أنيسة
14-10-2010, 19:51
[align=center] http://www.ahl-alsonah.com/up/upfiles/JnB67527.gif
سَبْع يَجْرِي لِلْعَبْد أَجْرُهُن وَهُو فِي قَبْرِه بَعْد مَوْتِه ...
الْحَمْدُلِلَّه الْمَحْمُودعَلَى كُل حَال، الْمَوْصُوْف بِصِفَات الْكَمَال وَالْجَلَال، لَه الْحَمْد فِي الْأُوْلَى وَالْآَخِرَة، وَإِلَيْه الْرُّجْعَى وَالْمَآل.
أَمَّا بَعْد: فَإِن مِن عَظِيْم نِعْمَة الْلَّه عَلَى عِبَادِه الْمُؤْمِنِيْن أَن هَيَّأ لَهُم أَبْوَابَا مِن الْبِر وَالْخَيْر وَالْإِحْسَان عَدِيْدَة ، يَقُوْم بِهَا الْعَبْد
الْمُوَفِّق فِي هَذِه الْحَيَاة ، وَيَجْرِي ثَوَابُهَا عَلَيْه بَعْد الْمَمَات، فَأَهْل الْقُبُور فِي قُبُوْرِهِم مُرْتَهَنُون، وَعَن الْأَعْمَال مُنْقْطَعُون،
وَعَلَى مَا قَدَّمُوْا فِي حَيَاتِهِم مُحَاسَبُوْن وَمَجْزِيُّون، وَبَيْنَمَا هَذَا الْمُوَفِّق فِي قَبْرِه الْحَسَنَات عَلَيْه مُتَوَالِيَة، وَالأُجُوْر وَالْأَفْضَال
عَلَيْه مُتَتَالِيَة ، يَنْتَقِل مِن دَارُالْعَمّل، وَلَا يَنْقَطِع عَنْه الْثَّوَاب، تَزْدَاد دَرَجَاتِه، وَتَتَنَامَى حَسَنَاتِه وَتَتَضَاعَف أُجُوُرَه وَهُوَفِي قَبْرِه، فَمَا أَكْرَمَهَا مِن حَال، وَمَا أَجْمَلَه وَأَطْيَبُه مِن مَآْل.
وَقَد ذَكَر الْرَّسُول أُمّورَا سَبْعَة يَجْرِي ثَوَابُهَا عَلَى الْإِنْسَان فِي قَبْرِه بَعْد مَا يَمُوْت، وَذَلِك فِيْمَا رَوَاه الْبَزَّار فِي مُسْنَدِه مِن حَدِيْث أَنَس بْن مَالِك أَن الْنَّبِي قَال:
(سَبْع يَجْرِي لِلْعَبْد أَجْرُهُن وَهُو فِي قَبْرِه بَعْد مَوْتِه: مِن عَلَّم عِلْمَا، أَو أَجْرَى نَهْرَا، أَو حَفَر بِئْرَا، أَو غَرَس نَخْلا، أَوَبَنّى مَسْجِدَا، أَو وَرَّث مُصْحَفِا، أَو تَرْك وَلَدا يَسْتَغْفِر لَه بَعْد مَوْتِه) [حَسَّنَه الْأَلْبَانِي فِي صَحِيْح الْجَامِع:3596]
وَتَأَمَّل أَخِي الْمُسْلِم مَلِيّا هَذِه الْأَعْمَال، وَاحْرِص عَلَى أَن يَكُوْن لَك مِنْهَا حَظ وَنَصِيْب مَادُمْت فِي دَار الْإِمْهَال، وَبَادِر إِلَيْهَا أَشَد الْمُبَادَرَة قَبْل أَن تَنْقَضِي الْأَعْمَار وَتَتَصَرّم الْآجَال.
وَإِلَيْك بَعْض الْبَيَان وَالْإِيْضَاح لِهَذِه الْأَعْمَال:
أَوَّلَا: تَعْلِيْم الْعِلْم،
وَالْمُرَاد بِالْعِلْم هُنَا الْعِلْم الْنَّافِع الَّذِي يُبْصَرَالنَّاس بِدِيْنِهِم، وَيُعَرِّفُهُم بِرَبِّهِم وَمَعْبُوْدِهِم، وَيَهْدِيْهِم إِلَى
صِرَاطَه الْمُسْتَقِيْم، الْعِلْم الَّذِي بِه يُعْرَف الْهُدَى مِن الضَّلَال، وَالْحَق مِن الْبَاطِل وَالْحَلَال مَن الْحَرَام، وَهْنَا يَتَبَيَّن عِظَم فَضْل
الْعُلَمَاء الْنَّاصِحِيْن وَالْدُّعَاة الْمُخْلَصِيْن، الَّذِيْن هُم فِي الْحَقِيقَة سِرَاج الْعِبَاد، وَمَنَار الْبِلَاد، وَقِوَام الْأُمَّة، وَيَنَابِيْع الْحِكْمَة،
حَيَاتُهُم غَنِيْمَة، وَمَوْتُهُم مُصِيْبَة، فَهُم يَعْلَمُوْن الْجَاهِل، وَيَذَّكَّرُوْن الْغَافِل، وَيُرْشِدُون الْضَّال، لَا يُتَوَقَّع لَهُم بِائِقَة، وَلَايُخَاف
مِنْهُم غَائِلَة، وَعِنْدَمَا يَمُوْت الْوَاحِد مِنْهُم تَبْقَى عُلُوْمِه بَيْن الْنَّاس مَوْرُوْثَة، وَمُؤَلَّفَاتِه وَأَقْوَالِه بَيْنَهُم مُتَدَاوَلَة، مِنْهَا يُفِيْدُوْن،
وَعَنْهَا يَأْخُذُوْن، وَهُو فِي قَبْرِه تَتَوَالَى عَلَيْه الْأُجُور، وَيَتَتَابَع عَلَيْه الْثَّوَاب، وَقَدِيمَا كَانُوْا يَقُوْلُوْن يَمُوْت الْعَالِم وَيَبْقَى
كِتَابَه، بَيْنَمَا الْآَن حَتَّى صَوْت الْعَالَم يَبْقَى مُسَجَّلا فِي الْأَشْرِطَة الْمُشْتَمِلَة عَلَى دُرُوْسِه الْعِلْمِيَّة، وَمُحَاضَرَاتِه الْنَّافِعَة، وَخَطْبُه الْقَيِّمَة فَيَنْتَفِع بِه أَجْيَال لَم يُعَاصَروهُوَلَم يُكْتَب لَهُم لْقِيْه.
وَمَن يُسْاهْم فِي طِبَاعَة الْكُتُب الْنَّافِعَة، وَنُشِر الْمُؤَلَّفَات الْمُفِيْدَة، وَتَوْزِيع الْأَشْرِطَة الْعِلْمِيَّة وَالْدَّعَوِيَّة فَلَه حَظ وَافِر مِن ذَلِك الْأَجْر إِن شَاء الْلَّه.
ثَانِيَا: إِجْرَاء الْنَّهْر،
وَالْمُرَاد شَق جَدَاوِل الْمَاء مِن الْعُيُوْن وَالأَنَهَارِلِكِي تَصِل الْمِيَاه إِلَى أَمَاكِن الْنَّاس وَمَزَارِعِهِم، فَيَرْتَوِي
الْنَّاس،وَتُسْقَى الْزُّرُوْع، وَتَشْرَب الْمَاشِيَة، وَكَم فِي مِثْل هَذَا الْعَمَل الْجَلِيْل وَالتَّصَرُّف الْنَّبِيّل مِن الْإِحْسَان إِلَى الْنَّاس،
وَالتَّنْفِيس عَنْهُم بِتَيْسِيْر حُصُوْل الْمَاء الَّذِي بِه تَكُوْن الْحَيَاة، بَل هُو أَهَم مُقَوِّمَاتُهَا، وَيَلْتَحِق بِهَذَا مُد الْمَاء عَبْر الْأَنَابِيْب إِلَى أَمَاكِن الْنَّاس، وَكَذَلِك وَضَع بُرَادَات الْمَاء فِي طُرُقِهِم وَمَوَاطِن حَاجَاتُهُم.
ثَالِثَا: حَفَر الْآَبَار،
وهُوَنَظِيّر مَاسَبَق وَقَد جَاء فِي الْسُّنَّة أَن الْنَّبِي قَال: { بَيْنَمَا رَجُل فِي طَرِيْق فَاشْتَد عَلَيْه الْعَطَش، فَوَجَد
بِئِرِا فَنَزَل فِيْهَا فَشَرِب، ثُم خَرَج، فَإِذَا كَلْب يَلْهَث يَأْكُل الْثَّرَى مِن الْعَطَش، فَقَال الْرَّجُل: لَقَد بَلَغ هَذَا الْكَلْب مِن الْعَطَش مِثْل
الَّذِي كَان بَلَغ مِنِّي، فَنَزَل الْبِئْر فَمَلَأ خُفَّه مَاء فَسَقَى الْكَلْب، فَشَكَر الْلَّه لَه فَغَفَر لَه }، قَالُوْا: يَا رَسُوْل الْلَّه وَإِن لَنَا فِي الْبَهَائِم أَجْرَا ؟ فَقَال: { فِي كُل ذَات كَبِد رَطْبَة ٍ أَجْر } [مُتَّفَق عَلَيْه.
فَكَيْف إِذَا بِمَن حُفِر الْبِئْر وَتُسَبِّب فِي وُجُوْدِهَا حَتَّى ارْتَوَا مِنْهَا خَلَق، وَانْتَفَع بِهَا كَثِيْرُوْن.
رَابِعَا: غَرَس الْنَّخْل،
وَمَن الْمَعْلُوْم أَن الْنَّخْل سَيِّد الأشِّجَاروَأفْضَلَهَا وَأَنْفَعِهَا وَأَكْثَرِهَا عَائِدَة عَلَى الْنَّاس، فَمَن غَرَس نَخْلا وَسُبُل ثَمَرِه لِلْمُسْلِمِيْن فَإِن أَجْرُه يَسْتَمِر كُلَّمَا طَعِم مِن ثَمَرِه طَاعِم، وَكُلَّمَا انْتَفَع بِنَخْلِه مُنْتَفَع مِن إِنْسَان ٍأو حَيَوَان، وَهَكَذَا الشَّأْن فِي غَرْس كُلَّمَا يَنْفَع الْنَّاس مِن الْأَشْجَار، وَإِنَّمَا خَص الْنَّخْل هُنَا بِالذكرِلِفَضْلَّه وَتَمَيُّزِه.
خَامِسَا: بِنَاء الْمَسَاجِد
الَّتِي هِي أَحَب الْبِقَاع إِلَى الْلَّه، وَالَّتِي أَذِن الْلَّه جَلَا وَعَلَّا أَن تُرْفَع وَيُذْكَر فِيْهَا اسْمُه، وَإِذَا بُنِي الْمَسْجِد أُقِيْمَت فِيْه الْصَّلاة، وَتُلِي فِيْه الْقُرْآَن، وَذَكَر فِيْه الْلَّه، وَنُشِر فِيْه الْعِلْم، وَاجْتَمَع فِيْه الْمُسْلِمُوْن،إِلَى غَيْر ذَلِك مِن الْمَصَالِح الْعَظِيْمَة، وَلْبَانِيْه أَجْر فِي ذَلِك كُلِّه، وَقَد ثَبَت فِي الْحَدِيْث عَن الْنَّبِي صَلَوَات الْلَّه عَلَيْه وَسَلَامُه أَنَّه قَال: { مِن بَنِى مَّسْجِدا يَبْتَغِي بِه وَجْه الْلَّه بَنَى الْلَّه لَه بَيْتَا فِي الْجَنَّة } [مُتَّفَق عَلَيْه].
سَادِسا: تَوْرِيْث الْمُصْحَف،
وَذَلِك يَكُوْن بِطِبَاعَة الْمَصَاحِف أَوَشِرَائِهَا وَوَقَفَهَا فِي الْمَسَاجِد، وَدَوْر الْعِلْم حَتَّى يَسْتَفِيْد مِنْهَا الْمُسْلِمُوْن، ولْواقِفَهَا أَجْرعَظِيم كُلَّمَا تَلَا فِي ذَلِك الْمُصْحَف تَال، وَكُلَّمَا تَدَبَّر فِيْه مُتَدَبِّر، وَكُلَّمَا عَمِل بِمَا فِيْه عَامِل.
سَابِعَا: تَرْبِيَة الْأَبْنَاء،
وَحُسْن تَأْدِيبِهِم، وَالْحِرْص عَلَى تَنْشَّأْتِهُم عَلَى الْتَّقْوَى وَالْصَّلَاح، حَتَّى يَكُوْنُوْا أَبْنَاء بَرَرَة ً وَأَوْلَاد صَالِحِيِن، فَيَدْعُوَن لأَبَوِيْهُم بِالْخَيْر،وَيُسْأَلُوْن الْلَّه لَهُمَا الْرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة، فَإِن هَذَا مِمَّا يَنْتَفِع بِه الْمَيِّت فِي قَبْرِه.
وَقَد وَرَد فِي الْبَاب فِي مَعْنَى الْحَدِيْث الْمُتَقَدِّم مَارَوَاه ابْن مَاجَه مِن حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَة قَال: قَال رَسُوْل الْلَّه : { إِن مِمَّا يَلْحَق
الْمُؤْمِن مِن عَمَلِه وَحَسَنَاتِه بَعْد مَوْتِه عِلْمَا عَلَّمَه وَنَشَرَه، وَوُلِدا صَالِحا تَرْكُه، وَمُصُحُفا وَرَّثَه أَو مَّسْجِدا بَنَاه، أَو بَيْتَا لِابْن
الْسَّبِيل بَنَاه، أَو نَهْرَا أَجْرَاه، أَو صَدَقَة أَخْرَجَهَا مِن مَالِه فِي صِحَّتِه وَحَيَاتِه تَلْحَقُه مِن بَعْد مَوْتِه } [حُسْنَه الْأَلْبَانِي فِي
صَحِيْح ابْن مَاجَه: 198].
وَرَوَّى أَحْمَد وَالْطَّبَرَانِي عَن أَبِي أُمَامَة قَال: قَال رَسُوْل : { أَرْبَعَة تَجْرِي عَلَيْهِم أُجُوْرُهُم بَعْد الْمَوْت: مَن مَات مُرَابِطَا فِي سَبِيِل الْلَّه، وَمَن عَلَّم عِلْمَا أَجْرَى لَه عَمَلُه مَاعُمِل بِه، وَمَن تَصَدَّق بِصَدَقَة فَأَجْرُهُا يَجْرِي لَه مَا وَجَدْت، وَرَجُل تَرَك وَلَدَا صَالِحَا فَهُو يَدْعُوْلَه } [صَحِيْح الْجَامِع: 890].
وَفِي صَحِيْح مُسْلِم مِن حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَة أَن رَسُوْل الْلَّه قَال: (إِذَا مَات ابْن آَدَم انْقَطَع عَمَلُه إِلَّا مِن ثَلَاث: صَدَقَة جَارِيَة، أَو عِلْم يُنْتَفَع بِه أَوْوَلَد صَالِح يَدْعُو لَه).
وَقَد فَسَّر جَمَاعَة مِن أَهْل الْعِلْم الْصَّدَقَة الْجَارِيَة بِأَنَّهَا الْأَوْقَاف، وَهِي أَن يَحْبِس الْأَصْل وَتُسَبِّل مَنْفَعَتِه، وَجَل الْخِصَال الْمُتَقَدِّمَة دَاخَلَة فِي الْصَّدَقَة الْجَارِيَة.
وَقَوْلُه: { أَو بَيْتا لِابْن الْسَّبِيل بَنَاه } فِيْه فَضْل بِنَاء الدُّوَر وَوَقَفَهَا لِيَنْتَفِع بِهَا الْمُسْلِمُوْن سَوَاء ابْن الْسَّبِيل أَو طُلُاب الْعِلْم، أَو الْأَيْتَام، أَو الْأَرَامِل،أَوَالْفُقُرَاء وَالْمَسَاكِيْن. وَكَم فِي هَذَا مِن الْخَيْر وَالْإِحْسَان.
وَقَد تَحْصُل بِمَا تَقَدَّم جُمْلَة مَن الْأَعْمَال الْمُبَارَكَة إِذَا قَام بِهَا الْعَبْد فِي حَيَاتِه جَرَى لَه ثَوَابُهَا بَعْد الْمَمَات،وَقَد نَظَمَهَا الْسُّيُوْطِي فِي أَبْيَات فَقَال:
إِذَا مَات ابْن آَدَم لَيْس يَجْرِي *** عَلَيْه مِن فِعَال غَيْر عَشْر
عْلومَبُثُهَا، وَدُعَاء نَجْل *** وَغَرَس الْنَّخْل، وَالْصَّدَقَات تَجْرِي
وِرَاثَة مُصْحَف، وَرِبَاط ثَغْر *** وَحَفَر الْبِئْر، أَو إِجْرَاء نَهْر
وَبَيْت لِلْغَرِيْب بَنَاه يَأْوِي *** إِلَيْه، أَو بِنَاء مَحَل ذِكْر
وَقَوْلُه: ( وَرِبَاط ثَغْر ) شَاهَدَه حَدِيْث أَبِي أُمَامَة الْمُتَقَدِّم، وَمَا رَوَاه مُسْلِم فِي صَحِيْحِه مِن حَدِيْث سَلْمَان الْفَارِسِي رَضِي الْلَّه
عَنْه: قَال سَمِعْت رَسُوْل الْلَّه يَقُوْل: { رِبَاط يَوْم وَلَيْلَة خَيْر مِن صِيَام شَهْر وَقِيَامِه وَإِن مَات جَرَى عَلَيْه عَمَلُه الَّذِي كَان يَعْمَلُه
وَأَجْر يُعْلِيْه رِزْقَه، وَأَمِن الْفَّتَّان } أَي يَنْمُو لَه عَمَلُه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَيَأْمَن مِن فِتْنَة الْقَبْر.
وَنَسْأَل الْلَّه جَل وَعَلَا أَن يُوَفِّقَنَا لِكُل خَيْر، وَأَن يُعِيْنُنَا عَلَى الْقِيَام بِأَبْوَاب الْإِحْسَان، وَأَن يَهْدِيَنَا سَوَاء الْسَّبِيل، وَصَلَّى الْلَّه عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آَلِه وَصَحْبِه أَجْمَعِيْن.
http://ahl-alsonah.com/up/upfiles/fFj74465.gif
م/ن
سَبْع يَجْرِي لِلْعَبْد أَجْرُهُن وَهُو فِي قَبْرِه بَعْد مَوْتِه ...
الْحَمْدُلِلَّه الْمَحْمُودعَلَى كُل حَال، الْمَوْصُوْف بِصِفَات الْكَمَال وَالْجَلَال، لَه الْحَمْد فِي الْأُوْلَى وَالْآَخِرَة، وَإِلَيْه الْرُّجْعَى وَالْمَآل.
أَمَّا بَعْد: فَإِن مِن عَظِيْم نِعْمَة الْلَّه عَلَى عِبَادِه الْمُؤْمِنِيْن أَن هَيَّأ لَهُم أَبْوَابَا مِن الْبِر وَالْخَيْر وَالْإِحْسَان عَدِيْدَة ، يَقُوْم بِهَا الْعَبْد
الْمُوَفِّق فِي هَذِه الْحَيَاة ، وَيَجْرِي ثَوَابُهَا عَلَيْه بَعْد الْمَمَات، فَأَهْل الْقُبُور فِي قُبُوْرِهِم مُرْتَهَنُون، وَعَن الْأَعْمَال مُنْقْطَعُون،
وَعَلَى مَا قَدَّمُوْا فِي حَيَاتِهِم مُحَاسَبُوْن وَمَجْزِيُّون، وَبَيْنَمَا هَذَا الْمُوَفِّق فِي قَبْرِه الْحَسَنَات عَلَيْه مُتَوَالِيَة، وَالأُجُوْر وَالْأَفْضَال
عَلَيْه مُتَتَالِيَة ، يَنْتَقِل مِن دَارُالْعَمّل، وَلَا يَنْقَطِع عَنْه الْثَّوَاب، تَزْدَاد دَرَجَاتِه، وَتَتَنَامَى حَسَنَاتِه وَتَتَضَاعَف أُجُوُرَه وَهُوَفِي قَبْرِه، فَمَا أَكْرَمَهَا مِن حَال، وَمَا أَجْمَلَه وَأَطْيَبُه مِن مَآْل.
وَقَد ذَكَر الْرَّسُول أُمّورَا سَبْعَة يَجْرِي ثَوَابُهَا عَلَى الْإِنْسَان فِي قَبْرِه بَعْد مَا يَمُوْت، وَذَلِك فِيْمَا رَوَاه الْبَزَّار فِي مُسْنَدِه مِن حَدِيْث أَنَس بْن مَالِك أَن الْنَّبِي قَال:
(سَبْع يَجْرِي لِلْعَبْد أَجْرُهُن وَهُو فِي قَبْرِه بَعْد مَوْتِه: مِن عَلَّم عِلْمَا، أَو أَجْرَى نَهْرَا، أَو حَفَر بِئْرَا، أَو غَرَس نَخْلا، أَوَبَنّى مَسْجِدَا، أَو وَرَّث مُصْحَفِا، أَو تَرْك وَلَدا يَسْتَغْفِر لَه بَعْد مَوْتِه) [حَسَّنَه الْأَلْبَانِي فِي صَحِيْح الْجَامِع:3596]
وَتَأَمَّل أَخِي الْمُسْلِم مَلِيّا هَذِه الْأَعْمَال، وَاحْرِص عَلَى أَن يَكُوْن لَك مِنْهَا حَظ وَنَصِيْب مَادُمْت فِي دَار الْإِمْهَال، وَبَادِر إِلَيْهَا أَشَد الْمُبَادَرَة قَبْل أَن تَنْقَضِي الْأَعْمَار وَتَتَصَرّم الْآجَال.
وَإِلَيْك بَعْض الْبَيَان وَالْإِيْضَاح لِهَذِه الْأَعْمَال:
أَوَّلَا: تَعْلِيْم الْعِلْم،
وَالْمُرَاد بِالْعِلْم هُنَا الْعِلْم الْنَّافِع الَّذِي يُبْصَرَالنَّاس بِدِيْنِهِم، وَيُعَرِّفُهُم بِرَبِّهِم وَمَعْبُوْدِهِم، وَيَهْدِيْهِم إِلَى
صِرَاطَه الْمُسْتَقِيْم، الْعِلْم الَّذِي بِه يُعْرَف الْهُدَى مِن الضَّلَال، وَالْحَق مِن الْبَاطِل وَالْحَلَال مَن الْحَرَام، وَهْنَا يَتَبَيَّن عِظَم فَضْل
الْعُلَمَاء الْنَّاصِحِيْن وَالْدُّعَاة الْمُخْلَصِيْن، الَّذِيْن هُم فِي الْحَقِيقَة سِرَاج الْعِبَاد، وَمَنَار الْبِلَاد، وَقِوَام الْأُمَّة، وَيَنَابِيْع الْحِكْمَة،
حَيَاتُهُم غَنِيْمَة، وَمَوْتُهُم مُصِيْبَة، فَهُم يَعْلَمُوْن الْجَاهِل، وَيَذَّكَّرُوْن الْغَافِل، وَيُرْشِدُون الْضَّال، لَا يُتَوَقَّع لَهُم بِائِقَة، وَلَايُخَاف
مِنْهُم غَائِلَة، وَعِنْدَمَا يَمُوْت الْوَاحِد مِنْهُم تَبْقَى عُلُوْمِه بَيْن الْنَّاس مَوْرُوْثَة، وَمُؤَلَّفَاتِه وَأَقْوَالِه بَيْنَهُم مُتَدَاوَلَة، مِنْهَا يُفِيْدُوْن،
وَعَنْهَا يَأْخُذُوْن، وَهُو فِي قَبْرِه تَتَوَالَى عَلَيْه الْأُجُور، وَيَتَتَابَع عَلَيْه الْثَّوَاب، وَقَدِيمَا كَانُوْا يَقُوْلُوْن يَمُوْت الْعَالِم وَيَبْقَى
كِتَابَه، بَيْنَمَا الْآَن حَتَّى صَوْت الْعَالَم يَبْقَى مُسَجَّلا فِي الْأَشْرِطَة الْمُشْتَمِلَة عَلَى دُرُوْسِه الْعِلْمِيَّة، وَمُحَاضَرَاتِه الْنَّافِعَة، وَخَطْبُه الْقَيِّمَة فَيَنْتَفِع بِه أَجْيَال لَم يُعَاصَروهُوَلَم يُكْتَب لَهُم لْقِيْه.
وَمَن يُسْاهْم فِي طِبَاعَة الْكُتُب الْنَّافِعَة، وَنُشِر الْمُؤَلَّفَات الْمُفِيْدَة، وَتَوْزِيع الْأَشْرِطَة الْعِلْمِيَّة وَالْدَّعَوِيَّة فَلَه حَظ وَافِر مِن ذَلِك الْأَجْر إِن شَاء الْلَّه.
ثَانِيَا: إِجْرَاء الْنَّهْر،
وَالْمُرَاد شَق جَدَاوِل الْمَاء مِن الْعُيُوْن وَالأَنَهَارِلِكِي تَصِل الْمِيَاه إِلَى أَمَاكِن الْنَّاس وَمَزَارِعِهِم، فَيَرْتَوِي
الْنَّاس،وَتُسْقَى الْزُّرُوْع، وَتَشْرَب الْمَاشِيَة، وَكَم فِي مِثْل هَذَا الْعَمَل الْجَلِيْل وَالتَّصَرُّف الْنَّبِيّل مِن الْإِحْسَان إِلَى الْنَّاس،
وَالتَّنْفِيس عَنْهُم بِتَيْسِيْر حُصُوْل الْمَاء الَّذِي بِه تَكُوْن الْحَيَاة، بَل هُو أَهَم مُقَوِّمَاتُهَا، وَيَلْتَحِق بِهَذَا مُد الْمَاء عَبْر الْأَنَابِيْب إِلَى أَمَاكِن الْنَّاس، وَكَذَلِك وَضَع بُرَادَات الْمَاء فِي طُرُقِهِم وَمَوَاطِن حَاجَاتُهُم.
ثَالِثَا: حَفَر الْآَبَار،
وهُوَنَظِيّر مَاسَبَق وَقَد جَاء فِي الْسُّنَّة أَن الْنَّبِي قَال: { بَيْنَمَا رَجُل فِي طَرِيْق فَاشْتَد عَلَيْه الْعَطَش، فَوَجَد
بِئِرِا فَنَزَل فِيْهَا فَشَرِب، ثُم خَرَج، فَإِذَا كَلْب يَلْهَث يَأْكُل الْثَّرَى مِن الْعَطَش، فَقَال الْرَّجُل: لَقَد بَلَغ هَذَا الْكَلْب مِن الْعَطَش مِثْل
الَّذِي كَان بَلَغ مِنِّي، فَنَزَل الْبِئْر فَمَلَأ خُفَّه مَاء فَسَقَى الْكَلْب، فَشَكَر الْلَّه لَه فَغَفَر لَه }، قَالُوْا: يَا رَسُوْل الْلَّه وَإِن لَنَا فِي الْبَهَائِم أَجْرَا ؟ فَقَال: { فِي كُل ذَات كَبِد رَطْبَة ٍ أَجْر } [مُتَّفَق عَلَيْه.
فَكَيْف إِذَا بِمَن حُفِر الْبِئْر وَتُسَبِّب فِي وُجُوْدِهَا حَتَّى ارْتَوَا مِنْهَا خَلَق، وَانْتَفَع بِهَا كَثِيْرُوْن.
رَابِعَا: غَرَس الْنَّخْل،
وَمَن الْمَعْلُوْم أَن الْنَّخْل سَيِّد الأشِّجَاروَأفْضَلَهَا وَأَنْفَعِهَا وَأَكْثَرِهَا عَائِدَة عَلَى الْنَّاس، فَمَن غَرَس نَخْلا وَسُبُل ثَمَرِه لِلْمُسْلِمِيْن فَإِن أَجْرُه يَسْتَمِر كُلَّمَا طَعِم مِن ثَمَرِه طَاعِم، وَكُلَّمَا انْتَفَع بِنَخْلِه مُنْتَفَع مِن إِنْسَان ٍأو حَيَوَان، وَهَكَذَا الشَّأْن فِي غَرْس كُلَّمَا يَنْفَع الْنَّاس مِن الْأَشْجَار، وَإِنَّمَا خَص الْنَّخْل هُنَا بِالذكرِلِفَضْلَّه وَتَمَيُّزِه.
خَامِسَا: بِنَاء الْمَسَاجِد
الَّتِي هِي أَحَب الْبِقَاع إِلَى الْلَّه، وَالَّتِي أَذِن الْلَّه جَلَا وَعَلَّا أَن تُرْفَع وَيُذْكَر فِيْهَا اسْمُه، وَإِذَا بُنِي الْمَسْجِد أُقِيْمَت فِيْه الْصَّلاة، وَتُلِي فِيْه الْقُرْآَن، وَذَكَر فِيْه الْلَّه، وَنُشِر فِيْه الْعِلْم، وَاجْتَمَع فِيْه الْمُسْلِمُوْن،إِلَى غَيْر ذَلِك مِن الْمَصَالِح الْعَظِيْمَة، وَلْبَانِيْه أَجْر فِي ذَلِك كُلِّه، وَقَد ثَبَت فِي الْحَدِيْث عَن الْنَّبِي صَلَوَات الْلَّه عَلَيْه وَسَلَامُه أَنَّه قَال: { مِن بَنِى مَّسْجِدا يَبْتَغِي بِه وَجْه الْلَّه بَنَى الْلَّه لَه بَيْتَا فِي الْجَنَّة } [مُتَّفَق عَلَيْه].
سَادِسا: تَوْرِيْث الْمُصْحَف،
وَذَلِك يَكُوْن بِطِبَاعَة الْمَصَاحِف أَوَشِرَائِهَا وَوَقَفَهَا فِي الْمَسَاجِد، وَدَوْر الْعِلْم حَتَّى يَسْتَفِيْد مِنْهَا الْمُسْلِمُوْن، ولْواقِفَهَا أَجْرعَظِيم كُلَّمَا تَلَا فِي ذَلِك الْمُصْحَف تَال، وَكُلَّمَا تَدَبَّر فِيْه مُتَدَبِّر، وَكُلَّمَا عَمِل بِمَا فِيْه عَامِل.
سَابِعَا: تَرْبِيَة الْأَبْنَاء،
وَحُسْن تَأْدِيبِهِم، وَالْحِرْص عَلَى تَنْشَّأْتِهُم عَلَى الْتَّقْوَى وَالْصَّلَاح، حَتَّى يَكُوْنُوْا أَبْنَاء بَرَرَة ً وَأَوْلَاد صَالِحِيِن، فَيَدْعُوَن لأَبَوِيْهُم بِالْخَيْر،وَيُسْأَلُوْن الْلَّه لَهُمَا الْرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة، فَإِن هَذَا مِمَّا يَنْتَفِع بِه الْمَيِّت فِي قَبْرِه.
وَقَد وَرَد فِي الْبَاب فِي مَعْنَى الْحَدِيْث الْمُتَقَدِّم مَارَوَاه ابْن مَاجَه مِن حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَة قَال: قَال رَسُوْل الْلَّه : { إِن مِمَّا يَلْحَق
الْمُؤْمِن مِن عَمَلِه وَحَسَنَاتِه بَعْد مَوْتِه عِلْمَا عَلَّمَه وَنَشَرَه، وَوُلِدا صَالِحا تَرْكُه، وَمُصُحُفا وَرَّثَه أَو مَّسْجِدا بَنَاه، أَو بَيْتَا لِابْن
الْسَّبِيل بَنَاه، أَو نَهْرَا أَجْرَاه، أَو صَدَقَة أَخْرَجَهَا مِن مَالِه فِي صِحَّتِه وَحَيَاتِه تَلْحَقُه مِن بَعْد مَوْتِه } [حُسْنَه الْأَلْبَانِي فِي
صَحِيْح ابْن مَاجَه: 198].
وَرَوَّى أَحْمَد وَالْطَّبَرَانِي عَن أَبِي أُمَامَة قَال: قَال رَسُوْل : { أَرْبَعَة تَجْرِي عَلَيْهِم أُجُوْرُهُم بَعْد الْمَوْت: مَن مَات مُرَابِطَا فِي سَبِيِل الْلَّه، وَمَن عَلَّم عِلْمَا أَجْرَى لَه عَمَلُه مَاعُمِل بِه، وَمَن تَصَدَّق بِصَدَقَة فَأَجْرُهُا يَجْرِي لَه مَا وَجَدْت، وَرَجُل تَرَك وَلَدَا صَالِحَا فَهُو يَدْعُوْلَه } [صَحِيْح الْجَامِع: 890].
وَفِي صَحِيْح مُسْلِم مِن حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَة أَن رَسُوْل الْلَّه قَال: (إِذَا مَات ابْن آَدَم انْقَطَع عَمَلُه إِلَّا مِن ثَلَاث: صَدَقَة جَارِيَة، أَو عِلْم يُنْتَفَع بِه أَوْوَلَد صَالِح يَدْعُو لَه).
وَقَد فَسَّر جَمَاعَة مِن أَهْل الْعِلْم الْصَّدَقَة الْجَارِيَة بِأَنَّهَا الْأَوْقَاف، وَهِي أَن يَحْبِس الْأَصْل وَتُسَبِّل مَنْفَعَتِه، وَجَل الْخِصَال الْمُتَقَدِّمَة دَاخَلَة فِي الْصَّدَقَة الْجَارِيَة.
وَقَوْلُه: { أَو بَيْتا لِابْن الْسَّبِيل بَنَاه } فِيْه فَضْل بِنَاء الدُّوَر وَوَقَفَهَا لِيَنْتَفِع بِهَا الْمُسْلِمُوْن سَوَاء ابْن الْسَّبِيل أَو طُلُاب الْعِلْم، أَو الْأَيْتَام، أَو الْأَرَامِل،أَوَالْفُقُرَاء وَالْمَسَاكِيْن. وَكَم فِي هَذَا مِن الْخَيْر وَالْإِحْسَان.
وَقَد تَحْصُل بِمَا تَقَدَّم جُمْلَة مَن الْأَعْمَال الْمُبَارَكَة إِذَا قَام بِهَا الْعَبْد فِي حَيَاتِه جَرَى لَه ثَوَابُهَا بَعْد الْمَمَات،وَقَد نَظَمَهَا الْسُّيُوْطِي فِي أَبْيَات فَقَال:
إِذَا مَات ابْن آَدَم لَيْس يَجْرِي *** عَلَيْه مِن فِعَال غَيْر عَشْر
عْلومَبُثُهَا، وَدُعَاء نَجْل *** وَغَرَس الْنَّخْل، وَالْصَّدَقَات تَجْرِي
وِرَاثَة مُصْحَف، وَرِبَاط ثَغْر *** وَحَفَر الْبِئْر، أَو إِجْرَاء نَهْر
وَبَيْت لِلْغَرِيْب بَنَاه يَأْوِي *** إِلَيْه، أَو بِنَاء مَحَل ذِكْر
وَقَوْلُه: ( وَرِبَاط ثَغْر ) شَاهَدَه حَدِيْث أَبِي أُمَامَة الْمُتَقَدِّم، وَمَا رَوَاه مُسْلِم فِي صَحِيْحِه مِن حَدِيْث سَلْمَان الْفَارِسِي رَضِي الْلَّه
عَنْه: قَال سَمِعْت رَسُوْل الْلَّه يَقُوْل: { رِبَاط يَوْم وَلَيْلَة خَيْر مِن صِيَام شَهْر وَقِيَامِه وَإِن مَات جَرَى عَلَيْه عَمَلُه الَّذِي كَان يَعْمَلُه
وَأَجْر يُعْلِيْه رِزْقَه، وَأَمِن الْفَّتَّان } أَي يَنْمُو لَه عَمَلُه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَيَأْمَن مِن فِتْنَة الْقَبْر.
وَنَسْأَل الْلَّه جَل وَعَلَا أَن يُوَفِّقَنَا لِكُل خَيْر، وَأَن يُعِيْنُنَا عَلَى الْقِيَام بِأَبْوَاب الْإِحْسَان، وَأَن يَهْدِيَنَا سَوَاء الْسَّبِيل، وَصَلَّى الْلَّه عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آَلِه وَصَحْبِه أَجْمَعِيْن.
http://ahl-alsonah.com/up/upfiles/fFj74465.gif
م/ن