مشاهدة النسخة كاملة : نظرات في الفقه والتاريخ ...
يقول الله جل وعلا : ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾لآية (90) من سورة النحل.
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت".
نضع المنهاج النبوي في مكان الضوء الكاشف لما نتطلع إليه من مستقبل الخلافة على منهاج النبوة، ذلك الوعد الصادق من الله ورسوله الذي يحذو جهادنا.
على هذا الضوء نرى
نرى الأحداث التاريخية المعاصرة
نرى التطور المذهل في العلوم والتكنولوجيا استأثر بهما من دوننا أعداء الإسلام
نرى الاتفاق بين شطري الجاهلية على التصدي العدواني لنهضة الإسلام، نرى فرقة المسلمين وتمزقهم
نرى هيمنة المادية الجاهلية وثقافتها في العالم، نرى احتلال العدو لأرض المسلمين واقتصادهم وعقلهم.
نرى الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين المجزأة أقطارا ودويلات تمثل الحكم الجبري الذي يتحدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يبشرنا بإشراق شمس الخلافة بعد ظلام العض والجبر
إن فهم الانكسار التاريخي
فهم الذي حدث بعد الفتنة الكبرى ومقتل ثالث الخلفاء الراشدين ذي النورين عثمان رضي الله عنه ضروري لمن يحمل مشروع العمل لإعادة البناء على الأساس الأول.
فهْم طبيعة هذا الانكسار، ومغزاه بالنسبة لتسلسل الأحداث وتدهورها بنا إلى الدرك الذي نجد الآن فيه أنفسنا.
فهْم الذهنية التقليدية التي تدين بالولاء غير المشروط للسلطان، كيف نشأت، وكيف توارثها الخلف عن السلف، وكيف صنعت أجيالا يسوقها الحاكم المستبد سوق الأغنام.
فهْم الذهنية الأخرى التي رفضت الاستسلام وتشيعت لآل البيت.
فهْم كيف تغلغلت الثورة الشيعية على الحكم حتى انفجرت في عصرنا.
فهْم كيف تحجرت الذهنية الشيعية على عقيدة إفراد علي كرم الله وجهه وبنيه بالإمامة، وراثة تقابل توارث الملوك العاضين شؤون الأمة.
فهْم كيف صنع تكتم الشيعة من الحكام على مر العصور ذهنية غامضة تتناقل الأخبار الغريبة الساذجة من فم لأذن في جو تآمري حاق.
فهْم كيف نشأت الصراعات المذهبية بين طوائف الشيعة والرافضين للحكم القائم وبين أهل السنة والجماعة الملتفين حوله، لماذا التف هؤلاء ولماذا رفض أولئك.
فهْم كيف شجرت الخلافات واشتجرت بين فرق النظار والفقهاء، وكيف برزت العقائد المتطرفة من قدرية وجبرية وخوارج ومرجئة.
الانحراف الخطير
إننا إذ ننظر إلى الأحداث المائجة في عصرنا ونعيش مع الأمة أملها في أن يظهر الله دينه على الدين كله كما وعد ووعده الحق لن نعدو محطات الآمال المجنحة الخائبة، تجنيحها وتحليقها فوق الواقع، تحليقا يعطي النشوة المخدرة لكنه لا يعطي التبصر، إن لم نتخذ هذا الحديث الجليل وأمثاله دليلا لمعرفة الانحراف التاريخي الذي حول مجرى حياتنا ففقدنا بالتدريج مقوماتنا.
ذهبت الشورى مع ذهاب الخلافة الراشدة، ذهب العدل، ذهب الإحسان، جاء الاستبداد مع بني أمية، ومع القرون استفحل، واحتل الأرض، واحتل العقول، واعتاد الناس أن يسمعوا عن الخلافة الأموية والعباسية وهلم جرا.
وعاشوا على سراب الأسماء دون فحص ناقد للمسميات. سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ملكا عاضا وملكا جبريا وسماها "المؤرخون" الرسميون خلافة، فانطلت الكذبة على الأجيال، وتسلينا ولا نزال بأمجاد هذه "الخلافة".
وقد كانت بالفعل شوكة الإسلام وحاميه من العدوان الخارجي. لكن في ظلها زحف العدوان الداخلي لما أسكتت الأصوات الناهية عن المنكر، واغتيل الرأي الحر، وسد باب الاجتهاد.
في ظلها وفي خفاء الصراعات تكونت المذاهب الدساسة، وتمزقت الأمة سنة وشيعة، وتشتت العلم مزعا متخصصة عاجز فيها أصحاب التخصص عن النظرة الشاملة.
لا يجسر أحد على بسط منهاج السنة والقرآن مخافة السلطان. كان القتال في ظلها قد انتهى إلى تركين القرآن وأهله في زوايا الإهمال أو الفتك بهم في "قومات" مثل قومة الحسين بن علي رضي الله عنهما الدموية. وفي ظلها تسلط السيف تسلطا عاتيا. وتقدم أصحاب العصبيات العرقية، فحكم بنو بويه والسلاجقة، والعبيديون، وهلم جرا. حكم كل أولئك تحت ظلها، يُفتي تحت ظلها المفتون بشرعية حكم المستولي بالسيف.
وسلام على الشورى وعلى العدل والإحسان.
التفكير المنهاجي
العاطفية
إن لدى دعاة الباطل، لبراليين واشتراكيين، وقوميين، و"يسار إسلاميين"، وكل مزيج مريج من هذه الأصناف، نسقا واضحا لتحليل الواقع، ونقده، وتحليل التاريخ، ورسم مسار ممكن للمستقبل.
ونحن نبقى في عموميات مطالبنا الراقية، نعبر عنها بعواطفنا الجياشة الصادقة المشتاقة لغد الإسلام الأغر.
هذه العاطفية تلف في غلالة حانية متسامحة عذبة تاريخنا في نظر أنفسنا. فلا يزال منا من ينشد ضالته عند النموذج التليد على عهد هارون الرشيد. لا ينتبه لحظة أن هذا الملك، العظيم حقا في ميزان الدنيا، ليس في ميزان الإسلام وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ملكا عاضا يجرحه عضه ويسقطه عن مرتبة الاعتبار الشرعي.
بعاطفة الحزين على حاضر المسلمين الهزيل، نندفع لاستدعاء أمجاد "شوكة الإسلام"، وهو تعبير للإمام الغزالي برر به رحمه الله دفاعه عن المستظهر العباسي. نستدعي صورة ذلك العهد القوي سلطانا، نحسب أننا بذلك ننتقم لتفاهتنا الغثائية الحاضرة.
ما درينا أننا بإعزازنا للملك العاض الماضي نعز الملك الجبري الحاضر، ونعمل على تعمية آثار الهدي النبوي والوصية النبوية الكفيلين وحدهما، تعليما ينير معالم الطريق، وأوامر للتنفيذ، ونموذجا للاحتذاء، بإنهاء غثائيتنا:
حين نمشي على المنهاج، ونصحب، بالنظر الناقد الماسك على القول الشريف، تطور الأمر حين بدأ الصراع بين القرآن والسلطان
وحين غلب السيف
وحين غابت الشورى وغاب العدل واختفى الإحسان،
حين تفتت الفقه، وحين سيقت الأمة إلى التمزق فالاحتلال الاستعماري فبروز المغربين وجند الشياطين يعيثون في الأمة فسادا.
لا بد لنا إذن
من إرساء قواعدنا على مكين الكتاب والسنة لأن العاطفة المجنحة خبال، ولأن فقه سلفنا الصالح الذين عاشوا رهائن مقهورة في قبضة العض والجبر لم يخلفوا لنا إلا نثارا من العلم لا يجمعه مشروع متكامل لأن الحديث عن الحكم وسلطانه ما كان ليقبل والسيف مصلت، وما كان بالتالي ليعقل أو ينشر، إلا إذا احتمى في جزئيات "الأحكام السلطانية" التي تقنن للنظام القائم لا تتحدث عنه إلا باحترام تام، أو دخل في جنينات آداب البلاط المزينة بفضائل الأمراء وحِكَمِ الإحسان الأبوي إلى الرعية.
ضرورية التفكير المنهاجي
المنهاج النبوي
ضروري لتفسير التاريخ والواقع، ضروري لفتح النظرة المستقبلية، ضروري لرسم الخطة الإسلامية دعوة ودولة، تربية وتنظيما وزحفا،
ضروري لمعرفة الروابط الشرعية بين أمل الأمة وجهادها، ضروري لمعرفة مقومات الأمة وهي تبحث عن وحدتها، ضروري لإحياء عوامل التوحيد والتجديد،
ضروري لمعالجة مشاكل الأمة الحالية قصد إعادة البناء.
إن الصراع السياسي الداخلي والخارجي قبل القومة وأثناءها وبعدها إما أن يستحضر التوجيه النبوي الذي حذرنا بكامل الوضوح من العض والجبر فيمكننا عندئذ أن نتخطى أنظمة الفتنة ونؤسس خلافة الشورى والعدل والإحسان، وإما أن نهيم على وجه الآمال الحالمة بأمجاد العباسيين وشوكة آل عثمان، رحم الله الجميع، فنقبع في سجن الأمية التاريخية وسجن الإعراض عن الوصية الخالدة الواعدة بمرحلة الخلافة الثانية المتميزة في نظامها.
إننا لا نقصد
التنقيص من شوكة ملوك المسلمين لا سيما من أبلوا منهم البلاء الحسن في الدفاع عن الحمى.
لا وليس قصدنا هنا التعرض لنقد الأشخاص وقد كان منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، لكن نقصد نظام الحكم، إعادة تاريخه على معايير الإسلام، غير متأثرين بمقتضيات المفاخرة والمساجلة التي يتخذها القوميون العرب طبولا تطن على الأسماع.
تكون قومتنا على منهاج النبوة، وتطلعنا بعد العض والجبر إلى الخلافة على منهاج النبوة، ومعالجتنا لكل صغيرة وكبيرة بتفكير منهاجي وأسلوب منهاجي وخطوات تتأسى بخطوات الرسل عليهم السلام، تتوج حكمة خطواتهم الموفقة بالنموذج المحمدي، صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
طوق التقليد
كيف يمكن أن نقوم ونتحرك وننال المطالب العالية الغالية وطوق التقليد في أعناقنا ؟
كيف يمكن، وهذا الطوق الثقيل بثقل تاريخنا وتراثنا ينقض ظهرنا، أن نجادل عن الخلافة المنهاجية ومستقبل الإسلام تحت دولة الشورى والعدل والإحسان ؟
كيف نتصور هذا المستقبل، مستقبل الوحدة والقوة وحمل الرسالة الخالدة إلى العالمين ؟
كيف نعبر عن حاجات الإنسانية وشكواها وطموحاتها ؟
كيف ننصر دين الله الذي جاء لنصرة الحق والانتصاف للمستضعفين ؟
كيف كيف ونحن نرجو الإفادة والعلم ممن هم دون القرآن والسنة ؟
إن أعتى سلاح في يد الجبارين ليس قوة سلاحهم وجموع جلاديهم، لكنه القوة السالبة، قوة الخمول الفكري ووهن النفوس المتقلصة إلى جحر التبعية وعافية الجبناء.
نصب غيرنا موائد الديمقراطية أو غير هذا الاسم مما تلبسه أنظمة الجبر المعاصرة من ثياب النفاق وجلابيب التمويه، ونطارد نحن من حوالي تلك الموائد كما تطارد الكائنات الطفيلية.
الأدهى في القضية أن عقولا سخيفة نسج عليها عنكبوت التقليد والذلة بين يدي السلطان، فهي تلتقط من الفتات الحرام، أو تنقر كالحمام الداجن من يد السفاكين، لا تحدث نفسها بغير السلامة كما يفهم السلامة الطاعم الكاسي.
هذه الذهنية المريضة لا تزال تُسقط على عامة الأمة ظلا قاتما لا يملك معه الدعاة أن يكشفوا عن المؤامرة القرونية بين الحكام المستبدين وسدنة المعابد الطاغوتية من "فقهاء " القصور.
لست أعني بالتحرر من التقليد طرح الاجتهادات في فروع الفقه مما خلفه لنا رجال الإسلام العلماء العاملون، لكن أقصد أول شيء نبذ هذه الذهنية الكريهة التي تنظر في القرآن وفي السيرة العطرة بمنظار الطاعم الكاسي في البلاط لا ينظر إلى البلاط وواقع المسلمين بمنظار القرآن وعوينات السنة الشاهدة لينتقد ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويغضب على الباطل وأهله مرة في عمره.
ما المنهاج للتحرر من ذهنية القطيع ومن ثورة التشنج المستعجل معا ؟
ما المنهاج لنخرج من تحت نير الرضوخ، ونحل وثاق التسويف، ونسترجع القدرة على المبادرة، وننصب نحن مائدة الإسلام، مائدة الشورى والعدل والإحسان، ندعو العالمين إلى رحمتها وبرها ؟
من خلال نقائص المقلدين والخانعين والخائفين والطامعين والمزورين يحكمنا طواغيت الجبر كما حكمنا من قبل حكام العض من نفس تلك النقائص.
لا محيد لنا عن خطة الخسف ومسيرة الاستقالة أمام السلطان إلا إن فككنا الارتباط مع السنة السيئة وتمسكنا بالسنة النبوية والمنهاج، لنتنسم عبير الإحسان في ذلك الفضاء الإيماني، ولتحكم الأمة نفسها بفضائل الشورى وفضائل العدل مجملة، بفضائل الصحبة والجماعة، والذكر، والصدق، والبذل، والعلم، والسمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد، والجهاد.
اقتحاما للعقبة وطلبا لوجه الله جل وعلا، لا تدحرجا على مهاوي السهولة والرخاوة وكراهية المساكين والغفلة عن الله والكذب والشح والجهل والكسل والتبعية الحضارية والهيجان واتباع خطوات الشيطان وتضييع الواجب الأقدس واجب الجهاد.
الارث
إن ما ورثناه عن سلفنا الصالح من علوم وقواعد مؤصلة ثروة بالغة الأهمية.
ما قننوه رضي الله عنهم من أسس في علم التعديل والتجريح وأصول الفقه وفروعه وأصول الدين وعلم السلوك باق رهن إشارتنا، باق في تجزئته وبعثرته، كنوزا مدفونة في الدفاتر، على أقفالها رموز يحلها فيستفيد منها من معه مفتاح الفقه الجامع، الفقه الذي ينظر إلى العلم المؤثل من حيث موقعه من الحكم والظرف التاريخي والصراعات المذهبية وموقف أهل العلم رضي الله عنهم المحافظ المشفق على بيضة الأمة أن ترام، وعلى حماها أن يضام.
تراث مبعثر مكسر، شذراته اللماعة لا تزال صالحة للانتفاع في سياق تجدد في النيات والحركة والجهاد.
الفقه الجامع
هو الفقه الذي يعم في نظرة واحدة الدعوة والدولة في علاقاتها الأولى على عهد تأليف الجماعة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ثم تطور هذه العلاقات تطورا توسيعيا على عهد الخلافة الرشيدة، ثم في تطورها إلى الفساد والكساد على عهود الملك العاض فالجبري، ثم في الوضع الحالي وقد أصبح للعلمانية والذهنية العلمانية والنوايا العدوانية على الدين الصدارة في تفكير الحكام وممارستهم، حتى غطت الدولة على الدعوة تماما، وألجأتها إلى منابر الوعظ المراقب المُلجم المدجَّن أحيانا كثيرة، وإلى ركن "الأحوال الشخصية" بعيدا عن المجالات الحيوية المدنية والجنائية والاقتصادية والإدارية. ثم يعم الفقه الجامع في نظرة واحدة الدعوة والدولة وعلاقتهما المطلوبة في مراحل البناء، كيف يستعيد رجال الدعوة مراكز القرار حتى يعود السلطان خاضعا للقرآن لا العكس.
ثروتنا الفقهية العلمية الموروثة صلة غالبية انحدرت إلينا من تلك الأجيال، تصلنا بهم، وتحمل معها، في صياغتها وتجزئتها وصراعاتها المذهبية، آثار تاريخ حافل بالضغوط المتابدلة، كان لعمائنا العاملين أحسن الله إلينا وإليهم فضل الصمود أثناءها،صمودا حد من غلواء السلطان أطوارا.
تجزئة ذلك الفقه
مثل التجزئة السياسية المعاصرة في أقطار الفتنة، تمثل تحديا لنا أن نقوم نجمع بالاجتهاد شتات العلم، وبالجهاد شتات الأرض والمجتمع الإسلامي، متخطين كل التجزئات وكل الأفكار والاجتهادات والمواقف النسبية المظروفة بظروفها التاريخية. نعيد كل اجتهاد سابق إلى نصابه، نعرضه في حدود نسبيته على النموذج النبوي الكامل الذي طبق كلمة الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
بعض الناظرين في كتب السلف الصالح يتخذون إماما أو فقيها أو فارسا خاض معارك حامية في نصرة الدين معيارا مطلقا، يضيفون عليه من خيالهم القاصر كل صفات الكمال، ويساورون علومه بتلمذة جادة مخلصة كما يساور المسافر قمم الجبال الشماء، ثم يتخذون من فهمهم لفهم ذلك الفاهم سلاحا إرهابيا يقمعون به كل من رفع رأسه ليتلقى عن الله ورسوله الأمر الأول الذي جاء بلسان عربي مبين.
بقلب مطمئن نقبل تاريخنا، لكن بعين فاحصة.
نكون منهاجيين
إن نحن جعلنا تحت أيدينا الفقه الموروث المجزأ نخاطبه ونحاوره ونسائله وننتقده ونستفيد منه حسب ما نجد عنده أو لا نجد من خبر أو دراية أو رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد الموفق المعصوم، كيف بلغ
وحين ألف الجماعة بتأليف الله
وحين سلح، وحين آخى وشجع على التضامن في الأرزاق
وحين غزا وواجه العدو، وحين علم كل علم نافع, لا يحقر من التعليم أبسط المبادئ
وحين جاهد حتى ترك لنا أمة واحدة أمرها بينها شورى
حين أوصى ونصح بما سيؤول إليه الأمر من ترد إلى اغتصاب الحكم وإلى العض والجبر
وحين بشر بالخلافة الثانية على منهاج النبوة...
نجد مثلا رواية تحدثنا عن الملك العاض أو العضوض فيفهمها أسلافنا من مواقع زمانهم وسياسته ونظام حكمه والجو العام فيه، ومن مواقع اهتمامهم وهمهم وهمتهم وإشفاقهم على أنفسهم وعلى الأمة.
يؤولون تلك الرواية على أن ذكر الملك العضوض تشريع له وإيصاء به. لا نكاد نجد من فهم الحديث الشريف على أنه إخبار بكارثة ستقع، لإخبار يتضمن تحذيرا.
نجعل تحت أيدينا كنوز الفقه الموروث، نرجع إليها عند الحاجة، لكن نأتم مباشرة بالتعليمات الشريفة المشرفة التي أوصتنا أن نتبع السنة الأولى ونقتدي بهديها.
في تلك السنة لم تنخر نواخر الخلاف والفرقة، ولم يحرف الصراع على السلطة الرأي، وأخمدت النعرات القومية والعصبيات الجاهلية، وقبحت أثرة المترفين، وحمل لواء الجهاد أكابر الرجال من المستضعفين. جزى الله عنا أهل الحديث خيرا فلهم في أعناقنا دين أي دين إذ صححوا وانتقدوا وبلغوا.
بقلب مطمئن نقبل تاريخنا، لكن بعين فاحصة.
ننظر ونفحص
علم الحديث أثمن مادة وأرفعها مكانة في السرادق الفخم، سرادق علوم الإسلام.
علماء أصول الفقه نضع خطانا على آثارهم المباركة وهم يسيرون على ضوء الأمر القرآني والنهي، وعلى نور السنة المطهرة، ونقتفي ذلك الأثر في احترام الإجماع، لأن إجماع الأمة معصوم لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تجتمع أمتي على ضلال"، ونرحب بالقياس والمصالح المرسلة لما ليس فيه نص.
كل تلك القواعد مهاد كفَوْنا رحمهم الله تسويته. وما فرعوا من الأحكام ثمرة مذكورة مشكورة إن لم يتعارض شيء منها مع منهاج السنة الكلي : الشورى والعدل والإحسان.
ننظر
في علم السلوك لنأخذ أحسن ما خلفه الصالحون من معاني التعلق بالمولى جل وعلا، ومن معاني ترقيق القلوب، ومن معاني تهذيب النفس والأخلاق، ومن معاني الصدق في طلب وجه الله عز وجل، ومن معاني العزوف عن دار الغرور، ومن معاني الإنابة إلى الرب الكريم وإلى الدار الآخرة.
نأخذ
المعاني والروح لا الأساليب الزهادية التي كانت مظهرا من مظاهر الانزواء تركت الباغين في الأرض في عربدة لا مراقب عليها، والأمر لله. نعم صحبة رجال تحابوا في الله، وذكروا الله، وصدقوا في طلب الله، وعرفوا الله. ونضر الله تلك الوجوه.
ننظر
إلى الواعظ خطيب الجمعة، وإلى المدرس المحتسب الجالس في مساجد المسلمين للفتوى والتعليم، وإلى معلم الصبيان، وإلى المحدث العالم يخرج أجيال الفضلاء.
أولئك كانوا الرمز الحقيقي الذي التفت حوله الأمة واعتصمت به الدعوة يوم كان السلطان رمز السطوة العمياء، ويوم كان المؤهل الوحيد للرمز الرسمي "الخليفة" لا يعدو أحيانا كثيرة نسبه وحيازته لبردة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه وبعض آثاره الشريفة.
إذا قلنا إيمانا ومذهبا بتحكيم القرآن، والرجوع إليه، والرضوخ التام لأمره ونهيه، فلا بد أن نحدد حمى القرآن وحرمته، والتورع الواجب في الاستشهاد به والاستنباط منه، لكيلا نقع في مهاوي الذين اتخذوا آيات الله هُزُؤا، ولكي لا نحشر، إن نحن استخففنا بالحرمة ووقعنا في الحمى، مع الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدّوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون.
كان الصحابة رضي الله عنهم
عربا فصحاء يعرفون البلاغة العربية سليقة، ويذوقون المجاز والإشارة، فيتنزل القرآن وهو غض حديث البروز إلى عالم الشهادة على أسماعهم، يسبقه التعظيم والخشوع لما علموا من أنه كلام من رب العالمين، ويتنزل على قلوبهم ومعه الحلاوة والطمأنينة والاستعداد الصادق لطاعة الله في أمره ونهيه، كانت آياته في أسماعهم وعقولهم توجيهات مباشرة تعالج قضايا الساعة التشريعية والجهادية، وتذكر بسنن الأمم الخالية، وتعطي الأسوة بسير الرسل والأنبياء عليهم السلام، لم يكن شيء من كليات القرآن خافيا عنهم، ولم يكونوا يتقعرون في الجزئيات إذا كان علمها لا يبين حكما ولا يفصل في مسائل العقيدة والحلال والحرام، ورد السؤال عند عمر، وفي رواية عند أبي بكر، رضي الله عنهما في معنى الأبّ في قوله تعالى : ﴿ وفاكهة وأبّا﴾ فأعرض عن ذلك وقال : ما بهذا أمرنا.
كانوا
رضي الله عنهم يعلمون أسباب التنزيل، والمقاصد الكلية للشريعة، وعادات العرب في أقوالها وأفعالها وأحوالها، ودخائل العدو الذي كانوا يجاهدونه، مراتب التكليف من واجب الفعل أو الترك فما دونه، ثم لا يكتفون بفهمهم حتى يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيان، والبيان وظيفة من وظائفه السامية، به أرسله الله جل وعلا.
كانوا
يتأثمون ويتورعون أشد التورع عن تفسير كلام الله سبحانه وتعالى بالرأي، روي عن الصديق رضي الله عنه، وقد سئل في شيء من القرآن (في خبر أن المسألة كانت عن الأبّ) فقال كلمته المشهورة التي ترسم لنا حدود الحمى القرآني وحرمته في قلب المؤمن، " أي سماء تظلني، وأي أرض تُقلني إن أنا قلت في كلام الله ما لا أعلم ؟".
بين أن نعظم ونحتاط
وبين أن نعطل ونهجُر مسافة احتلها الجاهلون والمتجرئون، والأوْلى بجند الله أن يلتصقوا بالكلمة القرآنية ويحملوا على عاتقهم شرف الشعار القرآني في كليات الشريعة وهي لم يطرأ عليها نسخ ولا حدث تغيير لمراد الله من آياته فيها، ولنترك لأهل الاختصاص والاجتهاد النظر فيما اختلف فيه، ريثما يأذن الله عز وجل بنصب الحاكم على منهاج النبوة ليجتمع تحت إشارته الاجتهاد.
إن حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أفسح مجال الاجتهاد والثواب إنما ذكر الحاكم من قاض وعامل، لم يذكر فقيه الفروع الواقف دون عتبة الإمارة العظمى الشرعية، حيث قال : "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"، رواه الشيخان وغيرهما.
المنهاج والاجتهاد والحكم بما أنزل الله
هذه مطالب قرآنية لا نحتاج لإثباتها وإيجابها على أنفسنا بما أوجبها الله لسلوك طرائق المتقدمين في الاستدلال، ولن يثنينا عنها إن شاء الله التواء من يحاول أن يستر الشمس بكفه، مباشرة نستمع إلى القرآن الكريم يخاطب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا﴾
(http://www.yassine.net/mishkate/pages/YOChapterDetailPage.aspx?BookID=18&ChapterID=8&Lang=1256&CategoryID=1#_ftn1)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : "المنهاج ما جاءت به السنة"، والذي جاءت به السنة، تطبيقا للقرآن وتحكيما له : الحكم بالشورى والعدل والإحسان، بها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وبها أمرنا معهم، وخصصت أجيالنا الصالحة إن شاء الله ببشرى الخلافة الثانية على منهاج النبوة
الذين اجتهدوا قبلنا
كانوا يدافعون عن قضايا ربما تكون الآن اندثرت، كانوا يتفاعلون مع واقعهم بنيات معينة، في مواجهات معينة، بوسائلهم الممكنة، لأهداف ممكنة. كانوا يجتهدون في نسبية تضع اجتهادهم مواضعه في الزمان والمكان والأهمية، ويضعه المقلدة في مكانة المطلق، في المكانة التي لا تنبغي إلا للقرآن وللسنة المبينة، فيا عجبا لمن يحجبه عن كلام الله قول القائلين، إلا أن يكون أميا جاهلا لا يهتدي حتى لمن هم أهل الذكر الذين أُمر مَنْ لا يعلمُ أن يتوجه إليهم بالسؤال، تلك طريق سالكُها غادٍ رائح في سكة التحجر والتعصب وضيق الأفق، عافانا الله بمنِّه.وة. .
وسكة أخرى مفتوحة على التيه والضلال، مؤدية إلى بلاد التسيب والتفلت والإباحية، هي سكة المستخفين بأئمتنا وما أسسوه من متين القواعد في علم التفسير وعلم أصول الحديث وعلم أصول الفقه وعلم أصول الدين، يدعون إلى قرآن لا يستطيعون أن يتقدموا إلى الأمة إلا باحترامه، وإلى سنة يعرضونها على العصر وما جد فيه لا يعرضون العصر عليها لتدمغ باطله بحقها، وإلى إجماع يكون أشبه بالاستفتاء الشعبي بدل إجماع علماء الأمة المعتبرين شرعا، وإلى قياس من عندهم هو الرأي السابح بلا قيود في تيارات الهوى.
إنما يحتكم إلى القرآن
ويرقي فهمه إلى التلقي عن القرآن، ويحفظ حرمة القرآن، من كان القرآن ربيع قلبه، والنظر فيه قرة عينه، والامتثال له راحة روحه، لا يضيره مع هذا أن يستفيد من علوم الأئمة، وما من علم تناولوه إلا وهو في خدمة القرآن، مستنبط من القرآن، راجع إلى القرآن، صادر عن القرآن، والسنة مبينة منيرة
التقليد الأعمى
يمنع التقليد الأعمى القاطع أيضا عن القرآن،
لا يشفع في ذلك أن يكون القاطع فارسا من فرسان علمائنا.
لا يقدر المقلدة
وهم في سجن تقليدهم للأقدمين،
أن يبصروا واقعهم على ضوء تقريرات القرآن، وإخباره عن سنة الله،
وعن دفاع الله الناس بعضهم ببعض،
وعن الجهاد الواجب،
وعن الولاية والتكتل الواجبين على المؤمنين،
وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وعن الشورى حكما، والعدل الشامل تصرفا، والإحسان غاية،
تغشى تلك الأبصار تقريرات العلماء وتجريداتهم وخلافاتهم، فتذهب بالناظر في تلك الطروس أوهامُه بعيدا عن مقاصد المؤلفين والمفتين والمجتهدين قبلنا، وهي كانت ذات دلالة وتحكم في واقع عصرها، فإذا به يجترّ حروفا طار عنها المعنى كما طار هو في أجواء الجدل حائما دائرا ثملا أن ظفر بفقرة من كتاب حارب بها ذلك الفارس منكر زمانه ليحارب بها هو مخالفيه وناصحيه.
منظار التقليد
يفرض على الذهنية الكليلة، ذهنية منشطرة منكدرة، صورا من الماضي الغابر ووقائعه وأحداثه يسقطه على واقع العصر ليصف لحاضر المسلمين علاجات هي الهوس بعينه، وليصدر فتاوي هي الفتنة بعينها، وهي التناقض والفهاهة.
كل ذهنية يحجب عنها حاجب الكفر أو النفاق أو التقليد الأعمى حاكمية القرآن وهيمنته ونموذجية السنة الكاملة، سنة الجهاد والشورى والعدل والإحسان، دعوة ودولة، دنيا وأخرى، وإنما هي ذهنية عاجزة عن فهم الإسلام وهو إسلام الوجه لله جل وعلا، بيننا وبينه، تعالى جد ربنا، كلمته المجيدة حملها إلينا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فمتى لم نُقِم وجهنا إلى كتاب الله تعالى صمودا إليه، واستماعا وطاعة، وتلقيا دائما، وتلاوة، وتدبرا، وذكرا، فلن نكون المسلمين، لا ألتفت عن القرآن إن أنا استفتيت سنة ثابتة أو سألت عن فهم من سبقني بأثارة من علم، شريطة أن لا يشغلني المفسر عن التفسير، ولا رأي المفتي عن الحكم ولا الحكم عن الحاكم جلّ وعلا.
في تجارب سلفنا
الصالح من العلماء وفي محاولاتهم واجتهاداتهم ما هو حريّ بإثراء تجربتنا، وتقويم محاولاتنا، وتوجيه اجتهادنا إن نحن وضعناها جميعا أمام القرآن والقرآن يحكم، نفحصها على ضوئه، في نشوئها وتسلسلها، وتعاقب أشكالها ومناهجها، وتأثرها بحركة الحياة العامة وتأثيرها فيها، وإقدامها وإحجامها، ونتائج صوابها وخطإها.
أمام القرآن وهو يحكم
نسائل تلك التجارب وذلك الاجتهاد
عما فعل العدل الذي أمر الله عز وجل به في القرآن ؟
وأنى سارت الشورى وصارت ؟
وأيّةً سلك الإحسان ؟
ماذا فعل كل أولئك في فقه هذا المذهب وسلوك تلك الطائفة واستبداد ذلك السلطان ؟
منظار التقليد
...إنما هي ذهنية عاجزة عن فهم الإسلام وهو إسلام الوجه لله جل وعلا، بيننا وبينه، تعالى جد ربنا، كلمته المجيدة حملها إلينا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فمتى لم نُقِم وجهنا إلى كتاب الله تعالى صمودا إليه، واستماعا وطاعة، وتلقيا دائما، وتلاوة، وتدبرا، وذكرا، فلن نكون المسلمين، لا ألتفت عن القرآن إن أنا استفتيت سنة ثابتة أو سألت عن فهم من سبقني بأثارة من علم، شريطة أن لا يشغلني المفسر عن التفسير، ولا رأي المفتي عن الحكم ولا الحكم عن الحاكم جلّ وعلا.
لتنقضن عرى الإسلام
إن فهم الانكسار التاريخي
الذي حدث بعد الفتنة الكبرى ومقتل ثالث الخلفاء الراشدين ذي النورين عثمان رضي الله عنه ضروري لمن يحمل مشروع العمل لإعادة البناء على الأساس الأول. فهم طبيعة هذا الانكسار، ومغزاه بالنسبة لتسلسل الأحداث وتدهورها بنا إلى الدرك الذي نجد الآن فيه أنفسنا. فهم الذهنية التقليدية التي تدين بالولاء غير المشروط للسلطان، كيف نشأت، وكيف توارثها الخلف عن السلف، وكيف صنعت أجيالا يسوقها الحاكم المستبد سوق الأغنام.
لا
ليس في نيتنا أن نتعرض للفتنة النائمة عصمنا الله بكرمه وعفوه من القواصم، لكن ألح عليكم إخوتي أن تعرفوا أن الانكسار التاريخي حدث محوري في تاريخ الإسلام، وسيبقى فهمنا لحاضر الأمة ومستقبلها مضببا بل مشوشا غاية التشويش إن لم ندرك أبعاد تلك الأحداث وآثارها على مسار تاريخنا وتجلجلها في الضمائر عن وعي في تلك العهود وبحكم تكوين المخزون الجماعي الذي توارثته الأجيال.
رجَّة عظيمة مزقت كيان الأمة المعنوي فبقي المسلمون يعانون من النزيف في الفكر والعواطف منذئذ، ويؤدون إتاوات باهظة لما ضعُف من وحدتهم وتمزق من شملهم وتجزأ من علومهم وأقطارهم.
غيرنا
يغضي حياء من فتح تلك الصفحات، وآخرون من حزب الشيطان يثيرون تلك الأخبار لزعزعة ثقة المسلمين بإسلامهم وتشكيكهم في قيمة الحق الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، يستشهدون بتاريخ المسلمين على تاريخية الإسلام ليقولوا إنه إديولوجية عابرة متماوجة متغيرة متعددة التعبير صحبت صراعات بين بطون قريش وبين عصبيات أخرى، لاصق كل ذلك بالأرض، شبيه بالجدليات الصراعية على مر التاريخ.
نحن نقصد
كشف جانب من ذلك الستر بمقدار ما نتبين كيف تجري قوانين الله ونواميسه في الكون على البر والفاجر، على المسلمين وغير المسلمين، آخذين في اعتبارنا ما جاء به الوحي وما أخبرنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب، وما أوصى وما علم، لتستقيم لنا الرؤية من زاوية نظر يوجهها القرآن ويحدوها الإخبار المعصوم.
لا تزيغ العين التي تقرأ ناموس الله في التاريخ بالعين التي تقرأ مواقع القدر الإلهي، ولا تكون النظرة إلا عوراء إن انغلقت العين المراقبة للكون وأسبابه وانتصبت العين الإيمانية الغيبية تترجم وتفسر، لا خَبَرَ عندها بالعلة والمعلول كما شاء الله تعالى أن تكون علاقتهما مفهومة عقلا مترابطة متساوقة.
قضاء الله عز وجل
من المسلمين من يرفض، بعينين مغمضتين عن التاريخ وحقائقه وعن الوحي وتعليمه معا، أن يكون قد حدث انكسار أو أن يكون الحكم قد فسد والسنة خضعوا والشيعة ثاروا.
إن قضاء الله عز وجل النازل بما كسبت أيدي الناس، العائد بالرحمة فضلا من الولي الحميد سبحانه، نزل رجات يتلو بعضها بعضا إلى زماننا. ونأمل من كرمه أن يحط أقدامنا على مواقع القدر الذي نطق الترجمان الإلهي ببشرى تنزيله بالخلافة على منهاج النبوة بعد كل هذا العض المؤلم والجبر. فالانتظار الواثق لتحقيق تلك البشرى هو بلسمنا. والعمل على التعرض لها إعدادا وتربية وتنظيما وزحفا شغلنا بفضل مَن له المنة. لا إله إلا هو.
ليس الشيعة أعداء السنة وما ينبغي أن ينفخ النافخون في النار المستعرة ليزيدوها ضراما. إن رجعنا، بالطمأنينة الإيمانية، إلى مبعث الخلاف وميلاد الفتنة بقصد العلم المؤسس لعمل يوحد ولا يفرق، يفتح الجرح ليضع فيه دواء لا ليُنْكِيَه، فعسى نعلم ونعمل.
ولعل في الجواب عن السؤال البسيط :
"هل فسد الحكم في عهد مبكر أم لم يفسد ؟" بما يرتاح له ضمير المؤمن وعقل الناظر ومنطق المحلل ما هو كفيل أن يتوجه بنا إلى العلم النافع والعمل البناء.
روى الإمام أحمد بسنده الحسن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها. وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة".
لنزداد يقينا
بأن الحكم قد فسد في عهد مبكر جدا، ولنزداد معرفة بتفصيل المراحل التي تحدث عنها حديث منهاج النبوة ننظر عند البخاري حديثا رواه بسنده عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال :
"كنت مع مروان وأبي هريرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت أبا هريرة يقول : سمعت الصادق المصدوق يقول : "هلاك أمتي على يدي أُغيلمة من قريش". فقال مروان : غلمة ؟ قال أبو هريرة : إن شئت أن أسميهم : بني فلان وبني فلان".
ولنزداد تدقيقا
نسمع شهادة صحابي هو سفينة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث إسناده حسن رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان. في رواية الترمذي :
عن سعيد عن سفينة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك" قال سعيد بن جهمان ثم قال : (أي سفينة) : أمسك (أي احسب في أصابعك) : خلافة أبي بكر، خلافة عمر، وخلافة عثمان ثم قال أمسك خلافة علي. فوجدناها ثلاثين سنة. قال سعيد فقلت له إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم قال كذبوا بنو الزرقاء ! بل هم ملوك، شر الملوك !"
إن مشروع الإسلام في عصرنا سيكون محدود الأفق إن لم نتفقه في تاريخنا،
لماذا استبدل سواد الأمة الأعظم الاستبداد بالشورى، والظلم بالعدل، وقبلوا تهتك الأغيلمة من قريش وطيشهم ؟
لماذا سمعوا وأطاعوا الصبية اللاعبين وهو كانوا أُسْد الشرى وعلماء الدنيا ؟
لماذا حكم المترفون جهابذة الفقه وسادة القوم وأئمة الأمة ؟
لماذا لم يمض الذين ساندوا القائمين من آل البيت إلى آخر شوط في العصيان لأمراء السوء، وكأن في مساندتهم تحفظا شل الحركة، وفت في العضد، وأوهن العزائم ؟
فهل من مجيب
؟؟؟
!!!!
...
التحاليل المختلفة
أدوات التحليل التي ابتليت باستعمالها هذه الطبقة من المثقفين المعاصرين تلامذة الجاهلية ليس فيها شيء يسمى الغيب، لأن دائرة تلك الثقافة لا تعرف الله.
فإذا أخذوا يحللون الأحداث التاريخية عرضوا الدوافع النفسية والسياسية والاقتصادية أيها كان العامل الحاسم في الواقعة.
يرتبون هذه الدوافع حسب ما تعطيه مذاهبهم الفكرية من الأهمية والأسبقية للعوامل الموجهة لحركة المجتمعات.
فالشيوعي
يبدأ بالبحث عن العامل الاقتصادي والملكية ووسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج ليحدد مجرى الصراع الطبقي وتطوره.
والمثالي
يبحث عن الفكرة والفلسفة والتيار العاطفي أو الديني الذي أعطى السياسة قاعدتها الإديولوجية ومبادئها. وهكذا.
أما المؤمن بالله
وقضائه وقدره فينظر في الأسباب الظاهرة. تكون نظرته عوراء إن لم يفعل، لكنه ينظر أيضا إلى قدرة الله تعالى وقضائه وتصرفه المطلق في ملكه، من خلال العلل والأسباب أو بدونها. كل فساد ظهر في البر والبحر فبما كسبت أيدي الناس، والحكمة المعلنة في القرآن الكريم أن رب العباد سبحانه يريد ﴿ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾.
في التحليل الإيماني
لتاريخ الفتنة وانتقاض عروة الحكم في الإسلام نعزو ما وقع للأمة من تخاذل أمام السلطان إلى الإخلال البشري
لا تغيب
لا تغيب عنا أسباب استيقاظ عصبية كانت في طريقها إلى الذوبان في عهد النبوة والخلافة الراشدة.
ولا يغيب عنا الصراع بين طوائف جديدة من الشعوب والأجناس التي دخلت في الإسلام ولم تترب عليه تربية كاملة،
ولا يغيب عنا كيف كانت هذه العناصر القلقة وسطا مناسبا فشت فيه حمى المطالبة والاعتراض والتآمر.
لا يغيب عنا أخطاء، بل أوزار، فئة من الانتهازيين اندسوا في ثنايا الدولة على عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه فكان منطقهم أن "دواء الأمة السيف" قبل أن ينطق بالكلمة عبد الملك بن مروان من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا يغيب عنا ما دخل المجتمع الإسلامي من أموال انصبت إثر الفتوح الواسعة لتحدث تحولات في نمط المعيشة. وهلم جرا إلى ما شئت من تخرص وتقدير.
فكيف كانت الامة معجزة تاريخية قبل ظهور كل هذه العوامل؟
وما السر في ريادتها للامم الاخرى؟
؟؟؟؟
الآن نرجع
إلى أمة كانت معجزة تاريخية قبل ظهور كل هذه العوامل لما برزت على ساحة العالم جموعا جائعة فقيرة من المقومات المادية، غنية عزيزة بالمعنى العظيم الذي جمعها وألف بينها ورفعها :
معنى الإيمان بالله والشعور بأنها حاملة رسالة إلى العالم.
هذه الأمة كانت وكان
كانت تتعامل مع الله عز وجل ثقة به وبوعده في الدنيا والآخرة، كانت تأخذ كلمة القرآن ووصية النبي صلى الله عليه وسلم مأخذ المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
كان هذا المطلق هو العامل الحاسم في حياتها، في رفعتها وفي كبوتها.
كانت طاعة الله ورسوله الباعث على الفعل والترك، على السلم والحرب، على الموت والحياة.
كان الصحابة رضي الله عنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث "الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عاضا". سمعوا وصدقوا أن عرى الإسلام ستنقض، وأن أول ما ينقض منها عروة الحكم ورباطه. سمعوا أن هلاك الأمة سيكون على يد "أغيلمة من قريش". فهل كانت كل هذه الإخبارات تمر على هذه الأحاديث المستقبلية ـ كانت ـ أن العلم بها كان مستفيضا. وقد جمع المحدثون تحت عنوان "كتاب الفتن" أو ما شابه كثيرا مما ذكره الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن وقائع تأتى على أمته وعلى العالم من بعده إلى ظهور الدجال لعنه الله وظهور سائر أشراط الساعة.
في حديث نقض عرى الإسلام ذكر المصطفى الكريم على الله صلى الله عليه وسلم أن أول العرى نقضا عروة الحكم، وأن آخرها الصلاة، وأن الناس كلما انتقضت عروة تشبثوا بالتي تليها.
العرى الفتحات التي تدخل فيها الأزرار ليشد بها الثوب.
فكأن سربال الإسلام يتمزق عن جسم الأمة من أعلى، من حيث الرأس، أي الدولة، والناس يتمسكون به مخافة أن ينكشف.
ترى هل أوصى نبي الله صلى الله عليه وسلم أمته بشيء تتشبث به يكون أرجى أن لا تهلك الأمة من جراء الانفصامات المتتالية ؟
ترى هل فهم الصحابة والتابعون والقرون الثلاثة الفاضلة من الوصية النبوية أنها تشريع للفتنة ورضى بها وتشجيع على بسطها ؟
أمامنا صحيح الإمام مسلم نقرأ منه في باب الفضائل عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قال :
"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر. ثم قال : " أما بعد ألا أيها الناس ! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين (قال العلماء سُمِّيا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما) : أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به". فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال : "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ! أذكركم الله في أهل بيتي !" الحديث.
الأخبار عن غدير خم، وعن وصية النبي صلى الله عليه وسلم بآل بيته الأطهار تشكل عند إخوتنا الشيعة النصوص الحيوية التي يبنون عليها ولاءهم المطلق لآل البيت.
آل البيت رضي الله عنهم هي العروة التي تشبثوا بها بعد فساد الحكم ونقض عروته. اشتدت عليهم قبضة حكام العض على مر القرون فاستماتت قبضتهم في التمسك بآل البيت، اعتقدوا الوصية لعلي كرم الله وجهه، وغلا غلاتهم فرفضوا الخلفاء قبله وسبوهم، قاتل الله الغلاة وأبعدهم، واعتقدوا الإمامة لبني علي وأضفوا عليهم العصمة.
تشبثٌ آلَ إلى تصلبٍ توارثته الأجيال، وعاش في ظل الاضطهاد والاستخفاء والتقية، لكنه تشبث له أصل ثابت عندنا وعندهم من إخبار الحبيب صلى الله عليه وسلم ووصيته.
أمسِكوا هذه إخوتي وأخواتي، قفوا عند هذا التشبث من جانب الشيعة ريثما نذكر أهل السنة والجماعة،
لنرى
كيف تفرعا معا من نفس الأصل النبوي؟
وكيف توسع الخلاف بين الفرعين ؟
وكيف حفرت العداوات والصدامات وتضارب الولاء الهوة حتى أصبح الشيطان والجهل يصوران لنا أنها هوة لا قرار لها، وأنها الفرقة إلى الأبد.
هذا التصور الشيطاني يغلق على الأمة آفاق المستقبل في الدنيا وأمل لقاء الله عز وجل وهو يضحك إلينا إن جئناه نعادي أهل القبلة أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، المتمسكين بالقرآن كما نتمسك، وهو الثقل الأول.
فما بالنا نكفر إخوتنا وننفخ نفخ الشيطان أن كان فهمنا للثقل الثاني كيف نواليه محط خلاف ؟
وجوب طاعة الأمير:
السؤال المحير
عنوان ابن الأثير الجزري رحمه الله : "الفصل الخامس في وجوب طاعة الأمير".
أورد في الفصل سبعة عشر حديثا، ثلاثة عشر منها في الصحيحين أو في أحدهما. والصيغة الأمرية تترواح بين الترغيب والأمر المؤكدين بالطاعة وبين التحذير والوعيد الشديدين من المخالفة والعصيان. "اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة" (البخاري). "إن أمر عليكم عبد مجدع (...) يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا" (مسلم والترميذي والنسائي)... "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني" (الشيخان والنسائي) "
سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجدبه الأشعث بن قيس فقال : اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" (مسلم والترمذي). "ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة" (من حديث لمسلم).
هناك صيغ أخرى مشددة مثل قوله صلى الله عليه وسلم : "من كره من أمير شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية" (الشيخان). هذا الحديث وأمثاله ألجم الأفواه، وألزم علماء الأمة الصبر على كره شديد لما فعله العاضون. فإن نطقت الأفواه بالاحتجاج فما كانت، إلا في حالات قليلة، تثير الخروج على السلطان من جانب العلماء الأتقياء مخافة الوعيد المفزع وعيد الميتة الجاهلية، وقانا الله.
صرح الإمام أحمد رضي الله عنه بملء قوته لما ابتدع المأمون العباسي وفسق عن أمر ربه وحارب الله ورسوله بتبني رأي المعتزلة القائلين بخلق القرآن. وأوذي الإمام فصبر. جلد فغفر. كان وعيد الميتة الجاهلية رادعا قويا لأمثاله الضنينين بدينهم.
وكان الملوك العاضون وسلاطين السيف يستغلون هذه النصوص، ويربطون الناس ببيعة إكراهية تغل منهم الرقاب وتقيد الأرجل وتشل الحركة.
ماذا تريد من مؤمن أن يفعل
وهو يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل : "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل بايع إماما، فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه لم يوف له" (الشيخان والترمذي) توفية واجبة إذن وإن اختل العدل في الحكم، وفشا الظلم الاجتماعي، واستأثر الحكام بالأرزاق لا يعطون إلا على نشوة المبذر المسرف في أموال المسلمين.
وطغى في الأرض الفسقة الفجرة، تطيعهم الأمة على كره شديد وتحتفظ بهم، وتغزو بغزوهم، وتأتمر بأمرهم، تسمع وتطيع.
كان خوف الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة يلم شعت الأمة، ويصونها أن تذهب مع العصبيات التي استيقظت، وأن تخرج مع الرايات المفرقة للوحدة، الساعية للفرقة. "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، فقتل فقتلة جاهلية. ومن خرج على أمتي يضرب بَرها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بعهد ذي عهدها، فليس مني ولست منه" (مسلم والنسائي).
لنقف الآن ومعنا من أدوات التحليل شيء زائد على المنطق الجدلي والاعتبارات الأرضية. لنقف نتساءل :
أليس في هذه الوصايا المؤكدة الشديدة ما يحير ؟
أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالشورى وبالعدل وبالإحسان ؟
فلِمَ أوصى بالسمع والطاعة مهما استبد الحاكم.
ومهما ظلم ومهما فسق ؟
؟؟؟؟
أطلع الله جل وعلا نبيه الكريم بما هو كائن لا محيد عنه، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله. وبإذن الله نطق الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم. نطق بوصية السمع والطاعة لما علم من أن نوازع الاستعلاء والاستكبار ستظهر، وسيظهر التسابق إلى السلطان، والصراع على السلطان.
فلا يكن ذلك على حساب وحدة الأمة وتماسكها الداخلي. ثمن هذا التماسك الصبر، ثمنه الاستبداد وما يجره من خسف للحقوق، ثمنه الظلم وتوابعه، صَلِيت بناره الأمة، وصليت بنار الحروب الأهلية، كانت تلك الحروب كفيلة بالقضاء على الإسلام لولا وصايا السمع والطاعة التي اعتبرها علماء المسلمين دينا ومعهم السواد الأعظم.
هذا الإيضاح النبوي كان العروة المتينة التي تشبث بها أهل السنة والجماعة بعد أن نقضت عروة الحكم.
من حديث مسلم والترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن أمر عليكم عبد مجدع (...) يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا".
لذا لا نجد حاكما عاضا فيما مضى، ولا نجد من حكام الجبر الحاليين إلا من يتمسح بكتاب الله سبحانه ظاهرا، ويعلن ولاءه له وخدمته وإخلاصه.
فمن كان منهم من الصالحين ـ وقد كان، فإننا لا ندين الأشخاص بل ندين النظام ـ سدد وقارب ليطبق حكم الله جل شأنه على واقع متفلت. ومن كان دون ذلك فإنما كان يلعنه القرآن ولا تجرؤ الأمة ـ في سوادها الأعظم وفي غالب الأحيان ـ أن تخرج عن طاعته مخافة الوعيد المهول.
فمن خرج من أهل السنة والجماعة خرج لتأوله وفهمه من الوصية النبوية ما لم يفهمه غيره.
كان الحسين بن علي رضي الله عنهما والقائمون بعده زيد بن علي ومحمد وإدريس وإبراهيم ويحيى وكل القائمين في القرون الفاضلة من أهل البيت من أهل السنة والجماعة، إذ لم يكن التشيع يومئذ تحول من كونه مشايعة وانتصارا لآل البيت الأطهار ليصبح مذهبا وعقيدة.
كان هؤلاء القائمون الغاضبون لله المنتصرون للحق يعرفون الأحاديث المشددة على السمع والطاعة ولزوم الجماعة لاشك في ذلك.
لكنهم أيضا كانوا يعرفون أحاديث الطاعة فيها مشروطة بأن يقود الحاكم الأمة بكتاب الله تعالى مثل حديث مسلم الذي قرأناه آنفا.
ويعرفون الأحاديث التي شرطت الطاعة للحاكم الذي يقيم الصلاة لا لمن يضيعها
مثل حديث مسلم عن عوف بن مالك قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم." قال : "قلنا يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك ؟" قال : "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ! لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة".
حديثان لمسلم يشرطان الطاعة بشرطين :
أن يقود الحاكم الأمة بكتاب الله تعالى، وأن يقيم الصلاة في الناس. فتبقى للمؤمنين مسؤولية التقدير لتمييز الحاكم الذي يقود بالقرآن أو لا يقود، ولتقدير إقامة الصلاة ما معناها وما مدلولها العملي.
سؤال اخر محير؟
ن كان الرسول الكريم على الله المؤيد بالوحي يشير إلى مواطن القدر التي أطلعه ربه عليها مقدما النصائح، فما كان له أن يستبق القدر بتفصيل ما ينبغي أن يبقى مطويا، ولا بتعيين ما يجب أن يبقى إلى زمان ظهوره مسدلة عليه أحجبة الستر، ولا بتعريف حدود الشرطين الحاكمين.
تابع ....تاااااابع
كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن أخبر بالفتن الطارئة على أمته من بعده، لا يعصم الأمة عاصم من أن تجري عليها الأقدار فتتميز عن سائر الخلق، وما بلغت نصائحه الشريفة صلى الله عليه وسلم أكثر من أن ترسم دائرة واسعة، في حدودها يحتفظ بوحدة المجموع دون أن تقيد مسؤولية أحد ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
غضبة الحسين عليه السلام
لا نشك لحظة أن الحسين بن علي رضي الله عنهما حين غضب غضبته وقام قومته إنما فعل لاعتقاده أن يزيد فسق عن أمر الله وقاد بغير القرآن وأضاع الصلاة، إن كان غيره قدر غير ذلك ورجح الطاعة فلا يعدو أن يكون مجتهدا
وإن سترت أجيال من علماء السنة كارثة قتل الحسين، أو أدانتها على استحياء، فما يهون من فداحة إخلالهم ذاك في أعيننا إلا وجود تلك النصوص الثابتة الكثيرة الداعية للحفاظ على الوحدة، تأولوا في ظلها سلوك يزيد وأمثاله، وسكتوا عن الذل والإذلال وهم يسمعون بني مروان ويرونهم يصفون السيف دواء لأمراض الأمة، وضرب الرقاب شفاء، ويطبقون.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر كما رأينا في الحديث الصحيح عند البخاري أن هلاك أمته يكون على يد أغيلمة من قريش.
نفهم كلمة الهلاك في النطق الشريف لا على أنه نهاية الأمة، فإن استمرارها منذئذ إلى يومنا أربعة عشر قرنا إلا أربعين عاما أو خمسين لا يقبل ذلك الفهم.
لكن الأغيلمة ما وصلوا إلى الحكم إلا لمكان النظام الوراثي العاض الفاسد المفسد.
ما كان لأمثالهم أن يتربعوا على السدة لو كان أمر الأمة شورى بينها ولو لم تلد العصبية المستيقظة من أسباب الأثرة والتسلط ما حال دون العدل، وحرف مقاصد القرآن، ودفع إلى المناصب العالية حاملي السيف لا أهل التقوى والإحسان.
وصول الأغيلمة للحكم واستمرار استبداد أهل العض والجبر كان النقض الأخطر إذ كان نقضا للعروة العليا. كان فساد السلطان توهينا للقرآن.
من شأن السلطان في دولة الإسلام أن يُخدم القرآن ويكون عنه وازعا مدافعا. فإذا أمسى السلطان مُزْوَرّاً عن القرآن، مخالسا له مخاتلا كما نرى في عصرنا، فهلاك الأمة مستمر. وعلى الله القوي العزيز التوكل في أن يقف الانحدار، ثم تبدأ مسيرة اقتحام العقبة، بجهد أهل القرآن بالعمل الدائب، بالعلم النافع، حتى يستقر السلطان في أيدي الأمناء الأقوياء، حتى تكون الدولة آلة طيعة في يد الدعوة تشرف بها على عملية انتشال الأمة من أودية الهلاك، والصعود بها إلى الذرى.
لا إله إلا الله محمد رسول الله
إن مشروع الإسلام في عصرنا سيكون محدود الأفق إن لم نتفقه في تاريخنا،
لماذا استبدل سواد الأمة الأعظم الاستبداد بالشورى، والظلم بالعدل، وقبلوا تهتك الأغيلمة من قريش وطيشهم ؟
لماذا سمعوا وأطاعوا الصبية اللاعبين وهو كانوا أُسْد الشرى وعلماء الدنيا ؟
لماذا حكم المترفون جهابذة الفقه وسادة القوم وأئمة الأمة ؟
لماذا لم يمض الذين ساندوا القائمين من آل البيت إلى آخر شوط في العصيان لأمراء السوء، وكأن في مساندتهم تحفظا شل الحركة، وفت في العضد، وأوهن العزائم ؟
إن فهم الانكسار التاريخي
الذي حدث بعد الفتنة الكبرى ومقتل ثالث الخلفاء الراشدين ذي النورين عثمان رضي الله عنه ضروري لمن يحمل مشروع العمل لإعادة البناء على الأساس الأول. فهم طبيعة هذا الانكسار، ومغزاه بالنسبة لتسلسل الأحداث وتدهورها بنا إلى الدرك الذي نجد الآن فيه أنفسنا. فهم الذهنية التقليدية التي تدين بالولاء غير المشروط للسلطان، كيف نشأت، وكيف توارثها الخلف عن السلف، وكيف صنعت أجيالا يسوقها الحاكم المستبد سوق الأغنام.
صرخة انين اسئلة
ان وحدة دار الإسلام -بيت الإسلام- ضرورة ملحة وواجب شرعي وأمل عزيز على الأمة.
فيا من يقرأ قول الله جل وعلا : ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾، ﴿وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾، خطابا وجه للأنبياء عليهم السلام،
ويقرأ قوله عز من قائل يخصص بالخطاب هذه الأمة المرحومة : ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله﴾
(http://www.yassine.net/mishkate/pages/YOChapterDetailPage.aspx?BookID=18&ChapterID=12&Lang=1256&CategoryID=1#_ftn3)
. يا من يقرأ القرآن بعقل يعقل عن الله لا بذهنية تقلد، بقلب يخشى الله ولا يخشى الناس،
كيف تفرق بين شطري الأمة سنة وشيعة طائفة ممن لا يعقلون وأنت ساكت ؟
كيف ترى نباشي الخلافيات سفلة القراء يعيثون فسادا وتلزم الحياد ؟
ماذا تريد يا أخي من دنياك لآخرتك ؟
وهل تريد من هذه لتلك شيئا حقا وتحقيقا أم ألهاك الجدل ومفاخر الظهور والإبانة في الخصام عن آخرتك ؟
كيف تلقى الله العزيز الجبار وقلبك هنا في الدنيا لم ينفطر ألما على أمة القرآن ما فعل بها الطغيان والكفران والفرقة والهجران ؟
كيف تنتسب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنت ما خلفت محمدا صلى الله عليه وسلم في أمته إلا بإشعال النيران ؟
إن تبذير جهود الأمة عملية تجند لها الطغاة من قديم، وهم اليوم لهذه العملية الشيطانية أكثر تجندا. إن نقض عرى الإسلام استمر منذ قرون طويلة حتى وصلنا إلى عصر أضاع أهله الصلاة واتبعوا الشهوات. وإن تقدير أي مؤمن يخلص لله ويعبد الله ويتقيه لا يتسع لإسبال رداء الصون والمعذرة على أفعال طغاة لم يكتفوا بقيادة الأمة بغير القرآن، ولا تهيبوا من اللعب بالصلاة على شاشات التلفزيون، بل تولوا الذين كفروا.
والله عز وجل يقول : ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾
فكل وقت يضيع لا نشتغل فيه بجمع جند الله في كل قطر وفي كل بلد مضيعة جُلَّى للأمة. وكل دعاية للتفرقة المذهبية والخلافات على ذكاة الحلزون تنافس انتحاري. وكل جهد يمكن أن يخدم الدعوة نبذره ولا نستصلحه مأساة.
لن تكون أقطارنا الموزعة قِدَداً إلا رمادا تذروه الرياح إن أضفنا إلى جهود الهيمنة الاستراتيجية العالمية التي تضيق علينا الخناق جهودنا نحن لننسف كياننا من أسفل. نكون أقدر على المقاومة كي لا تتلفنا الأحداث وتعدمنا إن لذنا بالعروة الوثقى الخالدة الباقية كتاب الله تعالى. حول القرآن يجب أن نلتف. وبالصبر والزمن تأتي الوحدة إن شاء الله، لا تأتي بأمر يصدر إليها.
يصدر إليها من أين ؟
من يريدها ؟
لم يريدها ؟
من يخافها ؟ولم
؟من يكرهها ويكيد لها ؟ ولم ؟
من يقود دويلات التجزئة ؟
من يُموِّلهم ويسلحهم ؟
ما بال الأهوال الجسام تقرب شعوب الأرض لتتعاون، وتباعد بين المسلمين الحاصلين في قبضة الحكم المستبد الأناني، وقبضة الدعاة المفرقة المخربة، وقبضة الأمية السياسية، والأمية التاريخية، والأمية الأمية ؟
فقه هذه الأسئلة، فقه وضعها وبحثها والتنقيب عن أصولها والإجابة عنها، كفيل أن يرفعنا من حيث يجثو الجاثون عند أقدام الهيمنة الجاهلية والأموال اليهودية إلى حيث العزة بالله وبرسوله وبدينه، يتيه بها في غد الإسلام شكرا لله لا استكبارا في الأرض ألف مليون مسلم ومسلمة هم اليوم محض غثاء.
فعلى ماذا يتوقف الامر؟
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
vBulletin® v3.8.11, Copyright ©2000-2024, TranZ by Almuhajir
diamond