أنيسة
29-11-2010, 11:34
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الوسائل النبوية في كسب قلوب البرية
الوسيلة الأولى :
خدمة الناس ، وقضاء حوائجهم :
جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ، والميل إلى من يسعى في قضاء حاجاتها ، ولذلك قيل :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
وأولى الناس بالكسب هم أهلك وأقرباؤك ، ولذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي" . وعندما سئلت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل في بيته ؟ قالت : "كان يكون في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة" .
وإن منا من لا يبالي بكسب قلوب أقرب الناس إليه كوالديه وزوجته وأقربائه ، فتجد قلوبهم مثخنة بالكره أو بالضغينة عليه لتقصيره في حقهم ، وانشغاله عن أداء واجباته تجاههم .
ومن أصناف الناس الذين نحتاج لكسبهم ، ولهم الأفضلية على غيرهم الجيران ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره" ، وأي إكرام أكبر من دعوتهم إلى الهدى والتقى ،
ولذلك ينبغي أن نتحبب إلى الجار ، فنبدأه بالسلام ، ونعوده في المرض ، ونعزيه في المصيبة ، ونهنئه في الفرح ، ونصفح عن زلاته ، ولا نطلع إلى عوراته ، ونستر ما انكشف منها ، ونهتم بالأهداء إليه وزيارته وصنع المعروف معه ، وعدم إيذائه ..
وقد نفى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كمال الإيمان عن الذي يؤذي جاره فقال : "والله لا يؤمن . ." ثلاثا ، قال قائل : من هو يا رسول الله ؟ قال : "الذي لا يأمن جاره بوائقه" .
والبوائق : هي الشرور والأذى .
ومن الأصناف الذين ينبغي أن نكسبهم : من نقابلهم في العمل ممن هم بحاجة إلينا ، فإذا كنت طبيبا فالمرضى ، وإذا كنت مدرسا فالطلاب ، وإذا كنت موظفا فالمراجعون ، فلا بد من كسب قلوبهم من خلال تقديمك لأقصى ما تستطيعه من جهد في خدمتهم وإنجاز معاملاتهم ، وعدم تأخيرها ، فكم منا من يسمع من يدعو على موظف لم يكلف نفسه في تأدية ما عليه من واجبات في عمله ، ويؤخر معاملات الناس ،
وبالجملة . فإن الوظيفة مجال خصب لكسب قلوب الناس ،
وإنما خصصت الأصناف الثلاثة من الناس بالذكر ، وهم الأهل أو الأقرباء ، والجيران ، ومن نقابلهم في وظائفنا لسببين هما :
الأول : كثرة اللقاء بهم ،
والثاني : كثرة التقصير أو الإهمال في حقوقهم .
الوسيلة الثانية :
الحلم ، وكظم الغيظ :
يخطئ بعض الناس ـ أحيانا ـ في حقك .. يعد فيخلف ، أو يتأخر ، أو يقصر ، أو يجرحك بلسانه ، فلا بد لكسبه من حلم وكظم للغيظ ؛ لأنك صاحب هدف وغاية تريد أن تصل إليها ؛ ولذا لا بد من حسن تصرف ، والله ـ عز وجل ـ يمتدح هذا الصنف من الدعاة فيقول : "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : "كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جذبته ، ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك .. فالتفت إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضحك ، وأمر له بعطاء" .
وهذا الموقف من سيد الخلق ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ لا يحتاج منا إلى تعليق سوى أن نقول ما قاله الحق ـ عز وجل ـ في وصف نبيه : "وإنك لعلى خلق عظيم " .
الوسيلة الثالثة :
السماحة في المعاملة :
يوجز الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصول المعاملة التي يدخل بها المسلم إلى قلوب الناس ، ويكسب ودهم وحبهم فيقول : "رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" ، وفي رواية : "وإذا قضى" .
فالسماحة في البيع ألا يكون البائع شحيحا بسلعته . مغاليا في الربح . فظا في معاملة الناس .
والسماحة في الشراء أن يكون المشتري سهلا مع البائع ، فلا يكثر من المساومة ، بل يكون كريم النفس وبالأخص إذا كان المشتري غنيا والبائع ففيرا معدما .
والسماحة في الاقتضاء : أي عند طلب الرجل حقه أو دينه ، فإنه يطلبه برفق ولين .. وربما تجاوز عن المعسر أو أنظره كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعا : "كان رجل يداين الناس ، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا ، فتجاوز الله عنه" .
والسماحة في القضاء هي الوفاء بكل ما عليه من دين أو حقوق على أحسن وجه في الوقت الموعود ،
وأنظر كيف دخل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قلب هذا الرجل الذي روى قصته الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : "إن رجلا أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتقاضاه فأغلظ ، فهم به أصحابه ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "دعوه ، فإن لصاحب الحق مقالا" ، ثم قال : "أعطوه سنا مثل سنه" ، قالوا : يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سنه ، ففال : "أعطوه ، فإن من خيركم أحسنكم قضاء" ، فقال الرجل : أوفيتني أوفى الله بك" .
ومن السماحة في المعاملة عدم التشديد في محاسبة من قصر في حقك ، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : "خدمت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشر سنين ، والله ، ما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء لم فعلت كذا ؟ وهلا فعلت كذا" .
الوسيلة الرابعة :
المداراة :
المداراة ، وليست المداهنة ..
والمداراة هي لين الكلام ، والبشاشة وحسن العشرة لأناس عندهم شيء من الفجور والفسق لمصلحة شرعية . روى البخاري في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ "أن رجلا استأذن على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما رآه قال : "بئس أخو العشيرة" ، فلما جلس تطلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجهه وانبسط إليه ، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة : يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت : كذا وكذا ، ثم تطلقت في وجهه ، وانبسطت إليه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "يا عائشة ، متى عهدتيني فاحشا ؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه" .
قال القرطبي : والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا ، وهي مباحة ، وربما استحبت ،
والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا ـ والعياذ بالله ـ .
إذن . فنحن بحاجة إلى كسب قلوب الفسقة ـ أيضا ـ بلين الكلام ، والقيام بحسن العشرة لهدايتهم إلى الصواب ، أو على الأقل لاتقاء شرهم .
الوسيلة الخامسة :
إدخال السرور على الآخرين :
إن إدخال السرور على الآخرين من أهم الوسائل لتقوية الروابط وامتزاج القلوب وائتلافها ، كما أن إدخال السرور على المسلم يعد من أفضل القربات ، وأعظم الطاعات التي تقرب العبد إلى رب الأرض والسموات ..
ولإدخال السرور إلى القلوب المسلمة طرق كثيرة ، وأبواب عديدة منها : ما ورد في حديث ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ : "أحب الناس إلى الله أنفعهم ، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن" ،
ولكن كيف تدخله ؟!
قال : تكشف عنه كربا ، أو تقضي عنه دينا ، أو تطرد عنه جوعا ، ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إلي من أن أعتكف شهرا في المسجد ، ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام ، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل ، فإن لم تستطع عمل هذه الأعمال ، فلا أقل من الابتسامة والبشاشة ؛ فتبسمك في وجه من تلتقي به من المسلمين له أثره في كسب قلوبهم ؛ ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق" ،
والوجه الطليق هو الذي تظهر على محياه البشاشة والسرور .
قال جرير ـ رضي الله عنه ـ : "ما حجبني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم" ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينبسط مع الصغير والكبير .. يلاطفهم ويداعبهم ويمازحهم ، وكان لا يقول إلا حقا .
وإليك هاتين الصورتين من صور مداعبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكسبه لقلوب صحابته :
الصورة الأولى :
مع كبار السن :
أخرج أحمد عن أنس ـ رضي الله عنه ـ : "أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا ، وكان رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ يحبه ، وكان دميما ، فأتاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبيع متاعه ، فاحتضنه من خلفه ، ولا يبصره الرجل ، فقال : أرسلني .. من هذا ؟ فالتفت ، فعرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فجعل يلصق ظهره بصدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين عرفه ، وجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "من يشتري العبد ؟" . فقال : يا رسول الله ، إذن ـ والله ـ تجدني كاسدا ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لكن عند الله لست بكاسد" ، أو قال : "لكن عند الله غال" .
الصورة الثانية :
ملاطفته للأطفال وإدخال السرور عليهم :
فعند البخاري من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ : "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس خلقا ، وكان لي أخ فطيم يسمى أبا عمير ، لديه عصفور مريض اسمه النغير ، فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلاطف الطفل الصغير ويقول : "يا أبا عمير ، ما فعل النغير" ،
فما ترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبيلا إلى قلوب الناس إلا سلكه ما لم يكن حراما ، فإذا كان حراما كان أبعد الناس عنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .
الوسيلة السادسة :
احترام المسلمين ، وتقديرهم ، والتأدب معهم ، وتبجيلهم ، وإجلالهم :
لقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجل من يدخل عليه ويكرمه ، وربما بسط له ثوبه ، ويؤثره بالوسادة التي تحته ، ويعزم عليه بالجلوس عليها إن أبى ، وينزل الناس منازلهم ، ويعرف فضل أولي الفضل ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ يوم الفتح : "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه" .
الوسيلة السابعة :
حسن الكلام :
لقد حث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على طيب القول وحسن الكلام كما في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "الكلمة الطيبة صدقة" ؛ لما لها من أثر في تأليف القلوب وتطييب النفوس ،
إنه ليس المهم توصيل الحقيقة إلى الناس فقط ، ولكن الأهم هو الوعاء الذي سيحمل تلك الحقيقة إليهم ، والأسلوب أو الطريقة التي ستصلهم تلك الحقيقة بها ..
إن النصح علاج مر ، فليصحبه شيء من حلو الكلام ، فكن من الذين يعلمون الحق ، ويرحمون الخلق ، واسمع يحيى بن معاذ يقول : "أحسن شيء كلام رقيق ، يستخرج من بحر عميق ، على لسان رجل رقيق ، وكم من كلمة سوء نابية ألقاها صاحبها ، ولم يبال بنتائجها وبتبعاتها فرقت بين القلوب ، ومزقت الصفوف ، وزرعت الحقد والبغضاء والكراهية والشحناء في النفوس ، ولقد ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب " .
أيها الأخ الكريم ،
إليك هذا الموقف التربوي الذي دار فيه الحوار بين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعائشة ـ رضي الله عنها ـ .
قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : دخل رهط من اليهود على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا : السام عليكم ، قالت عائشة : ففهمتها ، فقلت : عليكم السام واللعنة ، قالت : فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "مهلا يا عائشة ، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله" ، فقلت : يا رسول الله ، أو لم تسمع ما قالوا ؟ قالت : فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "قد قلت : وعليكم " .
الوسيلة الثامنة :
التواضع ، ولين الجانب :
لقد كسب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتواضعه ولين جانبه قلوب الناس من حوله ، ذكر أنس ـ رضي الله عنه ـ صورة من صور تواضعه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال : "إن امرأة كان في عقلها شيء جاءته ققالت : إن لي إليك حاجة ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك" ، قال : فجلست ، فجلس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليها حتى فرغت من حاجتها"،
وعند البخاري : "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضي حاجتها" ،
ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "هون عليك ، فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد" .
وبهذا الأسلوب والتواضع ، ولين الجانب دخل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى شغاف قلوب الناس من حوله .
أما الظهور بمظهر الأستاذية ، والنظر إلى المسلمين نظرة دونية ، فهي صفة شيطانية لا تورث إلا البغض والقطيعة .. قال ـ تعالى ـ حكاية عن إبليس : "قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" .
وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من كان هينا ليا سهلا حرمه الله على النار" .
الوسيلة التاسعة :
الجود ، والكرم :
إن سخاء وجود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأسر القلوب ، ويطيب النفوس ، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ "أن رجلا سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعطاه غنما بين جبلين ، فرجع إلى بلده وقال : أسلموا ، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخسى فاقة" ، فانظر ـ وفقك الله ـ كيف أثر هذا السخاء النبوي في قلب هذا الرجل وجعل منه ـ بإذن الله ـ داعية إلى الإسلام وقد كان قبل حربا عليه ،
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : "ما سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شيء قط فقال لا" ،
ومن الجود الهدية ، فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "تهادوا تحابوا" ، فالهدية باب من أبواب كسب القلوب ، وتنمية التألف بينها .
الوسيلة العاشرة :
الرفق :
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" ، بل الرفق مفضل على كثير من الأخلاق ؛ لذا كان ما يعطيه الله لصاحبه من الثناء الحسن في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة أكثر مما يعطيه على غيره ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على ما سواه" .
ومن المواطن التي يتأكد فيها الرفق عند تقويم خطأ الجاهل ، وانظر إلى هذه الصورة المعبرة في تقويم الأشخاص عند خطئهم ، والتي يملؤها الرفق والرحمة ، فعن معاوية بن الحكم السلمي ـ رضي الله عنه ـ قال : "بينما أنا أصلي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : وا ثكل أماه ! ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت ، فلما صلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني ، قال : " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" ، أو كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قلت : يا رسول الله ، إني حديث عهد بجاهلية ، وقد جاء الله بالإسلام ، وإن منا رجالا يأتون الكهان ، قال : " فلا تاتهم" ، قلت : ومنا رجال يتطيرون ، قال : "ذاك شيء يجدونه في صدورهم ، فلا يصدنهم" .
والأمثلة على رفقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة كحديث الأعرابي الذي بال في المسجد ، ومعاملته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للشاب الذي استأذنه في الزنا ، وحسن تصرفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ معه .
وفي الجملة ، فإن الذي ينظر إلى هذه الوسائل يجد أنها لا تكاد تخرج عن دائرة الأخلاق ، فالتزامها إنما هو التزام بالخلق الحسن الذي قال عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" .
وقبل هذا وبعده فلنعلم أن ملاك ذلك كله هو الإقبال على الله . الإقبال على رب القلوب ونيل محبته لحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "إذا أحب الله عبدا نادى جبريل ، إن الله يحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، فينادي جبريل في أهل السماء ، إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض" ،
وحسبك بداعية قد وضع الله له القبول في أهل الأرض ،
قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ : والمراد بالقبول قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه والرضا عنه .
من كتيب
كيف تكسب الناس
م/ن للأمانة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الوسائل النبوية في كسب قلوب البرية
الوسيلة الأولى :
خدمة الناس ، وقضاء حوائجهم :
جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ، والميل إلى من يسعى في قضاء حاجاتها ، ولذلك قيل :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
وأولى الناس بالكسب هم أهلك وأقرباؤك ، ولذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي" . وعندما سئلت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل في بيته ؟ قالت : "كان يكون في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة" .
وإن منا من لا يبالي بكسب قلوب أقرب الناس إليه كوالديه وزوجته وأقربائه ، فتجد قلوبهم مثخنة بالكره أو بالضغينة عليه لتقصيره في حقهم ، وانشغاله عن أداء واجباته تجاههم .
ومن أصناف الناس الذين نحتاج لكسبهم ، ولهم الأفضلية على غيرهم الجيران ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره" ، وأي إكرام أكبر من دعوتهم إلى الهدى والتقى ،
ولذلك ينبغي أن نتحبب إلى الجار ، فنبدأه بالسلام ، ونعوده في المرض ، ونعزيه في المصيبة ، ونهنئه في الفرح ، ونصفح عن زلاته ، ولا نطلع إلى عوراته ، ونستر ما انكشف منها ، ونهتم بالأهداء إليه وزيارته وصنع المعروف معه ، وعدم إيذائه ..
وقد نفى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كمال الإيمان عن الذي يؤذي جاره فقال : "والله لا يؤمن . ." ثلاثا ، قال قائل : من هو يا رسول الله ؟ قال : "الذي لا يأمن جاره بوائقه" .
والبوائق : هي الشرور والأذى .
ومن الأصناف الذين ينبغي أن نكسبهم : من نقابلهم في العمل ممن هم بحاجة إلينا ، فإذا كنت طبيبا فالمرضى ، وإذا كنت مدرسا فالطلاب ، وإذا كنت موظفا فالمراجعون ، فلا بد من كسب قلوبهم من خلال تقديمك لأقصى ما تستطيعه من جهد في خدمتهم وإنجاز معاملاتهم ، وعدم تأخيرها ، فكم منا من يسمع من يدعو على موظف لم يكلف نفسه في تأدية ما عليه من واجبات في عمله ، ويؤخر معاملات الناس ،
وبالجملة . فإن الوظيفة مجال خصب لكسب قلوب الناس ،
وإنما خصصت الأصناف الثلاثة من الناس بالذكر ، وهم الأهل أو الأقرباء ، والجيران ، ومن نقابلهم في وظائفنا لسببين هما :
الأول : كثرة اللقاء بهم ،
والثاني : كثرة التقصير أو الإهمال في حقوقهم .
الوسيلة الثانية :
الحلم ، وكظم الغيظ :
يخطئ بعض الناس ـ أحيانا ـ في حقك .. يعد فيخلف ، أو يتأخر ، أو يقصر ، أو يجرحك بلسانه ، فلا بد لكسبه من حلم وكظم للغيظ ؛ لأنك صاحب هدف وغاية تريد أن تصل إليها ؛ ولذا لا بد من حسن تصرف ، والله ـ عز وجل ـ يمتدح هذا الصنف من الدعاة فيقول : "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : "كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جذبته ، ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك .. فالتفت إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضحك ، وأمر له بعطاء" .
وهذا الموقف من سيد الخلق ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ لا يحتاج منا إلى تعليق سوى أن نقول ما قاله الحق ـ عز وجل ـ في وصف نبيه : "وإنك لعلى خلق عظيم " .
الوسيلة الثالثة :
السماحة في المعاملة :
يوجز الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصول المعاملة التي يدخل بها المسلم إلى قلوب الناس ، ويكسب ودهم وحبهم فيقول : "رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" ، وفي رواية : "وإذا قضى" .
فالسماحة في البيع ألا يكون البائع شحيحا بسلعته . مغاليا في الربح . فظا في معاملة الناس .
والسماحة في الشراء أن يكون المشتري سهلا مع البائع ، فلا يكثر من المساومة ، بل يكون كريم النفس وبالأخص إذا كان المشتري غنيا والبائع ففيرا معدما .
والسماحة في الاقتضاء : أي عند طلب الرجل حقه أو دينه ، فإنه يطلبه برفق ولين .. وربما تجاوز عن المعسر أو أنظره كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعا : "كان رجل يداين الناس ، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا ، فتجاوز الله عنه" .
والسماحة في القضاء هي الوفاء بكل ما عليه من دين أو حقوق على أحسن وجه في الوقت الموعود ،
وأنظر كيف دخل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قلب هذا الرجل الذي روى قصته الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : "إن رجلا أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتقاضاه فأغلظ ، فهم به أصحابه ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "دعوه ، فإن لصاحب الحق مقالا" ، ثم قال : "أعطوه سنا مثل سنه" ، قالوا : يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سنه ، ففال : "أعطوه ، فإن من خيركم أحسنكم قضاء" ، فقال الرجل : أوفيتني أوفى الله بك" .
ومن السماحة في المعاملة عدم التشديد في محاسبة من قصر في حقك ، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : "خدمت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشر سنين ، والله ، ما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء لم فعلت كذا ؟ وهلا فعلت كذا" .
الوسيلة الرابعة :
المداراة :
المداراة ، وليست المداهنة ..
والمداراة هي لين الكلام ، والبشاشة وحسن العشرة لأناس عندهم شيء من الفجور والفسق لمصلحة شرعية . روى البخاري في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ "أن رجلا استأذن على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما رآه قال : "بئس أخو العشيرة" ، فلما جلس تطلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجهه وانبسط إليه ، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة : يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت : كذا وكذا ، ثم تطلقت في وجهه ، وانبسطت إليه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "يا عائشة ، متى عهدتيني فاحشا ؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه" .
قال القرطبي : والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا ، وهي مباحة ، وربما استحبت ،
والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا ـ والعياذ بالله ـ .
إذن . فنحن بحاجة إلى كسب قلوب الفسقة ـ أيضا ـ بلين الكلام ، والقيام بحسن العشرة لهدايتهم إلى الصواب ، أو على الأقل لاتقاء شرهم .
الوسيلة الخامسة :
إدخال السرور على الآخرين :
إن إدخال السرور على الآخرين من أهم الوسائل لتقوية الروابط وامتزاج القلوب وائتلافها ، كما أن إدخال السرور على المسلم يعد من أفضل القربات ، وأعظم الطاعات التي تقرب العبد إلى رب الأرض والسموات ..
ولإدخال السرور إلى القلوب المسلمة طرق كثيرة ، وأبواب عديدة منها : ما ورد في حديث ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ : "أحب الناس إلى الله أنفعهم ، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن" ،
ولكن كيف تدخله ؟!
قال : تكشف عنه كربا ، أو تقضي عنه دينا ، أو تطرد عنه جوعا ، ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إلي من أن أعتكف شهرا في المسجد ، ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام ، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل ، فإن لم تستطع عمل هذه الأعمال ، فلا أقل من الابتسامة والبشاشة ؛ فتبسمك في وجه من تلتقي به من المسلمين له أثره في كسب قلوبهم ؛ ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق" ،
والوجه الطليق هو الذي تظهر على محياه البشاشة والسرور .
قال جرير ـ رضي الله عنه ـ : "ما حجبني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم" ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينبسط مع الصغير والكبير .. يلاطفهم ويداعبهم ويمازحهم ، وكان لا يقول إلا حقا .
وإليك هاتين الصورتين من صور مداعبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكسبه لقلوب صحابته :
الصورة الأولى :
مع كبار السن :
أخرج أحمد عن أنس ـ رضي الله عنه ـ : "أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا ، وكان رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ يحبه ، وكان دميما ، فأتاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبيع متاعه ، فاحتضنه من خلفه ، ولا يبصره الرجل ، فقال : أرسلني .. من هذا ؟ فالتفت ، فعرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فجعل يلصق ظهره بصدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين عرفه ، وجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "من يشتري العبد ؟" . فقال : يا رسول الله ، إذن ـ والله ـ تجدني كاسدا ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لكن عند الله لست بكاسد" ، أو قال : "لكن عند الله غال" .
الصورة الثانية :
ملاطفته للأطفال وإدخال السرور عليهم :
فعند البخاري من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ : "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس خلقا ، وكان لي أخ فطيم يسمى أبا عمير ، لديه عصفور مريض اسمه النغير ، فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلاطف الطفل الصغير ويقول : "يا أبا عمير ، ما فعل النغير" ،
فما ترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبيلا إلى قلوب الناس إلا سلكه ما لم يكن حراما ، فإذا كان حراما كان أبعد الناس عنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .
الوسيلة السادسة :
احترام المسلمين ، وتقديرهم ، والتأدب معهم ، وتبجيلهم ، وإجلالهم :
لقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجل من يدخل عليه ويكرمه ، وربما بسط له ثوبه ، ويؤثره بالوسادة التي تحته ، ويعزم عليه بالجلوس عليها إن أبى ، وينزل الناس منازلهم ، ويعرف فضل أولي الفضل ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ يوم الفتح : "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه" .
الوسيلة السابعة :
حسن الكلام :
لقد حث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على طيب القول وحسن الكلام كما في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "الكلمة الطيبة صدقة" ؛ لما لها من أثر في تأليف القلوب وتطييب النفوس ،
إنه ليس المهم توصيل الحقيقة إلى الناس فقط ، ولكن الأهم هو الوعاء الذي سيحمل تلك الحقيقة إليهم ، والأسلوب أو الطريقة التي ستصلهم تلك الحقيقة بها ..
إن النصح علاج مر ، فليصحبه شيء من حلو الكلام ، فكن من الذين يعلمون الحق ، ويرحمون الخلق ، واسمع يحيى بن معاذ يقول : "أحسن شيء كلام رقيق ، يستخرج من بحر عميق ، على لسان رجل رقيق ، وكم من كلمة سوء نابية ألقاها صاحبها ، ولم يبال بنتائجها وبتبعاتها فرقت بين القلوب ، ومزقت الصفوف ، وزرعت الحقد والبغضاء والكراهية والشحناء في النفوس ، ولقد ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب " .
أيها الأخ الكريم ،
إليك هذا الموقف التربوي الذي دار فيه الحوار بين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعائشة ـ رضي الله عنها ـ .
قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : دخل رهط من اليهود على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا : السام عليكم ، قالت عائشة : ففهمتها ، فقلت : عليكم السام واللعنة ، قالت : فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "مهلا يا عائشة ، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله" ، فقلت : يا رسول الله ، أو لم تسمع ما قالوا ؟ قالت : فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "قد قلت : وعليكم " .
الوسيلة الثامنة :
التواضع ، ولين الجانب :
لقد كسب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتواضعه ولين جانبه قلوب الناس من حوله ، ذكر أنس ـ رضي الله عنه ـ صورة من صور تواضعه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال : "إن امرأة كان في عقلها شيء جاءته ققالت : إن لي إليك حاجة ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك" ، قال : فجلست ، فجلس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليها حتى فرغت من حاجتها"،
وعند البخاري : "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضي حاجتها" ،
ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "هون عليك ، فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد" .
وبهذا الأسلوب والتواضع ، ولين الجانب دخل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى شغاف قلوب الناس من حوله .
أما الظهور بمظهر الأستاذية ، والنظر إلى المسلمين نظرة دونية ، فهي صفة شيطانية لا تورث إلا البغض والقطيعة .. قال ـ تعالى ـ حكاية عن إبليس : "قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" .
وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من كان هينا ليا سهلا حرمه الله على النار" .
الوسيلة التاسعة :
الجود ، والكرم :
إن سخاء وجود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأسر القلوب ، ويطيب النفوس ، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ "أن رجلا سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعطاه غنما بين جبلين ، فرجع إلى بلده وقال : أسلموا ، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخسى فاقة" ، فانظر ـ وفقك الله ـ كيف أثر هذا السخاء النبوي في قلب هذا الرجل وجعل منه ـ بإذن الله ـ داعية إلى الإسلام وقد كان قبل حربا عليه ،
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : "ما سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شيء قط فقال لا" ،
ومن الجود الهدية ، فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "تهادوا تحابوا" ، فالهدية باب من أبواب كسب القلوب ، وتنمية التألف بينها .
الوسيلة العاشرة :
الرفق :
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" ، بل الرفق مفضل على كثير من الأخلاق ؛ لذا كان ما يعطيه الله لصاحبه من الثناء الحسن في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة أكثر مما يعطيه على غيره ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على ما سواه" .
ومن المواطن التي يتأكد فيها الرفق عند تقويم خطأ الجاهل ، وانظر إلى هذه الصورة المعبرة في تقويم الأشخاص عند خطئهم ، والتي يملؤها الرفق والرحمة ، فعن معاوية بن الحكم السلمي ـ رضي الله عنه ـ قال : "بينما أنا أصلي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : وا ثكل أماه ! ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت ، فلما صلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني ، قال : " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" ، أو كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قلت : يا رسول الله ، إني حديث عهد بجاهلية ، وقد جاء الله بالإسلام ، وإن منا رجالا يأتون الكهان ، قال : " فلا تاتهم" ، قلت : ومنا رجال يتطيرون ، قال : "ذاك شيء يجدونه في صدورهم ، فلا يصدنهم" .
والأمثلة على رفقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة كحديث الأعرابي الذي بال في المسجد ، ومعاملته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للشاب الذي استأذنه في الزنا ، وحسن تصرفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ معه .
وفي الجملة ، فإن الذي ينظر إلى هذه الوسائل يجد أنها لا تكاد تخرج عن دائرة الأخلاق ، فالتزامها إنما هو التزام بالخلق الحسن الذي قال عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" .
وقبل هذا وبعده فلنعلم أن ملاك ذلك كله هو الإقبال على الله . الإقبال على رب القلوب ونيل محبته لحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "إذا أحب الله عبدا نادى جبريل ، إن الله يحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، فينادي جبريل في أهل السماء ، إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض" ،
وحسبك بداعية قد وضع الله له القبول في أهل الأرض ،
قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ : والمراد بالقبول قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه والرضا عنه .
من كتيب
كيف تكسب الناس
م/ن للأمانة