مشاهدة النسخة كاملة : سر الفتوحات الإسلامية المظفرة...
غالبا ما ينسب الفتح إلى قائد الجيش الإسلامي إذا كتب الله للمسلمين الظفر في تاريخ الجهاد الإسلامي المبارك، أوإلى السلطان الذي تم ذلك في عهده. إلا أن هناك حقيقة مخبوءة بين ثنايا التاريخ لابد من إبرازها، لأن قادة الجيوش الإسلامية حاشا الصحابة ليسوا كلهم في مستوى الإعتداد ونسب الفتوحات إليهم، كما أن السلاطين والملوك ما كانوا كلهم على دين وخلق ومنهاج يرفعهم إلى شرف نعتهم بالفاتحين.
الحقيقة المخبوءة أنّ هناك سرّاً في كل فتح إسلامي، وهوسر واحد لا يتعدد بتعدد الفتوحات، ولكن يكمن فيها كمون الروح في الجسد. فإذا كان بين الحق الإسلامي الخالص والباطل الجاهلي فَيْصَلاً تاريخيا مشهودا هوالعهد النبوي والخلافة الراشدة المهدية، فإن ما بعد ذلك كان فتنة انقلبت فيها الخلافة بعَدْلِها وشُوراها وإحسانها إلى مُلك عضُوض ظالم ومستبد ومنافق.
والفتنة كما وصفها سيدنا حذيفة رضي الله عنه: "إختلاط الحق بالباطل"، فكما أنه إبان الحق الإسلامي الخالص ـ عهدَيْ النبوة والخلافة على منهاج النبوة ـ كانت فتوحات، فكذلك إبان العهدالفتنوي ـ عهد الملك العاض ـ فتح المسلمون وظفروا، غير أن الفتح في هذا العهدالفتنوي اختلط فيه الحق بالباطل، وامتزجت فيه روح الإسلام بكدورات الجاهلية. فكيف كان ذلك؟ وكيف نميز بين الحق والباطل في هذا الأمر؟
إذا بحثنا في هاتين النقطتين سنعثر على سر الفتوحات الإسلامية المظفرة، ذلك السر الذي بدونه لا يكون فتح ولا نصر ولا تمكن في الأرض.
فتوح بعد الإنكسار التاريخي
ما ميز العهدين النبوي والراشدي ـ في هذا الجانب ـ أن القادة الفاتحين تشرفوا بنور الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفازوا بالتزكيتين القرآنية والنبوية، أمثال سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح والقعقاع بن عمرووغيرهم من الأبطال الحقيقيين. لذلك كانت أخلاقهم وبطولاتهم الجهادية على مستوى واحد من العلووالسمو، وغالبا ما توِّجت مسيرتهم بالاستشهاد، ولم يمت على فراش المرض منهم إلا القليل.
لكن بعد الإنكسار التاريخي ـ وهوإنتقال الخلافة إلى مُلك ـ ظهر قادة جدد وفاتحون وراءهم ملوك صنعوهم لدولهم، يخدمون المُلْك ولا يخدمون النبوة والخلافة، يساندون الدولة ولايسندون الدعوة، أمثال زياد بن أبيه ويزيد بن المهلب والحجاج بن يوسف وأبي مسلم الخولاني
إن ملوك بني أمية وبني العباس نزعوا الحكم بالسيف والقتل، فكان سيفهم أولا على الأمة، وما يميزهم عن الملك الجبري الذي يمثله حكام المسلمين في زمن الضياع الذي نعيشه، هوأنهم رفعوا السيف في وجه الفرس والروم والصين وغيرها من أمم الشرك أيضا، فيما كان حكام الجبر يد الجاهلية الغربية على المسلمين وحسب.
فقد فتحت في عهدهم بلدان وبلدان، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية حتى عُدَّ ذلك في مناقبهم، واستحق عليه قادتهم من أمثال الحجاج المبير الشكر والتقدير، وتناسى المقدرون الشاكرون أن هؤلاء قد جبيت إليهم من تلك الفتوح ثمرات كل شيء، واستأثروا بالمال العام لأنفسهم، وملأوا بلاطاتهم بجواري الروم والفرس، وجنوا من الجهاد جنى طبيعيا في اتباع الشهوات وتقوية سلطان الدولة على الدعوة.
يقتل أمثال قتيبة بن مسلم إذا شمت منه رائحة الولاء للدعوة ويستراح منهم، ويستبدلون بمُخلصي الدولة من القادة الميدانيين ويسجن موسى بن نصير فاتح إفريقية والأندلس على يد سليمان بن عبد الملك للسبب نفسه ولكونه لم يبعث له بكل مغانم الفتح العظيم، ويصادر ماله ويقتل ولده ويعرض به ويشرد، وهكذا تمت تصفية جهاز الدولة العسكري من ذوي الأيمان والمروءة، وجيئ بحراس الدولة الذين يسبحون بحمد "الخليفة"، ويبذلون الجهد في تقوية سلطانه.
هذه سيرتهم في مغانم الفتوح والله أعلم بنواياهم وبواعثهم، ولكن الأجدر أن نذكر أن الباعث الملوكي إمتزج بأهداف تقوية الأمة ونشر الإسلام، لأن جمهور الأمة ـ وهوالذي يشكل الجيش الإسلامي الفاتح ـ كانوا متحركين بباعث النصر أوالشهادة لإعلاء كلمة الله، وهو الباعث نفسه في عهدي النبوة والخلافة الراشدة.وما ركز ه في روح الجيش الإسلامي هوالحضور القوي للعلماء العاملين والصوفية المجاهدين، الذين كانوا يمثلون الدعوة المتغلغلة في الأمة عن طريق التربية والتعليم في المسجد والزاوية والرباط.
أنظر كيف اختلط الحق بالباطل حتى رأى المستشرقون في فتوحات ما بعد الإنكسار التاريخي توسعا إمبراطوريا لدول تعاقبت على حكم المسلمين، حتى عدوا النبوة حُكما هاشميا في سياق الحكم الأموي والعباسي والسلجوقي والعثماني ...
في الأمر حق وباطل، حق مثلته الدعوة السارية في الجيش الإسلامي الفاتح، يغنم فوق حظ من المغنم وجود المآذن في البلدان المفتوحة، وفيه باطل "قائد" و"حاكم"، شوش باعثه على الباعث العام، وكدر سمته الخاص على السمت العام، فأخذ المستشرقون الخاص ـ بسوء نية ـ وعمموه على القوة الإسلامية في عهد الملك العاض.
يستطيع المستشرقون وغيرهم أن يقرأوا في التاريخ المكتوب بأيدينا أنه كان في دار الرشيد من الجواري والحظايا وخدمهن وخدم زوجته وأخواته أربعة آلاف جارية[1] ويستطيعون أن يقرأوا كيف كان عبد الملك بن مروان يرسل إلى مبيره الحجاج أن ينتقي له أحسن الجواري ويبعث بهم إلى قصره بدمشق وعدادهن ثلاثون جارية[2].
وروى بن كثير: "وذكر ابن عساكر في تاريخه: أن عمر بن عبد العزيز كان يعجبه جارية من جواري زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فكان سألها إياها إما بيعا أو هبة، فكانت تأبى عليه ذلك، فلما ولي الخلافة ألبستها وطيبتها وأهدتها إليه ووهبتها منه، فلما أخلتها به أعرض عنها، فتعرضت له فصدف عنها، فقالت له: يا سيدي فأين ما كان يظهر لي من محبتك إياي؟ فقال: والله إن محبتك لباقية كما هي، ولكن لا حاجة لي في النساء، فقد جاءني أمر شغلني عنك وعن غيرك، ثم سألها عن أصلها ومن أين جلبوها، فقالت: يا أمير المؤمنين إن أبي أصاب جناية ببلاد المغرب فصادره موسى بن نصير فأخذت في الجناية، وبعث بي إلى الوليد فوهبني الوليد إلى أخته فاطمة زوجتك، فأهدتني إليك.
فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، كدنا والله نفتضح ونهلك، ثم أمر بردها مكرمة إلى بلادها وأهلها" [3].
كان عمر بن عبد العزيز يقيم منهاج النبوة في حكمه، وكانت مدة حكمه نشازا في الحكم العضوض الذي ينحى الخط الكسروي والقيصري، لذا تراه عامل الجارية تلك المعاملة وشنع على من سبقه ذلك الصنيع الفظيع، أين هذا من رسالة عمه عبد الملك إلى الحجاج يأمره أن يبعث إليه بثلاثين جارية: عشراً من النجائب، وعشراً من قعد النكاح، وعشراً من ذوات الأحلام؟
سلوك عمر سلوك راشدي يعود بنا إلى صفحة رائعة من صفحات جهاد الصحابة المجيدة، وهو ما رواه صاحب فتوح الشام أن الصحابة لما فتحوا ديار بكر عرضت عليهم الغنائم فبينما هم كذلك إلى أن عرضت عليهم جارية رومية تخجل الشمس منها وعليها زي الملوك فأطرق المسلمون إلى الأرض يستعملون الأدب مع الله في قوله: ﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم﴾ .
ذلك لنعلم أن تاريخ الملك العضوض تاريخ فتنوي يحتاج إلى فرز ما هوحق عما هو باطل، وهو موضوع محض يحتاج إلى تخصيصه بالبحث، وما يهم في هذه المقالة أن ظفر المسلمين في فتوحاتهم لم يكن نتيجة عزم الملوك ولا حنكة قادة الجيوش، وإنما يعود إلى الروح الإيمانية التي لا تقاومها النفوس الحريصة على الحياة الدنيا، روح رجال الله في عهدي النبوة والخلافة الراشدة، وكان بطل الإسلام خالد يدرك هذه الحقيقة فيكتب إلى قائد الفرس هرمز: "أما بعد فأسلم تسلم أو أعقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية وإلا فلا تلومن إلا نفسك فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة" .
فرق كبير بين هذه الروح وروح أحد قادة الأمويين، أعني يزيد بن المهلب القائل: والله للحياة أحب من الموت، ولثناء حسن أحب إلي من الحياة، ولو أنني أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن يكون لي أذن أسمع بها غداً ما يقال في إذا أنا مت كريماً.
أبمثل هذا فتحت جرجان وطبرستان؟ والعجب أن يزيد هذا نصب راية العداء ضد بني أمية في الأخير، مدعيا الدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة العدل العمرية، فقال الحسن البصري للناس: كلما نعر كلب أو ديك تبعتموه.
قال ابن كثير ينبه على سر فتوح بني أمية:
"فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الاسلام في مشارق الارض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلات قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الاقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه"
ئن تقدمت الدولة على الدعوة في عصور الحكم الأسري تقود المعسكر الإسلامي صورة وشكلا، فإن الدعوة متمثلة في العلماء الخاشعين فقهاء وصوفية قادت المعسكر لبا ومضمونا، وصحب الناس أنوارهم وازدانوا بتربيتهم المثلى، وكانوا مصدر الإشعاع الروحي الذي حلت طاقته في كل فرد من المجاهدين، وهذه هي إمامة التقوى التي لا تشترط رتبة سلطانية بقدر ما تشترط الشهادة بالقسط سواء كان الشاهد الحاضر بمواقفه في المقدمة أم في الوسط أم في الخلف .
قال تعالى يثني على دعاء المؤمنين الصالحين: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ . في تفسير بن كثير: وقوله: ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير.[5]
الإمامة في التقوى
موضوعها القلوب والأعمال، فهي تتجاوز مجرد إرشاد الناس باللسان، بل يتطلب قبول الناس بإمام التقوى أن يكون لقلبه مغناطيسية جاذبة يدعمها عمل شاهد، فإمام التقوى كما في الحكم العطائية هو من ينهضك حاله ويدلك على الله مقاله، والتقوى مصدرها القلب الصفي لقوله صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا" مشيرا إلى صدره الشريف ثلاثا -رواه مسلم عن أبي هريرة-
. فهي بذلك عطاء رباني لأهل الله
قال القرطبي:
"وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول: الإمامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه" .
وقال إبراهيم النخعي: "لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدين" .
على الواجهة نجد أن السلطان الفلاني والقائد الفلاني فتح على يديه في المعركة الفلانية، ويتلقى القارئ والسامع الخبر وكأن موهبة الزعيم هي التي فعلت فعلها، والحقيقة أن في قلب الجيش أئمة التقوى ـ كما أشار إلى ذلك بن كثير ـ ينصر الله بهم دينه ويعلي بهم كلمته،
وفي ما يلي صور من هذه الحقيقة المخبوءة:
قال الأصمعي:
"لما صاف قتيبة بن مسلم الترك وهاله أمرهم، سأل عن محمد ابن واسع، فقيل: هو ذاك في الميمنة ينضنض بأصبعه نحو السماء، قال: تلك الاصبع أحب الي من مئة ألف سيف!" [6]
ومحمد بن واسع من الأبدال رجال الله، كان من العلماء وقراء القرآن[7].
ويروي بن عساكر
في تاريخ دمشق عن قائد من أمراء بني أمية هو العباس بن الوليد بن عبد الملك كيف استنصر على الروم في إحدى المعارك بأهل الله قال لولي الله العالم بن محيريز: يا ابن محيريز أين الذين كانوا يلتمسون الشهادة نادهم يأتوك قال: يا أهل القرآن يا اهل القرآن فأتوه سراعا فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم الروم شر هزيمة.
ـ روى بن الجوزي في صفة الصفوة:
"قال الجنيد: قال لي محمد السمين كنت في وقت من الأوقات أعمل على الشوق وكنت أجد من ذلك شيئا أني به مشتغل فخرجت إلى الغزو وهذه الحالة حالي وغزا الناس وغزوت معهم، فكثر العدو على المسلمين وتقاربوا والتقوا ولزم المسلمين من ذلك خوف لكثرة الروم، قال محمد: فرأيت نفسي في ذلك الموطن وقد لحقها روع فاشتد ذلك علي وجعلت أوبخ نفسي وألومها وأؤنبها، وأقول لها كذابة تدعين الشوق فلما جاء الموطن الذي يؤمل في مثله الخروج إضطربت وتغيرت فأنا أوبخها إذا وقع لي أنزل إلى النهر فأغتسل فخلعت ثيابي واتزرت ودخلت النهر فأغتسلت وخرجت وقد اشتدت لي عزيمة لا أدري ما هي فخرجت بقوة تلك العزيمة ولبست ثيابي وأخذت سلاحي ودنوت من الصفوف وحملت بقوة تلك العزيمة حملة وأنا لا أدري كيف أنا فخرقت صفوف المسلمين وصفوف الروم حتى صرت من ورائهم ثم كبرت تكبيرة فسمع الروم تكبيرا فظنوا أن كمينا قد خرج عليهم من ورائهم فولوا وحمل عليهم المسلمون فقتل من الروم بسبب تكبيرتي تلك نحو أربعة آلاف وجعل الله عز وجل ذلك سببا للفتح والنصر" [8].
ـ وروى عن حماد بن جعفر بن زيد
أن أباه أخبره قال "خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فقلت لأرمقن عمله فأنظر ما يذكر الناس من عبادته فصلى العتمة ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس حتى قلت هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منه ودخلت في أثره فتوضأ ثم قام يصلى قال وجاء أسد حتى دنا منه قال فصعدت في شجرة قال فتراه التفت أوعده جرذا حتى سجد فقلت الآن يفترسه فجلس ثم سلم فقال أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر فولى وإن له لزئيرا تصدع الجبال منه فما زال كذلك فلما كان عند الصبح جلس فحمد الله عز وجل بمحامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله ثم قال اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار أو مثلى يجترئ أن يسألك الجنة ثم رجع فأصبح كأنه بات على الحشايا وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عليم قال فلما دنوا من أرض العدو قال الأمير لا يشذن أحد من العسكر قال فذهبت بغلته بثقلها فأخذ يصلي فقالوا له إن الناس قد ذهبوا فمضى ثم قال دعوني أصلي ركعتين فقالوا الناس قد ذهبوا قال إنهما خفيفتان قال فدعا ثم قال اللهم إني أقسم عليك أن ترد بغلتي وثقلها قال فجاءت حتى قامت بين يديه قال فلما لقينا العدو حمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعنا وضربا وقتلا فكسر ذلك العدو فقالوا رجلان من العرب صنعا بنا هذا فكيف لو قاتلونا فأعطوا المسلمين حاجتهم" [9].
وروى عن عبدة بن سليمان
قال "كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله فازدحم عليه الناس وكنت فيمن ازدحم عليه فإذا هو ملثم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو عبد الله بن المبارك" [10].
وهذا غيض من فيض، بإمكان كل باحث أن يقف على صور أخرى من هذه الحقيقة ومعرفة السر الكامن في الفتوحات الإسلامية المظفرة عبر عصور الشوكة الإسلامية من العصر الأموي إلى عصر الدولة العثمانية.
يقول الله جلت قدرته:
"وما النصر إلا من عند الله العزيز الحميد"
هذه الآية الكريمة من سورة آل عمران تلتقي في المعنى الذي تفصح عنه مع عدد من الآيات التي يضمها الذكر الحكيم مظهرة نفس المعنى أو مضمرة له.
فإذا استقرأنا كتاب الله عز وجل فسنكتشف أن كل الآيات التي تحدثت عن انتصار الفئة المؤمنة على عدوها نسبت النصر لله عز وجل واعتبرته هبة ربانية ومنحة من المولى العزيز لمن قام بحقها من عباده الصالحين.
"إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد"
"و كان حقا علينا نصر المومنين"
"ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز"
"والله يؤيد بنصره من يشاء"...
والدارس للسيرة النبوية العطرة ـ ولسجل ملاحم الانتصار الخالدة، التي قادها الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ودونها التاريخ بمداد الفخر والاعتزازـ سيسجل أن ما حسم النصر في تلك المعارك المختلفة لم تكن الأسباب البشرية وحدها، على أهميتها، بل تدخل العوامل الغيبية.
ولعل غزوة بدر الكبرى التي غيرت مسار التاريخ ورسخت أقدام الإسلام تمثل أكبر شاهد على ما قدمناه. فقد احتشد في هذه المعركة عدد كبير من الدعائم الغيبية لم يتوفر في غيرها وإن لم يغب المدد الغيبي عن أي غزوة نبوية.
وقد قص علينا القرآن الكريم تفاصيل التأييد الإلهي للعصبة المؤمنة المتوكلة على ربها الموقنة بنصره.
يقوله الله عز وجل:
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
ويعلق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية بقوله:
"والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة، فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر. لم تكن الكفتان فيها - بين المؤمنين والمشركين - متوازنتين ولا قريبتين من التوازن. كان المشركون حوالي ألف، خرجوا نفيرا لاستغاثة أبي سفيان، لحماية القافلة التي كانت معه، مزودين بالعدة والعتاد، والحرص على الأموال، والحمية للكرامة. وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة، لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة، إنما خرجوا لرحلة هينة. لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليه فلم يكن معهم - على قلة العدد - إلا القليل من العدة. وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم، ومنافقون لهم مكانتهم، ويهود يتربصون بهم.. وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة. ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة، وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبته غير مستقرة في هذه البيئة !
فبهذا كله يذكرهم الله - سبحانه - ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف.
إن الله هو الذي نصرهم; وكان ذلك لحكمة نص عليها في آيات سورة آل عمرن.
وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم. فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله، الذي يملك النصر والهزيمة; والذي يملك القوة وحده والسلطان.
فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر ; أن تجعله شُكرا وافيا لائقا بنعمة الله عليهم على كل حال.
وقد تحقق ذلك بجملة عوامل غيبية ظهرت للفئتين معاً، فقد رأى المشركون أيضاً في هذه الغزوة من آيات الله الشيء الكثير.
العوامل الغيبية التي حققت النصر في غزوة بدر:
1/ الرؤيا:
من العوامل الأولى التي كان لها توجيه لسير المعركة وتدخل في نتيجتها الرؤيا، التي فعلت فعلها بالتأثير في نفوس المشركين مرتين في هذه الغزوة. كانت المرة الأولى قبل تجهيز جيش المشركين ثم جاءت الثانية قبيل المعركة.
قال ابن إسحاق فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قالا: "وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها. فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له يا أخي،
والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم عني ما أحدثك به. فقال لها: وما رأيت؟ قالت رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها. ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة. قال العباس والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد". وقد تحققت هذه الرؤيا حين جاء مبعوث أبي سفيان طالبا النفير لنصرة العير فكان لها وقع مؤثر في نفوس المشركين خاصة بعد تكذيبهم للرؤيا قبل تحققها.
رؤيا أخرى
أثرت في عزائم المشركين رآها جهيم بن الصلت حين أقبلت قريش ونزلوا الجحفة، رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال إني رأيت فيما يرى النائم وإني لبين النائم واليقظان.
إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له ثم قال قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف، وفلان وفلان فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه.
فلنتصور الحالة النفسية لجيش مقبل على معركة حاسمة وهو يسمع هذه الرؤى التي تفت في عضده وتربك تماسكه..
كما تشهد على وضع الجيش القرشي الواقعة التالية: "قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد قال فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال ثلاث مائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ قال فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال ما وجدت شيئا، ولكني قد رأيت، يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم. فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة، فقال يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال وما ذاك يا حكيم؟ قال ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، قال قد فعلت، أنت علي بذلك إنما هو حليفي، فعلي عقله وما أصيب من ماله فأت ابن الحنظلية. كما ظهر تفكك جيش المشركين حين رجع بنو زهرة إلى مكة ولم يقاتلوا.
2/ نزول الملائكة:
من أعظم الدعائم التي أيد الله عز وجل بها جيش المؤمنين بها نزول الملائكة.
يقول تعالى: " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
قوله تعالى: {إِلَى ٱلْمَلَـئِكَةِ } وهم الذين أمد بهم المسلمين. {إِنّى مَعَكُمْ } بالعون والنصرة. {فَثَبّتُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } فيه أربعة أقوال.
أحدها: قاتلوا معهم، قاله الحسن.
والثاني: بشروهم بالنصر، فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل، ويقول: أبشروا فان الله ناصركم، قاله مقاتل.
والثالث: ثبِّتوهم بأشياء تُلْقُونها في قلوبهم تقوى بها. ذكره الزجاج.
والرابع: صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد، ذكره الثعلبي.
وروى الواقدي عن حكيم بن حزام قال لما حضر القتال ورسول الله صلى الله عليه وسلم رافع يديه يسأل الله النصر وما وعده يقول اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين وأبو بكر يقول والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك فانزل الله ألفا من الملائكة مردفين عند اكتناف العدو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض فلما نزل إلى الأرض تغيب ساعة ثم طلع وعلى ثناياه النقع يقول أتاك نصر الله إذ دعوته.
وروى ابن إسحاق عن الربيع بن أنس قال كان الناس يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوتة الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار وقد أحرق به.
وقال ابن إسحاق حدثني من لا أتهم عن مقسم عن ابن عباس قال كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء وقد قال ابن عباس لم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون. وقال الواقدي حدثني عبد الله بن موسى بن أبي أمية عن مصعب بن عبد الله عن مولى لسهيل بن عمرو سمعت سهيل بن عمرو يقول لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون وكان أبو أسيد يحدث بعد أن ذهب بصره قال لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أمتري. قال وحدثني خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم فقال: جبريل يا محمد ما كل أهل السماء أعرف
3/نزول المطر:
قال الله عز وجل:
"وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَـٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلاٌّقْدَامَ }
قال الطبري:
وأما قوله: "ويُنَزّلُ عَلَـيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِـيّطَهّرَكُمْ بِه"ِ فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر, لـيطهر به الـمؤمنـين لصلاتهم لأنهم كانوا أصبحوا يومئذٍ مُـجْنِبـين علـى غير ماء فلـما أنزل الله علـيهم الـماء اغتسلوا وتطهروا. وكان الشيطان وسوس لهم بـما أحزنهم به من إصبـاحهم مـجنبـين علـى غير ماء, فأذهب الله ذلك من قلوبهم بـالـمطر فذلك ربطه علـى قلوبهم وتقويته أسبـابهم وتثبـيته بذلك الـمطر أقدامهم, لأنهم كانوا التقوا مع عدوّهم علـى رَمْلة هَشّاء فلبّدَها الـمطر حتـى صارت الأقدام علـيها ثابتة لا تسوخ, توطئة من الله عزّ وجلّ لنبـيه علـيه الصلاة والسلام وأولـيائه أسبـاب التـمكن من عدوهم والظفر بهم. وبـمثل الذي قلنا, تتابعت الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل العلـم.
وهذه بعض الأخبـار الواردة في ذلك:
حدثنا هارون بن إسحاق, قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام, قال: حدثنا إسرائيـل, قال: حدثنا أبو إسحاق, عن حارثة, عن علـيّ رضي الله عنه, قال:
أصابنا من اللـيـل طشّ من الـمطر يعنـي اللـيـلة التـي كانت فـي صبـيحتها وقعة بدر فـانطلقنا تـحت الشجر والـحجف, نستظلّ تـحتها من الـمطر.. وبـات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به:
«اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدْ فـي الأرْضِ» فلـما أن طلع الفجر نادى: الصّلاةَ عِبـادَ اللّهِ, فجاء الناس من تـحت الشجر والـحجف, فصلـى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحرّض علـى القتال.
و قال أيضا: حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال:
نزل النبـيّ صلى الله عليه وسلم يعنـي حين سار إلـى بدر والـمسلـمون بـينهم وبـين الـماء رملة دعصة فأصاب الـمسلـمين ضعف شديد, وألقـى الشيطان فـي قلوبهم الغيظ, فوسوس بـينهم:
تزعمون أنكم أولـياء الله وفـيكم رسوله, وقد غلبكم الـمشركون علـى الـماء وأنتـم تصلون مـجنبـين فأمطر الله علـيهم مطرا شديدا, فشرب الـمسلـمون وتطهروا, وأذهب الله عنهم رجز الشيطان. وثبت الرمل حين أصابه الـمطر, ومشي الناس علـيه والدوابّ فساروا إلـى القوم.
4 / النعاس :
يقول تعالى:
"إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ"
"قال الإمام القرطبي:
"والنعاس حالة الآمن الذي لا يخاف".
وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها؛ فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، ولكن الله ربط جأشهم.
وعن علي رضي الله عنه قال:
ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح؛ ذكره البيهقي.
وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما:
أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني:
أن أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم؛
كما يقال: الأمن منيم، والخوف مسهر.
وقيل: غشاهم في حال التقاء الصفين.
مية المظفرة 5/ تقليل الأعداء في أعين المومنين:
يقول تعالى:
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ )
قال الطبري:
"القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلـَكِنّ اللّهَ سَلّمَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }.
يقول تعالى ذكره:
وإن الله يا محمد سميع لما يقول أصحابك, عليم بما يضمرونه, إذ يريك الله عدوّك وعدوّهم فِي مَنامِكَ قَلِيلاً يقول: يريكهم في نومك قليلاً فتخبرهم بذلك, حتى قويت قلوبهم واجترءوا على حرب عدوّهم. ولو أراك ربك عدوّك وعدوّهم كثيرا لفشل أصحابك, فجبنوا وخافوا, ولم يقدروا على حرب القوم, ولتنازعوا في ذلك ولكن الله سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا, إنه عليم بما تخفيه الصدور, لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب.
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله:
إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً: أي في عينك التي تنام بها, فصيرّ المنام هو العين, كأنه أراد: إذ يريكهم الله في عينك قليلاً. قال: حدثني ابن بزيع البغدادي, قال: حدثنا إسحاق بن منصور, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: لقد قُللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال أراهم مئة. قال: فأسرنا رجلاً منهم, فقلنا: كم هم؟ قال: كنا ألفا.
6 / الخذلان والرعب:
عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(أعطيت خمسا، لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) رواه البخاري.
فأما الرعب: فهو الخوف. قال السائب بن يسار: كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السوائي عن الرعب الذي ألقاه الله في قلوب المشركين كيف؟ كان يأخذ الحصى فيرمي به الطست فيطن، فيقول: كنا نجد في أجوافنا مثل هذا.
فإيقاع الرعب في نفوس العداء يعتبر من أنجع وسائل النصر في الحرب التي وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الغزوة ظهر أثر هذا العامل الغيبي في جيش العدو على مستويين، الرعب الذي أصاب إبليس اللعين الذي كان يحفز المشركين ويحضهم على عدم التخلف عن قتال المسلمين، ثم وقوع الرعب في نفوس المشركين بعد خذلان الشيطان لهم.
http://www.suwaidan.com/vb1/images/myframes/4_cdr.gif
http://www.suwaidan.com/vb1/images/myframes/4_cdl.gif
وقد بين الوحي الكريم هذه الحادثة في قول الله عز و جل: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال : 48 )
روى الطبراني عن رفاعة بن رافع قال
لما رأى إبليس ما فعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص إليه فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك فوكز في صدر الحارث ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه فقال اللهم إني أسألك نظرتك إياي وخاف أن يخلص القتل.
وروى الواقدي عن أبي حتمة قال
سمعت مروان بن الحكم يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر فجعل الشيخ يكره ذلك فألح عليه فقال حكيم التقينا فاقتتلنا فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الأرض مثل وقعة الحصاة في الطست وقبض النبي صلى الله عليه وسلم القبضة التراب فرمى بها فانهزمنا.
قال الواقدي
وحدثنا إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن عبد الله عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير سمعت نوفل بن معاوية الديلي يقول:
انهزمنا يوم بدر ونحن نسمع صوتا كوقع الحصى في الطاس في أفئدتنا ومن خلفنا وكان ذلك من أشد الرعب علينا.
7/ البشارة الغيبية للنبي صلى الله عليه وسلم:
قال إسحاق بن راهويه حدثنا وهب بن جرير بن حازم حدثني أبي عن محمد بن إسحاق حدثني أبي عن جبير بن مطعم قال:
رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود قد نزل من السماء مثل النمل الأسود فلم أشك أنها الملائكة فلم يكن إلا هزيمة القوم ولما تنزلت الملائكة للنصر ورآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أغفى إغفاءة ثم استيقظ وبشر بذلك أبا بكر وقال أبشر يا أبا بكر هذا جبريل يقود فرسه على ثناياه النقع يعني من المعركة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش في الدرع فجعل يحرض على القتال ويبشر الناس بالجنة ويشجعهم بنزول الملائكة والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم حصل لهم السكينة والطمأنينة.
قال ابن إسحاق:
ثم عدَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش فدخله، ومعه فيه أبو بكر الصديق، ليس معه فيه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربَّه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهم إن تَهْلك هذه العصابة اليوم لا تُعْبد، وأبو بكر يقول: يا نبِىِ الله، بعضَ مُناشدتك ربك، فإن الله مُنْجِز لك ما وعدك. وقد خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خَفْقةً وهو في العريش، ثم انتبه فقال: أبشرْ يا أبا بكر، أتاك نصرُ الله، هذا جبريل آخذٌ بعنان فرس يقوده، على ثناياه النَّقْعُ.
قد يقول قارئ لهذا الموضوع أن ادعاء كون النصر منحة إلهية تتحقق بعوامل غيبية فيه دعوة صريحة للتواكل وعدم الأخذ بأسباب الجهاد. وهذا ما يتناقض مع الاعتقاد الإسلامي الصحيح فضلا عن أن الأمة في حالها الراهن بحاجة إلى من يوقد عزائمها وينهض إرادتها لتنفض عنها غبار الكسل و الخمول الذي تراكم عليها منذ قرون. لذا فدرءا لكل لبس محتمل أو سوء تفاهم متوقع نذكر بجملة من الثوابت منها:
ـ أولا
إن كون النصر قدرا ربانيا وهبة رحمانية يجود بها المولى الوهاب على من يشاء من عباده الصالحين المجاهدين والقاصدين هي حقيقة يقينية أقرها القرآن الكريم في قوله جل وعلا "وما النصر إلا من عند الله العزيز الحميد" فحصر مصدر النصر في ذاته الكريمة.
ـ ثانيا
لقد أمر الله عز وجل عباده بإتيان الأسباب ومراعاة السنن التي أخضع لها كونه وخلقه، بل طالبهم بإحسان العمل ثم التوكل عليه تعالى إبان ذلك وبعده. وقد ورد هذا في قوله تعالى: "و قل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".
وفي قوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم".
وقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السلوك في غزوة بدر وفي سيرته كلها. وأفصحت عن هذا مجموع التدابير العسكرية والأمنية التي اتخذها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من تهيئ للجيش وتعبئة للمجاهدين ثم وضع الخطة العسكرية والمبادرة بالحرب النفسية فتوزيع الأدوار وتدبير لمراحل المعركة...
كل هذا ينبئ أن إتقان الإعداد المادي مقدمة لازمة لاستمطار نصر الله وتأييده . فالمدد الرباني لا يتنزل على قوم قاعدين خاملين. غير أن الله جلت قدرته نبه عباده إلى عدم الركون إلى الأسباب بل التوكل على رب الأرباب "وعلى الله فليتوكل المؤمنون". وقد مدح الله عباده الصالحين الواقفين ببابه المنكسرين بين يديه والطالبين مدده والمفوضين أمرهم إليه وجعل تنزل النصر استجابة لحال العبودية الكاملة التي أظهروها " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين:
"إن غالب معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعت في الغزوات والمؤمنون في جهاد وصبر ومعاناة. فكانت المعجزات خطابا إلهيا لتلك القلوب المتوكلة على ربها أنها على الحق. وكلما برز المؤمنون إلى ساحة الجهاد ولجأوا إلى الله تعالى واضطروا جاء النصر الغيبي".
من آداب النصر
نعرف جميعا الأدب في حال المصيبة، إذ يقول الله تعالى: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المفلحون".
ولكن قد تغيب عن الكثيرين والكثيرات منا آداب النبوة والتعليم القرآني الرباني في حال النصر.
ولقد كان علماء التربية رضي الله عنهم يحذرون أيما تحذير من سوء الأدب عند حالة "البسط"، حسب تعريفاتهم، أكثر مما يحذرون من ذلك عند "القبض" والانقباض، دائما حسب اصطلاحهم.
ذلك أنه تحت تأثير الفرح، قد يصعب ضبط المشاعر واندفاعها فتصدر عن المرء تصرفات لا تراعي الذوق ولا تتسم بالحكمة، فيسوء الأدب مع الخالق والمخلوقات.
كم رأينا من مرة تصرفات طائشة لمسلمين، قد صدرت تحت تأثير الفرح بنصر ما، أحيانا ما يكون مؤقتا أو كاذبا أو شكليا، فتسيء إلى سمعة الأمة أو حركة اجتماعية ما، وتسقط هيبتها في عيون محبيها وأعدائها.
وكم سمعنا من مرة تصريحات عنترية تبالغ في الافتخار المختال عند أول إرهاصات نصر لما يكتمل بعد، فتضعف التماسك في صفوف العاملين على تحقيق هذا النصر، أو تؤدي إلى حالة من ضعف التركيز وتشتت الانتباه والغفلة، الشيء الذي يعطي للأعداء وأهل الحقد فرصة للتقليل من كل ذلك أو للمحاولة اليائسة لتحويل النصر إلى هزيمة.
ولهذا يعاتب الله تعالى من يتسرعون في إذاعة حالة الخوف وحالة الأمن معا. هذه تؤدي إلى اليأس وفقدان الثقة وتلك إلى الإفراط في الثقة والارتخاء والكسل.
قال تعالى: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وأولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم".
ولعل في ما وقع في غزوة أحد رادع للمتسرعين بالاحتفال بالنصر، الذين يتركون مواقعهم في الدعوة وعملها انجرارا وراء متاع الدنيا أو تأثرا مفرطا بظواهر الأمور.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم إسوة حسنة في انتصاراته، فبخلقه العظيم، وبقلبه الرحيم، وبشكره العميم لربه سبحانه وتعالى كان يستقبل الأمر، في تواضع مع الناس وانكسار أمام ربه سبحانه جل وعلا.
فكيف يكون الادب مع النصر؟
لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم إسوة حسنة في انتصاراته، فبخلقه العظيم، وبقلبه الرحيم، وبشكره العميم لربه سبحانه وتعالى كان يستقبل الأمر، في تواضع مع الناس وانكسار أمام ربه سبحانه جل وعلا.
يمكن أن نستنبط من هذا الخلق العظيم الأسس التالية للادب مع النصر:
الأساس الأول:
شكر الله على عطائه.
قال تعالى: "شكرا، وقليل من عبادي الشكور".
عادة ما ننسى بسرعة أن العبد لا حول له ولا قوة، وأنه لولا فضل الله تعالى على المؤمنين لما نصرهم.
فهو صاحب النصر سبحانه.
قال تعالى: "وما النصر إلا من عند الله".
هذه الجملة القصيرة تكتنز معاني عظيمة ومسؤولية جسيمة تتمثل في الاتجاه إلى الله سبحانه وتعالى بالشكر لما يغذينا به من النعم. لأن الشكر مظن للزيادة في النعم.
قال تعالى: "لإن شكرتم لأزيدنكم". ولأن كفر النعمة مظن لزوالها والعياذ بالله.
الأساس الثاني:
العفو عن من أساء بالأمس أو على الأقل الإعراض عنه.
فهو صلى الله عليه وسلم جعل دار أبي سفيان مأمنا لمن دخلها من الناس إكراما لأبي سفيان رضي الله عنه، رغم أن هذا الأخير كان من أكبر الحاقدين على الإسلام وأهله وممن ألبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبائل العرب، وممن آذوه وأساؤوا إليه.
إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد على الإساءة بمثلها بل بالإحسان والإكرام، تأليفا للقلوب، وتقوية لسمعة الدعوة وجذبا لقلوب الناس إلى الإسلام ومعتقداته وشرائعه.
فبهذه الكيفية ولهذه المقاصد مطلوب منا أن نفرح بقدرتنا على العفو أكثر من قدرتنا على تحقيق النصر.
الأساس الثالث:
التواضع
لقد دخل الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى مكة يوم الفتح محنيا رأسه كأنه في حالة سجود على ظهر ناقته.
فهو عليه الصلاة والسلام يعطينا بهذا دروسا في التواضع والتمسكن بين يدي الله والناس عند ظهور الحق وانتصار أهله.
هذه الدروس طبقها الجيل الأول من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وآل البيت عليهم السلام.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يرفض إنكار أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه، عليه لباسه الرث ومشيه راجلا وهو في طريقه إلى تسلم مفاتيح القدس، فيجيبه بقولته الشهيرة:
"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".
فالنصر ليس فرصة للتكبر وإظهار الأبهة في اللباس أو الكلام وغيره، ولكنه مناسبة للتواضع تأليفا للقلوب، وتثبيتا للمهج التي تكاد تصاب بعمى الفرح فتنسى ما ينتظرها من مهمات في الطريق.
الأساس الرابع:
المداومة على أعمال الخير.
بالخصوص تلك التي كانت سببا من أسباب تحقيق النصر في هذه المحطة. لأن الجهاد محطات متتالية، الواحدة تلو الأخرى، لا تنتهي إلا بلقاء الله عز وجل وبالانتصار الكبير على النفس والشيطان، بعد أن يكون العبد قد حقق بإذن الله الثبات على الحق حتى فاضت الروح طاهرة مطمئنة.
ولهذا لما قال الأنصار بعد ظهور الدعوة أنه آن الأوان ليتفرغوا لأمور دنياهم ليصلحوها بعد أن كانوا مشتغلين بكليتهم بنصرة الدين الجديد، أنزل الله تعالى فيهم: " وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ".
قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه:
إنـما نزلت هذه الآية فـينا معشر الأنصار. إنا لـما نصر الله نبـيه، وأظهر الإسلام، قلنا بـيننا معشر الأنصار خفـيًّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقـيـم فـيها ونصلـحها حتـى نصر الله نبـيه، هلـم نقـيـم فـي أموالنا ونصلـحها، فأنزل الله الـخبر من السماء: ( وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التَّهْلُكَة ) الآية، فـالإلقاء بـالأيدي إلـى التهلكة: أن نقـيـم فـي أموالنا ونصلـحها، وندع الـجهاد. قال أبو عمران: فلـم يزل أبو أيوب يجاهد فـي سبـيـل الله حتـى دفن بـالقسطنطينـية.
نسأل الله أن يقدرنا على المداومة على الخير كما قدر أبا أيوب على ذلك! هكذا إذن! فبعد النصر تكون المداومة على الأعمال التي ترضي الحق سبحانه، ومعالجة أمراض النفس وإصلاحها، ومصاحبة المؤمنين والعمل بعملهم، لا أن نظن أن الوقت قد آن لنعود إلى أمورنا الشخصية ومصالحنا الضيقة.
فهو شكر عند صدمة النصر، وعفو وتواضع بُعيْده، ومداومة على القربات بعد كل ذلك.
vBulletin® v3.8.11, Copyright ©2000-2024, TranZ by Almuhajir
diamond