النَّصوح التي أُمرنا بها في قول الله عزَّ وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [التحريم: 88]، وقد رتَّب الله عليها تَكفير السيئات ودخول الجنة؟
• للعلماء في ذلك أقوال كثيرة، ويقول ابن القيِّم رحمه الله ما خلاصته:
"النُّصح في التوبة يتضمَّن ثلاثة أشياء:
1- تعميم جميع الذُّنوب واستغراقها؛ بحيث لا تدَع ذنبًا إلا تناولَته.
2- إجماع العَزم والصِّدق بكليَّته عليها؛ بحيث لا يبقى عنده تردُّد، ولا تلوُّم، ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرًا بها.
3- تخليصها من الشَّوائب والعِلل القادِحة في إخلاصها، ووقوعُها لمحض الخَوف من الله، وخَشيته والرَّغبة فيما لديه، والرَّهبة مما عنده.
ثمَّ قال:
فالأول: يتعلَّق بما يتوب منه، والثالث: يتعلَّق بمن يتوب إليه سبحانه، والأوسط: يتعلَّق بذات التائب نفسه؛ فنُصح التَّوبة: الصِّدق فيها والإخلاص، وتَعميم الذنوب بها.
ولا ريب أنَّ هذه التوبة تَستلزم الاستغفار وتتضمَّنه، وتَمحو جميعَ الذَّنب، وهي أَكمل ما يكون من التوبة.
والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله"اهـ.
http://up.3dlat.com/uploads/13614152895.gif
إنَّ المحاسبة الصَّادقة للنَّفس في ظلال التوحيد وعلى ضوءٍ من الكتاب والسنَّة - لا بدَّ وأن تُسلِم النفسَ إلى التوبة الخالصة لله ربِّ العالمين؛ لأنَّها إمَّا أن تشعر بالتقصير الشديد في حقِّ الله العزيز الحميد، وإمَّا أن تُحِسَّ بفظاعة الذَّنب وشناعة المعصية؛ لذلك فإنَّها تعزم عزمةً صادقة على التوبة والتطهر: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 2222].
ولكن التوبة لا بدَّ لها من شروطٍ ثلاثة؛ لتكون توبةً صحيحة مقبولة، وهي:
1- النَّدم على ما كان من تقصيرٍ أو عصيانٍ في الماضي.
2- والإقلاع عن ذلك في الحال.
3- والعَزم على عدم العودة إليه في المستقبل.
وللتوبة المقبولة علامات:
• منها أن يكون الإنسان بعد التوبة خيرًا منه قبلها؛ فإن كانت توبتُه من تقصيرٍ فإنَّه يسارِع إلى الخيرات ويتنافس في الطَّاعات، وإن كانت تَوبته من معصيةٍ فإنَّه يتطهَّر منها ويُقبِل على طاعة ربه ويحرص عليها.
• ومنها أن يَمتلئ قلبُه خشيةً لله وخوفًا أن لا تُقبل توبته؛ فيُكثر من الاستغفار والاعتذار إلى الله وما حدث منه؛ لعلَّ الله أن يتوب عليه؛ لأنَّ العبد لن يَتوب إلى ربِّه إلَّا إذا تاب عليه ربُّه أولًا؛ كما قال تعالى عن الثلاثة الذين خُلِّفوا: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 1188].
• ومنها أن لا يَأمن مَكر الله تعالى، فيَرجع عن توبته إلى ما كان عليه مِن قبل؛ فهو لا يزال في خوفٍ ووَجَل، لا يأمن مَكر الله طرفةَ عين: ﴿ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 999]، فهو لا يزال خائفًا حتى يُنادى عند قبض روحه: ﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 300]، حينئذ يطمئنُّ على حسن عاقبته.
ومما يساعِد العبد على التوبة: أن يَرى قُبح ما نهاه الله عنه، وحُسن ما أمره به، وأنَّه كان يَفعل القبيحَ حين كان يَفعل ما نهاه اللهُ عنه، وكان يَترك الحسَن حين كان يَترك ما أمره الله به، ولا يَستوي في الفِطرة السليمة القبيحُ والحسَن، فهل يستوي الخبيثُ والطيب؟! ومعنى ذلك أن يوقِظ الفطرةَ السَّليمة في نفسه، فتحبَّ الحسَن - أي: الطاعة - فتَعود إليها، وتَكرهَ القبيح - أي: المعصية - فتقلِع عنها.
وقد قال بعضُ العلماء: إنَّ الله لم يَأمر بشيء فقال العقل: ليتَه نهى عنه، وما نهى عن شيء فقال العقل: ليتَه أمَرَ به، ولا أحَلَّ شيئًا فقال العقلُ: ليتَه حرَّمه، ولا حرَّم شيئًا فقال العقلُ: ليتَه أباحَه؛ أي: العقل السليم، لا السَّقيم.
وكذلك التوَّابون حينما يَثوبون إلى رُشدهم يَعلمون أنَّ ما تركوه هو الخير، وما فَعلوه هو الشر فيلزمهم العدولُ عن الشرِّ إلى الخير، وإلَّا كانوا خارجين عن فِطرتهم مخالِفين لأمر الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 366].
وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 144].
وكم في القرآن الكريم من عِظاتٍ وعِبَر! ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 377].
وكم في الكون من آياتٍ وحِكَم! ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43].
أما إذا كانت تَوبة العبد من حقِّ آدميٍّ عليه؛ فإنَّها لا تُقبل إلَّا بشرطٍ رابع؛ وهو أن يُعطيه إيَّاه ويردَّه عليه إن كان حقًّا ماديًّا، أو يعطيه لورثَته إن كان قد مات، أو يتحلَّله منه إن كان حيًّا، أو من الورثَة إن أمكن؛ فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن كانت عنده مَظلمة لأخيه؛ من عِرضه أو من شيء فليتحلَّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا دِرهم؛ إن كان له عمَلٌ صالح أُخِذ منه بقَدر مظلمَته، وإن لم يَكن له حسنات أُخِذ من سيِّئات صاحبه، فحُمِل عليه))؛ رواه البخاري.
وإن كان حقُّ الآدمي أدبيًّا؛ كغيبة أو قَذف، فهل يُشترط في توبته منه إِعلامه بعَينه والتحلُّل منه؟ أو إعلامُه بأنَّه قد نال من عِرضه بدون تعيين؟ أو لا يُشترط هذا ولا ذاك؟
على خلافٍ بين العلماء في ذلك، والأقرب للصحَّة والله أعلم أنَّه إذا ترتَّب على إعلامه بذلك فِتنة وعداوة وبَغضاء؛ فإنَّه يُعلِمه بذلك في الجملة دون تعيين، لا سيما إذا كان الحق حقَّ قَذفٍ، أو يتوب إلى الله من ذَنبه ويَستغفر لصاحب الحقِّ عليه، ويُكثر من عمل الحسَنات؛ فـ ﴿ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 1144]، وقد اختار هذا الرَّأيَ شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ دَرءًا للمفاسِد التي قد تترتَّب على المصارحة، وخاصَّة إذا كانت تتعلَّق بالأعراض التي يَغار ويَغضب من أجلها الإنسانُ، ويتمنَّى أن لم يكن قد سمِع وعلِم بها.
ويؤيِّد ذلك ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رجلًا أصاب من امرأة قُبلة، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل اللهُ تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 1144]، فقال الرجل: أَلي هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((لجميع أمَّتي كلِّهم))؛ متفق عليه.
فقُبلة المرأة لا شك أنَّ فيها إلى جانب حقِّ الله حقًّا للآدمي، والرجلُ جاء تائبًا، وقد قَبِل الله توبتَه، وأمره بالمحافظة على الصَّلاة؛ فإنَّها تكفِّر سيِّئتَه، وجعل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لجميع المؤمنين، ولم يَأمره بأن يَذهب إلى أهل المرأة يتحلَّلهم من ذنبه.
قالوا: والفرق بين الحقوق الماليَّة والحقوق المعنويَّة من جهتين:
1- أنَّ الحقوق الماليَّة يَنتفع بها أصحابُها إذا رُدَّت إليهم، فلا يجوز إخفاؤها؛ فإنَّها مَحض حقٍّ يَجب عليه أداؤه مع الاستطاعة، بخلاف الغيبة والقَذف وغيرهما من الحقوق المعنويَّة؛ فليس لأصحابها مَنفعة فيها، بل على العكس ربَّما تهيِّجهم وتغضِبهم.
2- إذا علِم صاحبُ الحقوق الماليَّة بما له عند الآخرين ربَّما فرِح بذلك وحلَّله منه عن طِيب خاطر؛ لأنَّ المال غادٍ ورائح، بخلافِ ما إذا علم أنَّه قد نال من عِرضه ووقع فيه؛ فإنَّ ذلك يسوؤه ويحزِنه، وليس من السَّهل أن يحلِّله منه؛ بل ربَّما كلَّما رآه تذكَّر إساءتَه له، فتظل العداوةُ بينهما، والله أَرحم بعباده من أن يَتركهم هكذا متخاصِمين متعادِين ولو في الباطن: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 1433].
ولكن ما هي التوبة النَّصوح التي أُمرنا بها في قول الله عزَّ وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [التحريم: 88]، وقد رتَّب الله عليها تَكفير السيئات ودخول الجنة؟
• للعلماء في ذلك أقوال كثيرة، ويقول ابن القيِّم رحمه الله ما خلاصته:
"النُّصح في التوبة يتضمَّن ثلاثة أشياء:
1- تعميم جميع الذُّنوب واستغراقها؛ بحيث لا تدَع ذنبًا إلا تناولَته.
2- إجماع العَزم والصِّدق بكليَّته عليها؛ بحيث لا يبقى عنده تردُّد، ولا تلوُّم، ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرًا بها.
3- تخليصها من الشَّوائب والعِلل القادِحة في إخلاصها، ووقوعُها لمحض الخَوف من الله، وخَشيته والرَّغبة فيما لديه، والرَّهبة مما عنده.
ثمَّ قال:
فالأول: يتعلَّق بما يتوب منه، والثالث: يتعلَّق بمن يتوب إليه سبحانه، والأوسط: يتعلَّق بذات التائب نفسه؛ فنُصح التَّوبة: الصِّدق فيها والإخلاص، وتَعميم الذنوب بها.
ولا ريب أنَّ هذه التوبة تَستلزم الاستغفار وتتضمَّنه، وتَمحو جميعَ الذَّنب، وهي أَكمل ما يكون من التوبة.
والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله"اهـ.
http://up.3dlat.com/uploads/13614152895.gif