مشاهدة النسخة كاملة : اِسْـتـمـتِـعْ بـِحـَيـاتـِك ، بقلم / د.محمد العريفي ...
اِسْـتـمـتِـعْ بـِحـَيـاتـِك
مهارات وفنون التعامل مع الناس في ظل السيرة النبوية
حصيلة بحوث ودورات وذكريات أكثر من عشرين سنة
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
بقلم / د.محمد بن عبد الرّحمن العريفي
مقدمة ...
لما كنت في السادسة عشرة من عمري وقع في يدي- كتاب " فن التعامل مع الناس " لمؤلفه " دايل كارنيجي " كان كتاباً رائعاً قرأته عدة مرات ..
كان كاتبه اقترح أن يعيد الشخص قراءته كل شهر .. ففعلت ذلك .. جعلت أطبق قواعده عند تعاملي مع الناس فرأيت لذلك نتائج عجيبة ..
كان كارنيجي يسوق القاعدة ويذكر تحتها أمثلة ووقائع لرجال تميزوا من قومه .. روزفلت .. لنكولن .. جوزف .. مايك .. فبحثت في تاريخنا فرأيت أن في سيرة رسول الله e وأصحابه ومواقف المتميزين من رجال أمتنا ما يغنينا .. فبدأت من ذلك الحين أؤلف هذا الكتاب في فن التعامل مع الناس ..
فهذا الكتاب الذي بين يديك ليس وليد شهر أو سنة ..
بل هو نتيجة دراسات قمت بها لمدة عشرين عاماً ..
ومع أن الله تعالى قد منَّ عليَّ بتأليف قرابة العشرين عنواناً إلى الآن .. إلا أني أجد أن أحب كتبي إليَّ وأغلاها إلى قلبي .. وأكثرها فائدة عملية - فيما أظن – هو هذا الكتاب ..
كتبت كلماته بمداد خلطته بدمي .. سكبت روحي بين أسطره .. عصرت ذكرياتي فيه ..
جعلتها كلمات من القلب إلى القلب ..
وأقسم أنها خرجت من قلبي مشتاقة أن يكون مستقرها قلبك .. فرحماك بها ..
ما أعظم سروري لو علمت أن قارئاً أو قارئة لهذه الورقات طبق ما فيه .. فشعر وشعر غيره بتطور مهاراته .. وازدادت متعته في حياته ..
فسطر بيمينه الطاهرة – مشكوراً - رسالة عبر فيها عن رأيه .. وصوّر مشاعره بصدق وصراحة .. ثم أرسلها عبر بريد أو رسالة جوال sms إلى كاتب هذه السطور .. لأكون للطفه شاكراً .. وبظهر الغيب له داعياً ..
أسأل الله أن ينفع بهذه الورقات .. وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ..
بداية ..
ليست الغاية أن تقرأ كتاباً .. بل الغاية أن تستفيد منه ..
1. هؤلاء لن يستفيدوا ..
أذكر أن رسالة جاءتني على هاتفي المحمول .. نصها : فضيلة الشيخ .. ما حكم الانتحار ؟
فاتصلت بالسائل فأجاب شاب في عمر الزهور .. قلت له : عفواً لم أفهم سؤالك .. أعد السؤال !
فأجاب بكل تضجر : السؤال واضح .. ما حكم الانتحار ..
فأردت أن أفاجئه بجواب لا يتوقعه فضحكت وقلت : مستحب ..
صرخ : ماذا ؟!
قلت : أقول لك : حكم الانتحار أنه مستحب ..
لكن ما رأيك أن نتعاون في تحديد الطريقة التي تنتحر بها .. ؟
سكت الشاب ..
فقلت : طيب .. لماذا تريد أن تنتحر ؟
قال : لأني ما وجدت وظيفة .. والناس ما يحبونني .. وأصلاً أنا إنسان فاشل .. و ..وانطلق يروي لي قصة مطولة تحكي فشله في تطوير ذاته .. وعدم استعداده للاستفادة بما هو متاح بين يديه من قدرات ..
وهذه آفة عند الكثيرين ..
لماذا ينظر أحدنا إلى نفسه نظرة دونية ؟
لماذا يلحظ ببصره إلى الواقفين على قمة الجبل ويرى نفسه أقل من أن يصل إلى القمة كما وصلوا .. أو على الأقل أن يصعد الجبل كما صعدوا ..
ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر
تدري من الذي لن يستفيد من هذا الكتاب ، ولا من أي كتاب آخر من كتب المهارات ؟!
إنه الشخص المسكين الذي استسلم لأخطائه وقنع بقدراته ، وقال : هذا طبعي الذي نشأت عليه .. وتعودت عليه ، ولا يمكن أن أغير طريقتي .. والناس تعودوا علي بهذا الطبع ..
أما أن أكون مثل خالد في طريقة إلقائه .. أو أحمد في بشاشته .. أو زياد في محبة الناس له ..
فهذا محال ..
جلست يوماً مع شيخ كبير بلغ من الكبر عتياً .. في مجلس عام ، كل من فيه عوام متواضعو القدرات ..
وكان الشيخ يتجاذب أحاديث عامة مع من بجانبه ..
لم يكن يمثل بالنسبة لمن في المجلس إلا واحداً منهم له حق الاحترام لكبر سنه .. فقط ..
ألقيت كلمة يسيرة .. ذكرت خلالها فتوى للشيخ العلامة عبد العزيز بن باز ..
فلما انتهيت .. قال لي الشيخ مفتخراً : أنا والشيخ ابن باز كنا زملاء ندرس في المسجد عند الشيخ محمد بن إبراهيم .. قبل أربعين سنة ..
التفت أنظر إليه .. فإذا هو قد انبلجت أساريره لهذه المعلومة .. كان فرحاً جداً لأنه صاحب رجلاً ناجحاً يوماً من الدهر ..
بينما جعلت أردد في نفسي : ولماذا يا مسكين ما صرت ناجحاً مثل ابن باز ؟
ما دام أنك عرفت الطريق لماذا لم تواصل ..؟
لماذا يموت ابن باز فتبكي عليه المنابر .. والمحاريب .. والمكتبات .. وتئن أقوام لفقده ..
وأنت ستموت يوماً من الدهر .. ولعله لا يبكي عليك أحد .. إلا مجاملة .. أو عادة ..!!
كلنا قد نقول يوماً من الأيام .. عرفنا فلاناً .. وزاملنا فلاناً .. وجالسنا فلاناً !!
وليس هذا هو الفخر .. إنما الفخر أن تشمخ فوق القمة كما شمخ ..
فكن بطلاً واعزم من الآن أن تطبق ما تقتنع بنفعه من قدرات .. كن ناجحاً ..
اقلب عبوسك ابتسامة .. وكآبتك بشاشة .. وبخلك كرماً .. وغضبك حلماً ..
اجعل المصائب أفراحاً .. والإيمان سلاحاً ..
استمتع بحياتك..فالحياة قصيرة لا وقت فيها للغم..
أما كيف تفعل ذلك ..فهذا ما ألفت الكتاب لأجله
كن معي وسنصل إلى الغاية بإذن الله ..
بقي معنا ..
البطل الذي لديه العزيمة والإصرار على أن يطور مهاراته .. ويستفيد من قدراته ..
. ماذا سنتعلم ؟
يشترك الناس غالباً في أسباب الحزن والفرح ..
فهم جميعاً يفرحون إذا كثرت أموالهم ..
ويفرحون إذا ترقوا في أعمالهم ..
ويفرحون إذا شفوا من أمراضهم ..
ويفرحون إذا ابتسمت الدنيا لهم .. فتحققت لهم مراداتهم ..
وفي الوقت نفسه .. هم جميعاً يحزنون إذا افتقروا .. ويحزنون إذا مرضوا .. ويحزنون إذا أُهينوا ..
فما دام ذلك كذلك .. فتعال نبحث عن طرق نديم فيها أفراحنا .. ونتغلب بها على أتراحنا ..
نعم .. سنة الحياة أن يتقلب المرء بين حُلوةٍ ومُرةٍ .. أنا معك في هذا ..
ولكن لماذا نعطي المصائب والأحزان في أحيان كثيرة أكبر من حجمها .. فنغتم أياماً .. مع إمكاننا أن نجعل غمنا ساعة .. ونحزن ساعات على ما لا يستحق الحزن .. لماذا ..؟!
أعلم أن الحزن والغم يهجمان على القلب ويدخلانه من غير استئذان .. ولكن كل باب هم يفتح فهناك ألف طريقة لإغلاقه .. هذا مما سنتعلمه ..
تعال إلى شيء آخر ..
كم نرى من الناس المحبوبين .. الذين يفرح الآخرون بلقائهم .. ويأنسون بمجالستهم .. أفلم تفكر أن تكون واحداً منهم ..؟
لماذا ترضى أن تبقى دائماً معجَـباً ( بفتح الجيم ) ولا تسعى لأن تكون معجِـباً ( بكسرها ) !!
هنا سنتعلم كيف تصبح كذلك ..
لماذا إذا تكلم ابن عمك في المجلس أنصت له الناس وملك أسماعهم .. وأعجبوا بأسلوب كلامه ..
وإذا تكلمت أنت انصرفوا عنك .. وتنازعتهم الأحاديث الجانبية ؟!
لماذا ؟
مع أن معلوماتك قد تكون أكثر .. وشهادتك أعلى .. ومنصبك أرفع ..
لماذا إذن استطاع ملك أسماعهم وعجزت أنت ؟!!
لماذا ذاك الأب يحبه أولاده ويفرحون بمرافقته في كل ذهاب ومجيء .. وآخر لا يزال يلتمس من أولاده مرافقته وهم يعتذرون بصنوف الأعذار .. لماذا ؟! أليس كلاهما أب ؟!!
ولماذا .. ولماذا ..
سنتعلم هنا كيفية الاستمتاع بالحياة ..
أساليب جذب الناس .. والتأثير فيهم ..
تحمل أخطائهم ..
التعامل مع أصحاب الأخلاقيات المؤذية ..
إلى غير ذلك .. فمرحباً بك ..
كلمة ..
ليس النجاح أن تكتشف ما يحب الآخرون .. إنما النجاح أن تمارس مهارات تكسب بها محبتهم ..
3. لماذا نبحث عن المهارات؟
زرت إحدى المناطق الفقيرة لإلقاء محاضرة ..
جاءني بعدها أحد المدرسين القادمين من خارج المنطقة ..
قال لي : نود أن تساعدنا في كفالة بعض الطلاب ..
قلت : عجباً !! أليست المدارس حكومية .. مجانية ؟!
قال : بلى .. لكننا نكفلهم للدراسة الجامعية ..
قلت : كذلك الجامعة .. أليست حكومية .. بل تصرف للطلاب مكافآت ..
قال : سأشرح لك القصة ..
قلت : هاتِ ..
قال : يتخرج من الثانوية عندنا طلاب نسبتهم المئوية لا تقل عن 99% .. يملك من الذكاء والفهم قدراً لو وُزِّع على أمة لكفاهم ..
فإذا تخرج وعزم أن يسافر خارج قريته ليدرس في الطب أو الهندسة .. أو الشريعة .. أو الكمبيوتر .. أو غيرها .. منعه أبوه وقال : يكفي ما تعلمت .. فاجلس عندي لرعي الغنم ..
صرخت من غير شعور : رعي غنم !!
قال : نعم .. رعي غنم ..
وفعلاً يجلس المسكين عند أبيه يرعى الغنم .. وتموت هذه القدرات والمهارات .. وتمضي عليه السنين وهو راعي غنم ..
بل قد يتزوج .. ويرزق بأولاد .. ويمارس معهم أسلوب أبيه .. فيرعون الغنم !!
قلت : والحل؟!
قال : الحل أننا نقنع الأب باستخدام راعي غنم .. ببضع مئات من الريالات .. ندفعها نحن له .. وولده النابغة يستثمر مواهبه وقدراته .. ونتكفل بمصاريف الولد أيضاً حتى يتخرج ..
ثم خفض هذه المدرس رأسه .. وقال : حرام أن تموت المواهب والقدرات في صدور أصحابها .. وهم يتحسرون عليها ..
تفكرت في كلامه بعدها .. فرأيت أننا لا يمكن أن نصل إلى القمة إلا بممارسة مهارات .. أو اكتساب مهارات ..
نعم ..
أتحدى أن تجد أحداً من الناجحين .. سواء في علم .. أو دعوة .. أو خطابة .. أو تجارة .. أو طب .. أو هندسة .. أو كسب محبة الناس ..
أو الناجحين أسرياً .. كأب ناجح مع أولاده .. أو زوجة ناجحة مع زوجها ..
أو اجتماعياً .. كالناجح مع جيرانه وزملائه ..
أعني الناجحين .. ولا أعني الصاعدين على أكتاف الآخرين ..!!
أتحدى أن تجد أحداً من هؤلاء بلغ مرتبة في النجاح .. إلا وهو يمارس مهارات معينة – شعر أو لم يشعر - استطاع بها أن يصل إلى النجاح ..
قد يمارس بعض الناس مهارات ناجحة بطبيعته .. وقد يتعلم آخرون مهارات فيمارسونها .. فينجحون ..
نحن هنا نبحث عن هؤلاء الناجحين .. وندرس حياتهم .. ونراقب طريقتهم .. لنعرف كيف نجحوا ؟ وهل يمكن أن نسلك الطريق نفسه فننجح مثلهم ..؟
استمعت قبل فترة إلى مقابلة مع أحد أثرياء العالم الشيخ سليمان بن عبد الله الراجحي .. فوجدته جبلاً في خلقه وفكره ..
رجل يملك المليارات .. آلاف العقارات .. بنى مئات المساجد .. كفل آلاف الأيتام ..
رجل في قمة النجاح ..
تكلم عن بداياته قبل خمسين سنة .. كان من عامة الناس .. لا يكاد يملك إلا قوت يومه وربما لا يجده أحياناً !..
ذكر أنه ربما نظف بيوت بعض الناس ليكسب رزقه .. وربما واصل ليله بنهاره عاملاً في دكان أو مصرف ..
تكلم كيف كان في سفح الجبل .. ثم لا زال يصعد حتى وصل القمة ..
جعلت أتأمل مهاراته وقدراته .. فوجدت أن كثيراً منا يمكن أن يكون مثله بتوفيق الله .. لو تعلم مهارات وتدرب عليها .. وثابر وثبت ..
نعم ..
أمر آخر يدعونا إلى البحث عن المهارات ..
هو أن بعضنا يكون عنده قدرات على الإبداع لكنه غافل عنها .. أو لم يساعده أحد على إذكائها ..
كقدرة على الإلقاء .. أو فكر تجاري .. أو ذكاء معرفي ..
قد يكتشف هذه القدرات بنفسه .. أو يذكي هذه المهارات مدرس .. أو مسئول وظيفي .. أو أخ ناصح ..
وما أقلّهم ..
وقد تبقى هذه المهارات حبيسة النفس حتى يغلبها الطبع السائر بين الناس .. وتموت في مهدها ..
ونفقد عندها قائداً أو خطيباً أو عالماً .. أو ربما زوجاً ناجحاً أو أباً ناصحاً ..
نحن هنا سنذكر مهارات متميزة نذكرك بها إن كانت عندك .. وندربك عليها إن كنت فاقداً لها ..
فهلمّ ..
فكرة ..
إذا صعدت الجبل فانظر إلى القمة .. ولا تلتفت للصخور المتناثرة حولك ..
اصعد بخطوات واثقة .. ولا تقفز فتزل قدمك ..
4. طور نفسك ..
تجلس مع بعض الناس وعمره عشرون سنة .. فترى له أسلوباً ومنطقاً وفكراً معيناً ..
ثم تجلس معه وعمره ثلاثون .. فإذا قدراته هي هيَ .. لم يتطور فيه شيء ..
بينما تجلس مع آخرين فتجدهم يستفيدون من حياتهم .. تجده كل يوم متطوراً عن اليوم الذي قبله .. بل ما تمر ساعة إلا ارتفع بها ديناً أو دنيا ..
إذا أردت أن تعرف أنواع الناس في ذلك .. فتعال نتأمل في أحوالهم واهتماماتهم ..
القنوات الفضائية مثلاً ..
من الناس من يتابع ما ينمي فكره المعرفي .. ويطور ذكاءه .. ويستفيد من خبرات الآخرين من خلال متابعة الحوارات الهادفة .. يكتسب منها مهارات رائعة في النقاش .. واللغة .. والفهم .. وسرعة البديهة .. والقدرة على المناظرة .. وأساليب الإقناع ..
ومن الناس من لا يكاد يفوته مسلسل يحكي قصة حب فاشلة .. أو مسرحية عاطفية .. أو فيلم خيالي مرعب .. أو أفلام لقصص افتراضية تافهة .. لا حقيقة لها ..
تعال بالله عليك .. وانظر إلى حال الأول وحال الثاني بعد خمس سنوات .. أو عشر ..
أيهما سيكون أكثر تطوراً في مهاراته ؟ في القدرة على الاستيعاب ؟ في سعة الثقافة ؟ في القدرة على الإقناع ؟ في أسلوب التعامل مع الأحداث ؟
لا شك أنه الأول ..
بل تجد أسلوب الأول مختلفاً .. فاستشهاداته بنصوص شرعية .. أو أرقام وحقائق ..
أما الثاني فاسشهاداته بأقوال الممثلين .. والمغنين ..
حتى قال أحدهم يوماً في معرض كلامه .. والله يقول : اِسْعَ يا عبدي وأنا أسعى معاك !!
فنبهناه إلى أن هذه ليست آية .. فتغير وجهه وسكت ..
ثم تأملت العبارة .. فإذا الذي ذكره هو مثل مصري انطبع في ذهنه من إحدى المسلسلات !!
نعم .. كل إناء بما فيه ينضح ..
بل تعال إلى جانب آخر ..
في قراءة الصحف والمجلات .. كم هم أولئك الذين يهتمون بقراءة الأخبار المفيدة والمعلومات النافعة التي تساعد على تطوير الذات .. وتنمية المهارات .. وزيادة المعارف ..
بينما كم الذين لا يكادون يلتفتون إلى غير الصفحات الرياضية والفنية ؟!
حتى صارت الجرائد تتنافس في تكثير الصفحات الرياضية والفنية .. على حساب غيرها ..
قل مثل ذلك في مجالسنا التي نجلسها .. وأوقاتنا التي نصرفها ..
فأنت إذا أردت أن تكون رأساً لا ذيلاً .. احرص على تتبع المهارات أينما كانت .. درِّب نفسك عليها ..
كان عبد الله رجلاً متحمساً .. لكنه تنقصه بعض المهارات .. خرج يوماً من بيته إلى المسجد ليصلي الظهر .. يسوقه الحرص على الصلاة ويدفعه تعظيمه للدين ..
كان يحث خطاه خوفاً من أن تقام الصلاة قبل وصوله على المسجد ..
مر أثناء الطريق بنخلة في أعلاها رجل بلباس مهنته يشتغل بإصلاح التمر ..
عجب عبد الله من هذا الذي ما اهتم بالصلاة .. وكأنه ما سمع إذاناً ولا ينتظر إقامة ..!!
فصاح به غاضباً : انزل للصلاة ..
فقال الرجل بكل برود : طيب .. طيب ..
فقال : عجل .. صل يا حمار !!
فصرخ الرجل : أنا حمار ..!! ثم انتزع عسيباً من النخلة ونزل ليفلق به رأسه !!
غطى عبد الله وجهه بطرف غترته لئلا يعرفه .. وانطلق يعدو إلى المسجد ..
نزل الرجل من النخلة غاضباً .. ومضى إلى بيته وصلى وارتاح قليلاً .. ثم خرج إلى نخلته ليكمل عمله ..
دخل وقت العصر وخرج عبد الله إلى المسجد ..
مرّ بالنخلة فإذا الرجل فوقها ..
فقال : السلام عليكم .. كيف الحال ..
قال : الحمد لله بخير ..
قال : بشر !! كيف الثمر هذه السنة ..
قال : الحمد لله ..
قال عبد الله : الله يوفقك ويرزقك .. ويوسع عليك .. ولا يحرمك أجر عملك وكدك لأولادك ..
ابتهج الرجل لهذا الدعاء .. فأمن على الدعاء وشكر ..
فقال عبد الله : لكن يبدو أنك لشدة انشغالك لم تنتبه إلى أذان العصر !! قد أذن العصر .. والإقامة قريبة .. فلعلك تنزل لترتاح وتدرك الصلاة .. وبعد الصلاة أكمل عملك .. الله يحفظ عليك صحتك ..
فقال الرجل : إن شاء الله .. إن شاء الله ..
وبدأ ينزل برفق .. ثم أقبل على عبد الله وصافحه بحرارة .. وقال : أشكرك على هذه الأخلاق الرائعة .. أما الذي مر بي الظهر فيا ليتني أراه لأعلمه من الحمار !!
نتيجة
مهاراتك في التعامل مع الآخرين .. على أساسها تتحدد طريقة تعامل الناس معك
5. لا تبك على اللبن المسكوب ..
بعض الناس يعتبر طبعه الذي نشأ عليه .. وعرفه الناس به .. وتكونت في أذهانهم الصورة الذهنية عنه على أساسه .. يعتبره شيئاً لازماً له لا يمكن تغييره .. فيستسلم له ويقنع .. كما يستسلم لشكل جسمه أو لون بشرته .. إذ لا يمكنه تغيير ذلك ..
مع أن الذكي يرى أن تغيير الطباع لعله أسهل من تغيير الملابس !!
فطباعنا ليست كاللبن المسكوب الذي لا يمكن تداركه أو جمعه .. بل هي بين أيدينا ..
بل نستطيع بأساليب معينة أن نغير طباع الناس .. بل عقولهم – ربما - !!
ذكر ابن حزم في كتابه طوق الحمامة :
أنه كان في الأندلس تاجر مشهور .. وقع بينه وبين أربعة من التجار تنافس .. فأبغضوه .. وعزموا على أن يزعجوه .. فخرج ذات صباح من بيته متجهاً إلى متجره .. لابساً قميصاً أبيض وعمامة بيضاء ..
لقيه أولهم فحياه ثم نظر إلى عمامته وقال : ما أجمل هذه العمامة الصفراء ..
فقال التاجر : أعميَ بصرُك ؟!! هذه عمامة بيضاء ..
فقال : بل صفراء .. صفراء لكنها جميلة ..
تركه التاجر ومضى ..
فلما مشى خطوات لقيه الآخر .. فحياه ثم نظر إلى عمامته وقال : ما أجملك اليوم .. وما أحسن لباسك .. خاصة هذه العمامة الخضراء ..
فقال التاجر : يا رجل العمامة بيضاء ..
قال : بل خضراء ..
قال : بيضاء .. اذهب عني ..
ومضى المسكين يكلم نفسه .. وينظر بين الفينة والأخرى إلى طرف عمامته المتدلي على كتفه .. ليتأكد أنها بيضاء .. وصل إلى دكانه .. وحرك القفل ليفتحه .. فأقبل إليه الثالث : وقال : يا فلان .. ما أجمل هذا الصباح .. خاصة لباسك الجميل .. وزادت جمالك هذه العمامة الزرقاء ..
نظر التاجر إلى عمامته ليتأكد من لونها .. ثم فرك عينيه .. وقال : يا أخي عمامتي بيضااااااء ..
قال : بل زرقاء .. لكنها عموماً جميلة .. لا تحزن .. ثم مضى .. فجعل التاجر يصيح به .. العمامة بيضاء .. وينظر إليها .. ويقلب أطرافها ..
جلس في دكانه قليلاً .. وهو لا يكاد يصرف بصره عن طرف عمامته ..
دخل عليه الرابع .. وقال : أهلاً يا فلان .. ما شاء الله !! من أين اشتريت هذه العمامة الحمراء ؟!
فصاح التاجر : عمامتي زرقاء ..
قال : بل حمراء ..
قال التاجر : بل خضراء .. لا .. لا .. بل بيضاء .. لا .. زرقاء .. سوداء ..
ثم ضحك .. ثم صرخ .. ثم بكى .. وقام يقفز !!
قال ابن حزم : فلقد كنت أراه بعدها في شوارع الأندلس مجنوناً يحذفه الصبيان بالحصى !! ( )
فإذا كان هؤلاء بمهارات بدائية غيروا طبع رجل .. بل غيروا عقله ..
فما بالك بمهارات مدروسة .. منورة بنصوص الوحيين .. يمارسها المرء تعبداً لله تعالى بها ..
فطبق ما تقف عليه من مهارات حسنة لتسعد ..
وإن قلت لي : لا أستطيع ..! قلت : حاول ..
وإن قلت : لا أعرف .. !! قلت : تعلم ..
قال r : إنما العلم بالتعلم ، وإنما الحلم بالتحلم ..
وجهة نظر ..
البطل يتجاوز القدرة على تطوير مهاراته .. إلى القدرة على تطوير مهارات الناس .. وربما تغييرها !!
6. كن متميزاً ..
لماذا يتحاور اثنان في مجلس فينتهي حوارهما بخصومة .. بينما يتحاور آخران وينتهي الحوار بأنس ورضا ..
إنها مهارات الحوار ..
لماذا يخطب اثنان الخطبة نفسها بألفاظها نفسها .. فترى الحاضرين عند الأول ما بين متثائب ونائم .. أو عابث بسجاد المسجد .. أو مغير لجلسته مراراً ..
بينما الحاضرون عند الثاني منشدون متفاعلون .. لا تكاد ترمش لهم عين أو يغفل لهم قلب ..
إنها مهارات الإلقاء ..
لماذا إذا تحدث فلان في المجلس أنصت له السامعون .. ورموا إليه أبصارهم ..
بينما إذا تحدث آخر انشغل الجالسون بالأحاديث الجانبية .. أو قراءة الرسائل من هواتفهم المحمولة ..
إنها مهارات الكلام ..
لماذا إذا مشى مدرس في ممرات مدرسته رأيت الطلاب حوله .. هذا يصافحه .. وذاك يستشيره .. وثالث يعرض عليه مشكلة .. ولو جلس في مكتبه وسمح للطلاب بالدخول لامتلأت غرفته في لحظات .. الكل يحب مجالسته ..
بينما مدرس آخر .. أو مدرسون .. يمشي أحدهم في مدرسته وحده .. ويخرج من مسجد المدرسة وحده .. فلا طالب يقترب مبتهجاً مصافحاً .. أو شاكياً مستشيراً .. ولو فتح مكتبه من طلوع الشمس إلى غروبها .. وآناء الليل وأطراف النهار .. لما اقترب منه أحد أو رغب في مجالسته .. لماذا ؟!!
إنها مهارات التعامل مع الناس ..
لماذا إذا دخل شخص إلى مجلس عام هش الناس في وجهه وبشوا .. وفرحوا بلقائه .. وود كل واحد لو يجلس بجانبه ..
بينما يدخل آخر .. فيصافحونه مصافحة باردة - عادة أو مجاملة – ثم يتلفت يبحث له عن مكان فلا يكاد أحد يوسع له أو يدعوه للجلوس إلى جانبه .. لماذا ؟!!
إنها مهارات جذب القلوب والتأثير في الناس ..
لماذا يدخل أب إلى بيته فيهش أولاده له .. ويقبلون إليه فرحين ..
بينما يدخل الثاني على أولاده .. فلا يلتفتون إليه ..
إنها مهارات التعامل مع الأبناء ..
قل مثل ذلك في المسجد .. وفي الأعراس .. وغيرها ..
يختلف الناس بقدراتهم ومهاراتهم في التعامل مع الآخرين .. وبالتالي يختلف الآخرون في طريقة الاحتفاء بهم أو معاملتهم ..
والتأثير في الناس وكسب محبتهم أسهل مما تتصور ..!
لا أبالغ في ذلك فقد جربته مراراً .. فوجدت أن قلوب أكثر الناس يمكن صيدها بطرق ومهارات سهلة .. بشرط أن نصدق فيها ونتدرب عليها فنتقنها ..
والناس يتأثرون بطريقة تعاملنا .. وإن لم نشعر ..
أتولى منذ ثلاث عشرة سنة الإمامة والخطابة في جامع الكلية الأمنية ..
كان طريقي إلى المسجد يمر ببوابة يقف عندها حارس أمن يتولى فتحها وإغلاقها ..
كنت أحرص إذا مررت به أن أمارس معه مهارة الابتسامة .. فأشير بيدي مسلماً مبتسماً ابتسامة واضحة .. وبعد الصلاة أركب سيارتي راجعاً للبيت ..
وفي الغالب يكون هاتفي المحمول مليئاً باتصالات ورسائل مكتوبة وردت أثناء الصلاة .. فأكون مشغولاً بقراءة الرسائل فيفتح الحارس البوابة وأغفل عن التبسم ..
حتى تفاجأت به يوماً يوقفني وأنا خارج ويقول : يا شيخ ..! أنت زعلان مني ؟!
قلت : لماذا ؟
قال : لأنك وأنت داخل تبتسم وتسلم وأنت فرحان .. أما وأنت خارج فتكون غير مبتسم ولا فرحان !!
وكان رجلاً بسيطاً .. فبدأ المسكين يقسم لي أنه يحبني ويفرح برؤيتي ..
فاعتذرت منه وبينت له سبب انشغالي ..
ثم انتبهت فعلاً إلى أن هذه المهارات مع تعودنا عليها تصبح من طبعنا .. يلاحظها الناس إذا غفلنا عنها ..
إضاءة ..
لا تكسب المال وتفقد الناس .. فإن كسب
الناس طريق لكسب المال ..
7. أي الناس أحب إليك ؟
تكون أقوى الناس قدرة على استعمال مهارات التعامل مع الآخرين عندما تتعامل مع كل أحد تعاملاً رائعاً يجعله يشعر أنه أحب الناس إليك ..
فتتعامل مع أمك تعاملاً رائعاً مشبعاً بالتفاعل والأنس والاحتفاء إلى درجة أنها تشعر أن هذا التعامل الراقي لم يلقه أحد منك قبلها ..
وقل مثل ذلك عند تعاملك مع أبيك .. مع زوجتك .. أولادك .. زملائك ..
بل قل مثله عند تعاملك مع من تلقاهم مرة واحدة .. كبائع في دكان .. أو عامل في محطة وقود ..
كل هؤلاء تستطيع أن تجعلهم يجمعون على أنك أحب الناس إليهم إذا أشعرتهم أنهم أحب الناس إليك ..
وقد كان r قدوة في ذلك ..
إذ أن من تتبع سيرته .. وجد أنه كان يتعامل بمهارات أخلاقية راقية .. فيعامل كل أحد يلقاه بمهارات من احتفاء وتفاعل وبشاشة .. حتى يشعر ذلك الشخص أنه أحب الناس إليه .. وبالتالي يكون هو أيضاً r أحب الناس إليهم .. لأنه أشعرهم بمحبته ..
كان عمرو بن العاص t داهية من دهاة العرب .. حكمة وفطنة وذكاءً .. فأدهى العرب أربعة .. عمرو واحد منهم ..
أسلم عمرو وكان رأساً في قومه ..
فكان إذا لقي النبي r في طريق رأى البشاشة والبشر والمؤانسة ..
وإذا دخل مجلساً فيه النبي r رأى الاحتفاء والسعادة بمقدمه ..
وإذا دعاه النبي r .. ناداه بأحب الأسماء إليه ..
شعر عمرو بهذا التعامل الراقي .. ودوام الاهتمام والتبسم أنه أحب الناس إلى رسول الله r ..
فأراد أن يقطع الشك باليقين .. فأقبل يوماً إلى النبي r وجلس إليه .. ثم قال :
يا رسول الله .. أي الناس أحب إليك ؟
فقال r : عائشة ..
قال عمرو : لا .. من الرجال يا رسول الله ؟ لست أسألك عن أهلك ..
فقال r : أبوها ..
قال عمرو : ثم من ؟
قال : ثم عمر بن الخطاب ..
قال : ثم أي .. فجعل النبي r يعدد رجالاً .. يقول : فلان .. ثم فلان ..
بحسب سبقهم إلى الإسلام .. وتضحيتهم من أجله ..
قال عمرو : فسكتّ مخافة أن يجعلني في آخرهم ..
فانظر كيف استطاع r أن يملك قلب عمرو بمهارات أخلاقية مارسها معه ..
بل كان عليه الصلاة والسلام ينزل الناس منازلهم ..
وقد يترك أشغاله لأجلهم .. لإشعارهم بمحبته لهم وقدرهم عنده ..
لما توسع r بالفتوحات وبدأ ينتشر الإسلام ..
جعل r يرسل الدعاة من عنده لدعوة القبائل إلى الإسلام .. وربما احتاج الأمر أن يرسل جيشاً ..
وكان عدي بن حاتم الطائي .. ملكاً ابن ملك ..
فوقع بين قبيلته " طي " وبين المسلمين حرب .. وكان عدي قد هرب من الحرب فلم يشهدها .. واحتمى بالروم في الشام ..
وصل جيش المسلمين إلى ديار طيء ..
كانت هزيمة طيء سهلة .. فلا ملك يقود .. ولا جيش مرتب ..
وكان المسلمون في حروبهم .. يحسنون إلى الناس .. ويعطفون وهم في قتال ..
كان المقصود صد كيد قوم عدي عن المسلمين .. وإظهار قوة المسلمين لهم ..
أسر المسلمون بعض قوم عدي .. وكان من بينهم أخت لعدي بن حاتم ..
مضوا بالأسرى إلى المدينة .. حيث رسول الله .. وأخبروا النبي بفرار عدي إلى الشام ..
فعجب من فراره !! كيف يفر من الدين ؟ كيف يترك قومه ؟
ولكن لم يكن إلى الوصول إلى عدي سبيل ..
لم يطب المقام لعدي في ديار الروم .. فاضطر للرجوع لديار العرب .. ثم لم يجد بداً من أن يذهب إلى المدينة للقاء النبي r ومصالحته .. أو التفاهم على شيء يرضيهما .. ( ) ..
يقول عدي وهو يحكي قصة ذهابه إلى المدينة :
ما رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله r مني ..
وكنت على دين النصرانية ..
وكنت ملكاً في قومي لما كان يصنع بي .
فلما سمعت برسول الله r كرهته كراهية شديدة ..
فخرجت حتى قدمت الروم على قيصر ..
قال : فكرهت مكاني ذلك ..
فقلت : والله لو أتيت هذا الرجل .. فإن كان كاذباً لم يضرني .. وإن كان صادقاً علمت ..
فقدمت فأتيته .. فلما دخلت المدينة جعل الناس يقولون : هذا عدي بن حاتم .. هذا عدي بن حاتم ..
فمشيت حتى أتيت فدخلت على رسول الله r في المسجد فقال لي : عدي بن حاتم ؟
قلت : عدي بن حاتم ..
فرح النبي r بمقدمه .. واحتفى به .. مع أن عدياً محارب للمسلمين وفارٌ من الحرب .. ومبغض للإسلام .. ولاجئٌ إلى النصارى .. ومع ذلك لقيه r بالبشاشة والبشر .. وأخذ بيده يسوقه معه إلى بيته ..
عدي وهو يمشي بجانب النبي r يرى أن الرأسين متساويان ..!!
فمحمد ( r ) ملك على المدينة وما حولها .. وعدي ملك على جبال طي وما حولها ..
ومحمد ( r ) على دين سماوي " الإسلام " .. وعدي على دين سماوي " النصرانية " ..
ومحمد ( r ) عنده كتاب منزل " القرآن " .. وعدي عنده كتاب منزل " الإنجيل " ..
كان عدي يشعر أنه لا فرق بينهما إلا في القوة والجيش ..
في أثناء الطريق وقعت ثلاثة مواقف :
بينما هما يمشيان إذا بامرأة قد وقفت في وسط الطريق فجعلت تصيح : يا رسول الله .. لي إليك حاجة ..
فانتزع النبي r يده من يد عدي ومضى إليها .. وجعل يستمع إلى حاجتها ..
عدي بن حاتم .. الذي قد عرف الملوك والوزراء جعل ينظر إلى هذا المشهد .. ويقارن تعامل النبي r مع الناس بتعامل من رآهم من قبل من الرؤساء والسادة ..
فتأمل طويلاً ثم قال : والله ما هذه بأخلاق الملوك .. هذه أخلاق الأنبيااااااء ..
وانتهت المرأة من حاجتها .. فعاد النبي r إلى عدي .. ومضيا يمشيان .. فبينما هما كذلك .. فإذا برجل يقبل على النبي r ..
فماذا قال الرجل ؟ هل قال : يا رسول الله عندي أموال زائدة أبحث لها عن فقير ؟! أم قال : حصدت أرضي وزاد عندي الثمر .. فماذا أفعل به ؟
يا ليته قال شيئاً من ذلك .. لعل عدياً إذا سمعه يشعر بغنى المسلمين وكثرة أموالهم ..
قال الرجل : يا رسول الله .. أشكو إليك الفاقة والفقر ..
ما يكاد هذا الرجل يجد طعاماً يسد به جوعة أولاده .. ومن حوله من المسلمين يعيشون على الكفاف ليس عندهم ما يساعدونه به ..
قال الرجل هذه الكلمات وعدي يسمع .. فأجابه النبي r بكلمات ومضى ..
فلما مشيا خطوات .. أقبل رجل آخر .. قال : يا رسول الله أشكو إليك قطع الطريق !!
يعني أننا يا رسول الله لكثرة أعدائنا حولنا لا نأمن أن نخرج عن بنيان المدينة لكثرة من يعترضنا من كفار أو لصوص ..
أجابه النبي r بكلمات ومضى ..
جعل عدي يقلب الأمر في نفسه .. هو في عز وشرف في قومه .. وليس له أعداء يتربصون به ..
فلماذا يدخل هذا الدين الذي أهله في ضعف ومسكنة .. وفقر وحاجة ..
وصلا إلى بيت النبي r .. فدخلا .. فإذا وسادة واحدة فدفعها النبي r إلى عدي إكراماً له .. وقال : خذ هذه فاجلس عليها .. فدفعها عدي إليه قال : بل اجلس عليها أنت .. فقال r : بل أنت .. حتى استقرت عند عدي فجلس عليها ..
عندها .. بدأ النبي r يحطم الحواجز بين عدي والإسلام ..
يا عدي أسلم .. تسلم .. أسلم تسلم .. أسلم تسلم ..
قال عدي : إني على دين ..
فقال r : أنا أعلم بدينك منك ..
قال : أنت تعلم بديني مني ؟
قال : نعم .. ألست من الركوسية ..
والركوسية ديانة نصرانية مشرّبة بشيء من المجوسية .. فمن مهارته r في الإقناع أنه لم يقل ألست نصرانياً .. وإنما تجاوز هذه المعلومة إلى معلومة أدق منها فأخبره بمذهبه في النصرانية تحديداً ..
كما لو لقيك شخص في أحد بلاد أوروبا وقال لك : لماذا لا تتنصر ؟ فقلت : إني على دين ..
فلم يقل لك : ألست مسلماً .. ولم يقل : ألست سنُيّاً .. وإنما قال : ألست شافعياً .. أو حنبلياً ..
عندها ستدرك أنه يعرف كل شيء عن دينك ..
فهذا الذي فعله المعلم الأول r مع عدي .. قال : ألست من الركوسية ..
فقال عدي : بلى ..
فقال r : فإنك إذا غزوت مع قومك تأكل فيهم المرباع ؟ ( )
قال : بلى ..
فقال r : فإن هذا لا يحل لك في دينك ..
فتضعضع لها عدي .. وقال : نعم ..
فقال r : أما إني أعلم الذي يمنعك من الإسلام ..
أنك تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة لهم ..
وقد رمتهم العرب ..
يا عدي .. أتعرف الحيرة ؟ ( )
قلت : لم أرها وقد سمعت بها ..
قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ..
أي سيقوى الإسلام إلى درجة أن المرأة المسلمة الحاجة تخرج من الحيرة حتى تصل إلى مكة ليس معها إلا محرم .. من غير أحد يحميها .. وتمر على مئات القبائل فلا يجرؤ أحد أن يعتدي عليها أو يسلبها مالها .. لأن المسلمين صار لهم قوة وهيبة .. إلى درجة أن أحداً لا يجرؤ على التعرض لمسلم خوفاً من انتصار المسلمين له ..
فلما سمع عدي ذلك .. جعل يتصور المنظر في ذهنه .. امرأة تخرج من العراق حتى تصل إلى مكة .. معنى ذلك أنها ستمر بشمال الجزيرة .. يعني ستمر بجبال طي .. ديار قومه ..
فتعجب عدي وقال في نفسه : فأين عنها ذُعّار طي الذين سعروا البلاد !!
ثم قال r : وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز ..
قال : كنوز ابن هرمز ؟
قال : نعم كسرى بن هرمز .. ولتنفقن أمواله في سبيل الله ..
قال r : ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج بملء كفه من ذهب أوفضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه ..
يعني من كثرة المال يخرج الغني يطوف بصدقته لا يجد فقيراً يعطيه إياها ..
ثم بدأ يعظ عدياً ويذكره بالآخرة .. فقال :
وليلقين اللهَ أحدُكم يوم يلقاه ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم ، وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم " ..
سكت عدي متفكراً ..
ففاجأه قائلاً : يا عدي .. فما يفرك أن تقول لا إله إلا الله ؟.. أو تعلم من إله أعظم من الله ؟!
قال عدي : فإني حنيف مسلم .. أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..
فتهلل وجه النبي r فرحاً مستبشراً ..
قال عدي بن حاتم :
فهذه الظعينة تخرج من الحيرة تطوف بالبيت في غير جوار ..ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى ..
والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله r قد قالها " .. ( )
فتأمل كيف كان هذا الأنس منه لعدي .. وهذا الاحتفاء الذي قابله به .. حتى شعر به عدي .. تأمل كيف كان كل ذلك جاذباً لعدي للدخول في الإسلام ..
فلو مارسنا هذا الحب مع الناس .. مهما كانوا .. لملكنا قلوبهم ..
فكرة ..
بالرفق واستعمال مهارات التعامل والإقناع .. نستطيع أن نحقق ما نريد ..
8. استمتع بالمهارات ..
المهارات متعة حسية ، لا أعني بها الأجر الأخروي فقط ، لا وإنما هي متعة وفرح تشعر به حقيقة ..
فاستمتع بها ، ومارسها مع جميع الناس ، كبيرهم وصغيرهم ، غنيهم وفقيرهم ، قريبهم وبعيدهم .. كلهم .. مارس معهم هذه المهارات ..
إما لاتقاء أذاهم ..
أو لكسب محبتهم ..
أو لإصلاحهم .. نعم إصلاحهم ..
كان علي بن الجهم شاعراً فصيحاً .. لكنه كان أعرابياً جلفاً لا يعرف من الحياة إلا ما يراه في الصحراء ..
وكان المتوكل خليفة متمكناً .. يُغدى عليه ويراح بما يشتهي ..
دخل علي بن الجهم بغداد يوماً فقيل له : إن من مدح الخليفة حظي عنده ولقي منه الأعطيات ..
فاستبشر علي ويمم جهة قصر الخلافة ..
دخل على المتوكل .. فرأى الشعراء ينشدون ويربحون ..
والمتوكل هو المتوكل .. سطوة وهيبة وجبروت ..
فانطلق مادحاً الخليفة بقصيدة مطلعها :
يا أيها الخليفة ..
أنت كالكلب في حفاظك للود .. وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمتك دلواً .. من كبار الدلاْ كثير الذنوب
ومضى يضرب للخليفة الأمثلة بالتيس والعنز والبئر والتراب ..
فثار الخليفة .. وانتفض الحراس .. واستل السياف سيفه .. وفرش النطع .. وتجهز للقتل ..
فأدرك الخليفة أن علي بن الجهم قد غلبت عليه طبيعته .. فأراد أن يغيرها ..
فأمر به فأسكنوه في قصر منيف .. تغدو عليه أجمل الجواري وتروح يما يلذ ويطيب ..
ذاق علي بن الجهم النعمة .. واتكأ على الأرائك .. وجالس أرق الشعراء .. وأغزل الأدباء ..
ومكث على هذا الحال سبعة أشهر ..
ثم جلس الخليفة مجلس سمر ليلة .. فتذكر علي بن الجهم .. فسأل عنه ، فدعوه له .. فلما مثل بين يديه .. قال : أنشدني يا علي بن الجهم ..
فانطلق منشداً قصيدة مطلعها :
عيون المها بين الرصافة والجسر .. جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن .. سلوت ولكن زدن جمراً على جمر
ومضى يحرك المشاعر بأرق الكلمات .. ثم شرع يصف الخليفة بالشمس والنجم والسيف ..
فانظر كيف استطاع الخليفة أن يغير طباع ابن الجهم ..
ونحن كم ضايقتنا طباع لأولادنا أو أصدقائنا فسعينا لتغييرها .. فغيرناها ..
فمن باب أولى أن تقدر أنت على تغيير طباعك .. فتقلب العبوس تبسماً .. والغضب حلماً .. والبخل كرماً .. وهذا ليس صعباً .. لكنه يحتاج إلى عزيمة ومراس .. فكن بطلاً ..
ومن نظر في سيرة محمد r وجد أنه كان يتعامل مع الناس بقدرات أخلاقية ، ملك بها قلوبهم ..
ولم يكن r يتصنع هذه الأخلاق أمام الناس .. فإذا خلا بأهل بيته .. انقلب حلمه غضباً .. ولينه غلظاً ..
لا .. ما كان بساماً مع الناس عبوساً مع أهل بيته ..
ولا كريماً مع الخلق إلا مع ولده وزوجه ..
لا .. بل كانت أخلاقه سجية .. يتعبد لله تعالى بها .. كما يتعبد بصلاة الضحى وقيام الليل ..
يحتسب ابتسامته قربة .. ورفقَه عبادة .. وعفوَه ولينَه حسنات ..
إن من اعتبر حسن الخلق عبادة .. تحلى بها في جميع أحواله .. في سلمه وحربه .. وجوعه وشبعه .. وصحته ومرضه .. بل وفرحه وحزنه ..
نعم .. كم من الزوجات تسمع عن أخلاق زوجها.. وسعة صدره .. وابتسامته وكرمه ..
ولكنها لم تر من ذلك شيئاً ..
فهو في بيته سيئَ الخلق .. ضيقَ الصدر .. عابسَ الوجه .. صخاباً لعاناً .. بخيلاً ومناناً ..
أما هو r فهو الذي قال : ( خيركم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ) ( ) ..
وانظر كيف كان يتعامل مع أهله ..
قال الأسود بن يزيد : سألت عائشة t : ما كان رسول الله r يصنع في بيته ؟
فقالت : يكون في مهنة أهله .. فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج للصلاة ..
وقل مثل ذلك مع الوالدين .. فكم هم أولئك الذين نسمع عن حسن أخلاقهم ..
وكرمهم وتبسمهم .. وجميل معاشرتهم للآخرين .. أما مع أقرب الناس إليهم .. وأعظم الناس حقاً عليهم .. مع الوالدين فجفاء وهجر ..
نعم .. خيركم خيركم لأهله .. لوالديه .. لزوجه .. لخدمه .. بل ولأطفاله ..
في يوم مليء بالمشاعر .. يجلس أبو ليلى t عند رسول الله e .. فيأتي الحسن أو الحسين يمشي إلى النبي e .. فيأخذه e .. فيقعده على بطنه .. فبال الصغير على بطن رسول الله e .. قال أبو ليلى : حتى رأيت بوله على بطن رسول الله e أساريع ..
قال : فوثبنا إليه .. فقال e : دعوا ابني .. لا تفزعوا ابني ..
فلما فرغ الصغير من بوله .. دعا e بماء فصبه عليه .. ( )
فلله دره كيف تروضت نفسه على هذه الأخلاق .. فلا عجب إذن أن يملك قلوب الصغار والكبار ..
رأي ..
بدل أن تسب الظلام .. حاول إصلاح المصباح ..
9. مع الفقراء ..
عدد من الناس اليوم أخلاقهم تجارية .. فالغني فقط هو الذي تكون نكته طريفة فيضحكون عند سماعها .. وأخطاؤه صغيرة .. فيتغاضون عنها ..
أما الفقراء فنكتهم ثقيلة .. يسخر بهم عند سماعها .. وأخطاؤهم جسيمة .. يصرخ بهم عند وقوعها ..
أما رسول الله r فكان عطفه على الغني والفقير سواء ..
قال أنس t :
كان رجل من أهل البادية اسمه زاهر بن حرام ..
وكان ربما جاء المدينة في حاجة فيهدي للنبي r من البادية شيئاً من إقط أو سمن ..
فيُجهزه رسول الله r إذا أراد أن يخرج إلى أهله بشيء من تمر ونحوه ..
وكان النبي r يحبه .. وكان يقول : ( إن زاهراً باديتنا .. ونحن حاضروه ).. وكان زاهراً دميماً ..
خرج زاهر t يوماً من باديته .. فأتى بيت رسول الله r .. فلم يجده ..
وكان معه متاع فذهب به إلى السوق .. فلما علم به النبي مضى إلى السوق يبحث عنه ..
فأتاه فإذا هو يبيع متاعه .. والعرق يتصبب منه .. وثيابه ثياب أهل البادية بشكلها ورائحتها ..
فاحتضنه r من ورائه ، وزاهر لا يُبصره .. ولا يدري من أمسكه ..
ففزع زاهر وقال : أرسلني .. من هذا ؟ ..
فسكت النبي عليه الصلاة والسلام ..
فحاول زاهر أن يتخلص من القبضة ..
وجعل يلتفت وراءه .. فرأى النبي r .. فاطمأنت نفسه .. وسكن فزعه ..
وصار يُلصٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍق ظهره بصدر النبي r .. حين عرفه ..
فجعل النبي r يمازح زاهراً .. ويصيح بالناس يقول :من يشتري العبد ؟ .. من يشتري العبد ؟ ..
فنظر زاهر في حاله .. فإذا هو فقير كسير .. لا مال .. ولا جمال ..
فقال : إذاً والله تجدني كاسداً يا رسول الله ..
فقال r : لكن عند الله لست بكاسد .. أنت عند الله غال ..
فلا عجب أن تتعلق قلوب الفقراء به وهو يملكهم بهذه الأخلاق ..
كثير من الفقراء .. قد لا يعيب على الأغنياء البخل عليه بالمال والطعام .. لكنه يجد عليهم بخلهم باللطف وحسن المعاشرة ..
وكم من فقير تبسمت في وجهه .. وأشعرته بقيمته واحترامه .. فرفع في ظلمة الليل يداً داعية .. يستنزل بها لك الرحمات من السماء ..
ورب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له .. لو أقسم على الله لأبره ..
فكن دائم البشر مع هؤلاء الضعفاء ..
إشارة ..
لعل ابتسامة في وجه فقير .. ترفعك عند الله درجات ..
10. النساء ..
كان جدي يستشهد بمثل قديم : " من غاب عن عنزه جابت تيس " ..
بمعنى أن من لم تجد عنده زوجته .. ما يشبع عاطفتها .. ويروي نفسها .. فقد تحدثها نفسها بالاستجابة لغيره .. ممن يملك معسول الكلام ..
وليس مقصودهم بهذا المثل تشبيه الرجل والمرأة بالتيس والعنز .. معاذ الله ..
المرأة شقيقة الرجل .. ولئن كان الله قد وهب الرجل جسماً قوياً .. فقد وهبها عاطفة قوية ..
وكم رأينا سلاطين الرجال وشجعانهم تخور قواهم عند قوة عاطفة امرأة ..
ومن مهارات التعامل مع المرأة أن تعرف المفتاح الذي تؤثر من خلاله فيها .. العاطفة .. تقاتلها بسلاحها ..
كان النبي e يوصيك بالإحسان إلى المرأة .. واحترام عاطفتها .. لأجل أن تسعد معها ..
وأوصى الأب بالإحسان إلى بناته .. فقال : ( من عال جاريتين حتى تبلغا .. جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه ) .. ( )
وأوصى بها أولادها فقال فإنه لما سأله رجل فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟
قال : أمك .. ثم أمك .. ثم أمك .. ثم أبوك .. ( )
بل أوصى r بالمرأة زوجها .. وذمّ من غاضب زوجته أو أساء إليها ..
وانظر إليه r وقد قام في حجة الوداع .. فإذا بين يديه مائةُ ألف حاج ..
فيهم الأسود والأبيض .. والكبير والصغير .. والغني والفقير ..
صاح r بهؤلاء جميعاً وقال لهم :
ألا واستوصوا بالنساء خيراً .. ألا واستوصوا بالنساء خيراً .. ( )
وفي يوم من الأيام أطاف بأزواج رسول الله r نساء كثير يشتكين أزواجهن ..فلما علم النبي r بذلك .. قام .. وقال للناس :
لقد طاف بآل محمد r نساء كثير يشتكين أزواجهن .. ليس أولائك بخياركم .. ( )
وقال :
( خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) .. ( )
بل .. قد بلغ من إكرام الدين للمرأة .. أنها كانت تقوم الحروب .. وتسحق الجماجم .. وتتطاير الرؤوس .. لأجل عرض امرأة واحدة ..
كان اليهود يساكنون المسلمين في المدينة ..
وكان يغيظهم نزولُ الأمر بالحجاب .. وتسترُ المسلمات .. ويحاولون أن يزرعوا الفساد والتكشف في صفوف المسلمات .. فما استطاعوا ..
وفي أحد الأيام جاءت امرأة مسلمة إلى سوق يهود بني قينقاع ..
وكانت عفيفة متسترة .. فجلست إلى صائغ هناك منهم ..
فاغتاظ اليهود من تسترها وعفتها .. وودوا لو يتلذذون بالنظر إلى وجهها .. أو لمسِها والعبثِ بها .. كما كانوا يفعلون ذلك قبل إكرامها بالإسلام .. فجعلوا يريدونها على كشف وجهها .. ويغرونها لتنزع حجابها ..
فأبت .. وتمنعت ..
فغافلها الصائغ وهي جالسة .. وأخذ طرف ثوبها من الأسفل .. وربطه إلى طرف خمارها المتدلي على ظهرها ..
فلما قامت .. ارتفع ثوبها من ورائها .. وتكشفت أعضاؤها .. فضحك اليهود منها..
فصاحت المسلمة العفيفة .. وودت لو قتلوها ولم يكشفوا عورتها ..
فلما رأى ذلك رجل من المسلمين .. سلَّ سيفه .. ووثب على الصائغ فقتله ..فشد اليهود على المسلم فقتلوه ..
فلما علم النبي r بذلك .. وأن اليهود قد نقضوا العـهد وتعرضوا للمسلمات .. حاصرهم .. حتى استسلموا ونزلوا على حكمه ..
فلما أراد النبي r أن ينكل بهم .. ويثأر لعرض المسلمة العفيفة ..
قام إليه جندي من جند الشيطان ..
الذين لا يهمهم عرض المسلمات .. ولا صيانة المكرمات ..
وإنما هم أحدهم متعة بطنه وفرجه ..
قام رأس المنافقين .. عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ..
فقال : يا محمد أحسن في موالي اليهود وكانوا أنصاره في الجاهلية ..
فأعرض عنه النبي r .. وأبـَى ..
إذ كيف يطلب العفو عن أقوام يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا !!
فقام المنافق مرة أخرى .. وقال : يا محمد أحسن إليهم ..
فأعرض عنه النبي r .. صيانة لعرض المسلمات .. وغيرة على العفيفات ..
فغضب ذلك المنافق .. وأدخل يده في جيب درع النبي r .. وجرَّه وهو يردد :
أحسن إلى مواليّ .. أحسن إلى مواليّ ..
فغضب النبي r والتفت إليه وصاح به وقال : أرسلني ..
فأبى المنافق .. وأخذ يناشد النبي r العدول عن قتلهم ..
فالتفت إليه النبي r وقال : هم لك ..
ثم عدل عن قتلهم .. لكنه r أخرجهم من المدينة .. وطرَّدهم من ديارهم ..
نعم المرأة العفيفة تستحق أكثر من ذلك ..
كانت خولة بنت ثعلبة t من الصحابيات الصالحات ..
وكان زوجها أوس بن الصامت شيخاً كبيراً يسرع إليه الغضب ..
دخل عليها يوماً راجعاً من مجلس قومه .. فكلمها في شيء فردت عليه .. فتخاصما .. فغضب فقال : أنت علي كظهر أمي .. وخرج غاضباً ..
كانت هذه الكلمة في الجاهلية إذا قالها الرجل لزوجته صارت طلاقاً .. أما في الإسلام فلا تعلم خولة حكمها ..
رجع أوس إلى بيته .. فإذا امرأته تتباعد عنه ..
وقالت له : والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت .. حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه ..
ثم خرجت خولة إلى رسول الله e فذكرت له ما تلقى من زوجها .. وجعلت تشكو إليه ما سوء خلقه معها ..
فجعل رسول الله e يصبرها ويقول : يا خويلة ابن عمك .. شيخ كبير .. فاتقي الله فيه ..
وهي تدافع عبراتها وتقول : يا رسول الله .. أكل شبابي .. ونثرت له بطني .. حتى إذا كبرت سني .. وانقطع ولدي .. ظاهر مني .. اللهم إني أشكو إليك ..
وهو e ينتظر أن ينزل الله تعالى فيهما حكماً من عنده ..
فبينما خولة عند رسول الله e إذ هبط جبريل من السماء على رسول الله e ..
بقرآن فيه حكمها وحكم زوجها ..
فالتفت e إليها وقال : يا خويلة .. قد أنزل فيك وفي صاحبك قرآناً .. ثم قرأ " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير " إلى آخر الآيات من أول سورة المجادلة ..
ثم قال لها e مُريه فليعتق رقبة ..
فقالت : يا رسول الله .. ما عنده ما يعتق ..
قال : فليصم شهرين متتابعين ..
قالت : والله إنه لشيخ كبير ما له من صيام ..
قال : فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر ..
قالت : يا رسول الله .. ما ذاك عنده ..
فقال e : فإنا سنعينه بعرق من تمر ..
قالت : والله يا رسول الله .. أنا سأعينه بعرق آخر ..
فقال e : قد أصبت وأحسنت .. فاذهبي فتصدقي به عنه .. ثم استوصي بابن عمك خيراً .. ( )
فسبحان من وهبه اللين والتحمل مع الجميع .. حتى في مشاكلهم الشخصية .. يتفاعل معهم ..
وقد جربت بنفسي .. التعامل باللين والمهارات العاطفية مع البنت والزوجة .. وقبل ذلك الأم والأخت .. فوجدت لها من التأثير الكبير .. ما لا يتصوره إلا من مارسه ..
فالمرأة لا يكرمها إلا كريم .. ولا يهينها إلا لئيم ..
وقفة ..
قد تصبر المرأة على .. فقر زوجها .. وقبحه .. وانشغاله .. لكنها قل أن تصبر على سوء خلقه ..
11. الصغار ..
كم هي المواقف التي وقعت لنا في صغرنا ولا تزال مطبوعة في أذهاننا إلى اليوم .. سواء كانت مفرحة أو محزنة ..
عُد بذاكرتك إلى أيام طفولتك .. ستذكر لا محالة جائزة كرمت بها في مدرستك .. أو ثناء أثناه عليك أحد في مجلس عام .. فهي مواقف تحفر صورتها في الذاكرة .. فلا تكاد تنسى ..
وإلى جانب ذلك .. لا نزال نتذكر مواقف محزنة .. وقعت لنا في طفولتنا .. مدرس ضربنا .. أو خصومة مع زملاء في المدرسة .. أو مواقف تعرضنا فيها للإهانة من أسرتنا .. أو تعرض لها أحدنا من زوجة أبيه .. أو نحو ذلك ..
وكم صار الإحسان إلى الصغار طريقاً إلى التأثير ليس فيهم فقط .. بل في آبائهم وأهليهم .. وكسب محبتهم جميعاً ..
يتكرر كثيراً لمدرس المرحلة الابتدائية أن يتصل به أحد أبوي طالب صغير ويثني عليه وأنه أحبه لمحبة ولده له وكثرة ذكره بالخير .. وقد يعبرون عن هذه المشاعر في لقاء عابر .. أو هدية أو رسالة ..
إذن لا تحتقر الابتسامة في وجه الصغير .. وكسب قلبه .. وممارسة مهارات التعامل الرائع معه ..
ألقيت يوماً محاضرة عن الصلاة لطلاب صغار في مدرسة ..
فسألتهم عن حديث حول أهمية الصلاة .. فأجاب أحدهم : قال e : بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة ..
أعجبني جوابه .. ومن شدة الحماس نزعت ساعة يدي وأعطيته إياها ..
وكانت – عموماً – ساعة عادية كساعات الطبقة الكادحة ..!
كان هذا الموقف مشجعاً لذلك الغلام .. أحب العلم أكثر .. وتوجه لحفظ القرآن .. وشعر بقيمته ..
مضت الأيام .. بل السنين .. ثم في أحد المساجد تفاجأت أن الإمام هو ذلك الغلام .. وقد صار شاباً متخرجاً من كلية الشريعة .. ويعمل في سلك القضاء بأحد المحاكم .. لم أذكره وإنما تذكرني هو ..
فانظر كيف انطبعت في ذهنه المحبة والتقدير بموقف عاشه قبل سنين ..
وأذكر أني دعيت ليلة لإحدى الولائم .. فإذا شاب مشرق الوجه يسلم علي بحرارة بي ويذكرني بموقف لطيف وقع له معي في محاضرة ألقيتها في مدرسته لما كان غلاماً صغيراً ..
وكم ترى من الناس الذين يحسنون التعامل مع الصغار من يخرج من المسجد .. فترى أباً يجره ولده الصغير بيده ليصل إلى هذا الرجل فيسلم عليه ويبلغه بمحبة ولده له ..
وقد يقع مثل هذا الموقف في وليمة كبيرة أو عرس .. يكثر فيه المدعوون ..
ولا أكتمك أنني أبالغ في إكرام الصغار والحفاوة بهم بعض الشيء .. بل والاستماع إلى أحاديثهم العذبة – وإن كانت في أكثر الأحيان غير مهمة – بل أزيد الحفاوة ببعضهم أحياناً إكراماً لوالده وكسباً لمحبته ..
أحد الأصدقاء كنت ألقاه أحياناً مع ولده الصغير .. فكنت أحتفي بالصغير وألاطفه ..
لقيني صديقي هذا يوماً في محفل كبير .. فأقبل إليَّ بولده يسلم علي .. ثم قال : ماذا فعلت بولدي ! يسألهم مدرسهم قبل أيام عن أمنياتهم في المستقبل .. فمنهم من قال : أكون طبيباً .. والآخر قال : أكون مهندساً .. وولدي قال : أكون محمد العريفي !!
ويمكنك أن تلاحظ أنواع الناس في التعامل مع الصغار .. عندما يدخل رجل إلى مجلس عام ويطوف بالحاضرين مصافحاً .. وولده من خلفه يفعل كفعله .. فمن الناس من يتغافل عن الصغير .. ومنهم من يصافحه بطرف يده .. ومنهم من يهز يده مبتسماً مردداً : أهلاً يا بطل .. كيف حالك يا شاطر .. فهذا الذي تنطبع محبته في قلب الصغير .. بل وقلب أبيه وأمه ..
كان المربي الأول e له أحسن التعامل مع الصغار ..
كان لأنس بن مالك أخ صغير .. وكان r يمازحه ويكنيه بأبي عمير .. وكان للصغير طير صغير يلعب به .. فمات الطير ..
فكان e يمازحه إذا لقيه .. ويقول : يا أبا عمير .. ما فعل النغير ؟ يعني الطائر الصغير ..
وكان يعطف على الصغار ويلاعبهم .. ويلاعب زينب بنت أم سلمة ويقول : ( يا زوينب .. يا زوينب .. ) ..
وكان إذا مر بصبيان يلعبون سلم عليهم ..
وكان يزور الأنصار ويُسلم على صبيانهم .. ويمسح رؤوسهم ..
وعند رجوعه r من المعركة كان يستقبله الأطفال فيركبهم معه ..
فعند عودة المسلمين من مؤتة ..
أقبل الجيش إلى المدينة راجعاً ..
فتلقاهم النبي عليه الصلاة والسلام .. والمسلمون ..
ولقيهم الصبيان يشتدون ..
فلما رأى r الصبيان .. قال : خذوا الصبيان فاحملوهم ..
وأعطوني ابن جعفر ..
فأُتي بعبد الله بن جعفر فأخذه فحمله بين يديه ..
وكان r يتوضأ يوماً من ماء .. فأقبل إليه محمود بن الربيع طفل عمره خمس سنوات .. فجعل r في فمه ماء ثم مجه في وجهه يمازحه .. ( ) ..
وعموماً .. كان r ضحوكاً مزوحاً مع الناس .. يدخل السرور إلى قلوبهم .. خفيفاً على النفوس لا يمل أحد من مجالسته ..
أقبل إليه رجل يوماً يريد دابة ليسافر عليها أو يغزو ..
فقال r ممازحاً له : ( إني حاملك على ولد ناقة ) ..
فعجب الرجل .. كيف يركب على جمل صغير .. لا يستطيع حمله .. فقال : يا رسول الله وما أصنع بولد الناقة ؟
فقال r : ( وهل تلد الإبل إلا النوق ) .. يعني سأعطيك بعيراً كبيراً .. لكنه - قطعاً - قد ولدته ناقة ..
وقال r يوماً لأنس ممازحاً : ( يا ذا الأذنين ) ..
وأقبلت إليه امرأة يوماً تشتكي زوجها .. فقال لها : زوجك الذي في عينه بياض ؟
ففزعت المرأة وظنت أنه زوجها عمي بصره .. كما قال الله عن يعقوب عليه السلام " وابيضت عيناه من الحزن " أي : عمي ..
فرجعت فزعة إلى زوجها وجعلت تنظر في عينيه .. وتدقق ..
فسألها عن خبرها ؟!
فقالت : قد قال رسول الله إن في عينك بياض ..
فقال لها : يا امرأة .. أما أخبرك أن بياضها أكثر من سوادها ..
أي أن كل أحد في عينه بياض وسواد ..
وكان إذا مازحه أحد تفاعل معه .. وضحك وتبسم ..
دخل عليه عمر وهو r غضبان على نسائه .. لما أكثرن عليه مطالبته بالنفقة .. فقال عمر : يَا رَسُولَ اللَّهِ .. لَوْ رَأَيْتَنا وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ .. نَغْلِبُ النِّسَاءَ .. فكنا إذا سألت أحدَنا امرأتُه نفقةً قام إليها فوجأ عنقها ..
فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ .. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ..
يعني فقويت علينا نساؤنا ..
فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ r .. ثم زاد عمر الكلام .. فازداد تبسم النبي r .. تلطفاً مع عمر ..
وتقرأ في أحاديث أنه تبسم حتى بدت نواجذه ..
إذن كان لطيف المعشر .. أنيس المجلس ..
فلو وطّنا أنفسنا على مثل هذا التعامل مع الناس .. لشعرنا بطعم الحياة فعلاً ..
فكرة ..
الطفل طينة لينة نشكلها بحسب تعاملنا معه ..
12. العبيد والمماليك ..
كان صلى الله عليه وسلم يحسن الدخول إلى قلوبهم بما يناسب ..
لما توفي عم النبي صلى الله عليه وسلم .. اشتد أذى قريش عليه ..
فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف .. يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه .. ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى ..
خرج إليهم وحده ..
وصل إلى الطائف .. وعمد إلى نفر ثلاثة من ثقيف وهم سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة .. عبد يا ليل .. ومسعود .. وحبيب .. بنو عمرو بن عمير ..
فجلس إليهمصلى الله عليه وسلم.. فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه ..
فقال أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ..
وقال الآخر : أما وجد الله أحداً أرسله غيرك ؟
أما الثالث فقال – متفلسفاً - :
والله لا أكلمك أبداً ! لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام .. ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك ..
فلما سمع صلى الله عليه وسلم منهم هذا الرد القبيح .. قام من عندهم .. وقد يئس من خير ثقيف ..
لكنه خاف أن تعلم قريش بخبر ثقيف معه فيجترئون عليه أكثر .. فقال لهم :
إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا على ..
فلم يفعلوا .. وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ..
حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة .. وشيبة بن ربيعة .. وهما فيه ..
ورجع عنه من سفهاء ثقيف ممن كان يتبعه ..
فعمد صلى الله عليه وسلم إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه ..
وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف ..
فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما ..
فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عداس .. وقالا : له خذ قطفاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق .. ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه ..
ففعل عداس .. وجاء بالعنب .. حتى وضعه بين يدي رسول الله r ثم قال له : كل ..
فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إليه وقال : " بسم الله " ثم أكل ..
نظر عداس إليه وقال :
والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد ..
فقال له صلى الله عليه وسلم : " ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ " ..
قال : نصراني .. وأنا رجل من أهل نينوى ..
فقال صلى الله عليه وسلم : " من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ " ..
فقال عداس : وما يدريك ما يونس بن متى ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : " ذلك أخي .. كان نبياً .. وأنا نبي " ..
فأكب عداس على رسول الله r يقبل رأسه ويديه وقدميه ..
وابنا ربيعة ينظران إليهما .. فقال أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك ..
فلما رجع عداس لسيده .. وقد بدا عليه التأثر برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماع كلامه ..
قال له سيده : ويلك يا عداس ! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟
فقال : يا سيدي ما في الأرض شئ خير من هذا .. لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي ..
فقال سيده : ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك .. فإن دينك خير من دينه ..
فهل نستطيع نحن اليوم أن نجعل تعاملنا راقياً مع الجميع .. مهما كانت طبقاتهم ؟
لمحة ..
عامل البشر على أنهم بشر .. لا على أشكالهم .. أو أموالهم .. أو وظائفهم
13. مع المخالفين ..
الكفار .. كان صلى الله عليه وسلم يعاملهم بالعدل .. ويستميت في سبيل دعوتهم وإصلاحهم .. ويتحمل أذاهم ..
ويتغاضى عن سوئهم .. كيف لا .. وقد قال له ربه : ( وما أرسلناك إلا رحمة ) .. لمن ؟! للمؤمنين ؟! لا .. ( إلا رحمة للعالمين ) ..
وتأمل حال اليهود.. يذمونه ويبتدئون بالعداوة .. ومع ذلك يرفق بهم ..
وعن عائشة قالت : إن اليهود مروا ببيت النبي صلى الله عليه وسلم
فقالوا :
السام عليكم ( أي : الموت عليك ) ..
فقالصلى الله عليه وسلم: وعليكم ..
فلم تصبر عائشة لما سنعتهم .. فقالت : السام عليكم .. ولعنكم الله وغضب عليكم ..
فقال صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة .. عليك بالرفق .. وإياك والعنف والفحش ..
فقالت : أو لم تسمع ما قالوا ؟
فقال : أو لم تسمعي ما قلت ؟! رددت عليهم فيستجاب لي .. ولا يستجاب لهم فيّ ..
نعم .. ما الداعي إلى مقابلة السباب بالسباب ! أليس الله قد قال له : ( وأعرض عن الجاهلين ) ..
وفي يوم .. خرج صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في غزوة ..
فلما كانوا في طريق عودتهم .. نزلوا في واد كثير الشجر ..
فتفرق الصحابة تحت الشجر وناموا .. وأقبل صلى الله عليه وسلم إلى شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها .. وفرش رداءه ونام ..
في هذه الأثناء كان رجل من المشركين يتبعهم ..
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
خالياً .. أقبل يمشي بهدوء .. حتى التقط السيف من على الغصن .. وصاح بأعلى صوته :
يا محمد .. من يمنعك مني ؟
فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والرجل قائم على رأسه .. والسيف صلتاً في يده .. يلتمع منه الموت ..
الرسولصلى الله عليه وسلم وحيداً .. ليس عليه إلا إزار .. أصحابه متفرقون عنه .. نائمون ..
والرجل يعيش نشوة القوة والانتصار .. ويردد : من يمنعك مني ؟ من يمنعك مني ؟
فقالصلى الله عليه وسلم بكل ثقة : الله ..
فانتفض الرجل وسقط السيف ..
فقام صلى الله عليه وسلم والتقط السيف وقال : من يمنعك مني ؟
فتغير الرجل .. واضطرب .. وأخذ يسترحم النبي صلى الله عليه وسلم.. ويقول : لا أحد .. كن خير آخذ ..
فقال له صلى الله عليه وسلم: تسلم ؟
قال : لا .. ولكن لا أكون في قوم هم حرب لك ..
فعفا عنه صلى الله عليه وسلم.. وأحسن إليه !!
وكان الرجل ملكاً في قومه .. فانصرف إليهم فدعاهم إلى الإسلام .. فأسلموا ..
نعم .. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ..
بل حتى مع الأعداء الألداء كان صلى الله عليه وسلم له خلق عظيم .. كسب به نفوسهم .. وهدى قلوبهم .. ودحر به كفرهم ..
لما ظهر صلى الله عليه وسلم
بدعوته بين الناس .. جعلت قريش تحاول حربه بكل سبيل ..
وكان مما بذلته أن تشاور كبارها في التعامل مع دعوته صلى الله عليه وسلم.. وتسارع الناس للإيمان به ..
فقالوا : أنظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا .. وشتت أمرنا .. وعاب ديننا .. فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه ..
فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة ..
فقالوا : أنت يا أبا الوليد ..
وكان عتبة سيداً حليماً ..
فقال : يا معشر قريش .. أترون أن أقوم إلى هذا فأكلمه .. فأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل منها بعضها ..
قالوا : نعم يا أبا الوليد ..
فقام عتبة وتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..
دخل عليه .. فإذا صلى الله عليه وسلم جالس بكل سكينة ..
فلما وقف عتبة بين يديه .. قال : يا محمد ! أنت خير أم عبد الله ؟!
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. تأدباً مع أبيه عبد الله ..
فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟
فسكت صلى الله عليه وسلم.. تأدباً مع جده عبد المطلب ..
فقال عتبة : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ .. وإن كنت تزعم أنك خير منهم .. فتكلم حتى نسمع قولك ..
وقبل أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم
بكلمة .. ثار عتبة وقال :
إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك !!.. فرقت جماعتنا .. وشتت أمرنا .. وعبت ديننا .. وفضحتنا في العرب .. حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً .. وأن في قريش كاهناً .. والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى .. أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى ..
كان عتبة متغيراً غضباناً .. والنبي ساكت يستمع بكل أدب ..
وبدأ عتبة يقدم إغراءات ليتخلى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة .. فقال :
أيها الرجل إن كنت جئت بالذي جئت به لأجل المال .. جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً ..
وان كنت إنما بك حب الرئاسة .. عقدنا ألويتنا لك فكنت رأساً ما بقيت ..
وإن كان إنما بك الباه والرغبة في النساء .. فاختر أيَّ نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً ..!!
وان كان هذا الذي يأتيك رئياً من الجن تراه .. لا تستطيع رده عن نفسك .. طلبنا لك الطب .. وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه .. فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه ..
ومضى عتبة يتكلم بهذا الأسلوب السيء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ويعرض عليه عروضاً ويغريه .. والنبي عليه الصلاة والسلام ينصت إليه بكل هدوء ..
وانتهت العروض .. ملك .. مال .. نساء .. علاج من جنون !!
سكت عتبة .. وهدأ .. ينتظر الجواب ..
فرفع النبي عليه الصلاة والسلام بصره إليه وقال بكل هدووووء :
أفرغت يا أبا الوليد ؟
لم يستغرب عتبة هذا الأدب من الصادق الأمين .. بل قال باختصار : نعم ..
فقال صلى الله عليه وسلم : فاسمع مني ..
قال : أفعل ..
فقال صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم " حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ .. ) ..
ومضى النبي عليه الصلاة والسلام .. يتلوا الآيات وعتبة يستمع ..
وفجأة جلس عتبة على الأرض .. ثم اهتز جسمه ..
فألقى يديه خلف ظهره .. واتكأ عليهما ..
وهو يستمع .. ويستمع .. والنبي يتلو .. ويتلو ..
حتى بلغ قوله تعالى ..
( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) .. فانتفض عتبة لما سمع التهديد بالعذاب .. وقفز ووضع يديه على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ليوقف القراءة ..
فاستمر صلى الله عليه وسلم يتلو الآيات .. حتى انتهى إلى الآية التي فيها سجدة التلاوة .. فسجد ..
ثم رفع رأسه من سجوده .. ونظر إلى عتبة وقال : سمعت يا أبا الوليد ؟
قال : نعم ..
قال : فأنت وذاك ..
فقام عتبة يمشي إلى أصحابه .. وهم ينتظرونه متشوقين ..
فلما أقبل عليهم .. قال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ..
فلما جلس إليهم .. قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟
فقال : ورائي أني والله سمعت قولاً ما سمعت مثله قط .. والله ما هو بالشعر .. ولا السحر .. ولا الكهانة ..
يا معشر قريش : أطيعوني واجعلوها بي .. خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه .. فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ..
يا قوم !! قرأ بسم الله الرحمن الرحيم " حم * تنزيل من الرحمن الرحيم " حتى بلغ : " فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فأمسكته بفيه .. وناشدته الرحم أن يكف .. وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب .. فخفت أن ينزل بكم العذاب ..
ثم سكت أبو الوليد قليلاً متفكراً .. وقومه واجمون يحدون النظر إليه ..
فقال : والله إن لقوله لحلاوة .. وإن عليه لطلاوة .. وإن أعلاه لمثمر .. وإن أسفله لمغدق .. وإنه ليعلو وما يعلى عليه .. وإنه ليحطم ما تحته .. وما يقول هذا بشر .. وما يقول هذا بشر ..
قالوا : هذا شعر يا أبا الوليد .. شعر ..
فقال : والله ما رجل أعلم بالأشعار مني .. ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني .. ولا بأشعار الجن .. والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئاً من هذا ..
ومضى عتبة يناقش قومه في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. صحيح أن عتبة لم يدخل في الإسلام .. لكن نفسه لانت للدين ..
فتأمل كيف أثر هذا الخلق الرفيع .. ومهارة حسن الاستماع في عتبة مع أنه من أشد الأعداء ..
وفي يوم آخر ..
تجتمع قريش .. فينتدبون حصين بن المنذر الخزاعي .. وهو أبو الصحابي الجليل عمران بن حصين ..
ينتبونه لنقاش النبي عليه الصلاة والسلام ورده عن دعوته ..
يدخل أبو عمران على النبي صلى الله عليه وسلم وحوله أصحابه .. فيردد عليه ما تردده قريش دوماً .. فرقت جماعتنا .. شتت شملنا .. والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت بلطف ..
حتى إذا انتهى .. قال له صلى الله عليه وسلم بكل أدب ..
أفرغت يا أبا عمران ..
قال : نعم ..
قال : فأجبني عما أسألك عنه ..
قال : قل .. أسمع ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا أبا عمران .. كم إلهاً تعبد اليوم ؟
قال : سبعة ..!! ستة في الأرض .. وواحداً في السماء ..!!
قال : فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك ؟
قال : الذي في السماء ..
فقال صلى الله عليه وسلم بكل لطف : يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين ينفعانك ..
فما كان من حصين إلا أن أسلم في مكانه فوراً ..
ثم قال : يا رسول الله .. علمني الكلمتين اللتين وعدتني ..
فقال صلى الله عليه وسلم : قل : اللهم ألهمني رشدي .. وأعذني من شر نفسي ..
آآآه ما أروع هذا التعامل الراقي ! وشدة تأثيره في الناس عند مخالطتهم ..
وهذا التعامل الإسلامي الدعوي يفيد في دعوة الكفار وجذبهم إلى الخير ..
سافر أحد الشباب للدراسة في ألمانيا فسكن في شقة .. وكان يسكن أمامه شاب ألماني ، ليس بينهما علاقة ، لكنه جاره ..
سافر الألماني فجأة .. وكان موزع الجرائد يضع الجريدة كل يوم عند بابه .. انتبه صاحبنا إلى كثرة الجرائد .. سأل عن جاره .. فعلم أنه مسافر ..
لَـمَّ الجرائد ووضعها في درج خاص .. وصار يجمعها كل يوم ويرتبها ..
لما رجع صاحبه بعد شهرين أو ثلاثة .. سلم عليه وهنأه بسلامة الرجوع .. ثم ناوله الجرائد ..وقال له : خشيت أنك متابع لمقال .. أو مشترك في مسابقة .. فأردت أن لا يفوتك ذلك ..
نظر الجار إليه متعجباً من هذا الحرص .. فقال : هل تريد أجراً أو مكافأة على هذا ؟
قال صاحبنا : لا .. لكن ديننا يأمرنا بالإحسان إلى الجار .. وأنت جار فلا بد من الإحسان إليك
ثم ما زال صاحبنا محسناً إلى ذلك الجار .. حتى دخل في الإسلام ..
هذه والله هي المتعة الحقيقية بالحياة .. أن تشعر أنك رقم على اليمين .. تتعبد لله بكل شيء حتى بأخلاقك ..
وكم صدَّ أعداداً كبيرة من الكفار عن الدخول في الإسلام تعاملات فريق من المسلمين معهم .. فيظلمونهم عمالاً .. ويغشونهم متسوقين .. ويؤذونهم جيراناً ..
فهلمَّ نبدأ من جديد معهم ..
إضاءة ..
خير الداعين من يدعو بأفعاله قبل أقواله ..
14. الحيوانات !!
من صارت المهارات الحسنة ديدنه .. تحولت إلى طبع يخالط دمه وعقله .. لا ينفك عنه أبداً ..
فتجده دائماً ليناً هيناً رفيقاً متحملاً عطوفاً .. مع كل أحد .. حتى مع الحيوانات .. والجمادات ..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلمفي سفر .. فانطلق ليقضي حاجته ..
فرأى بعض الصحابة حُمرة معها فرخان .. فأخذ بعضهم فرخيها .. فجاءت الحمرة ..
فجعلت تحوم حولهم وترفرف بجناحيها ..
فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورآها .. التفت إلى أصحابه وقال :
من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها ..
وفي يوم آخر .. رأى صلى الله عليه وسلم قرية نمل قد أحرقت ..
فقال : من أحرق هذه ؟
قال بعض أصحابه : أنا ..
فغضب وقال : لا ينبغي أن يُعذب بالنار إلا رب النار ..
وكان صلى الله عليه وسلم من رأفته .. أنه إذا توضأ وأقبلت إليه هرة ..
أصغى لها الإناء .. فتشرب .. ثم يتوضأ بفضلها ..
ومرّ صلى الله عليه وسلم يوماً على رجل ملقياً شاة على الأرض .. وقد وضع رجله على صفحة عنقها ممسكاً لها ليذبحها .. وهو يحد شفرته .. وهي تلحظ إليه ببصرها ..
فغضب صلى الله عليه وسلم لما رآه .. وقال : أتريد أن تميتها موتتين ؟ هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟
ومر يوماً برجلين يتحدثان .. وقد ركب كل منهما على بعيره ..
فلما رآهما رحم البعيرين .. ونهى أن تتخذ الدواب كراسي .. يعني لا تركب البعير إلا وقت الحاجة فقط .. فإذا انتهت حاجتك فانزل ودعه يرتاح ..
ونهى صلى الله عليه وسلمعن وسم الدابة في الوجه ..
ومن أطرف ما ذكر ..
أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء ..
ثم إن نفراً من المشركين أغاروا على إبلٍ للمسلمين .. كانت ترعى في أطراف المدينة ..
فذهبوا بها .. وكانت العضباء فيها ..
وأسروا امرأة من المسلمين .. واستاقوها معهم ..
وهرب المشركون .. بالمرأة والإبل ..
وكانوا إذا نزلوا أثناء الطريق .. أطلقوا الإبل ترعى حولهم ..
فنزلوا منزلاً فناموا .. فقامت المرأة بالليل لتهرب منهم ..
فأقبلت إلى الإبل لتركب إحداها .. فجعلت كلما أتت على بعير رغا بأعلى صوته .. فتتركه خوفاً من استيقاظهم ..
وجعلت تمر على الإبل واحداً واحداً ..
حتى أتت على العضباء .. فحركتها فإذا ناقة ذلول مجرسة .. فركبتها المرأة .. ثم وجهتها نحو المدينة .. فانطلقت العضباء مسرعة .. فلما شعرت المرأة بالنجاة .. اشتد فرحها .. فقالت :
اللهم إن لك عليَّ نذراً .. إن أنجيتني عليها أن أنحرها ..!!
وصلت المرأة إلى المدينة .. فعرف الناس ناقة النبي صلى الله عليه وسلم..
نزلت لمرأة في بيتها ومضوا بالناقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم..
فجاءت المرأة تطلب الناقة لتنحرها !!
فقالصلى الله عليه وسلم: بئس ما جزيتيها .. أو بئس ما جزتها .. إن أنجاها الله عليها لتنحرنها !!
ثم قال صلى الله عليه وسلم: " لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " .
فلماذا لا تحول مهاراتك في التعامل – كالرفق والبشر والكرم – إلى سجية تلازمك على جميع أحوالك .. مع كل شيء تتعامل معه .. حتى الجمادات والأشجار ..!!
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم يوم الجمعة .. فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد فيخطب الناس .. فقالت امرأة من الأنصار :
يا رسول الله .. ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه .. فإن لي غلاماً نجاراً ..
قال : إن شئت ..
فعملت له المنبر ..
فلما كان يوم الجمعة .. صعد النبي صلى الله عليه وسلمعلى المنبر الذي صنع له ..
فلما قعدصلى الله عليه وسلم على ذلك المنبر .. خار الجذع كخوار الثور .. وصاحت النخلة .. حتى كادت أن تنشق .. وارتج المسجد ..
فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فضم الجذع إليه .. فجعلت النخلة تئن أنين الصبي الذي يُسكّت حتى استقرت ..
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( أما و الذي نفس محمد بيده .. لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة .. ) ..
إشارة ..
الله كرّم الإنسان .. لكن ذلك لا يفتح المجال له لاضطهاد بقية المخلوقات ..
15. 100 طريقة لكسب قلوب الناس
كل صاحب هم يتفنن في صيد ما يريد ..
عاشق المال يتفنن في جمعه وتنميته .. ويحرص على تعلم مهارات التجارة والربح ..
القنوات الفضائية تتفنن في اصطياد الناس بتنويع البرامج واختيار الأساليب المتجددة .. وتدريب مقدمي البرامج على مهارات تجذب الناس لمتابعتها ..
وقل مثل ذلك في وسائل الإعلام المقروءة .. والمسموعة ..
ومثله مروجو البضائع المختلفة سواء كانت حلالاً أم حراماً ..
كلهم يحرصون على إتقان المهارات التي تفيدهم في مجالهم الذي يحبونه ..
وكسب القلوب فن من الفنون له طرقه وأساليبه ..
هب أنك دخلت مجلساً فيه أربعون رجلاً .. فمررت بالناس تصافحهم ..
فالأول مددت يدك إليه مسلماً فناولك طرف يده .. وقال ببرود : أهلاً .. أهلاً ..
والثاني كان مشغولاً بحديث جانبي .. ففاجأته بالسلام .. فرد ببرود أيضاً وصافحك دون أن ينظر إليك ..
والثالث كان يتحدث بهاتفه .. فمد يده إليك دون أن يتلفظ بكلمة ترحيب .. أو يبدي لك أي اهتمام ..
أما الرابع .. فلما رآك مقبلاً قام مستعداً للسلام .. فلما التقت عينك بعينه ابتسم وأظهر البشاشة بلقياك ..
وصافحك بحرارة .. واحتفى بقدومك .. وأنت لا تعرفه ولا يعرفك !!
ثم أكملت سلامك على الناس .. وجلست ..
بالله عليك ! ألا تشعر أن قلبك ينجذب نحو ذلك الشخص ؟
بلى .. ينجذب إليه .. وأنت لا تعرفه .. ولا تدري عن اسمه .. ولا تعلم وظيفته ولا مركزه .. ومع ذلك استطاع أن يسلب قلبك .. لا بماله .. ولا بمنصبه .. ولا بحسبه ونسبه .. وإنما بمهارات تعامله ..
إذن القلوب لا تكسب بالقوة ولا بالمال ولا بالجمال ولا بالوظيفة .. وإنما تكسب بأقل من ذلك وأسهل .. ومع ذلك فقليل من يستطيع كسبها ..
أذكر أن أحد طلابي في الكلية أصيب بمرض نفسي .. كان نوعاً صعباً من الاكتئاب ..
كان والده ضابطاً يشغل منصباً عالياً .. جاء مراراً إلى الكلية وقابلني وتعاونّا على علاج ابنه ..
كنت أذهب إلى بيتهم أحياناً فأراه قصراً منيفاً .. وأرى مجلس الأب مليئاً بالضيوف .. لا تكاد تجد فيه مكاناً فارغاً ..
كنت أعجب من محبة الناس لهذا الرجل وإقبالهم عليه ..
مضت سنوات وتقاعد الأب من منصبه ..
فذهبت إليه زائراً .. دخلت القصر .. ثم دلفت إلى المجلس وفيه أكثر من خمسين كرسياً .. فلم أر في المجلس إلا الرجل يتابع برنامجاً في التلفاز .. وخادماً يخدمه بالقهوة والشاي .. جلست معه قليلاً ..
فلما خرجت جعلت أتذكر حاله لما كان في وظيفته .. وحاله الآن .. ما الذي كان يجمع الناس فيما مضى ؟
ما الذي كان يجعلهم يلتمون عليه مؤانسين متحببين ؟!
أدركت عندها أن الرجل لم يكسب الناس بأخلاقه ولطفه وحسن تعامله .. وإنما كسبهم بمنصبه ووجاهته وسعة علاقاته ..
فلما زال المنصب زالت معه المحبة ..
فخذ من صاحبنا درساً .. وتعامل مع الناس بمهارات تجعلهم يحبونك لشخصك .. يحبون أحاديثك وابتسامتك ورفقك وحسن معشرك .. يحبون تغاضيك عن أخطائهم .. ووقوفك معهم في مصائبهم ..
لا تجعل قلوبهم معلقة بكرسيك وجيبك !!
الذي يوفر لأولاده وزوجته المال والطعام والشراب لم يكسب قلوبهم .. وإنما كسب بطونهم ..
والذي يغدق على أهله الأموال .. مع سوء التعامل .. لم يكسب قلوبهم .. إنما كسب جيوبهم ..
لذلك لا تستغرب إذا وجدت شاباً تقع له مشكلة فيشكوها إلى صديق أو إمام مسجد أو مدرس .. ويترك أباه .. لأن الأب لم يكسب قلبه .. ولم يحطم الأسوار بينهما .. بينما كسب هذا القلب مدرس أو صديق .. وربما كسبه عدو حاقد !!
وأمر آخر مهم ..
ألا تلاحظ معي أن بعض الناس إذا دخل مجلساً مزدحماً .. وجعل يتلفت باحثاً عن مكان يجلس فيه .. رأيت الجالسين يتسابقون عليه كل يناديه ليجلس بجانبه !.. لماذا؟
هل دعيت يوماً إلى عشاء .. وكان بنظام ( البوفيه المفتوح ) .. بحيث إن كل شخص يأخذ طعامه في طبق ويجلس على إحدى الطاولات الدائرية .. ألم تر بعض الناس ما إن يملأ طبقه بالطعام حتى يتهافت عدد من الناس يشيرون إليه بوجود مكان فارغ .. ليجلس معهم ..
بينما آخر يملأ طبقه بالطعام .. ويتلفت ولا أحد يناديه أو يقبل عليه .. حتى تسوقه قدماه إلى إحدى الطاولات ..
لماذا حرص الناس على الأول دون الثاني ..
ألا تشعر أن بعض الناس تقبل عليه القلوب أينما كان .. وكأن في يده مغناطيس يجذبها به جذباً !!
عجباً ! كيف استطاع هؤلاء جميعا كسب الناس ؟!
إنها طرق ذكية يستطيع بها الشخص أن يصيد بها القلوب ..
قرار ..
قدرتنا على أسر قلوب الآخرين .. وكسب محبتهم الصادقة .. تمنحنا جانباً كبيراً من المتعة بالحياة ..
16. أحسن النية.. لوجه الله ..
جعلت أتأمل أساليب تعامل بعض الأشخاص .. وعشت معهم سنين .. لا أذكر أني رأيت منهم ابتسامة .. بل ولا حتى مجاملة بضحك على طرفة .. أو تفاعل مع متحدث .. كنت أظن أنهم نشئوا هكذا ولا يستطيعون غيره ..
ثم تفاجأت برؤيتهم في مواطن معينة .. ومع بعض الناس – من الأغنياء وأصحاب النفوذ تحديداً – يحسنون الضحك والتلطف ..
فأدركت أنهم ما يفعلون ذلك إلا لمصلحة .. فيفوتهم بذلك أجر عظيم ..
إذن المؤمن يتعبد لله تعالى بأخلاقه ومهارات تعامله .. مع جميع الناس .. لا لأجل منصب أو مال .. ولا لأجل أن يمدحه الناس .. ولا لأجل أن يزوج أو يسلف مالاً .. وإنما ليحبه الله ويحببه إلى خلقه ..
نعم .. من اعتبر حسن الخلق عبادة .. صار يتعامل بأحسن المهارات مع الغني والفقير .. والمدير والفراش ..
لو مررت يوماً بعامل مسكين يكنس الشارع .. ومد يده إليك ؟ ودخلت يوماً آخر على مسئول كبير فمد يده .. هل هما متساويان ؟ في احتفائك بهما .. وتبسمك وبشاشتك ؟
لا أدري !!
أما رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. فكانا عنده متساويين في الاحتفاء والنصح والشفقة ..
وما يدريك لعل من تزدريه وتتكبر عليه يكون عند الله خيراً من ملء الأرض من مثل الذي تكرمه وتقبل عليه ..
قال .. صلى الله عليه وسلم .. ( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ) ( ) ..
وقال للأشج بن عبد قيس : ( إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله ) ..
فما هما الخصلتان : قيام الليل ! صيام النهار ؟ ..
استبشر الأشج t .. وقال : ما هما يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام ( الحلم .. والأناة ) .. ( )
وسئل .. صلى الله عليه وسلم .. عن البر ؟.. فقال : ( البر حسن الخلق ) .. ( )
وسئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال : ( تقوى الله وحسن الخلق ) ..( )
وقال .. صلى الله عليه وسلم ..
: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ) .. ( )
وقال .. صلى الله عليه وسلم .. : ( ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق ) ..( )
وقال .. صلى الله عليه وسلم .. : ( إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار ) ..( )
ومن حسن خلقه ربح في الدارين .. وإن شئت فانظر إلى أم سلمة t ..
وقد جلست مع رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. .. فتذكرت الآخرة وما أعد الله فيها ..
فقالت : يا رسول الله .. المرأة يكون لها زوجان في الدنيا .. فإذا ماتت .. وماتا ..
فإذا ماتت وماتا ودخلوا جميعاً إلى الجنة .. فلمن تكون ؟
فماذا قال ؟ تكون لأطولهما قياماً ؟ أم لأكثرهما صياماً ؟ أم لأوسعهما علماً ؟ كلا ..
وإنما قال : تكون لأحسنهما خلقاً ..
فعجبت أم سلمة .. فلما رأى دهشتها قال عليه الصلاة والسلام :
ياااا أم سلمة .. ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة ..
نعم ذهب بخيري الدنيا والآخرة ..
أما خير الدنيا فهو ما يكون له من محبة في قلوب الخلق .. وأما خير الآخرة فهو ما يكون له من الأجر العظيم ..
ومهما أكثر الإنسان من الأعمال الصالحات .. فإنها قد تفسد عليه إذا كان سيء الخلق ..
ذُكر للنبي .. صلى الله عليه وسلم ..
حالُ امرأة ..
وذكر له أنها تصلي وتصوم وتتصدق وتفعل .. لكنها تؤذي جيرانها بلسانها ..( يعني سيئة الخلق ) ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. : ( هي في النار ) ..
وقد كان النبي .. صلى الله عليه وسلم ..
الأسوة الحسنة ..
في كل خلق حميد .. كان أكرمَ الناس .. وأشجعَهم .. وأحلمَهم ..
كان أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها ..
كان أميناً صادقاً .. يشهد له الكفار بذلك قبل المؤمنين .. والفساقُ قبل الصالحين ..
حتى قالت خديجة t أول ما نزل عليه الوحي .. لما رأت تغير حاله .. قالت :
والله لا يخزيك الله أبداً .. ( لمـــاذا ؟؟ ) ..
إنك لتصل الرحم ..
وتحمل الكل ..
وتكسب المعدوم ..
وتقري الضيف ..
وتعين على نوائب الحق ..
وتصدق الحديث ..
وتؤدي الأمانة ..
بل أثنى الله عليه ثناء نتلوه إلى يوم القيامة .. فقال : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) ..
وكان .. صلى الله عليه وسلم ..
خلقَه القرآن ..
نعم خلقه القرآن .. فإذا قرأ ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) .. أحسن .. نعم أحسن إلى الكبير والصغير .. والغني والفقير .. إلى شرفاء الناس ووضعائهم .. وكبارهم وصغارهم ..
وإذا سمع قول الله : ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا ) .. عفا وصفح ..
وإذا تلا : ( وقولوا للناس حسناً ) .. تكلم بأحسن الكلام ..
فمادام أنه .. صلى الله عليه وسلم ..
قدوتنا .. ومنهجه منهجُنا ..
تأمل حياته .. صلى الله عليه وسلم ..
.. كيف كان يتعامل مع الناس .. كيف كان يعالج أخطاءهم .. ويتحمل أذاهم ..
كيف كان يتعب لراحتهم .. وينصب لدعوتهم ..
فيوماً تراه يسعى في حاجة مسكين .. ويوماً يفصل خصومة بين المؤمنين ..
ويوماً يدعو الكافرين ..
حتى كبرت سنه .. ورق عظمه .. ووصفت عائشة حاله فقالت :
كان أكثرُ صلاة النبي .. صلى الله عليه وسلم ..
بعدما كبر جالساً ( لمـــاذا ؟؟ ) ..
بعدما حطمه الناس .. نعم .. حطمه الناس ..
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
بل بلغ من حرصه .. صلى الله عليه وسلم ..
على الخلق الحسن .. أنه كان يدعو الله فيقول – ( اللهم كما أحسنت خَلْقي فأحسن خُلقي ) ( ) ..
وكان يقول : ( اللهم أهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ) ( )
فنحن نحتاج إلى أن نقتدي به .. صلى الله عليه وسلم ..
في أخلاقه ..
مع المسلمين لكسبهم ودعوتهم ..
بل ومع الكافرين ليعرفوا حقيقة الإسلام ..
إشارة ..
أحسن النية .. لتكون مهارات تعاملك مع الآخرين عبادة تتقرب بها إلى الله ..
17. استعمل الطُّعم المناسب !!
الناس بطبيعتهم يتفقون في أشياء كلهم يحبونها ويفرحون بها ..
ويتفقون في أشياء أخرى كلهم يكرهونها ..
ويختلفون في أشياء منهم من يفرح بها .. ومنهم من يستثقلها ..
فكل الناس يحبون التبسم في وجوههم .. ويكرهون العبوس والكآبة ..
لكنهم إلى جانب ذلك .. منهم من يحب المرح والمزاح .. ومنهم من يستثقله ..
منهم من يحب أن يزوره الناس ويدعونه .. ومنهم الانطوائي ..
ومنهم من يحب الأحاديث وكثرة الكلام .. ومنهم من يبغض ذلك ..
وكل واحد في الغالب يرتاح لمن وافق طباعه .. فلماذا لا توافق طباع الجميع عند مجالستهم .. وتعامل كل واحد بما يصلح له ليرتاح إليك ؟
ذكروا أن رجلاً رأى صقراً يطير بجانب غراب !! فعجب .. كيف يطير ملك الطيور مع غراب !! فجزم أن بينهما شيئاً مشتركاً جعلهما يتوافقان ..
فجعل يتبعهما ببصره .. حتى تعبا من الطيران فحطا على الأرض فإذا كلهما أعرج !!
فإذا علم الولد أن أباه يؤثر السكوت ولا يحب كثرة الكلام .. فليتعامل معه بمثل ذلك ليحبه ويأنس بقربه ..
وإذا علمت الزوجة أن زوجها يحب المزاح .. فلتمازحه .. فإن علمت أنه ضد ذلك فلتتجنب ..
وقل مثل ذلك عند تعامل الشخص مع زملائه .. أو جيرانه .. أو إخوانه ..
لا تحسب الناس طبعاً واحداً فلهم
طبائع لست تحصيهن ألوان
أذكر أن عجوزاً صالحة – وهي أم لأحد الأصدقاء – كانت تمدح أحد أولادها كثيراً .. وترتاح إذا زارها أو تحدث معها .. مع أن بقية أولادها يبرون بها ويحسنون إليها .. لكن قلبها مقبل على ذاك الولد ..
كنت أبحث عن السرّ .. حتى جلست معه مرة فسألته عن ذلك .. فقال لي : المشكلة أن إخواني لا يعرفون طبيعة أمي .. فإذا جلسوا معها صاروا عليها ثقلاء ..
فقلت له مداعباً : وهل اكتشف معاليكم طبيعتها ..!!
ضحك صاحبي وقال : نعم .. سأخبرك بالسرّ ..
أمي كبقية العجائز .. تحب الحديث حول النساء وأخبار من تزوجت وطلقت .. وكم عدد أبناء فلانة .. وأيهم أكبر .. ومتى تزوج فلان فلانة ؟ وما اسم أول أولادهما ..
إلى غير ذلك من الأحاديث التي أعتبرها أنا غير مفيدة .. لكنها تجد سعادتها في تكرارها .. وتشعر بقيمة المعلومات التي تذكرها .. لأننا لن نقرأها في كتاب ولن نسمعها في شريط .. ولا تجدها – قطعاً – في شبكة الإنترنت !!
فتشعر أمي وأنا أسألها عنها أنها تأتي بما لم يأت به الأولون .. فتفرح وتنبسط .. فإذا جالستها حركت فيها هذه المواضيع فابتهجت .. ومضى الوقت وهي تتحدث ..
وإخواني لا يتحملون سماع هذه الأخبار .. فيشغلونها بأخبار لا تهمها .. وبالتالي تستثقل مجلسهم .. وتفرح بي !!
هذا كل ما هنالك ..
نعم أنت إذا عرفت طبيعة من أمامك .. وماذا يحب وماذا يكره .. استطعت أن تأسر قلبه ..
ومن تأمل في تعامل النبي .. صلى الله عليه وسلم .... مع الناس وجد أنه كان يعامل مع كل شخص بما يتناسب مع طبيعته..في تعامله مع زوجاته كان يعامل كل واحدة بالأسلوب الذي يصلح لها ..
عائشة كانت شخصيتها انفتاحية .. فكان يمزح معها .. ويلاطفها ..
ذهبت معه مرة في سفر .. فلما قفلوا راجعين واقتربوا من المدينة .. قال .. صلى الله عليه وسلم ..للناس :
تقدموا عنا ..
فتقدم الناس عنه .. حتى بقي مع عائشة ..
وكانت جارية حديثة السن .. نشيطة البدن ..
فالتفت إليها ثم قال : تعاليْ حتى أسابقك .. فسابقته .. وركضت وركضت .. حتى سبقته ..
وبعدها بزمان .. خرجت معه .. صلى الله عليه وسلم ..في سفر ..
بعدما كبرت وسمنت .. وحملت اللحم وبدنت ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم ..للناس : تقدموا .. فتقدموا ..
ثم قال لعائشة : تعاليْ حتى أسابقك .. فسابقته .. فسبقها ..
فلما رأى ذلك ..
جعل يضحك ويضرب بين كتفيها .. ويقول : هذه بتلك .. هذه بتلك ..
بينما كان يتعامل مع خديجة تعاملاً آخر .. فقد كانت تكبره في السن بخمس عشرة سنة ..
حتى مع أصحابه .. كان يراعي ذلك .. فلم يلبس أبا هريرة عباءة خالد .. ولم يعامل أبا بكر كما يعامل طلحة ..
وكان يتعامل مع عمر تعاملاً خاصاً .. ويسند إليه أشياء لا يسندها إلى غيره ..
انظر إليه .. صلى الله عليه وسلم ..وقد خرج مع أصحابه إلى بدر ..
فلما سمع بخروج قريش .. عرف أن رجالاً من قريش سيحضرون إلى ساحة المعركة كرهاً .. ولن يقع منهم قتال على المسلمين ..
فقام .. صلى الله عليه وسلم ..في أصحابه وقال : إني قد عرفت رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً .. لا حاجة لهم بقتالنا ..
فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ..
ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ..
ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..فلا يقتله .. فإنه إنما خرج مستكرهاً ..
وقيل إن العباس كان مسلماً يكتم إسلامه .. وينقل أخبار قريش إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..
.. فلم يحب النبي.. صلى الله عليه وسلم ..أن يقتله المسلمون .. ولم يحب كذلك أن يظهر أمر إسلامه ..
كانت هذه المعركة أول معركة تقوم بين الفريقين .. المسلمين وكفار قريش ..
وكانت نفوس المسلمين مشدودة .. فهم لم يستعدوا لقتال .. وسيقاتلون أقرباء وأبناء وآباء ..
وهذا رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..يمنعهم من قتل البعض ..
وكان عتبة بن ربيعة من كبار كفار قريش .. ومن قادة الحرب ..
وكان ابنه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة .. مع المسلمين .. فلم يصبر أبو حذيفة .. بل قال :
أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس !! والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف ..
فبلغت كلمته رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام .. فإذا حوله أكثر من ثلاثمائة بطل ..
فوجه نظره فوراً إلى عمر .. ولم يلتفت إلى غيره .. وقال :
يا أبا حفص .. أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟!
قال عمر : والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..بأبي حفص ..
وكان عمر رهن إشارة النبي .. صلى الله عليه وسلم .... ويعلم أنهم في ساحة قتال لا مجال فيها للتساهل في التعامل مع من يخالف أمر القائد .. أو يعترض أمام الجيش ..
فاختار عمر حلاً صارماً فقال : يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف ..
فمنعه النبي .. صلى الله عليه وسلم .... ورأى أن هذا التهديد كاف في تهدئة الوضع ..
كان أبو حذيفة t رجلاً صالحاً .. فكان بعدها يقول : ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ .. ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة .. فقتل يوم اليمامة شهيداً t ..
هذا عمر .. كان .. صلى الله عليه وسلم ..يعلم بنوع الأعمال التي يسندها إليه .. فليس الأمر متعلقاً بجمع صدقات .. ولا بإصلاح متخاصمين .. ولا بتعليم جاهل .. وإنما هم في ساحة قتال فكانت الحاجة إلى الرجل الحازم المهيب أكثر منها إلى غيره .. لذا اختار عمر .. واستثاره : أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟!
وفي موقف آخر ..
يقبل النبي.. صلى الله عليه وسلم ..على خيبر .. ويقاتل أهلها قتالاً يسيراً ..
ثم يصالحهم ويدخلها .. واشترط عليهم أن لا يكتموا شيئاً من الأموال .. ولا يغيبوا شيئاً .. ولا يخبئوا ذهباً ولا فضة .. بل يظهرون ذلك كله ويحكم فيه ..
وتوعدهم إن كتموا شيئاً أن لا ذمة لهم ولا عهد ..
وكان حيي بن أخطب من رؤوسهم .. وكان جاء من المدينة بجلد تيس مدبوغ ومخيط ووملوء ذهباً وحلياً .. وقد مات حيي وترك المال .. فخبئوه عن رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ....
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..
لعم حيي بن أخطب : ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ أي الجلد المملوء ذهباً ..
فقال : أذهبته النفقات والحروب ..
فتفكر .. صلى الله عليه وسلم ..في الجواب .. فإذا موت حيي قريب والمال كثير .. ولم تقع حروب قريبة تضطرهم إلى إنفاقه ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..: العهد قريب .. والمال أكثر من ذلك ..
فقال اليهودي : المال والحلي قد ذهب كله ..
فعلم النبي .. صلى الله عليه وسلم ..أنه يكذب .. فنظر e إلى أصحابه فإذا هم كثير بين يديه .. وكلهم رهن إشارته ..
فالتفت إلى الزبير بن العوام وقال : يا زبير .. مُسَّه بعذاب ..
فأقبل إليه الزبير متوقداً ..
فانتفض اليهودي .. وعلم أن الأمر جد .. فقال : قد رأيت حُيياً يطوف في خربة ها هنا .. وأشار إلى بيت قديم خراب .. فذهبوا فطافوا فوجدوا المال مخبئاً في الخربة ..
هذا في حاله .. صلى الله عليه وسلم ..مع الزبير .. يعطي القوس باريها ..
وكان الصحابة يتعامل بعضهم مع بعض على هذا الأساس ..
لما مرض رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..مرض الموت .. واشتد عليه الوجع .. لم يستطع القيام ليصلي بالناس ..
فقال وهو على فراشه : مروا أبا بكر فليصل بالناس ..
وكان أبو بكر رجلاً رقيقاً .. وهو صاحب رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..في حياته وبعد مماته .. وهو صديقه في الجاهلية والإسلام .. وهو أبو زوجة النبي .. صلى الله عليه وسلم ..عائشة .. وهو .. وكان يحمل في صدره جبلاً من حزن بسبب مرض النبي.. صلى الله عليه وسلم ....
فلما أمر النبي .. صلى الله عليه وسلم ..أن يبلغوا أبا بكر ليصلي بالناس ..
قال بعض الحاضرين عند النبي .. صلى الله عليه وسلم ..: إن أبا بكر رجل أسيف .. أي رقيق .. إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس .. أي من شدة التأثر والبكاء ..
وكان النبي.. صلى الله عليه وسلم ..يعلم ذلك عن أبي بكر .. أنه رجل رقيق يغلبه البكاء .. خاصة في هذا الموطن ..
لكنه .. صلى الله عليه وسلم ..
كان يشير إلى أحقية أبي بكر بالخلافة من بعده .. يعني : إذا أنا غير موجود فأبو بكر يتولى المسئولية ..
فأعاد .. صلى الله عليه وسلم ..الأمر : مروا أبا بكر فليصل بالناس .. حتى صلى أبو بكر ..
ومع رقة أبي بكر .. إلا أنه كان ذا هيبة .. وله حدة غضب أحياناً تكسوه جلالاً ..
وكان رفيق دربه عمر t يراعي ذلك منه ..
انظر إليهم جميعاً .. وقد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة .. بعد وفاة النبي .. صلى الله عليه وسلم .... ليتفقوا على خليفة ..
اجتمع المهاجرون والأنصار .. وانطلق عمر إلى أبي بكر واصطحبا إلى السقيفة ..
قال عمر : فأتيناهم في سقيفة بني ساعدة .. فلما جلسنا تشهد خطيب الأنصار .. وأثنى على الله بما هو له أهل ثم قال :
أما بعد فنحن أنصار الله .. وكتيبة الإسلام .. وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا .. وقد دفت دافة من قومكم وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا .. ويغصبونا الأمر ..
فلما سكت أردت أن أتكلم ، وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر .. وكنت أداري منه بعض الحِدّة ..
فقال أبو بكر : على رسلك يا عمر ..
فكرهت أن أغضبه ..
فتكلم وهو كان أعلم مني وأوقر .. فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته .. أو قال مثلها .. أو أفضل منها حتى سَكَتَ ..
قال أبو بكر : أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل .. ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش .. هم أوسط العرب نسباً وداراً .. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ..
وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ..
ولم أكره شيئا مما قاله غيرها .. كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك إلى إثم .. أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ..
سكت الناس ..
فقال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك .. وعذيقها المرجب .. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ..
قال عمر : فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف ..
فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ..
نعم .. كل واحد من الناس له مفتاح تستطيع به فتح أبواب قلبه .. وكسب محبته والتأثير عليه ..
وهذا تلاحظه في حياة الناس .. أفلم تسمع زملاء عملك يوماً يقولون : المدير .. مفتاحه فلان .. إذا أردتم شيئاً فاجعلوا فلاناً يطلبه لكم .. أو يقنع المدير به ..
فلماذا لا تجعل مهاراتك مفاتيح لقلوب الناس .. فتكون رأساً لا ذيلاً ..
نعم كن متميزاً .. وابحث عن مفتاح قلب أمك وأبيك وزوجتك وولدك ..
اعرف مفتاح قلب مديرك في العمل .. زملائك ..
ومعرفة هذه المفاتيح تفيدنا حتى في جعلهم يتقبلون النصح الذي يصدر منا لهم .. إذا أحسنا تقديم هذا النصح بأسلوب مناسب ..
فهم ليسوا سواء في طريقة النصح .. بل حتى في إنكار الخطأ إذا وقع منهم ..
وانظر إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..وقد جلس يوماً في مجلسه المبارك يحدث أصحابه ..
فبينما هم على ذلك .. فإذا برجل يدخل إلى المسجد .. يتلفت يميناً ويساراً .. فبدل أن يأتي ويجلس في حلقة النبي e .. توجه إلى زاوية من زوايا المسجد .. ثم جعل يحرك إزاره !!
عجباً !! ماذا سيفعل ؟!
رفع طرف إزاره من الأمام ثم جلس بكل هدوء .. يبول ..!!
عجب الصحابة .. وثاروا .. يبول في المسجد !!
وجعلوا يتقافزون ليتوجهوا إليه .. والنبي.. صلى الله عليه وسلم ..يهدئهم .. ويسكن غضبهم .. ويردد : لا تزرموه .. لا تعجلوا عليه .. لا تقطعوا عليه بوله ..
والصحابة يلتفتون إليه .. وهو لعله لم يدر عنهم .. لا يزال يبول ..
والنبي.. صلى الله عليه وسلم ..يرى هذا المنظر .. بول في المسجد .. ويهدئ أصحابه !!
آآآه مااااا أحلمه !!
حتى إذا انتهى الأعرابي من بوله .. وقام يشد على وسطه إزاره .. دعاه النبي.. صلى الله عليه وسلم ..
بكل رفق ..
أقبل يمشي حتى إذا وقف بين يديه .. قال له .. صلى الله عليه وسلم ..بكل رفق :
إن هذه المساجد لم تبن لهذا .. إنما بنيت للصلاة وقراءة القرآن ..
انتهى .. نصيحة باختصار ..
فَهِم الرجل ذلك ومضى ..
فلما جاء وقت الصلاة أقبل ذاك الأعرابي وصلى معهم ..
كبر النبي.. صلى الله عليه وسلم ..بأصحابه مصلياً .. فقرأ ثم ركع .. فلما رفع e من ركوعه قال : سمع الله لمن حمده ..
فقال المأمومون : ربنا ولك الحمد .. إلا هذا الرجل قالها وزاد بعدها : اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً !!
وسمعه النبي .. صلى الله عليه وسلم .... فلما انتهت الصلاة .. التفت e إليهم وسألهم عن القائل .. فأشاروا إليه ..
فناداه النبي.. صلى الله عليه وسلم ..
فلما وقف بين يديه فإذا هو الأعرابي نفسه .. وقد تمكن حب النبي e من قلبه حتى ود لو أن الرحمة تصيبهما دون غيرهما ..
فقال له .. صلى الله عليه وسلم ..
معلماً : لقد تحجرت واسعاً !! أي إن رحمة الله تعالى تسعنا جميعاً وتسع الناس .. فلا تضيقها علي وعليك ..
فانظر كيف ملك عليه قلبه .. لأنه عرف كيف يتصرف معه .. فهو أعرابي أقبل من باديته .. لم يبلغ من العلم رتبة أبي بكر وعمر .. ولا معاذ وعمار .. فلا يؤاخذ كغيره ..
وإن شئت فانظر أيضاً إلى معاوية بن الحكم t .. كان من عامة الصحابة .. لم يكن يسكن المدينة .. ولم يكن مجالساً للنبي عليه الصلاة والسلام ..
وإنما كان له غنم في الصحراء يتتبع بها الخضراء ..
أقبل معاوية يوماً إلى المدينة فدخل المسجد .. وجلس إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..
وأصحابه .. فسمعه يتكلم عن العطاس .. وكان مما علم أصحابه أن إذا سمع المسلم أخاه عطس فحمد الله فإنه يقول له : يرحمك الله ..
حفظها معاوية .. وذهب بها ..
وبعد أيام جاء إلى المدينة في حاجة .. فدخل المسجد فإذا النبي عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه .. فدخل معهم في الصلاة ..
فبينما هم على ذلك إذ عطس رجل من المصلين ..
فما كاد يحمد الله .. حتى تذكر معاوية أنه تعلم أن المسلم إذا عطس فقال الحمد لله .. فإن أخاه يقول له يرحمك الله ..
فبادر معاوية العاطس قائلاً بصوت عالٍ : يرحمك الله .
فاضطرب المصلون .. وجعلوا يلتفتون إليه منكرين .
فلما رأى دهشتهم .. اضطرب وقال : وااااثكل أُمِّياه !!.. ما شأنكم تنظرون إليّ ؟ ..
فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ليسكت ..
فلما رآهم يصمّتونه صمت ..
فلما انتهت الصلاة ..
التفت.. صلى الله عليه وسلم ..
إلى الناس .. وقد سمع جلبتهم وأصواتهم .. وسمع صوت من تكلم .. لكنه صوت جديد لم يعتد عليه .. فلم يعرفه .. فسألهم :
من المتكلم .. فأشاروا إلى معاوية ..
فدعاه النبي عليه الصلاة والسلام إليه ..
فأقبل عليه معاوية فزعاً لا يدري بماذا سيستقبله .. وهو الذي أشغلهم في صلاتهم .. وقطع عليهم خشوعهم ..
قال معاوية t : فبأبي هو وأمي .. صلى الله عليه وسلم ..
.. والله ما رأيـت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه .. والله ما كهرني .. ولا ضربني .. ولا شتمني ..
وإنما قال : يا معاوية .. إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس .. إنما هي التسبيح والتكبير .. وقراءة القرآن .. انتهى .. نصيحة باختصار ..
ففهمها معاوية ..
ثم ارتاحت نفسه .. واطمأن قلبه .. فجعل يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن خواصّ أموره ..
فقال : يا رسول الله .. إني حديث عهد بجاهلية .. وقد جاء الله بالإسلام .. وإن منا رجالاً يأتون الكهان ( وهم الذين يدعون علم الغيب ) .. يعني فسألونهم عن الغيب ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..
: فلا تأتهم .. يعني لأنك مسلم .. والغيب لا يعلمه إلا الله ..
قال معاوية : ومنا رجال يتطيرون ( أي يتشاءمون بالنظر إلى الطير ) ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..
: ذاك شيء يجدونه في صدورهم .. فلا يصدنهم ( أي لا يمنعهم ذلك عن وجهتهم .. فإن ذلك لا يؤثر نفعاً ولا ضراً ) ..
هذا تعامله مع أعرابي بال في المسجد .. ورجل تكلم في الصلاة .. عاملهم مراعياً أحوالهم .. لأن الخطأ من مثلهم لا يستغرب ..
أما معاذ بن جبل فقد كان من أقرب الصحابة إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..
.. ومن أكثرهم حرصاً على طلب العلم ..
فكان تعامل النبي .. صلى الله عليه وسلم ..
مع أخطائه مختلفاً عن تعامله مع أخطاء غيره ..
كان معاذ يصلي مع رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..
العشاء .. ثم يرجع فيصلي بقومه العشاء إماماً بهم في مسجدهم .. فتكون الصلاة له نافلة ولهم فريضة ..
رجع معاذ ذات ليلة لقومه ودخل مسجدهم فكبر مصلياً بهم ..
أقبل فتى من قومه ودخل معه في الصلاة .. فلما أتم معاذ الفاتحة قال " ولا الضالين " فقالوا " آمين " ..
ثم افتتح معاذ سورة البقرة !!
كان الناس في تلك الأيام يتعبون في العمل في مزارعهم ورعيهم دوابهم طوال النهار .. ثم لا يكادون يصلون العشاء حتى يأوون إلى فرشهم ..
هذا الشاب .. وقف في الصلاة .. ومعاذ يقرأ ويقرأ ..
فلما طالت الصلاة على الفتى .. أتم صلاته وحده .. وخرج من المسجد وانطلق إلى بيته ..
انتهى معاذ من الصلاة ..
فقال له بعض القوم : يا معاذ .. فلان دخل معنا في الصلاة .. ثم خرج منها لما أطلت ..
فغضب معاذ وقال : إن هذا به لنفاق .. لأخبرن رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..بالذي صنع ..
فأبلغوا ذلك الشاب بكلام معاذ .. فقال الفتى : وأنا لأخبرن رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..
بالذي صنع ..
فغدوا على رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..
فأخبره معاذ بالذي صنع الفتى ..
فقال الفتى : يا رسول الله .. يطيل المكث عندك ثم يرجع فيطيل علينا الصلاة .. والله يا رسول الله إنا لنتأخر عن صلاة العشاء مما يطول بنا معاذ ..
فسأل الله النبي.. صلى الله عليه وسلم ..
معاذاً : ماذا تقرأ ؟!
فإذا بمعاذ يخبره أنه يقرأ بالبقرة .. و .. وجعل يعدد السور الطوال ..
فغضب النبي .. صلى الله عليه وسلم ..
لما علم أن الناس يتأخرون عن الصلاة بسبب الإطالة .. وكيف صارت الصلاة ثقيلة عليهم ..
فالتفت إلى معاذ وقال : أفتان أنت يا معاذ ..؟!
يعني تريد أن تفتن الناس وتبغضهم في دينهم ..
اقرأ بـ "السماء والطارق" ، "والسماء ذات البروج" ، "والشمس وضحاها" ، "والليل إذا يغشى" ..
ثم التفت .. صلى الله عليه وسلم ..إلى الفتى وقال له متلطفاً : كيف تصنع أنت يا بن أخي إذا صليت ؟
قال : أقرأ بفاتحة الكتاب .. وأسأل الله الجنة .. وأعوذ به من النار ..
ثم تذكر الفتى أنه يرى النبي .. صلى الله عليه وسلم ..يدعو ويكثر .. ويرى معاذاً كذلك ..
فقال في آخر كلامه : وإني لا أدري ما دندنتك ودندنة معاذ .. أي دعاؤكما الطويل لا أعرف مثله !!
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..
: إني ومعاذ حول هاتين ندندن .. يعني دعاؤنا هو فيما تدعو به .. حول الجنة والنار ..
فقال الشاب : ولكن سيعلم معاذ إذا قدم القوم وقد خبروا أن العدو قد أتوا .. ما أصنع .. يعني في الجهاد في سبيل الله .. سيتبين لمعاذ إيماني وهو الذي يصفني بالنفاق !
فما لبثوا أياماً .. حتى قامت معركة فقاتل فيها الشاب .. فاستشهد t ..
فلما علم به .. صلى الله عليه وسلم .... قال لمعاذ : ما فعل خصمي وخصمك ؟ يعني الذي اتهمته يا معاذ بالنفاق ..
قال معاذ : يا رسول الله ، صدق الله وكذبتُ .. لقد استشهد ..
فتأمل الفرق في طبائع الرجال .. ومقاماتهم .. وكيف أدى إلى اختلاف تعامل النبي .. صلى الله عليه وسلم ..
معهم ..
بل .. انظر إلى تعامله.. صلى الله عليه وسلم ..
مع أسامة بن زيد .. وهو حبيب رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... وقد تربى في بيته ..
بعث النبي .. صلى الله عليه وسلم ..أصحابه إلى الحرقات من قبيلة جهينة ..
وكان أسامة بن زيد t من ضمن المقاتلين بالجيش ..
ابتدأ القتال .. في الصباح ..
انتصر المسلمون وهرب مقاتلو العدو ..
كان من بين جيش العدو رجل يقاتل .. فلما رأى أصحابه منهزمين .. ألقى سلاحه وهرب ..فلحقه أسامة ومعه رجل من الأنصار .. ركض الرجل وركضوا خلفه .. وهو يشتد فزعاً ..
حتى عرضت لهم شجرة فاحتمى الرجل بها ..
فأحاط به أسامة والأنصاري .. ورفعا عليه السيف ..
فلما رأى الرجل السيفين يلتمعان فوق رأسه .. وأحسَّ الموت يهجم عليه .. انتفض وجعل يجمع ما تبقى من ريقه في فمه .. ويردد فزعاً : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..
تحير الأنصاري وأسامة .. هل أسلم الرجل فعلاً .. أم أنها حيلة افتعلها ..
كانوا في ساحة قتال .. والأمور مضطربة .. يتلفتون حولهم فلا يرون إلا أجساداً ممزقة..وأيدي مقطعة..قد اختلط بعضها ببعض ..الدماء تسيل..النفوس ترتجف ..
الرجل بين أيديهما ينظران إليه .. لا بد من الإسراع باتخاذ القرار .. ففي أي لحظة قد يأتي سهم طائش أو غير طائش .. فيرديهما قتيلين ..
لم يكن هناك مجال للتفكير الهادئ ..
فأما الأنصاري فكف سيفه ..
وأما أسامة فظن أنها حيلة .. فضربه بالسيف حتى قتله ..
عادوا إلى المدينة تداعب قلوبهم نشوة الانتصار ..
وقف أسامة بين يدي النبي .. صلى الله عليه وسلم .... وحكى له قصة المعركة .. وأخبره بخبر الرجل وما كان منه ..
كان قصة المعركة تحكي انتصاراً للمسلمين .. وكان .. صلى الله عليه وسلم ..يستمع مبتهجاً ..
لكن أسامة قال : .. ثم قتلته ..
فتغير النبي .. صلى الله عليه وسلم .... وقال : قال لا إله إلا الله .. ثم قتلته ؟!!
قلت : يا رسول الله لم يقلها من قبل نفسه .. إنما قالها فرقا من السلاح ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم ..
: قال لا إله إلا الله .. ثم قتلته !! هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه إنما قالها فرقاً من السلاح ..
وجعل .. صلى الله عليه وسلم ..
بصره إلى أسامة ويكرر : قال لا إله إلا الله ثم قتلته ..!! قال لا إله إلا الله ثم قتلته ..!! ثم قتلته ..!! كيف لك بلا إله إلا الله إذا جاءت تحاجك يوم القيامة !!
وما زال .. صلى الله عليه وسلم ..يكرر ذلك على أسامة ..
قال أسامة : فما زال يكررها علي حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يؤمئذ .
رأي ..
لا تحسب الناس نوعاً واحداً فلهم
طبائع لست تحصيهن ألوان
18. اختر الكلام المناسب ..
يتبع ما سبق أيضاً طريقة الكلام مع الناس ونوعية الأحاديث التي تثار معهم ..
فإذا جلست مع أحد فأثر الأحاديث المناسبة له ..
وهذا من طبيعة البشر .. فالأحاديث التي تثيرها مع شاب تختلف عن الأحاديث مع الشيخ ..
ومع العالم تختلف عن الجاهل ..
ومع الزوجة تختلف عن الأخت ..
لا أعني الاختلاف التام .. بحيث إن القصة التي تحكيها للأخت لا يصح أن تحكيها للزوجة ! أو التي تذكرها للشاب لا يصح أن يسمعها الشيخ !! لا ..
وإنما أعني الاختلاف اليسير الذي يطرأ على أسلوب عرض القصة وربما كيانها كله ..
وبالمثال يتضح المقال ..
لو جلست مع ضيوف كبار في السن جاوزت أعمارهم الثمانين أقبلوا زائرين لجدك .. فهل من المناسب أن تقص عليهم وأنت ضاحك مستبشر قصتك لما ذهبت مع زملائك للبر ؟! وكيف أن فلاناً سجل هدفاً أثناء لعب الكرة .. وكيف ثبت الكرة برأسه ثم ضربها بركبته .. لا شك أنه غير مناسب ..
وكذلك لو تحدثت مع أطفال صغار .. من غير المناسب أن تذكر لهم قصصاً تتعلق بتعامل الأزواج مع زوجاتهم ..
أظننا نتفق على ذلك ..
إذن من أساليب جذب الناس اختيار الأحاديث التي يحبونها .. وإثارتها ..
كأب له ولد متفوق .. من المناسب أن تسأله عنه .. لأنه بلا شك يفخر به ويحب أن يذكره دائماً ..
أو رجل فتح دكاناً وكسب منه أرباحاً .. فمن المناسب أن تسأله عن دكانه وإقبال الناس عليه .. لأن هذا يفرحه .. وبالتالي يحبك ويحب مجالستك ..
وقد كان النبي .. صلى الله عليه وسلم ..يراعي ذلك ..
فحديثه مع الشاب يختلف عن حديثه مع الشيخ .. أو المرأة .. أو الطفل ..
جابر بن عبد الله t الصحابي الجليل .. قتل أبوه في معركة أحد .. وخلف عنده تسع أخوات ليس لهن عائل غيره .. وخلف ديناً كثيراً .. على ظهر هذا الشاب الذي لا يزال في أول شبابه ..
فكان جابر دائماً ساهم الفكر .. منشغل البال بأمر دَينه وأخواته .. والغرماء يطالبونه صباحاً ومساءً ..
خرج جابر مع النبي .. صلى الله عليه وسلم ..في غزوة ذات الرقاع .. وكان لشدة فقره على جمل كليل ضعيف ما يكاد يسير .. ولم يجد جابر ما يشتري به جملاً .. فسبقه الناس وصار هو في آخر القافلة ..
وكان النبي.. صلى الله عليه وسلم ..يسير في آخر الجيش .. فأدرك جابراً وجمله يدبُّ به دبيباً .. والناس قد سبقوه ..
فقال النبي.. صلى الله عليه وسلم ..: مالك يا جابر ؟
قال : يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا ..
فقال النبي .. صلى الله عليه وسلم ..: أنخه ..
فأناخه جابر وأناخ النبي .. صلى الله عليه وسلم ..ناقته ..
ثم قال : أعطني العصا من يدك أو اقطع لي عصا من شجرة ..فناوله جابر العصا ..
برَكَ الجمل على الأرض كليلاً ضعيفاً ..
فأقبل .. صلى الله عليه وسلم ..إلى الجمل وضربه بالعصا شيئاً يسيراً ..
فنهض الجمل يجري قد امتلأ نشاطاً .. فتعلق به جابر وركب على ظهره ..
مشى جابر بجانب النبي .. صلى الله عليه وسلم .... فرحاً مستبشراً .. وقد صار جمله نشيطاً سابقاً ..
التفت .. صلى الله عليه وسلم ..إلى جابر .. وأراد أن يتحدث معه ..
فما هي الأحاديث التي اختارها النبي .. صلى الله عليه وسلم ..ليثيرها مع جابر ..
جابر كان شاباً في أول شبابه ..
هموم الشباب في الغالب تدور حول الزواج .. وطلب الرزق ..
قال .. صلى الله عليه وسلم ..: يا جابر .. هل تزوجت ..؟
قال جابر : نعم ..
قال : بكراً .. أم ثيباً ..
قال : بل ثيباً ..
فعجب النبي.. صلى الله عليه وسلم ..كيف أن شاباً بكراً في أول زواج له .. يتزوج ثيباً ..
فقال ملاطفاً لجابر : هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ..
فقال جابر : يا رسول الله .. إن أبي قتل في أحد .. وترك تسع أخوات ليس لهن راعٍ غيري .. فكرهت أن أتزوج فتاة مثلهن فتكثر بينهن الخلافات .. فتزوجت امرأة أكبر منهن لتكون مثل أمهن ..
هذا معنى كلام جابر ..
رأى النبي.. صلى الله عليه وسلم ..أن أمامه شاب ضحى بمتعته الخاصة لأجل أخواته ..
فأراد.. صلى الله عليه وسلم ..أن يمازحه بكلمات تصلح للشباب .. فقال له :
لعلنا إذا أقبلنا إلى المدينة أن ننزل في صرار ( ) .. فتسمع بنا زوجتك فتفرش لك النمارق ..
يعني وإن كنت تزوجت ثيباً إلا أنها لا تزال عروساً تفرح بك إذا قدمت وتبسط فراشها .. وتصف عليه الوسائد ..
فتذكر جابر فقره وفقر أخواته .. فقال : نمارق !! والله يا رسول الله ما عندنا نمارق ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..: إنه ستكون لكم نمارق إن شاء الله ..
ثم مشيا .. فأراد .. صلى الله عليه وسلم ..أن يهب لجابر مالاً ..
فالفت إليه وقال : يا جابر ..
قال : لبيك يا رسول الله ..
فقال : أتبيعني جملك ؟
تفكر جابر فإذا جمله هو رأس ماله .. هكذا كان وهو كليل ضعيف .. فكيف وقد صار قوياً جلداً !!
لكنه رأى أنه لا مجال لرد طلب رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ....
قال جابر : سُمْه يا رسول الله .. بكم ؟
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..: بدرهم !!
قال جابر : درهم !! تغبنني يا رسول الله ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم ..: بدرهمين ..
قال : لا .. تغبنني يا رسول الله ..
فما زالا يتزايدان حتى بلغا به أربعين درهماً .. أوقية من ذهب ..
فقال جابر : نعم .. ولكن أشترط عليك أن أبقى عليه إلى المدينة ..
قال.. صلى الله عليه وسلم ..: نعم ..
فلما وصلوا إلى المدينة .. مضى جابر إلى منزله وأنزل متاعه من على الجمل ومضى ليصلي مع النبي .. صلى الله عليه وسلم ..وربط الجمل عند المسجد ..
فما خرج النبي .. صلى الله عليه وسلم ..قال جابر : يا رسول الله هذا جملك ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم ..: يا بلال .. أعط جابراً أربعين درهماً وزده ..
فناول بلال جابراً أربعين درهماً وزاده ..
فحمل جابر المال ومضى به يقلبه بين يديه .. متفكراً في حاله !! ماذا يفعل بهذا المال ؟! أيشتري به جملاً .. أم يبتاع به متاعاً لبيته .. أم ..
وفجأة التفت رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..إلى بلال وقال : يا بلال .. خذ الجمل وأعطه جابراً ..
جبذ بلال الجمل ومضى به إلى جابر .. فلما وصل به إليه .. تعجب جابر .. هل ألغيت الصفقة ؟!
قال بلال : خذ الجمل يا جابر ..
قال جابر : ما الخبر !!..
قال بلال : قد أمرني رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..أن أعطيك الجمل .. والمال ..
فرجع جابر إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..وسأله عن الخبر .. أما تريد الجمل !!
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..: أتراني ماكستك لآخذ جملك ..
يعني أنا لم أكن أطالبك بخفض السعر لأجل أن آخذ الجمل وإنما لأجل أن أقدر كم أعطيك من المال معونة لك على أمورك ..
فما أرفع هذه الأخلاق .. يختار ما يناسب الشاب من أحاديث .. ثم لما أراد أن يحسن إليه ويتصدق عليه .. غلف ذلك باللطف والأدب ..
وفي أحد الأيام يجلس إلى النبي .. صلى الله عليه وسلم ..شاب اسمه جليبيب .. من خيار شباب الصحابة .. لكنه كان فقيراً معدماً ..
وكان t في وجهه دمامة ..
جلس يوماً عند رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... فما هي الأحاديث التي حرص النبي.. صلى الله عليه وسلم ..
على إثارتها معه ؟ شاب في ريعان شبابه .. أعزب ..
هل يتحدث معه عن أنساب العرب والرفيع منها والوضيع ؟
أم يتحدث عن الأسواق وأحكام البيوع ؟
لا .. فهذا شاب له نوع خاص من الأحاديث يفضله على غيره ..
أثار معه e موضوع الزواج والحديث حوله .. فلطالما طرب الشباب لهذه المواضيع ..
ثم عرض عليه رسول الله التزويج ..
فقال : إذن تجدني كاسداً ..
فقال : غير أنك عند الله لست بكاسد ..
فلم يزل النبي r يتحين الفرص لتزويج جليبيب ..
حتى جاء رجل من الأنصار يوماً يعرض ابنته الثيب على رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .... ليتزوجها ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..: نعم يا فلان .. زوجني ابنتك ..
قال : نعم ونعمين .. يا رسول الله ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..: إني لست أريدها لنفسي ..
قال : فلمن ؟!
قال : لجليبيب ..
قال الرجل متفاجئاً : جليبيب !! جليبيب !! يا رسول الله !! حتى استأمر أمها ..
أتى الرجل زوجته فقال : إن رسول الله يخطب ابنتك ..
قالت : نعم .. ونعمين .. زوِّج رسول الله r ..
قال : إنه ليس يريدها لنفسه ..
قالت : فلمن ؟
قال : يريدها لجليبيب ..
فتفاجأت المرأة أن تُزف ابنتها إلى رجل فقير دميم .. فقالت : حَلْقَى !! لجليبيب ..؟ لا لعمر الله لا أزوج جليبيباً .. وقد منعناها فلاناً وفلاناً ..
فاغتم أبوها لذلك .. وقام ليأتي رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ....
فصاحت الفتاة من خدرها بأبويها : من خطبني إليكما ؟
قالا : رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ....
قالت : أتردان على رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..أمره ؟ ادفعاني إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... فإنه لن يضيعني ..
فكأنما جلَّت عنهما .. واطمأنّا ..
فذهب أبوها إلى النبي .. صلى الله عليه وسلم ..فقال : يا رسول الله .. شأنك بها فزوِّجها جليبيباً ..
فزوجها النبي .. صلى الله عليه وسلم ..جليبيباً ..
ودعا لها وقال : اللهم صب عليهما الخير صباً .. ولا تجعل عيشهما كداً كداً ..
فلم يمض على زواجه أيام .. حتى خرج النبي .. صلى الله عليه وسلم ..في غزوة .. وخرج معه جليبيب ..
فلما انتهى القتال .. وبدأ الناس يتفقد بعضهم بعضاً ..
سألهم النبي.. صلى الله عليه وسلم ..: هل تفقدون من أحد قالوا : نفقد فلاناً وفلاناً ..
فسكت قليلاً ثم قال : هل تفقدون من أحد ؟
قالوا : نفقد فلانا وفلانا ..
فسكت ثم قال : هل تفقدون من أحد ؟
قالوا : نفقد فلاناً وفلاناً ..
قال : ولكني أفقد جليبيباً ..
فقاموا يبحثون عنه .. ويطلبونه في القتلى .. فلم يجدوه في ساحة القتال ..
ثم وجدوه في مكان قريب .. إلى جنب سبعة من المشركين قد قتلهم ثم قتلوه ..
فوقف النبي.. صلى الله عليه وسلم ..ينظر إلى جثته .. ثم قال : قتل سبعة ثم قتلوه .. قتل سبعة ثم قتلوه .. هذا مني وأنا منه ..
ثم حمله رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..على ساعديه .. وأمرهم أم يحفروا له قبره ..
قال أنس : فمكثنا نحفر القبر .. وجليبيب ماله سرير غير ساعدي رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ....
حتى حفر له ثم وضعه في لحده ..
قال أنس : فوالله ما كان في الأنصار أيم أنفق منها ..
أي تسابق الرجال إليها كلهم يخطبها بعد جليبيب ..
هكذا كان .. صلى الله عليه وسلم ..يختار لكل أحد ما يناسبه من أحاديث .. حتى لا تمل مجالسه ..
جلس .. صلى الله عليه وسلم ..يوماً مع زوجه عائشة ..
فما الأحاديث المناسب إثارتها بين الزوجين ..؟
هل كلمها عن غزو الروم ؟ ونوع الأسلحة التي استخدمت في القتال ؟ كلا فليست هي أبو بكر !!
أم حدثها عن فقر بعض المسلمين وحاجتهم ؟ كلا فليست عثمان !!
إنما قال لها بعاطفة الزوجية : إني لأعرف إن كانت راضية عني .. وإذا كنت غضبى .. !!
قالت : كيف ؟
قال : إذا كنت راضية قلت : لا ورب محمد ( .. صلى الله عليه وسلم ..) .. وإذا كنت غضبى قلت : لا ورب إبراهيم ( e ) ..
فقالت : نعم .. والله يا رسول الله لا أهجر إلا اسمك ..
فهل نراعي هذا نحن اليوم ؟
وجهة نظر ..
تحدث مع الناس بما يستمتعون هم باستماعه .. لا بما تستمتع أنت بحكايته ..
19. كن لطيفاً عند أول لقاء ..
انتشر في بعض أرياف مصر برهة من الزمن أن الرجل العروس قبيل ليلة عرسه يخبئ في غرفته قطاً ..
فإذا دخل بزوجته إلى مكان فراش الزوجية .. حرك كرسياً ليخرج ذلك القط .. فإذا خرج أقبل العروس يستعرض قواه أمام زوجته .. وقبض على القط المسكين .. ثم خنقه وعصره .. حتى يموت بين يديه ..!!
أتدري لماذا ؟!
لأجل أن يطبع صورة الرعب والهيبة منه في ذهن زوجته من أول لقاء ..
وأذكر أني لما تخرجت من الجامعة .. وتعينت معيداً في إحدى الكليات .. أوصاني معلم قديم قائلاً :
في أول محاضرة لك عند الطلاب .. شُدَّ عليهم .. وانظر إليهم بعين حمراء !! حتى يخافوا منك وتفرض قوة شخصيتك من البداية ..
تذكرت هذا .. وأنا أكتب هذا الباب .. فأيقنت أن من الأمور المقررة عند جميع الناس أن اللقاء الأول في الغالب يطبع أكثر من 70% من الصورة عنك .. وهي ما يسمى بالصورة الذهنية ..
أذكر أن مجموعة من الضباط سافروا إلى أمريكا في دورة تدريبية ..
كانت الدورة في التعامل الوظيفي ..
في أول يوم .. حضروا إلى القاعة مبكرين .. جعلوا يتحدثون .. ويتعارفون ..
دخل عليهم المدرس فجأة فسكتوا .. فوقعت عين المدرس على طالب لا يزال متبسماً ..
فصرخ به : لماذا تضحك ؟
قال : عذراً .. ما ضحكت ..
قال : بلى تضحك ..
ثم جعل يؤنبه : أنت إنسان غير جاد .. المفروض أن تعود لأهلك على أول رحلة طيران .. لا أتشرف بتدريس مثلك ..
والطالب المسكين قد تلون وجهه .. وجعل ينظر إلى مدرسه .. ويلتفت إلى زملائه .. ويحاول حفظ ما تبقى من ماء وجهه ..
ثم حدق المدرس فيه النظر عابساً وأشار إلى الباب وقال : أخرج ..
قام الطالب مضطرباً .. وخرج ..
نظر المدرس إلى بقية الطلاب وقال : أنا الدكتور فلان .. سأدرسكم مادة كذا ..
ولكن قبل أن أبدأ الشرح .. أريدكم أن تعبئوا هذه الاستمارة .. دون كتابة الاسم ..
ثم وزع عليهم استمارة تقييم للمدرس .. فيها خمسة أسئلة :
1. ما رأيك بأخلاق مدرسك ؟
2. ما رأيك بطريقة شرحه ؟
3. هل يقبل الرأي الآخر ؟
4. ما مدى رغبتك في الدراسة لديه مرة أخرى ؟
5. هل تفرح بمقابلته خارج المعهد ؟
كان أمام كل سؤال منها .. اختيارات : ممتاز .. جيد .. مقبول .. ضعيف ..
عبأ لطلاب الاستمارة وأعادوها إليه ..
وضعها جانباً .. وبدأ يشرح تأثير فن التعامل في الجو الوظيفي ..
ثم قال : أوه !.. لماذا نحرم زميلكم من الاستفادة ..
فخرج إليه .. وصافحه وابتسم له .. وأدخله القاعة ..
ثم قال : يبدو أنني غضبت عليك قبل قليل من غير سبب حقيقي .. لكني كنت أعاني من مشكلة خاصة .. أدت بي أن أصب غضبي عليك .. فأنا أعتذر إليك .. فأنت طالب حريص .. يكفي في الدلالة على حرصك تركك لأهلك وولدك ومجيؤك هنا ..
أشكرك .. بل أشكركم جميعاً على حرصكم .. ومن أعظم الشرف لي أن أدرس مثلكم ..
ثم تلطف معهم وضحك قليلاً ..
ثم أخذ مجموعة جديدة من الاستمارات وقال :
ما دام أن زميلكم فاته تعبئة الاستمارة فما رأيكم أن تعبئوها كلكم من جديد ..
ووزع عليهم الأوراق ..
فعبئوها وأعادوها إليه ..
فأخرج الاستمارات التي عبئوها في البداية .. وأخرج الأخيرة وجعل يقارن بينها ..
فإذا الخانة الخاصة بـ ضعيف في التعبئة الأولى كلها مليئة ..
أما الثانية فليس فيها ضعيف ولا مقبول .. أبداً ..
فضحك وقال لهم :
كان ما رأيتم دليلاً عملياً على تأثير التعامل السيء على بيئة العمل بين المدير وموظفيه .. وما فعلته بزميلكم كان تمثيلاً أردت أن أجريه أمامكم .. لكن المسكين صار ضحية ..
فانظروا كيف تغيرت نظرتكم بمجرد تغير تعاملي معكم ..
هذا من طبيعة الإنسان .. فلا بد من مراعاته .. خاصة مع من تلتقي بهم لمرة واحدة فقط ..
كان المعلم الأول .. صلى الله عليه وسلم ..يأسر قلوب الناس من أول لقاء ..
بعد فتح مكة .. تمكن الإسلام ..
وبدأت الوفود تتسابق إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..في المدينة ..
قدم وفد عبد القيس .. على رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... فلما رآهم وهم على رحالهم قبل أن ينزلوا .. بادرهم قائلاً :
مرحباً بالقوم .. غير خزايا .. ولا ندامى ..
فاستبشروا .. وتواثبوا من رحالهم .. وأقبلوا إليه يتسابقون للسلام عليه ..
ثم قالوا :
يا رسول الله .. إن بيننا وبينك هذا الحي من المشركين من مضر ..
وإنا لا نصل إليك إلا في الشهر الحرام .. حين يقف القتال ..
فحدثنا بجميل من الأمر .. إن عملنا به دخلنا الجنة .. وندعو به من وراءنا ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..: آمركم بأربع .. وأنهاكم عن أربع ..
آمركم بالإيمان بالله .. وهل تدرون ما الإيمان بالله ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم ..
قال : شهادة أن لا إله إلا الله .. وإقام الصلاة .. وإيتاء الزكاة .. وأن تعطوا الخمس من الغنائم ..
وأنهاكم عن أربع : عن نبيذ في الدباء .. والنقير والحنتم .. والمزفت ( ) ..
وفي موقف آخر ..
كان .. صلى الله عليه وسلم ..مسافراً مع أصحابه ليلة .. فساروا في ليلهم مسيراً طويلاً .. حتى إذا كان آخر الليل .. نزلوا في طرف الطريق ليناموا ..
فغلبتهم أعينهم حتى طلعت الشمس وارتفعت ..
فكان أول من استيقظ من منامه أبو بكر .. ثم استيقظ عمر ..
فقعد أبو بكر عند رأسه .. صلى الله عليه وسلم .... فجعل يكبر ويرفع صوته .. حتى استيقظ النبي .. صلى الله عليه وسلم ....
فنزل وصلى بهم الفجر ..
فلما انتهى من صلاته التفت فرأى رجلاً من القوم لم يصل معهم ..
فقال : يا فلان .. ما يمنعك أن تصلي معنا ؟
قال : أصابتني جنابة .. ولا ماء ..
فأمره .. صلى الله عليه وسلم ..أن يتيمم بالصعيد .. ثم صلى ..
ثم أمر .. صلى الله عليه وسلم ..أصحابه بالارتحال ..
وليس معهم ماء .. فعطشوا عطشاً شديداً .. ولم يقفوا على بئر ولا ماء ..
قال عمران بن حصين :
فبينما نحن نسير فإذا نحن بامرأة على بعير .. ومعها مزادتان ( قربتان ) ..
فقلنا لها : أين الماء ؟!
قالت : إنه لا ماء ..
فقلنا : كم بين أهلك وبين الماء ؟
قالت : يوم وليلة ..
فقلنا : انطلقي إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ....
قالت : وما رسول الله ..!!
فسقناها معنا طمعاً أن تدلنا على الماء ..
حتى أقبلنا بها إلى النبي .. صلى الله عليه وسلم ....
فسألها عن الماء .. فحدثته بمثل الذي حدثتنا به .. غير أنها شكت إليه أنها أم أيتام ..
فتناول .. صلى الله عليه وسلم ..مزادتها .. فسمى الله .. ومسح عليها ..
ثم جعل .. صلى الله عليه وسلم ..يفرغ من قربتيها في آنيتنا .. فشربنا عطاشاً أربعين رجلاً .. حتى روينا ..
وملأنا كل قربة معنا ..
ثم تركنا قربتيها .. وهما أكثر ما تكون امتلاءً ..
ثم قال .. صلى الله عليه وسلم ..: هاتوا ما عندكم .. أي طعام ..
فجمع لها من كسر الخبز والتمر ..
فقال لها : اذهبي بهذا معك لعيالك .. واعلمي أنا لم نرزأك من مائك شيئاً .. غير أن الله سقانا ..
ثم ركبت المرأة بعيرها .. مستبشرة بما حصلت من طعام ..
حتى وصلت أهلها .. فقالت : أتيت أسحر الناس .. أو هو نبي كما زعموا ..
فعجب قومها من قصتها مع رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... فلم يمر عليهم زمن حتى أسلمت وأسلموا .. ( )
نعم .. أعجبت بتعامله وكرمه معها من أول لقاء ..
وفي يوم أقبل رجل إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... فسأله مالاً .. فأعطاه النبي .. صلى الله عليه وسلم .قطيعاً من غنم بين جبلين ..
فرجع الرجل إلى قومه .. فقال :
يا قوم .. أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة ..
قال أنس : وقد كان الرجل يجيء إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..
ما يريد إلا الدنيا .. فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه .. وأعز عليه .. من الدنيا وما فيها ( ) ..
اقتراح ..
أول لقاء يطبع 70% من الصورة عنك .. فعامل كل إنسان على أن هذا هو اللقاء الأول والأخير بينكما ..
20. الناس كمعادن الأرض ..
لو تأملت في الناس لوجدت أن لهم طبائع كطبائع الأرض ..
فمنم الرفيق اللين .. ومنهم الصلب الخشن .. ومنهم الكريم كالأرض المنبتة الكريمة .. ومنهم البخيل كالأرض الجدباء التي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً ..
إذن الناس أنواع ..
ولو تأملت لوجدت أنك عند تعاملك مع أنواع الأرض تراعي حال الأرض وطبيعتها ..
فطريقة مشيك على الأرض الصلبة .. تختلف عن طريقتك في المشي على الأرض اللينة .. فأنت حذر متأنِّ في الأولى .. بينما أنت مرتاح مطمئن في الثانية ..
وهكذا الناس ..
قال.. صلى الله عليه وسلم ..( إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم :
• الأحمر
• والأبيض
• والأسود
• وبين ذلك
• والسهل
• والحزن
• والخبيث
• والطيب ) .. ( )
فعند تعاملك مع الناس انتبه إلى هذا – وانتبهي - سواء تعاملت مع :
قريب كأب وأم وزوجة وولد ..
أو بعيد كجار وزميل وبائع ..
ولعلك تلاحظ أن طبائع الناس تؤثر فيهم حتى عند اتخاذ قراراتهم ..
وحتى تتيقن ذلك .. اعمل هذه التجربة :
إذا وقعت بينك وبين زوجتك مشكلة .. فاستشر أحد زملائك ممن تعلم أنه صلب خشن .. قل له : زوجتي كثيرة المشاكل معي .. قليلة الاحترام لي .. فأشر عليَّ ..
كأني به سيقول : الحريم ما يصلح معهن إلا العين الحمراء !! دقَّ خشمها ! خل شخصيتك قوية عليها !! كن رجلاً !!
وبالتالي قد تثور أنت ويخرب عليك بيتك بهذه الكلمات ..
أكمل التجربة ..
اذهب إلى صديق آخر تعرف أنه هين لين لطيف .. وقل له ما قلت للأول ..
ستجد حتماً أنه يقول : يا أخي هذه أم عيالك .. وما فيه زواج يخلو من مشاكل .. اصبر عليها .. وحاول أن تتحملها .. وهذه مهما صار فهي زوجتك .. وشريكتك في الحياة ..
فانظر كيف صارت طبيعة الشخص تؤثر في آرائه وقراراته ..
لذلك نهى النبي .. صلى الله عليه وسلم ..أن يقضي القاضي بين اثنين وهو عطشان ! أو جوعان ! أو حابس لبول أو غائط ! لأن هذه الأمور قد تغير نفسيته .. وبالتالي قد تؤثر عليه في اتخاذ قراره في الحكم ..
كان في الأمم السابقة رجل سفاح !! سفاح ؟! نعم سفاح .. لم يقتل رجلاً واحداً ولا اثنين .. ولا عشرة .. وإنما قتل تسعاً وتسعين نفساً ..
لا أدري كيف نجا من الناس وانتقامهم .. لعله كان مخيفاً جداً إلى درجة أنه لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه .. أو أنه كان يتخفى في البراري والمغارات .. لا أدري بالضبط .. المهم أنه ارتكب 99 جريمة قتل !!
ثم حدثته نفسه بالتوبة .. فسأل عن أعلم أهل الأرض فدلوه على عابد في صومعته .. لا يكاد يفارق مصلاه .. يمضي وقته ما بين بكاء ودعاء .. هين لين عاطفته جياشة ..
دخل هذا الرجل على العابد .. وقف بين يديه ثم فجعه بقوله : أنا قتلت تسعاً وتسعين نفساً .. فهل لي من توبة ؟
هذا العابد .. أظنه لو قتل نملة من غير قصد لقضى بقية يومه باكياً متأسفاً .. فكيف سيكون جوابه لرجل قتل بيده 99 نفساً ..
انتفض العابد .. ولم يتخيل 99 جثة بين يديه يمثلها هذا الرجل الواقف أمامه ..
صاح العابد : لا .. ليس لك توبة .. ليس لك توبة ..
ولا تعجب أن يصدر هذا الجواب من عابد قليل العلم .. يحكم في الأمور بعاطفته ..
هذا القاتل لما سمع الجواب .. وهو الرجل الصلب الخشن .. غضب واحمرت عيناه .. وتناول سكينه ثم انهال طعناً في جسد العابد حتى مزقه .. ثم خرج ثائراً من الصومعة ..
ومضت الأيام .. فحدثته نفسه بالتوبة مرة أخرى ..
فسأل عن أعلم أهل الأرض .. فدله الناس على رجل عالم ..
مضى يمشي حتى دخل على العالم .. فلما وقف بين يديه فإذا به يرى رجلاً رزيناً يزينه وقار العلم والخشية ..
فأقبل القاتل إليه سائلاً بكل جرأة : إني قتلت مائة نفس !! فهل لي من توبة ؟!
فأجابه العالم فوراً : سبحاااان الله ..!! ومن يحول بينك وبين التوبة ؟!!
جواب رائع !! فعلاً من يحول بينه وبين التوبة ؟! فالخالق في السماء لا تستطيع أي قوة في العالم ان تحول بينك وبين الإنابة إليه والانكسار بين يديه ..
ثم قال العالم الذي كان يتخذ قراراته بناء على العلم والشرع .. لا بناء على طبيعته ومشاعره .. أو قل على عاطفته وأحاسيسه ..
قال العالم : لكنك بأرض سوء ..
عجباً ! كيف علم ؟ عرف ذلك بناء على كبر الجرائم وقلة الـمُدافع له الـمُنكِر عليه .. فعلم أن البلد أصلاً ينتشر فيها القتل والظلم إلى درجة أنه لا أحد ينتصر للمظلوم ..
قال : إنك بأرض سوء .. فاذهب إلى بلد كذا وكذا فإن بها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم ..
ذهب الرجل يمشي تائباً منيباً .. فمات قبل أن يصل إلى البلد المقصود ..
نزلت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ..
فأما ملائكة الرحمة فقالت : أقبل تائباً منيباً ..
وأما ملائكة العذاب فقالت : لم يعمل خيراً قط ..
فبعث الله إليهم ملكاً في صورة رجل ليحكم بينهم .. فكان الحكم أن يقيسوا ما بين البلدين .. بلد الطاعة وبلد المعصية .. فإلى أيتهما كان أقرب .ز فإنه لها ..
وأوحى الله تعالى إلى بلد الرحمة أن تقاربي .. وإلى بلد المعصية أن تباعدي .. فكان أقرب إلى بلد الطاعة فأخذته ملائكة الرحمة ..
حتى المفتين في المسائل الشرعية تجد مع الأسف أن بعضهم تغلبه عاطفته أحياناً ..
أذكر أن أحد جيراني كان كثير الخلافات مع زوجته ..
اشتد الخلاف يوماً فطلقها تطليقه .. ثم راجعها ..
ثم اشتد أخرى .. فطلقها ثانية .. ثم راجعها ..
وكنت كلما قابلته أحذره وأوصيه .. وأذكره بأبنائه الصغار .. وأهمية اعتبارهم والعناية بهم .. وأكرر عليه :
لم يبق لك إلا طلقة واحدة – الثالثة – فإن أوقعتها لم تحل لك مراجعتها إلا بعد زواجها من آخر وتطليقه لها .. فاتق الله .. ولا تخرب بيتك ..
حتى جاءني يوماً متغير الوجه وقال : يا شيخ تخاصمنا وطلقتها الثالثة !!
وهذا الكلام منه ليس غريباً .. إنما الغريب أنه قال بعدها : ما تعرف لي شيخاً حبيباً يفتيني الآن أراجعها !!
فعجبت منه .. ثم تأملت في الحال فاكتشفت ما تقرر قبل قليل أن كثيراً من الناس تختلف آراؤهم – وربما اختياراتهم الفقهية – تأثراً بعاطفته وطبيعته ..
وبعض الناس تعلم من طبيعته أنه شديد الحب للمال .. فلا تعجب إذا رأيته يذل نفسه لأرباب الأموال .. يهمل أولاده وبيته لأجل جمعه .. يقتر على من يعول .. لا تعجب فهو طماع .. بل إن اتخاذه لقراراته وتبنيه لقناعاته ينبني كثيراً على هذه الطبيعة .. فإذا أردت أن تتعامل معه أو تطلب منه شيئاً فضع في نفسك قبل أن تتكلم أنه محب للمال .. فحاول أن لا تعارض هذه الطبيعة فيه حتى تحصل على ما تريد منه ..
ولأن الأمثلة مفاتيح الفهوم .. خذ مثالاً :
نفرض أنك زرت مستشفى وقابلت مصادفة صديقاً قديماً كان زميلاً لك أيام الجامعة .. فدعوته إلى وليمة غداء في بيتك .. فوافق ..
فذهبت إلى السوق واشتريت حاجات ثم رجعت إلى البيت لتستعد وجعلت تتصل بعدد من زملائكم السابقين تدعوهم لمشاركتكم الوليمة ورؤية صاحبك .. من بين هؤلاء صديق - من البخلاء الذين استولى حب المال على قلوبهم - اتصلت به فرحب وحيَّا .. فلما أخبرته عن الوليمة .. قال : آآه .. يا ليتني أستطيع الحضور ورؤية فلان .. لكني مرتبط بشغل هااام .. فبلغه سلامي .. ولعلي أراه في وقت آخر ..
فأدركت أنت من معرفتك بطبيعته أنه يخشى أن يجيء .. فيضطر إلى أن يدعو الضيف إلى بيته ويصنع له وليمة تكلفه مبلغاً وقدره .. !! وهو يريد التوفير ..
فقلت له : عموماً هذا الضيف لن يبقى في البلد سيسافر بعد الغداء مباشرة .. فقال : آآآ .. إذن سأؤجل شغلي وآتي لرؤيته !!
وبعض من تخالطهم من الناس يكون اجتماعياً أسرياً .. يحب أسرته .. لا يصبر على فراقهم .. اطلب منه أي شيء إلا أن يبتعد عن أولاده بسفر أو نحوه .. فلا تكلفه ما لا يطيق ..
إلى غير ذلك من طبائع الناس ..
يعجبني بعض الناس الذي يملك فن اصطياد جميع القلوب ..
فإذا سافر مع بخلاء اقتصد حتى لا يحرجهم فأحبوه ..
وإن جالس عاطفيين زاد من نسبة عاطفته فأحبوه ..
وإن مشى مع فكاهيين مرحين ضحك ومزح وجاملهم فأحبوه ..
يلبس لكل حالة لبوسها .. إما نعيمها وإما بؤسها ..
وعُد بذاكرتك قليلاً معي .. وانظر إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..وقد أقبل بالكتائب لفتح مكة ..
كان أبو سفيان قد خرج إلى النبي قبل أن يدخل مكة .. فأسلم ..
في قصة طويلة .. الشاهد منها أنه لما أسلم قال العباس :
يا رسول الله .. إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم ..: " نعم .. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ..
ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .. ومن دخل المسجد فهو آمن ..
فلما ذهب أبو سفيان لينصرف إلى مكة ..
نظر إليه رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ....
فإذا هو الذي استنفر قريشاً لحربه في بدر ..
واستنفرها لحربه في أحد ..
ثم استنفرها لحربه في الخندق ..
وإذا رجل قائد .. قد طحنته الحرب وطحنها ..
وإذا هو حديث عهد بإسلام ..
فأراد رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..أن يريه قوة الإسلام ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم ..: " يا عباس ..
قال : لبيك يا رسول الله ..
قال : احبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ..
أي أوقفه على طريق الجيش وهو يدخل مكة ..
فخرج العباس بأبي سفيان .. حتى وقف معه بمضيق الوادي .. حيث تتدفق الكتائب كالسيل إلى مكة ..
وجعلت الكتائب تمر عليه براياتها .. فلما مرت الكتيبة الأولى قال : يا عباس من هؤلاء ؟
قال العباس : سليم ..
قال : مالي ولسليم ..!!
ثم مرت به الثانية ..
قال : يا عباس من هؤلاء ؟
قال : مزينة ..
قال : مالي ولمزينة ..!!
حتى نفدت الكتائب .. وهو ما تمر كتيبة إلا سأل العباس عنها ..
فإذا أخبره .. قال : مالي ولبني فلان ..
حتى مر رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..في كتيبته الخضراء .. وفيها المهاجرون والأنصار .. قد غطوا أجسادهم بالحديد .. فلا يرى منهم إلا عيونهم ..
فقال : سبحان الله يا عباس ! من هؤلاء ؟
فقال العباس : هذا رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..في المهاجرين والأنصار ..
قال : هذا الموت الأحمر .. والله ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة ..
ثم قال : والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً !
قال العباس : يا أبا سفيان .. إنها النبوة ..
فقال أبو سفيان : فنعم إذن ..
فلما تجاوزتهم الخيل .. صاح به العباس .. النجاءَ إلى قومك ..
فمضى أبو سفيان سريعاً إلى مكة ..
وجعل يصرخ بأعلى صوته :
يا معشر قريش .. هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به .. فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ..
قالوا : قاتلك الله ! وما تغني عنا دارك ؟
قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .. ومن دخل المسجد فهو آمن ..
فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ..
فلله در نبيه.. صلى الله عليه وسلم ..كيف أثر في نفس أبي سفيان بما يصلح له ..
ومما يحسن ههنا .. أن تعرف طبيعة الشخص ونفسيته قبل أن تتكلم معه .. فإن معرفة طبيعته .. وماذا يناسبه .. يفيدك عند التعامل أو الكلام معه ..
في غزوة الحديبية ..
خرج رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .... بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب ..
كانوا ألفاً وأربعمائة ..
ساقوا معهم الهدى وأحرموا بالعمرة ليعلم الناس أنهم إنما خرجوا زائرين لهذا البيت معظمين له ..
وساق .. صلى الله عليه وسلم ..معه سبعين من الإبل .. هدياً إلى البيت الحرام ..
وصلوا مكة .. فمنعتهم قريش من دخولها ..
عسكر النبي.. صلى الله عليه وسلم ..بأصحابه في موضع اسمه الحديبية ..
جعلت قريش ترسل إليه الرجل تلو الرجل للتفاوض معه ..
فبعثوا إليه أولاً مكرز بن حفص ..
كان مكرز رجلاً من قريش .. لكنه لا يلتزم بعهد ولا ميثاق .. بل هو فاجر غادر ..
فلما رآه رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..مقبلاً قال : هذا رجل غادر ..
فلما انتهى إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... كلمه بما يصلح لمثله ..
وأخبره أنه ما جاء يريد حرباً .. إنما جاء معتمراً .. ولم يكتب معه عهداً لأنه يعلم أنه ليس أهلاً لذلك ..
رجع مكرز إلى قريش فأخبرهم ..
فبعثوا حليس بن علقمة .. سيد الأحابيش ..
وكان الأحابيش قوم من العرب سكنوا مكة تعظيماً للحرم وعناية بالكعبة ..
فلما رآه رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..قال :
إن هذا من قوم يتألهون .ز أي يتعبدون .. فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ..
فلما رأى الهدي من إبل وغنم .. تسيل عليه من عرض الوادي في قلائده وحباله مربوطاً مهيئاً ليذبح في الحرم ..
قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله .. قد أضناه الجوع والعطش ..
لما رأى سيد الأحابيش ذلك .. انتفض .. ولم يقابل رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..إعظاماً لما رأى .. وكيف يمنع المعتمرون عن البيت الحرام !!
رجع إلى قريش .. فقال لهم ذلك .. فقالوا له : اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك ..
فغضب الحليس .. وقال :
يا معشر قريش .. والله ما على هذا حالفناكم .. ولا على هذا عاهدناكم ..
أيصد عن بيت الله من جاءه معظماً له ؟
والذي نفس الحليس بيده .. لتخلن بين محمد وبين ما جاء له من العمرة .. أو لأنفرن بالأحايش نفرة رجل واحد ..
قالوا : مَهْ .. كُفَّ عنا .. حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به ..
ثم أرادوا .. أن يبعثوا رجلاً شريفاً .. فاختاروا عروة بن مسعود الثقفي ..
فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم .. من التعنيف وسوء اللفظ .. وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد ..
قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم ..
فخرج عروة .. وكان ملكاً في قومه .. له شرف ومكانة .. وله ترفع على الناس ..
فلما أتى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..جلس بين يديه ثم قال :
يا محمد !! أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ؟
إنها قريش .. قد خرجت معها العوذ المطافيل .. قد لبسوا جلود النمور ..
يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً .. وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً ..
وكان أبو بكر خلف النبي.. صلى الله عليه وسلم ..
.. واقفاً ..
فقال أبو بكر : امصص بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟
تفاجأ ملك قومه بهذا الجواب .. فلم يتعود على مثله .. لكنه في الحقيقة كان يحتاج إلى جرعة كهذه تخفض ما في رأسه من كبرياء ..
فقال عروة متأثراً : من هذا يا محمد ؟
قال : هذا ابن أبي قحافة ..
قال : أما والله لولا يد كانت لك عندي لكفأتك بها .. ولكن هذه بهذه ..
وجعل عروة يلين العبارات بعدها .. ويكلم النبي.. صلى الله عليه وسلم ...ويلمس لحية النبي .. والمغيرة بن شعبة الثقفي واقف وراء رأس رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .... قد غطى وجهه الحديد ..
فكان كلما قرب عروة يده من لحية رسول الله r ..
قرعها شعبة بطرف السيف ..
ثم يمدها ثانية .. فيقرعها شعبة بطرف السيف ..
فلما مدها الثالثة .. قال شعبة : اكفف يدك عن وجه رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..قبل ألا تصل إليك يدك .. أي أقطعها !!
فقال عروة : ويحك ما أفظك وأغلظك ! ومن هذا يا محمد ؟
فتبسم رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... وقال ..
هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة الثقفي ..
فقال عروة : أي غدر وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس !
ثم قام عروة من عند النبي r .. وعاد إلى قريش ..
فاسمع ما قال :
قال : يا معشر قريش .. والله لقد رأيت كسرى وقيصر والنجاشي .. والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً ..
فوقع في قلب قريش من الرهبة ما لم يقع من قبل ..
فأرسلت قريش سهيل بن عمرو ..
فمضى يمشي إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .... فلما رآه رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .... قال : سهل أمركم .. ثم كتبوا بينهم صلح الحديبية ..
هذا جانب من معرفته لأنواع الناس .. واستعمال المفتاح المناسب في التعامل مع كل أحد ..
وهذه الأنواع من طباع الناس تلاحظها حتى في إلقاء الكلمات أو السواليف معهم ..
ويمكنك أن تشاهد دليل ذلك بنفسك ..
حاول أن تلقي قصة مبكية أمام جمع من الناس .. وانظر إلى أنواع تأثرهم ..
أذكر أني ألقيت يوماً خطبة ضمنتها قصة مقتل عمر t .. ولما وصلت إلى كيفية طعن أبي لؤلؤة المجوسي لعمر رضي الله عنه .. قلت – بصوت عالٍ - :
وفجأة خرج أبو لؤلؤة من المحراب على عمر .. ثم طعنه ثلاث طعنات ..
وقعت الأولى في صدره
والثانية في بطنه ..
ثم استجمع قوته وطعن بالخنجر تحت سرته ..
ثم جررررر الخنجر حتى خرجت بعض أمعائه ..
لاحظتُ وأنا أنظر في الوجوه أن الناس تنوعوا في كيفية تأثرهم ..
فمنهم من أغمض عينيه فجأة وكأنه يرى الجريمة أمامه ..
ومنهم من بكى ..
ومنهم من كان يستمع دون أدنى تأثر وكأنه ينصت إلى حكاية ما قبل النوم !!
قل مثل ذلك لو عرضت قصة حمزة t لما وقع شهيداً في معركة أحد .. وكيف شقوا بطنه فأخرجوا كبده .. وقطعوا أذنيه .. وجدعوا أنفه .. وهو سيد الشهداء وأسد الله ورسوله ..
وعموماً ..
علمتني الحياة أن الناس لا يخلون من أن يوجد من بينهم غليظ غبي ..!! لا يحسن ضبط عباراته .. ولا مجاملة السامعين ..
أذكر أن رجلاً من هذا الصنف جلس مرة في مجلس عام .. فذكر قصة وقعت له مع أحد البائعين .. فقال في معرض حديثه : وهذا البائع ضخم جداً كأنه حمار .. ثم قال : يشبه خالد !! وأشار إلى رجل بجانبه !!
فلا أدري كيف صار يشبه خالداً .. وهو كأنه حمار !!
وقبل الختام .. هنا سؤال كبير ..
هل يمكنك تغيير طباعك لتتناسب مع طباع من تخالطه ..؟
نعم .. كان عمر t مشهوراً بين الناس بقوته وصرامته ..
وفي يوم من الأيام .. اختلف رجل مع زوجته .. وجاء يسأل عمر كيف يتعامل معها ..
فلما وقف عند بيت عمر وكاد أن يطرق الباب سمع زوجة عمر تصرخ به .. وعمر ساكت .. لم يصرخ .. لم يضرب ..
فولى الرجل ظهره للباب وكرّ راجعاً متعجباً ..
أحس عمر بصوت عند الباب فخرج ونادى الرجل : .. ما خبرك ؟
قال : يا أمير المؤمنين .. جئت أشتكي إليك امرأتي فسمعت امرأتك تصرخ بك !!
فقال عمر : يا رجل إنها امرأتي .. حليلة فراشي .. وصانعة طعامي .. وغاسلة ثيابي .. أفلا أصبر منها على بعض السوء ..
وعموماً : بعض الناس لا علاج له فلا بد من التكيف معه ..
يشتكي إليَّ بعض الناس من شدة غضب أبيه .. أو بخل زوجته .. أو ..
فأَعْرضُ عليه بعض طرق العلاج فيفيدني أنه جربها كلها ولم تنفع ..
فما الحل ..؟! الحل أن يصبر على أخلاقهم .. ويغمرَ سيء أخلاقهم في بحر حَسَنِها .. ويتكيف مع واقعه قدر المستطاع ..
فبعض المشاكل ليس لها حل ..
نتيجة ..
معرفتك بطبيعة الشخص الذي تخالطه تجعلك قادراً على كسب محبته ..
21. أستاذ الرياضيات ..
كان يدرس مادة الرياضيات لطلاب المرحلة الثانوية .. السنة الأخيرة .. كان يلاحظ على عدد منهم الإهمال وعدم المتابعة .. فأراد أن يؤدبهم ..
دخل عليهم يوماً ..
وأول ما استقر على كرسيه فاجأهم بقوله : كل واحد يضع كتابه جانباً ويخرج ورقة وقلماً !!
قالوا : لماذا يا أستاذ ؟!
قال : اختبار .. اختبار مفاجئ ..
بدأ الطلاب بنوع من التذمر ينفذون ما طلب .. ويتهامسون باستياء ..
كان من بينهم طالب كبير الجسم صغير العقل .. مشاكس كثير المشاكل سريع الغضب متهور .. صاح بأستاذه :
يا أستاذ .. لا نريد أن نختبر .. نحن بالكاد نجيب ونحن مذاكرون .. بالله كيف إذا كنا ما ذاكرنا ؟!!
قالها الطالب بنبرة حادة ..
ثار المدرس وهاج .. وقال : ما هو على كيفك .. تختبر غصباً عنك .. فاهم ؟! إذا ما هو عاجبك اطلع بَرّا !!!
ثار الطالب .. وصاح : أنت اللي تطلع بَرّا ..
توجه المدرس إلى الطالب وهو يصيح ويردد : يا قليل الأدب .. يا عديم التربية .. يا .. ويقترب أكثر وأكثر ..
نهض الطالب واقفاً .. ثم ..
كان ما كان مما لست أذكره فظن شراً ، ولا تسأل عن الخبر!!
وصل الأمر إلى إدارة المدرسة .. عوقب الطالب بخصم درجتين وكتابة تعهد بالتزام الأدب ..
أما المدرس فصار حديث القاصي والداني .. وأصبح مضرب الأمثال .. ومثار أحاديث الطلاب في كل المدرسة .. يمشي في ممراتها ويسمع التعليقات والهمسات .. حتى انتقل بعدها إلى مدرسة أخرى ..
بينما مدرس آخر وقع له الموقف نفسه لكنه أحسن التصرف معه ..
دخل على طلابه .. وفاجأهم بقوله : أخرج ورقة وقلماً .. اختبار مفاجئ ..
وكان من بينهم طالب كذاك الطالب .. صاح : يا أستاذ !! ما هو على كيفك ..
كان المدرس جبلاً يحس بثقل الرجل التي يحاول أن يصعد عليه !!.. يفهم أن العصبي لا يقابل بعصبية ..
ابتسم ونظر إلى الطالب وقال : يعني يا خالد ما تريد أن تختبر ؟
فقال - صارخاً - : لا ..
فقال المدرس بكل هدووووء : خلاص .. اللي ما يريد يختبر نتعامل معه بالنظام ..
اكتبوا يا شباب : السؤال الأول : أوجد نتيجة هذه المعادلة : س + ص = ع + 15 .. ومضى يسوق الأسئلة ..
لم يصبر الطالب المشاكس وقال : أقولك ما أريد أن أختبر .. نظر إليه المدرس وابتسم بهدوووء .. وقال : وهل ألزمتك أن تختبر .. أنت رجل ومسئول عن تصرفاتك ..
لم يجد الطالب ما يثير غضبه أكثر .. فهدأ وأخرج ورقة وقلماً .. وبدأ يكتب الأسئلة مع زملائه .. ثم بعدها تمت محاسبته على سوء أدبه عن طريق إدارة المدرسة ..
تذكرت هذه المفارقة في القدرة على التعامل مع المواقف وأنا أتأمل في مهارات الناس على إذكاء النيران وإخمادها ..
فالتعامل مع العصبي بعصبية يؤدي إلى تفجر الموقف واحتدام الخلاف ..
فمن الأمور المسلمة عند العقلاء .. أن من يلاقي النار بالنار يزدها شرراً واحتداماً ..
وفي الجهة المقابلة تجد أحياناً أن من يقابل البرود – دائماً – ببرود .. لا تستقيم له الأمور ..
فليكن رابطك مع الناس شعرة معاوية ..
فقد سئل معاوية t كيف استطعت أن تحكم الناس أميراً عشرين سنة .. ثم تحكمهم خليفة عشرين سنة ؟
فقال : جعلت بيني وبينهم شعرة .. أحد طرفيها في يدي والآخر في أيديهم .. فإذا شدوها من جهتهم أرخيت من جهتي حتى لا تنقطع .. وإذا أرخوا من جهتهم شددت من جهتي ..
صدق رضي الله عنه .. ما أحكمه !!
أظن من المسلَّمات في حياتنا أنه لا يمكن أن يهنأ بالعيش زوجان كلاهما عصبي غضوب .. كما لا يمكن أن تطول علاقة صاحبين كلاهما كذلك ..
أذكر أني ألقيت محاضرة في أحدى السجون .. وكان قدري أن تكون المحاضرة في العنبر الخاص بمرتكبي جرائم القتل .. لما انتهيت من محاضرتي .. تفرقوا إلى مهاجعهم وأقبل إلي أحدهم شاكراً .. وعرفني بنفسه وأنه المسئول عن الأنشطة الثقافية في العنبر ..
سألته عن سبب ارتكاب جريمة القتل عند أكثر هؤلاء ..
فقال : الغضب .. الغضب .. والله يا شيخ إن بعضهم قتل لأجل حفنة ريالات تخاصم عليها مع عامل في بقالة أو محطة وقود ..
تذكرت عندها قول النبي .. صلى الله عليه وسلم ..: ( ليس الشديد بالصُّرَعَة .. إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) ( ) ..
نعم ليس البطل هو قوي البدن الذي ما يصارع أحداً إلا غلبه .. لا .. فلو كان هذا هو مقياس البطولة لأصبحت الحيوانات والوحوش أفخر من الآدميين ..
إنما البطل هو العاقل الذي يعرف كيف يتعامل مع المواقف بمهارة .. يتعامل مع زوجته .. أولاده .. مديره .. زملائه .. دون أن يفقدهم ..
وفي الحديث : لا يقضي القاضي وهو غضبان ( ) ..
وأمر e بتدريب النفس على الحلم فقال : إنما الحلم بالتحلم ( ) ..
نعم بالتحلم .. يعني عند كظم الغضب في المرة الأولى ستتعب 100% ولكن في الثانية ستتعب 90% ثم في الثالثة إذا كظمت غضبك ستتعب 80% وهكذا حتى تتدرب ويصبح الحلم والهدوء عندك طبيعة ..
ومن طرائف قصص الغضب أني ذهبت يوماً لمدينة أملج ( 300ك جنوب جدة ) لإلقاء محاضرة ..
كان من بين الحاضرين شاب سريع الغضب ثائر الأعصاب جداً ..
هذا الشاب سافر مرة بسيارته ولم يكن مستعجلاً فكان يمشي ببطء .. كان وراءه سيارة مسرعة تريده أن يفسح لها الطريق .. وهو يزداد بطئاً ويشير لهم بيده أن خففوا السرعة ..
ضاق صاحب السيارة الأخرى بصاحبنا ذرعاً .. وتعداه بسرعة وانحرف عليه بسيارته مؤدباً .. ثم مضى .. ولم يصب أحد منهما بضرر ..
ثارت أعصاب صاحبنا – وهي تثور على أقل من ذلك بكثيييير – فزاد سرعة سيارته .. وأخذ يصرخ ويزمجر .. ويشير لهم بأضواء السيارة مراراً حتى توقفوا .. فألقى غترته جانباً .. وتناول قطعة حديد - هي في الأصل مفك لفتح براغي العجلات عند الحاجة - .. ونزل من السيارة متوجهاً إليهم .. والغضب بادٍ عليه وقطعة الحديد في يده ..
فإذا بالسيارة المقابلة ينزل منها ثلاثة شباب قد ضاقت ملابسهم بعضلاتهم .. وتباعدت أيديهم عن جنوبهم من عرض أكتافهم ..
أقبلوا يركضون بانفعال إلى صاحبنا .. وقد رأوه تهيأ للقتال !!
فلما رآهم انتفض .. وغص بريقه .. وهم ينظرون إليه وإلى ما في يده ..
فلما لاحظ أنهم يحدون النظر إلى قطعة الحديد .. رفعها برفق وقال :
عفواً .. أردت أن أنبهكم إلى أن هذه سقطت منكم .. !!
فتناولها أحدهم بانفعال .. وولوا إلى سيارتهم .. وهو يشير بيده إليهم مودعاً ..!!
معادلة ..
عصبي + عصبي = انفجار
22. ماذا تستفيد من هذه المهارة ؟
كل باب له مفتاح .. والمفتاح المناسب لفتح قلوب الناس هو معرفة طبائعهم ..
حل مشاكل الناس .. الإصلاح بينهم .. الاستفادة منهم .. اتقاء شرورهم ..
كل ذلك تصبح فيه بارعاً إذا عرفت طبائعهم ..
افرض أن شاباً وقع بينه وبين أبيه خلاف .. اشتد الخلاف حتى طرده أبوه من البيت .. حاول الابن العودة مراراً لكن الأب كان عنيداً مصراً ..
دخلت للإصلاح بينهما .. حدثت الأب بالنصوص الشرعية .. خوفته من إثم القطيعة ..
لم يلتفت إليك .. كان مشحوناً غاضباً جداً ..
أردت أن تستعمل أساليب أخرى للإصلاح ..
عرفت من طبيعة هذا الأب أنه عاطفي جداً .. جئت إليه وقلت :
يا فلان .. أما ترحم ولدك .. يفترش الأرض .. ويلتحف السماء ..!!
أنت تأكل وتشرب .. والمسكين يبيت طاوياً ويصبح جائعاً ..
أما تذكره إذا رفعت كسرة الخبز إلى فمك .. أما تذكر مشيه في حر الشمس ..
أما تذكر لما كنت تحمله صغيراً .. وتضمه إلى صدرك .. وتشمه وتقبله ..
أيرضيك أن يستجدي الناس وأبوه حي!! ..
تجد أن عاطفة الأب تهيج بهذا لكلام .. ويقترب أكثر من نقطة الالتقاء ..
وإن كان أبوه بخيلاً محباً للمال .. قلت له :
يا فلان أنتبه لا تورط نفسك .. أرجع الولد تحت نظرك وتصرفك .. أخشى أن يسرق أو يعتدي .. فتلزمك المحكمة بسداد ما أخذ .. وإصلاح ما خرب .. فأنت أبوه على كل حال .. انتبه ..
تجد أن الأب البخيل سيبدأ يعيد موازينه من جديد ..
وإن كان كلامك موجهاً إلى الابن .. وكان جشعاً محباً للمال ..
قلت له : يا فلان .. لن ينفعك ألا أبوك .. غداً ستحتاج أن تتزوج .. من يسدد مهرك ؟
لو تعطلت سيارتك من يصلحها ؟
لو مرضت .. من سيحاسب المستشفى ؟
إخوانك يستفيدون كما شاءوا .. مصروف .. هدايا .. وأنت جالس هكذا ..
ما يضرك أن تصلح ذلك كله بقبلة تطبعها على جبين أبيك .. أو كلمة أسف تهمس بها في أذنه ..
وكذلك لو دخلت للإصلاح بين زوجة وزوجها .. فعلت مثل ذلك .. وفتحت باب كل واحد منهما بالمفتاح المناسب ..
ومثله لو أردت إجازة من مديرك في العمل ..
وعرفت أنه لا يلتفت إلى العواطف ولا ألأمور الاجتماعية .. وإنما عمل ( وبس ! ) ..
فقلت له : أحتاج إلى إجازة ثلاثة أيام أجدد فيها نشاطي .. وأستعيد حيويتي .. أشعر أن إنتاجيتي مع ضغط العمل تنحدر تدريجياً .. أعطني فرصة لإراحة ( رأسي ) فقط ثلاثة أيام .. لأعود أنشط وأقدر ..
وإن كان اجتماعياً .. تلحظ من خلال تعاملاته .. أنه حريص على الأسرة والعائلة .. قلت له :
أريد إجازة لأرى والديَّ .. أولادي .. أشعر أنهم في واد وأنا في واد آخر .. إلى غير ذلك ..
أتقن هذه المهارة .. وستسمع الناس غداً يقولون : ما رأينا أبرع فلاناً في القدرة على الإقناع ..!!
نتيجة ..
كل إنسان له مفتاح .. ومعرفة طبيعة الإنسان تدلّك على معرفة مفتاحه المناسب ..
23. مراعاة النفسيات ..
تتقلب أمزجة الناس في حياتهم بين حزن وفرح .. وصحة ومرض .. وغنى وفقر .. واستقرار واضطراب ..
وبالتالي يتنوع تقبلهم لبعض الأنواع من التعاملات .. أو ردهم لها بحسب حالتهم الشعورية وقت التعامل ..
فقد يقبل منك النكتة والطرفة ويتقبل المزاح في وقت استقراره وراحة باله .. لكنه لا يتقبل ذلك في وقت حزنه ..
فمن غير المناسب أن تطلق ضحكة مدوية في عزاء ..!! لكنها تحتمل منك في نزهة برية ..
وهذا أمر مقرر عند جميع العقلاء وليس هو المقصود بحديثي هنا ..
إنما المقصود هو مراعاة النفسيات والمشاعر الشخصية عند الحديث مع الناس أو التصرف معهم ..
افرض أن امرأة طلقها زوجها وليس لها أب ولا أم .. قد ماتا .. وجعلت تجمع أغراضها لتعيش مع أخيها وزوجته ..
فبينما هي كذلك إذ دخلت عليها جارتها في الضحى زائرة .. فرحبت المطلقة بها .. ووضعت لها القهوة والشاي .. فجعلت الزائرة تبحث عن أحاديث لتؤانسها .. فسألتها المطلقة :
بالأمس رأيتكم خارجين من المنزل ..
فقالت الجارة : إي والله .. أبو فلان أصر علي أن نتعشى خارج البيت فذهبت معه .. ثم مر السوق واشترى لي فستاناً لعرس أختي .. ثم وقف عند محل ذهب ونزل واشترى لي سواراً ألبسه في العرس ..
ولما رجعنا إلى البيت رأى الأولاد في ملل فوعدهم آخر الأسبوع أن يسافر بهم ..
والمطلقة المسكينة تستمع إلى ذلك وتتخيل حالها بعد قليل في بيت زوجة أخيها !!
السؤال : هل يناسب إثارة هذا النوع من الأحاديث مع امرأة فشلت في مشروع الزواج ؟!!
هل تظن أن هذا المطلقة ستزداد محبة لهذه الجارة ؟.. ورغبة في مجالستها دائماً ؟.. وفرحاً بزيارتها لها ؟..
نتفق جميعاً على جواب واحد نصرخ به قائلين : لاااااا ..
بل سيمتلئ قلبها حقداً وقهراً ..
إذن ما الحل ؟ هل تكذب عليها ؟
لا .. ولكن تتكلم باختصار .. كأن تقول : والله كان عندنا بعض الأشغال قضيناها .. ثم تصرف الكلام إلى موضوع آخر تصبرها به على كربتها ..
أو افرض .. أن صديقين اختبرا نهاية المرحلة الثانوية .. فنجح أحدهما وتخرج بتفوق ..
والثاني رسب في عدد من المواد .. أو تخرج بنسبة ضعيفة لا تؤهله للقبول في شيء من الجامعات ..
فهل تَرَى من المناسب عندما يزور المتفوقُ صاحبه أن يسهب في الحديث حول الجامعات التي تم قبوله فيها .. والميزات التي ستمنح له ..؟
قطعاً جوابنا جميعاً : لا ..
إذن ما الحل ؟
الحل أن يذكر له عموميات يخفف بها عنه .. كأن يشتكي من كثرة الزحام في الجامعات .. وقلة القبول .. وخوف كثير من المتقدمين إليها من عدم القبول .. حتى يخفف عن صاحبه مصابه .. فيرغب عند ذلك في مجالسته أكثر .. ويحبه ويأنس بقربه .. ويشعر أنه قريب من قلبه ..
وقل مثل ذلك لو التقى شابان أحدهما أبوه كريم يغدق عليه الأموال ..
والآخر أبوه بخيل لا يكاد يعطيه ما يكفيه ..
فمن غير المناسب أن يتحدث ابن الكريم بإغداق أبيه عليه .. وكثرة المال لديه .. و ..
لأن هذا النوع من الكلام يضيق به صدر صديقه .. ويذكره بمأساته مع أبيه .. ويستثقل الجلوس مع هذا الصديق ويشعر ببعده عنه في همه ..
لذلك نبه النبي .. صلى الله عليه وسلم ..إلى مراعاة مشاعر الآخرين ونفسياتهم .. فقال : لا تطيلوا النظر إلى المجذوم ( ) .. والمجذوم هو المصاب بمرض ظاهر في جلده قد جعله مشوهاً في منظره .. فمن غير المناسب أنه إذا مر بقوم أن يطيلوا النظر إلى جلده .. لأن هذا يذكره بمصيبته فيحزن ..
وفي موقف غاية في المراعاة واللطف يتعامل .. صلى الله عليه وسلم ..مع والد أبي بكر رضي الله عنه ..
فإنه.. صلى الله عليه وسلم ..لما أقبل بجيوش المسلمين إلى مكة لفتحها ..
قال أبو قحافة أبو أبي بكر رضي الله عنه .. وكان شيخاً كبيراً .. أعمى .. قال لابنة له من أصغر ولده :
أي بنية .. اظهري بي على جبل أبي قبيس لأنظر صدق ما يقولون .. هل جاء محمد ؟..
فأشرفت به ابنته فوق الجبل .. فقال : أي بنية ماذا ترين ؟
قالت : أرى سواداً مجتمعاً مقبلاً ..
قال : تلك الخيل ..
قالت : وأرى رجلاً يسعى بين يدي ذلك السواد مقبلاً ومدبراً ..
قال : أي بنية ذلك الوازع الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها ..
ثم قالت : قد والله يا أبتِ انتشر السواد ..
فقال : قد والله إذاً دفعت الخيل ووصلت مكة .. فأسرعي بي إلى بيتي .. فإنهم يقولون من دخل داره فهو آمن ..
فانحطت الفتاة به مسرعة من الجبل ..
فتلقته خيل المسلمين .. قبل أن يصل إلى بيته ..
فأقبل أبو بكر إليه ..
فاحتفى به مرحباً ..
ثم أخذ بيده يقوده .. حتى أتى به رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..في المسجد ..
فلما رآه رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... فإذا شيخ كبير .. قد ضعف جسمه .. ورق عظمه .. واقتربت منيته ..
وإذا أبو بكر رضي الله عنه .. ينظر إلى أبيه .. وقد فارقه منذ سنين .. وانشغل عنه بخدمة هذا الدين ..
التفت إلى أبي بكر t فقال مطيباً لنفسه .. ومبيناً قدره الرفيع عنده :
هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ؟!
كان أبو بكر يعلم أنهم في حرب .. قائدهم رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ... وأن وقته أضيق .. وأشعاله أكثر من أن يتفرغ للذهاب لبيت شيخ يدعوه للإسلام ..
فقال أبو بكر شاكراً: يا رسول الله .. هو أحق أن يمشي إليك .. من أن تمشي أنت إليه ..
فأجلس النبي عليه الصلاة والسلام .. أبا قحافة بين يديه .. بكل لطف وحنان ..
ثم مسح على صدره ..
ثم قال : أسلم ..
فأشرق وجه أبي قحافة .. وقال : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..
انتفض أبو بكر منتشياً مسروراً .. لم تسعه الدنيا فرحاً ..
تأمل النبي .. صلى الله عليه وسلم ..في وجه الشيخ .. فإذا الشيب يكسوه بياضاً .. فقال.. صلى الله عليه وسلم ..
: غيروا هذا من شعره .. ولا تقربوه سواداً ..
نعم كان يراعي النفسيات في تعامله ..
بل إنه.. صلى الله عليه وسلم ..لما دخل مكة قسم جيشه إلى كتائب .. وأعطى راية إحدى الكتائب .. إلى الصحابي البطل سعد بن عبادة t ..
كانت الراية مفخرة لمن يحملها .. ليس له فقط بل له ولقومه ..
جعل سعد ينظر إلى مكة وسكانها .. فإذا هم الذين حاربوا رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... وضيقوا عليه .. وصدوا عنه الناس ..
وإذا هم الذين قتلوا سمية وياسر .. وعذبوا بلالاًُ وخباباً ..
كانوا يستحقون التأديب فعلاً ..
هز سعد الرايية .. وهو يقول : اليوم يوم الملحمة ** اليوم تستحل الحرمة ..
سمعته قريش فشق ذلك عليهم .. وكبر في أنفسهم .. وخافوا أن يفنيهم بقتالهم ..
فعارضت امرأة رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..وهو يسير .. فشكت إليه خوفهم من سعد .. وقالت :
يا نبي الهدى إليك لجائيُّ قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأرض وعاداهم إله السماء
إن سعداً يريد قاسمة الظهـر بأهل الحجون و البطحاء
خزرجي لو يستطيع من الغيـظ رمانا بالنسر والعواء
فانهينه إنه الأسد الأسـود والليث والغٌ في الدماء
فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء
لتكونن بالبطاح قريش بقعةَ القاع في أكف الإماء
إنه مصلت يريد لها القتل صموت كالحية الصماء
فلما سمع رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .... هذا الشعر .. دخله رحمة ورأفة بهم ..
وأحب ألا يخيبها إذ رغبت إليه ..
وأحب ألا يغضب سعداً بأخذ الراية منه بعد أن شرفه بها ..
فأمر سعداً فناول الراية لابنه قيس بن سعد .. فدخل بها مكة.. وأبوه سعد يمشي بجانبه ..
فرضيت المرأة وقريش لما رأت يد سعد خالية من الراية ..
ولم يغضب سعد لأنه بقي قائداً لكنه أريح من عناء حمل الراية وحملها عنه ابنه ..
فما أجمل أن نصيد عدة عصافير بحجر واحد ..
حاول أن لا تفقد أحداً .. كن ناجحاً واكسب الجميع .. وإن تعارضت مطالبهم ..
اتفاق ..
نحن نتعامل مع القلوب .. لا مع الأبدان ..
24. اهتم بالآخرين ..
الناس عموماً يحبون أن يشعروا بقيمتهم ..
لذا تجدهم أحياناً يقومون ببعض التصرفات ليلفتوا النظر إليهم ..!
وقد يخترعون قصصاً وبطولات لأجل أن يهتم الناس بهم أو يعجبوا بهم أكثر ..
لو رجع رجل إلى بيته قادماً من عمله متعباً .. فلما دخل صالة البيت رأى أولاده الأربعة كل منهم على حال ..
أكبرهم عمره أحدى عشرة سنة .. يتابع برنامجاً في التلفاز ..
والثاني يأكل طعاماً بين يديه ..
والثالث يعبث بألعابه ..
والرابع يكتب في دفاتره ..
فسلم الأب بصوت مسموع .. السلام عليكم ..
فلم يلتفت إليه أحد .. ذاك منهمك مع برنامجه .. والثاني مأخوذ بألعابه .. والثالث مشغول بطعامه ..
إلا الرابع .. فإنه لما التفت فرأى أباه .. نفض يده من دفاتره وأقبل مرحباً ضاحكاً .. وقبل يد أبيه .. ثم رجع إلى دفاتره ..
أي هؤلاء الأربعة سيكون أحب إلى الأب ؟
أجزم أن جوابنا سيكون واحداً : أحبهم إليه الرابع ..
ليس لأنه يفوقهم جمالاً أو ذكاءً .. وإنما لأنه أشعر أباه بأنه إنسان مهم عنده ..
كلما أظهرت الاهتمام بالناس أكثر .. كلما ازدادوا لك حياً وتقديراً ..
كان سيد الخلق يراعي ذلك في الناس .. يشعر كل إنسان أن قضيته قضيته .. وهمه همه ..
قام.. صلى الله عليه وسلم ..على منبره يوماً يخطب الناس ..
فدخل رجل من باب المسجد .. ونظر إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..ثم قال :
يا رسول الله .. رجل يسأل عن دينه .. ما يدري ما دينه ؟!
فالتفت.. صلى الله عليه وسلم ..إليه .. فإذا رجل أعرابي .. قد لا يكون مستعداً أن ينتظر حتى تنتهي الخطبة .. ويتفرغ له النبي.. صلى الله عليه وسلم ..ليحدثه عن دينه .. وقد يخرج الرجل من المسجد ولا يعود إليه ..
وقد بلغ الأمر عند الرجل أهمية عالية .. لدرجة أنه يقطع الخطبة ليسأل عن أحكام الدين !!
كان.. صلى الله عليه وسلم ..يفكر من وجهة نظر الآخر لا من وجهة نظره هو فقط ..
نزل من على منبره الشريف .. ودعا بكرسي فجلس أمام الرجل .. وجعل يلقنه ويفهمه أحكام الدين .. حتى فهم ..
ثم قام من عنده .. ورجع إلى منبره وأكمل خطبته ..
آآآه ما أعظمه وأحلمه ..
تربى أصحابة في مدرسته .. فكانوا يظهرون الاهتمام بالآخرين .. والاحتفاء بهم .. ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم ..
ومن ذلك ما فعله طلحة مع كعب ..
كعب بن مالك شيخ كبير .. نجلس إليه .. بعدما كبر سنه .. ورق عظمه .. وكف بصره ..
وهو يحكي ذكريات شبابه .. في تخلفه عن غزوة تبوك ..
وكانت آخر غزوة غزاها النبي.. صلى الله عليه وسلم ....
آذن النبي .. صلى الله عليه وسلم ..الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم ..
وجمع منهم النفقات لتجهيز الجيش .. حتى بلغ عدد الجيش ثلاثين ألفاً ..
وذلك حين طابت الظلال الثمار ..
في حر شديد .. وسفر بعيد .. وعدو قوي عنيد ..
كان عدد المسلمين كثيراً .. ولم تكن أسماؤهم مجموعة في كتاب ..
قال كعب :
وأنا أيسر ما كنت .. قد جمعت راحلتين .. وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد ..
وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال .. وطيب الثمار ..
فلم أزل كذلك .. حتى قام رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..غادياً بالغداة ..
فقلت : أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي .. ثم ألحق بهم ..
فانطلقت إلى السوق من الغد .. فعسر علي بعض شأني .. فرجعت ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم .. فعسر عليَّ بعض شأني أيضاً ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله .. فلم أزل كذلك ..
حتى مضت الأيام .. وتخلفت عن رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ....
فجعلت أمشي في الأسواق .. وأطوف بالمدينة ..
فلا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق .. أو رجلاً قد عذره الله ..
نعم تخلف كعب في المدينة .. أما رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..فقد مضى بأصحابه الثلاثين ألفاً ..
حتى إذا وصل تبوك .. نظر في وجوه أصحابه .. فإذا هو يفقد رجلاً صالحاً ممن شهدوا بيعة العقبة ..
فيقول .. صلى الله عليه وسلم ..: ما فعل كعب بن مالك ؟!
فقال رجل : يا رسول الله .. خلّفه برداه والنظر في عطفيه ..
فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت .. والله يا نبي الله ما علمنا عليه إلا خيراً ..
فسكت رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ....
قال كعب :
فلما قضى النبي.. صلى الله عليه وسلم ..
غزوة تبوك .. وأقبل راجعاً إلى المدينة .. جعلت أتذكر .. بماذا أخرج به من سخطه .. وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ..
حتى إذا وصل المدينة .. عرفتُ أني لا أنجو إلا بالصدق ..
فدخل النبي.. صلى الله عليه وسلم ..المدينة .. فبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين .. ثم جلس للناس ..
فجاءه المخلفون .. فطفقوا يعتذرون إليه .. ويحلفون له ..
وكانوا بضعة وثمانين رجلاً .. فقبل منهم رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..علانيتهم .. واستغفر لهم .. ووكل سرائرهم إلى الله ..
وجاءه كعب بن مالك .. فلما سلم عليه .. نظر إليه النبي.. صلى الله عليه وسلم .... ثم تبسَّم تبسُّم المغضب ..
أقبل كعب يمشي إليه.. صلى الله عليه وسلم .... فلما جلس بين يديه ..
فقال له .. صلى الله عليه وسلم ..: ما خلفك .. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ يعني اشتريت دابتك ..
قال : بلى ..
قال : فما خلفك ؟!
فقال كعب : يا رسول الله .. إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا .. لرأيت أني أخرج من سخطه بعذر .. ولقد أعطيت جدلاً ..
ولكني والله لقد علمت .. أني إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي .. ليوشكن الله أن يسخطك علي ..
ولئن حدثتك حديث صدق .. تجد عليَّ فيه .. إني لأرجو فيه عفوَ الله عني ..
يا رسول الله .. والله ما كان لي من عذر ..
والله ما كنت قط أقوى .. ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ..
ثم سكت كعب ..
فالتفت النبي.. صلى الله عليه وسلم ..إلى أصحابه .. وقال :
أما هذا .. فقد صدقكم الحديث .. فقم .. حتى يقضي الله فيك ..
قام كعب يجر خطاه .. وخرج من المسجد .. مهموماً مكروباً .. لا يدري ما يقضي الله فيه ..
فلما رأى قومه ذلك .. تبعه رجال منهم .. وأخذوا يلومونه .. ويقولون :
والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط قبل هذا .. إنك رجل شاعر أعجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..
بما اعتذر إليه المخلفون !.. هلا اعتذرت بعذر يرضى عنك فيه .. ثم يستغفر لك .. فيغفر الله لك ..
قال كعب :
فلم يزالوا يؤنبونني .. حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ..
فقلت : هل لقي هذا معي أحد ؟
قالوا : نعم .. رجلان قالا مثل ما قلت .. فقيل لهما مثل ما قيل لك ..
قلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع .. وهلال بن أمية ..
فإذا هما رجلان صالحان قد شهدا بدراً .. لي فيهما أسوة ..
فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً .. ولا أكذب نفسي ..
* * * * * * * * *
ثم مضى كعب t .. يسير حزيناً .. كسير النفس .. وقعد في بيته ..
فلم يمضِ وقت .. حتى نهى النبي .. صلى الله عليه وسلم ..الناس عن كلام كعب وصاحبيه ..
قال كعب :
فاجتنبنا الناس .. وتغيروا لنا .. فجعلت أخرج إلى السوق .. فلا يكلمني أحد ..
وتنكر لنا الناس .. حتى ما هم بالذين نعرف ..
وتنكرت لنا الحيطان .. حتى ما هي بالحيطان التي نعرف ..
وتنكرت لنا الأرض .. حتى ما هي بالأرض التي نعرف ..
فأما صاحباي فجلسا في بيوتهما يبكيان .. جعلا يبكيان الليل والنهار .. ولا يطلعان رؤوسهما .. ويتعبدان كأنهما الرهبان ..
وأما أنا فكنت أشَبَّ القوم وأجلدَهم .. فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين .. وأطوف في الأسواق .. ولا يكلمني أحد ..
وآتي المسجد فأدخل ..
وآتي رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..فأسلم عليه ..
فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟
ثم أصلي قريباً منه .. فأسارقه النظر .. فإذا أقبلت على صلاتي .. أقبل إلي ..
وإذا التفتُّ نحوه .. أعرض عني ..
* * * * * * * * *
ومضت على كعب الأيام .. والآلام تلد الآلام ..
وهو الرجل الشريف في قومه ..
بل هو من أبلغ الشعراء .. عرفه الملوك والأمراء ..
وسارت أشعاره عند العظماء .. حتى تمنوا لقياه ..
ثم هو اليوم .. في المدينة .. بين قومه .. لا أحد يكلمه .. ولا ينظر إليه ..
حتى .. إذا اشتدت عليه الغربة .. وضاقت عليه الكربة .. نزل به امتحان آخر :
فبينما هو يطوف في السوق يوماً ..
إذا رجل نصراني جاء من الشام ..
فإذا هو يقول : من يدلني على كعب بن مالك .. ؟
فطفق الناس يشيرون له إلى كعب .. فأتاه .. فناوله صحيفة من ملك غسان ..
عجباً !! من ملك غسان ..!!
إذن قد وصل خبره إلى بلاد الشام .. واهتم به ملك الغساسنة .. عجباً !! فماذا يريد الملك ؟!!
فتح كعب الرسالة فإذا فيها :
" أما بعد .. يا كعب بن مالك .. إنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك .. ولست بدار مضيعة ولا هوان .. فالحق بنا نواسك "..
فلما أتم قراءة الرسالة .. قال t : إنا لله .. قد طمع فيَّ أهل الكفر ..!! هذا أيضاً من البلاء والشر ..
ثم مضى بالرسالة فوراً إلى التنور .. فأشعله ثم أحرقها فيه ..
ولم يلتفت كعب إلى إغراء الملك ..
نعم فُتح له باب إلى بلاط الملوك .. وقصور العظماء .. يدعونه إلى الكرامة والصحبة ..
والمدينة من حوله تتجهمه .. والوجوه تعبس في وجهه ..
يسلم فلا يرد عليه السلام ..
ويسأل فلا يسمع الجواب ..
ومع ذلك لم يلتفت إلى الكفار ..
ولم يفلح الشيطان في زعزعته .. أو تعبيده لشهوته ..
ألقى الرسالة في النار .. وأحرقها ..
* * * * * * * * *
ومضت الأيام تتلوها الأيام .. وانقضى شهر كامل .. وكعب على هذا الحال ..
والحصار يشتد خناقه .. والضيق يزداد ثقله ..
فلا الرسول .. صلى الله عليه وسلم ..يُمضي .. ولا الوحي بالحكم يقضي ..
فلما اكتملت أربعون يوماً ..
فإذا رسول من النبي.. صلى الله عليه وسلم ..يأتي إلى كعب .. فيطرق عليه الباب ..
فيخرج كعب إليه .. لعله جاء بالفرج .. فإذا الرسول يقول له :
إن رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..يأمرك أن تعتزل امرأتك ..
قال : أُُطَلِّقها .. أم ماذا ؟
قال : لا .. ولكن اعتزلها ولا تقربها ..
فدخل كعب على امرأته وقال : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ..
وأرسل النبي.. صلى الله عليه وسلم ..إلى صاحبي كعب بمثل ذلك ..
فجاءت امرأة هلال بن أمية .. فقالت :
يا رسول الله .. إن هلال بن أمية شيخ كبير ضعيف .. فهل تأذن لي أن أخدمه ..؟
قال : نعم .. ولكن لا يقربنك ..
فقالت المرأة : يا نبي الله .. والله ما به من حركة لشيء .. ما زال مكتئباً .. يبكي الليل والنهار .. منذ كان من أمره ما كان ..
* * * * * * * * *
ومرت الأيام ثقيلة على كعب ..واشتدت الجفوة عليه ..حتى صار يراجع إيمانه ..
يكلم المسلمين ولا يكلمونه ..
ويسلم على رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..فلا يرد عليه ..
فإلى أين يذهب ..!! ومن يستشير !؟
قال كعب t :
فلما طال عليَّ البلاء .. ذهبت إلى أبي قتادة .. وهو ابن عمي .. وأحب الناس إليَّ .. فإذا هو في حائط بستانه .. فتسورت الجدار عليه ..
ودخلت .. فسلمت عليه ..
فوالله ما رد علي السلام ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فقال : الله ورسوله أعلم ..
سمع كعب هذا الجواب .. من ابن عمه وأحب الناس إليه .. لا يدري أهو مؤمن أم لا ؟
فلم يستطع أن يتجلد لما سمعه .. وفاضت عيناه بالدموع ..
ثم اقتحم الحائط خارجاً ..
وذهب إلى منزله .. وجلس فيه ..
يقلب طرفه بين جدرانه .. لا زوجة تجالسه .. ولا قريب يؤانسه ..
وقد مضت عليهم خمسون ليلة .. من حين نهى النبي.. صلى الله عليه وسلم ..الناس عن كلامهم ..
* * * * * * * * *
وفي الليلة الخمسين .. نزلت توبتهم على النبي.. صلى الله عليه وسلم ..في ثلث الليل ..
وكان .. صلى الله عليه وسلم ..في بيت أم سلمة .. فتلا الآيات ..
فقالت أم سلمة t :
يا نبي الله .. ألا نبشر كعب بن مالك ..
قال : إذاً يحطمكم الناس .. ويمنعونكم النوم سائر الليلة ..
فلما صلى النبي.. صلى الله عليه وسلم ..الفجر .. آذن الناس بتوبة الله عليهم ..
فانطلق الناس يبشرونهم ..
قال كعب :
وكنت قد صليت الفجر على سطح بيت من بيوتنا ..
فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى .. قد ضاقت علي نفسي .. وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت ..
وما من شيء أهم إليّ .. من أن أموت .. فلا يصلي عليَّ رسولُ الله .. صلى الله عليه وسلم .... أو يموت .. فأكون من الناس بتلك المنزلة .. فلا يكلمني أحد منهم .. ولا يصلي عليَّ ..
فبينما أنا على ذلك ..
إذ سمعت صوت صارخ .. على جبل سلع بأعلى صوته يقول :
ياااااا كعب بن مالك ! .. أبشر ..
فخررت ساجداً .. وعرفت أن قد جاء فرج من الله ..
وأقبل إليَّ رجل على فرس .. والآخر صاح من فوق جبل ..
وكان الصوت أسرع من الفرس ..
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني .. نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه .. والله ما أملك غيرهما ..
واستعرت ثوبين .. فلسبتهما ..
وانطلقت إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .... فتلقاني الناس فوجاً .. فوجاً ..
يهنئوني بالتوبة .. يقولون : ليهنك توبة الله عليك ..
حتى دخلت المسجد .. فإذا رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..جالس بين أصحابه .. فلما رأوني والله ما قام منهم إليَّ إلا طلحة بن عبيد الله .. قام فاعتنقني وهنأني .. ثم رجع إلى مجلسه .. فوالله ما أنساها لطلحة ..
فمشيت حتى وقف على رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..فسلمت عليه ..
وهو يبرق وجهه من السرور .. وكان إذا سُرَّ استنار وجهه .. حتى كأنه قطعة قمر ..
فلما رآني قال : أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك ..
قلت : أمن عندك يا رسول الله .. أم من عند الله ؟
قال : لا .. بل من عند الله .. ثم تلا الآيات ..
فجلست بين يديه ..
فقلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله .. وإلى رسوله ..
فقال : أمسك عليك بعض مالك .. فهو خير لك ..
فقلت : يا رسول الله ! إن الله إنما نجاني بالصدق .. وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت ..
نعم .. تاب الله على كعب وصاحبيه .. وأنزل في ذلك قرءاناً يتلى ..
فقال عز وجل :
] لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ ..
والشاهد من هذه القصة .. أن طلحة t لما رأى كعباً قام إليه واعتنقه وهنأه .. فزادت محبة كعب له .. حتى كان يقول بعد موت طلحة .. وهو يحكي القصة بعدها بسنين : فوالله لا أنساها لطلحة ..
وماذا فعل طلحة حتى يأسر قلب كعب ؟ فعل مهارة رائدة .. اهتمَّ به .. شاركه فرحته .. فصار له عنده حظوة ..
الاهتمام بالناس ومشاركتهم في مشاعرهم يأسر قلوبهم ..
لو كنت في زحمة الامتحانات .. ووصلت إلى هاتفك المحمول رسالة مكتوب فيها .. بشرني عن امتحاناتك والله إن بالي مشغول عليك وأدعو لك ، صديقك : إبراهيم ..
أليس ستزداد محبتك لهذا الصديق ؟ بلى ..
ولو كان أبوك مريضاً في المستشفى .. فبقيت معه في غرفته وأنت مشغول البال عليه .. واتصل بك صديق وسألك عنه .. وقال : تحتاج مساعدة ؟ نحن في خدمتك .. فشكرته ..
ثم في المساء اتصل وقال : إذا الأهل يحتاجون أي شيء أشتريه لهم .. فأخبرني .. فشكرته ودعوت له ..
ألا تشعر أن قلبك ينجذب إليه أكثر ..؟
بينما لو اتصل بك آخر وقال : فلان .. نحن خارجون إلى نزهة في البحر .. هاه تذهب معنا ؟
فقلت : والله والدي مريض ولا أستطيع ..
فبدل أن يدعو له ويعتذر أن لم يسأل عن حاله .. قال لك : أدري أنه مريض لكن هو في المستشفى وعنده ممرضون ولن يستفيد من بقائك تعال معنا استمتع واسبح و .. قالها وهو يمازحك ضاحكاً .. وكأن مرض والدك لا يعنيه .. كيف ستكون نظرتك إليه ؟
بلا شك أن قدره في قلبك ينخفض لأنه لم يهتم بهمومك ..
من أحرج ما وقع لي من مواقف ..
أني كنت مسافراً إلى جدة لعدة أيام .. كنت مشغولاً جداً ..
وصلتني رسالة خلالها على هاتفي من أخي سعود كتب فيها :
أحسن الله عزاءك في ابن عمنا فلان توفي في ألمانيا ..
اتصلت بأخي فأخبرني أن ابن عمنا هذا - وهو شيخ كبير - ذهب قبل يومين لعلاج القلب في ألمانيا وتوفي أثناء إجراء العملية .. وأن جثمانه سيصل قريباً إلى مطار الرياض .. دعوت له وترحمت عليه .. وأنهيت المكالمة ..
بعدها بيومين انتهت أعمالي في جدة وذهبت إلى المطار أنتظر وقت إقلاع رحلتي للرياض ..
في هذه الأثناء كان يمر بي عدد من الشباب فإذا رأوني عرفوني وأقبلوا مسلمين وكانوا أحياناً من الشباب المراهقين لهم قصات شعر غريبة .. ومع ذلك كنت أمازحهم وأطلق التعليقات عليهم تحبباً وتلطفاً ..
انشغلت بمكالمة هاتفية .. فلما أنهيتها فإذا شاب يلبس بنطالاً وقميصاً .. يراني فيقبل مسَلّماً مصافحاً ..
رحبت به وقلت مازحاً : ما هذه الأناقة .. أنت اليوم كأنك عريس .. ونحو هذه العبارات ..
سكت الشاب قليلاً ثم قال :
ما عرفتني .. أنا فلان .. الآن وصلت من ألمانيا معي جثمان أبي .. وأنا متوجه إلى الرياض الآن على أقرب رحلة ..
في الحقيقة .. كأنما صب علي برميل ماء بارد .. صرت محرجاً جداً .. أبوه مات .. وجثمانه معه في الطائرة وأنا أمازحه وأضحك .. إن هذا لشيء عجاب !!
سكتُّ قليلاً ثم قلت : آآآآسف .. والله ما انتبهت إليك .. فأنا هنا منذ أيام .. فأحسن الله عزاءك وغفر لوالدك ..
وإن كنتُ في الحقيقة معذوراً في عدم انتباهي إلى شخصه .. فقد كنت لا أقابله إلا قليلاً .. وأراه بثوبه وغترته .. فلما لبس البنطال وجاءني فجأة في زحمة شباب من جدة .. لم يقع في نفسي أنه فلان ..
فمن الاهتمام بالناس مشاركتهم في مشاعرهم وإشعارهم أن همهم هو همك .. وأنك تحب الخير لهم ..
ومن هذا المنطلق تجد أن الشركات المتطورة يكون عندها إدارة للعلاقات العامة .. مهمتها إرسال التهاني والتبريكات في المناسبات .. وتقديم الهدايا .. ونحو ذلك ..
الناس كلما أشعرتهم بقيمتهم وأظهرت الاهتمام بهم ملكت قلوبهم وأحبوك ..
خذ أمثلة سريعة من الواقع :
لو دخل شخص إلى مكان مليء بالناس فلم يجد مكاناً يجلس فيه .. فتفسحت قليلاً .. وأوسعت له مكاناً وقلت :
تفضل يا فلان .. تعال هنا .. لشعر باهتمامك وأحبك ..
أو لو كنتم في حفل عشاء .. وأقبل يحمل طعامه يتلفت يبحث عن طاولة فيها مكان فارغ .. فجهزت له كرسياً وقلت : حياك اله يا فلان .. تفضل هنا .. لشعر باهتمامك أيضاً ..
عموماً أشعر الناس بقيمتهم .. يحبوك ..
كان رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..يحرص على ذلك أيما حرص ..
انظر إليه وقد قام يخطب على منبره يوم جمعة ..
وفجأة فإذا بأعرابي يدخل إلى المسجد ويتخطى الصفوف .. وينظر إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..
.. ويصيح قائلاً : يا رسول الله .. رجل لا يدري ما دينه ! فعلمه دينه ..
فنزل النبي .. صلى الله عليه وسلم ..من منبره .. وتوجه إلى الرجل وطلب كرسياً فجلس عليه .. ثم جعل يتحدث مع الرجل ويشرح له الدين إلى أن فهم .. ثم عاد إلى منبره ..
قمة الاهتمام بالناس .. ومن يدري ربما لو أهمله لخرج الرجل وبقي جاهلاً بدينه إلى أن يموت ..
ولو نظرت في شمائله .. صلى الله عليه وسلم .... لوجدت من بينها أنه كان إذا صافحه أحد لم ينزع .. صلى الله عليه وسلم ..يده من يد المصافح .. حتى ينزع ذاك يده أولاً ..
وكان.. صلى الله عليه وسلم ..إذا كلمه أحد التفت إليه جميعاً .. أي التفت بوجهه وجسمه إليه يستمع وينصت ..
تجربة ..
الناس كلما أشعرتهم بقيمتهم وأظهرت الاهتمام بهم .. ملكت قلوبهم .. وأحبوك
25. أشعرهم أنك تحب الخير لهم ..
كلما كان قلبك مملوءاً بالمحبة والنصح للآخرين .. كلما صرت صادقاً في مهاراتك في التعامل معهم ..
وكلما أحس الناس بحبك لهم .. ازدادوا هم أيضاً لك محبة وقبولاً ..
كانت إحدى الطبيبات تمتلئ عيادتها الخاصة دائماً بالمراجِعات ..
وكانت المريضات يرغبن في المجيء إليها دائماً وكل واحدة تشعر أنها صديقة خاصة لهذه الطبيبة ..
كانت هذه الطبيبة تمارس مهارات متعددة تسحر بها قلوب الآخرين ..
من ذلك .. أنها اتفقت مع السكرتيرة أنها إذا اتصلت إحدى المريضات تريد أن تتحدث مع الطبيبة أو تسألها عن شيء يخص المرض ..
فإن السكرتيرة تسألها عن اسمها .. وترحب بها .. ثم تطلب منها التكرم بالاتصال بعد خمس دقائق ..
ثم تأخذ السكرتيرة الملف الخاص بهذه المريضة .. وتناوله للطبيبة .. فتقرأ الطبيبة معلومات المرض .. وتنظر إلى بطاقتها الخاصة .. ومعلوماتها الكاملة بما فيها وظيفتها وأسماء أولادها ..
فإذا اتصلت المريضة .. رحبت بها الطبيبة .. وسألتها عن مرضها .. وعن فلان ولدها الصغير .. وأخبار وظيفتها .. و ..
فتشعر المريضة أن هذه الطبيبة تحبها جداً لدرجة أنها تحفظ أسماء أولادها وتتذكر مرضها .. ولم تنس مكان عملها .. فترغب في المجيء إليها دائماً ..
أرأيت أن امتلاك القلوب وأسرها سهل جداً ..
ولا بأس أن تعبر عن محبتك للآخرين بكل صراحة .. سواء كانوا أباً أو أماً .. أو زوجة أو أبناء .. أو زملاء وجيران ..
لا تكتم مشاعرك نحوهم .. قل لمن تحبه : أنا أحبك .. أنت غالٍ إلى قلبي ..
حتى لو كان عاصياً قل له : إنك أحب إلي من أناس كثيييير ..
ولم تكذب فهو أحب إليك من ملايين اليهود .. أليس كذلك .. كن ذكياً ..
أذكر أني ذهبت مرة لأداء العمرة .. وكنت خلال طوافي وسعيي أدعو للمسلمين جميعاً .. بالحفظ والنصر والتمكين .. وربما قلت : اللهم اغفر لي واغفر لأحبابي وأصحابي ..
وبعد انتهائي من شعائرها .. حمدت الله على التيسير ..
ثم اكتريت فندقاً لأبيت فيه .. فلما وضعت رأسي على وسادتي كتبت رسالة عبر الهاتف الجوال أقول فيها :
"الآن أنهيت العمرة وتذكرت أحبابي وأنت منهم فلم أنسك من الدعاء الله يحفظك ويوفقك " ..
انتهت الرسالة ..
أرسلتها إلى الأسماء المخزنة في ذاكرة الهاتف .. كانت خمسمائة اسم ..
لم أكن أتصور التأثير العجيب لهذه الرسالة في قلوب الآخرين ..
منهم من أرسل إليّ : والله إني أبكي وأنا أقرأ رسالتك .. أشكرك أنك ذكرتني بدعائك ..
وآخر كتب : والله يا أبا عبد الرحمن ما أدري بم أرد عليك ! ولكن جزاك الله خيراً ..
والثالث كتب : أسأل الله أن يستجيب دعاءك .. ونحن والله لا ننساك ..
نحن في الحقيقة نحتاج بين الفينة والأخرى أن نُذَكّر الناس بأننا نحبهم .. وأن كثرة مشاغل الدنيا لم تنسنا إياهم ..
ولا بأس أن يكون ذلك بمثل هذه الرسائل ..
يمكن أن تكتب إلى أحبابك : دعوت لكم بين الأذان والإقامة .. أو في ساعة الجمعة الأخيرة ..
وإذا كانت نيتك صالحة فلن يكون في هذا إظهار للعمل أو رياء .. وإنما زيادة ألفة ومحبة بين المسلمين ..
أذكر أني ألقيت محاضرة في مخيم دعوي صيفي في مدينة الطايف .. في جبال الشفاء وهي متنزه يجتمع فيه أعداد كبيرة من الشباب ..
كان أكثر الحاضرين هم من الشباب الذين يظهر عليهم الخير والصلاح .. أما الشباب الآخرون فقد بقوا في أطراف المتنزهات ما بين لهو وطرب ..
انتهت المحاضرة ..
أقبل جمع من الشباب يسلمون ..
كان من بينهم شاب له قصة شعر غريبة ويلبس بنطال جينز ضيق .. أقبل يصافح ويشكر .. فسلمت عليه بحرارة .. وشكرته على حضوره وهززت يده وقلت : وجهك وجه داعية .. تبسم وانصرف ..
بعدها بأسبوعين تفاجأت باتصال يقول : هاه ما عرفتني .. يا شيخ أنا الذي قلت لي وجهك وجه داعية .. والله لأصبحن داعية إن شاء الله .. ثم صار يشرح لي مشاعره بعد تلك الكلمات ..
أرأيت كيف يتأثر الناس بصدق العبارة .. والمحبة ..!
أما رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. فقد كان ياسر قلوب الناس بروعة أخلاقه .. وقدرته على إظهار محبته الصادقة لهم ..
كان أبو بكر وعمر .. أجلّ الصحابة ..
وكانا يتنافسان في الخير دوماً ..
وكان أبو بكر يسبق غالباً .. فإن بكر عمر للصلاة وجد أبا بكر سبقه .. وإن أطعم مسكيناً وجد أبا بكر سبقه ..
وإن صلى ليلة .. وجد ابا بكر قبله ..
وفي يوم أمر النبي.. صلى الله عليه وسلم .. الناس بالصدقة لسد حاجة نازلة نزلت بالمسلمين ..
وافق ذلك الوقت أن عمر عنده سعة من المال ..
فقال : اليوم أسبق أبا بكر .. إن سبقته يوماً ..
ذهب عمر فجاء بنصف ماله .. فدفعه إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فما أول كلمة قالها .. صلى الله عليه وسلم .. لعمر لما رأى المال ؟
هل سأله عن مقدار المال ؟ أم سأله عن نوعه ذهب أم فضة ؟
لا .. بل لما رأى .. صلى الله عليه وسلم .. كثرة المال .. تكلم بكلمات يستنتج منها عمر أنه محبوب عند رسول الله. صلى الله عليه وسلم .. .
قال لعمر : ( ما أبقيت لأهلك يا عمر ؟ ) ..
قال عمر : يا رسول الله .. أبقيت لهم مثله " ..
ويجلس عمر عند رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. منتشياً .. ينتظر أبا بكر ..
فيأتي أبو بكر بمالٍ كثير فيدفعه إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. وعمر واقف مكانه .. يرى العطاء ويسمع الحوار ..
فإذا بالنبي .. صلى الله عليه وسلم .. قبل أن يلتفت إلى ما يحتاجه من مال .. يسأل أبا بكر : ( يا أبا بكر .. ما أبقيت لأهلك ؟ ) ..
نعم فهو يحب أبا بكر .. ويحب أهله .. ولا يرضى بالضرر عليه ..
قال أبو بكر : يا رسول الله .. أبقيت لهم الله ورسوله .. أما المال فقد أتيت به جميعاً ..
لم يأت بنصفه .. ولا بربعه .. وإنما أتى به كله ..
فما كان من عمر t إلا أن قال :" لا جرَم .. لا سابقت أبا بكر أبداً " ..
كان الناس يشعرون أنه .. صلى الله عليه وسلم .. يحبهم..فكانوا يهيمون به حباً ..صلى بهم.. صلى الله عليه وسلم ..
إحدى الصلوات .. فكأنه عجل بصلاته قليلاً حتى بدت أقصر من مثيلاتها ..
فلما انقضت الصلاة .. رأى .. صلى الله عليه وسلم .. تعجب أصحابه ..
فقال لهم : لعلكم عجبتم من تخفيفي للصلاة ؟
قالوا : نعم ! ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : إني سمعت بكاء صبي فرحمت أمه ..!!
أرأيت كيف يحب الآخرين .. ويظهر لهم هذه المحبة من خلال تعامله ..
لست وحدك ..
أظهر عواطفك .. كن صريحاً : أنا أحبك .. فرحت بلقياك .. أنت غال إلى قلبي ..
26. اِحفظ الأسماء ..
وهذا من الاهتمام بالناس ..
ما أجمل أن تقابل شخصاً ما في موقف عارض .. كلقاء عند بنك .. أو في طائرة .. أو في وليمة عامة ..
فتتعرف على اسمه .. ثم تراه في موقف آخر .. فتقبل عليه قائلاً : مرحباً يا فلان ..
لا شك أن ذلك يطبع في قلبه لك محبة وتقديراً ..
حفظك لاسم الشخص الذي أمامك يشعره باهتمامك به ..
فرق بين المدرس الذي يحفظ أسماء طلابه .. والذي لا يحفظ ..
قولك للطالب : قم يا فلان .. أحسن من : قم يا طالب ..
حتى في الرد على الهاتف .. أيهما أحب إليك .. أن يجيبك من تتصل به بقوله : نعم ..أو ألو ..
أو يقول محتفياً : مرحباً يا خالد .. هلا أبو عبد الله ..
بلا شك ان استماعك لاسمك له في القلب رنة قبل الأذن ..
جرت العادة بعد المحاضرات العامة أن يزدحم علي بعض الشباب يصافحون ويشكرون ..
كنت أحرص على ترديد كلمة : الاسم الكريم ؟ حياك الله من الأخ ؟ .. أقولها لكل واحد أسلم عليه لأبدي له اهتمامي به .. فكان كل واحد يجيبني مستبشراً : أخوك زياد .. ابنك ياسر ..
وأذكر يوماً أنه بعدما سلم عدد كبير منهم ومضوا .. عاد أحدهم ليسأل .. فأول ما أقبل عليَّ قلت له : حياك الله يا خالد .. فابتهج وقال : ما شاء الله !! تعرف اسمي !!
الناس عموماً يحبون مناداتهم بأسمائهم ..
من المعروف أن الموظف العسكري يعلق لوحة صغيرة على صدره فيها اسمه ..
فأذكر أني ألقيت محاضرة في إحدى المناطق العسكرية .. فازدحم أكثرهم مسلماً بعد المحاضرة ..
كان أحدهم يقترب ويبتعد .. وكأنه يريد السلام لكنه يخجل من مزاحمة الآخرين ..
التفت إليه ولمحت لوحة اسمه .. فمددت يدي إليه وقلت : مرحباً فلان !! فتغير وجهه وتعجب .. ومد يده مصافحاً وهو يتبسم ويقول : هاه !! كيف عرفت اسمي ؟
فقلت : يا أخي الذين نحبهم .. لازم نعرف أسماءهم ..
فكان لهذا تأثير كبير عليه ..
كثير من الناس يقتنع بهذا ويتمنى لو استطاع حفظ أسماء الآخرين ..
أما أسباب عدم حفظ الأسماء .. فهي كثيرة ..
منها .. عدم الاهتمام بالأشخاص أثناء مقابلتهم ..
ومنها .. التشاغل وقت التعارف وعدم التركيز أثناء استماع الاسم ..
ومنها .. موقفك تجاه الشخص المقابل ..
كاعتقادك بأنك لن تقابله مرة أخرى .. فتقول في نفسك : لا داعي لحفظ الاسم ..
أو كان إنساناً بسيطاً لا يستثير اهتمامك ..
أو عندما لا تسمع الاسم جيداً وتشعر بحرج من طلب إعادة اسمه ..
فهذه أسباب تجعل الناس لا يحفظون الأسماء ..
أما العلاج لحفظ الأسماء .. فله طرق .. منها :
الاقتناع بأهمية تذكر الاسم واستشعارك أنك بسماعك له ستسأل عنه بعد دقائق ..
ومنها .. التركيز على وجه الشخص أثناء الاستماع إلى اسمه ..
حاول أن تلاحظ الشخص المقابل وطبيعة حديثه وابتسامته لينطبع في ذاكرتك ..
أثناء حديثك معه ناده باسمه مراراً .. صحيح يا فلان ..؟ سمعت يا فلان ..؟ أنت معي يا فلان ..؟ وكرره أكثر من مرة ..
باختصار ..
أشعرني باهتمامك بي .. بحفظك اسمي .. ونادني به .. لأحبك ..
27. كن لماحاً
قسم كبير من الأشياء التي نمارسها في الحياة .. نفعلها لأجل الناس لا لأجل أنفسنا ..
عندما تُدعى لوليمة عرس .. فتلبس أحسن ثيابك .. إنما تفعل ذلك لأجل لفت انتباه الناس وجذب إعجابهم .. لا لأجل لفت انتباه نفسك ..
وتفرح إذا لاحظت أنهم أُعجبوا بجمال هيئتك .. أو رونق ثيابك ..
وعندما تؤثث مجلس ضيوفك .. وتتكلف في تزويقه والعناية به .. إنما تفعل ذلك أيضاً لأجل نظر الناس .. لا لأجل نظر نفسك .. بدليل أنك تعتني بغرفة استقبال الضيوف أكثر من عنايتك بالصالة الداخلية .. أو بحمام أطفالك !!
عندما تدعو أصحابك إلى طعام .. ألا ترى أن زوجتك – وربما أنت - تعتني بترتيب الطعام وتنويعه أكثر من العادة .. بلى .. وكلما زادت أهمية هؤلاء الأصحاب .. زادت العناية بالطعام ..
وكم تكون سعادتنا غامرة عندما يثني أحد على لباسنا أو ديكورات بيوتنا .. أو لذة طعامنا ..
وقد قال e : " وليأت إلى الناس الذي يحب أن يأتوا إليه " أي عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به ..
كيف ..؟!
رأيت على صاحبك ثوباً جميلاً .. انتبه له .. أثن عليه .. أسمعه كلمات رنانة .. ما شاء الله !! ما هذا الجمال !! اليوم كأنك عريس !!
زارك يوماً فشممت من ثيابه عطراً فواحاً جميلاً .. أثن عليه .. تفاعل معه .. كن لماحاً .. فهو ما وضع الطيب إلا لأجلك ..
ردد عبارات جميلة :.. ما هذه الروائح .. ما أحسن ذوقك ..
دعاك شخص لطعام .. أثن على طعامه .. فإنك تعلم أن أمه أو زوجته أو أخته وقفت ساعات في المطبخ لأجلك .. أو لأجل المدعويين عموماً .. وأنت منهم ..
أو أنه على الأقل تعب في إحضاره من المطعم ومحل الحلويات .. و .. فأسمعه كلمات تجعله يشعر أنك ممتن له بما قدم لك .. وأن تعبه لم يذهب سُدَى ..
دخلت بيت أحد أصدقائك – أو دخلتي بيت إحدى صديقاتك – فرأيت أثاثاً جميلاً .. فأثن على الأثاث .. والذوق الرفيع .. ( لكن انتبه لا تبالغ حتى لا يشعر أنه استهزاء ) ..
حضرت في مجلس عام .. فسمعت حمد يتكلم مع الحاضرين بانطلاق .. وقد أحيا المجلس .. وأسعد الحاضرين .. أثن عليه .. خذ بيده إذا قمتم .. قل له : ما شاء الله ..!! ما هذه القدرات !! بصراحة ما ملَّح المجلس إلا حضورك ..
جرب افعل ذلك .. فسوف يحبك ..
رأيت موقفاً جميلاً لولد مع أبيه .. قبَّل يدَه .. قرَّبَ إليه نعليه .. أثن على الولد .. كن لماحاً ..
لبس ثوباً جديداً .. أثن عليه .. كن لماحاً ..
زرت أختك .. رأيت عنايتها بأولادها .. كن لماحاً .. أثن عليها ..
رأيت عناية صاحبك بأولاده .. أو روعة ترحيبه بضيوفه .. كن جريئاً .. لماحاً .. أثن عليه .. أخرج ما في صدرك من الإعجاب به ..
ركبت مع شخص في سيارته .. أو استأجرت تاكسي .. لاحظت نظافة سيارته .. حُسنَ قيادته .. كن لماحاً .. أثن عليه ..
قد تقول : هذه أمور عادية .. صحيح لكنها مؤثرة ..
لقد جربت ذلك بنفسي .. ومارست هذه المهارة مع أعداد من الناس .. كباراً وصغاراً .. وعمالاً بسطاء .. ومدرسين .. بل مارستها مع أشخاص يشغلون مناصب عليا .. ورأيت من تأثرهم أعاجيب ..
خاصة في الأشياء التي ينتظرها الناس منك .. كيف ؟
عريس .. رأيته بعد زواجه بأسبوع ..
رجل حصل على شهادة عليا ..
شخص سكن بيتاً جديداً ..
كلهم بلا شك ينتظرون منك كلمات .. كن كما يتوقعون ..
كان عبد المجيد - ابن عمي - شاباً في المرحلة الثانوية .. بعد تخرجه طلب مني الذهاب معه للجامعة لتسجيله فيها .. اتصلت به ذات صباح ومررت على بيته بسيارتي ليرافقني للجامعة ..
كانت المشاعر تتزاحم في قلبه .. فهو ينتقل إلى مرحلة جديدة .. ويفكر في الكلية التي ستقبله ..
أول ما ركب سيارتي شممت رائحة عطره .. كانت رائحة نفاثة جداً .. ويبدو أنه قد أفرغ العلبة كلها ذلك اليوم على ملابسه ..
بصراحة خنقني بالرائحة .. فتحت النوافذ لأتنفس .. شعرت أن المسكين تكلف في تزويق ثيابه .. وتطييبها ..
ثم التفتُّ إليه وابتسمت وقلت :
ماااا شاااااء الله !!.. إيش هالروائح الحلوة !! أخاف عميد الكلية أول ما يشم هالرائحة الحلوة يصرخ بأعلى صوته يقول : مقبوووووول ..
لا تتصور مدى السرور الذي غطى على قلبه .. والبشر الذي طفح على وجهه ..
التفت إليَّ .. وقال بحماس : أشكرك يا أبا عبد الرحمن .. أشكرك .. والله إنه عطر غااال .. وأضعه دائماً والناس ما يلاحظونه .. ثم بدأ يشمه من طرف غترته ويقول : بالله عليك : ذوقي حلو ..؟!
آآآه .. مر على هذا الموقف أكثر من عشر سنوات .. فقد تخرج عبد المجيد من الجامعة وتعين في وظيفة منذ سنوات .. إلا أن ذلك الموقف لا يزال عالقاً في أذنه .. ربما ذكرني به مازحاً في بعض اللقاءات ..
نعم .. كن لماحاً .. التحكم بعواطف الناس وكسب محبتهم سهل جداً .. لكننا في أحيان كثيرة نغفل عن ممارسة مهارات عادية نكسبهم بها ..
ولا تعجب إن قلت إن صاحب الخلق العظيم.. صلى الله عليه وسلم ..
كان يمارس هذه المهارات .. وأحسن منها ..
في أول سنين الإسلام .. لما ضيق على المسلمين في دينهم بمكة .. هاجروا إلى المدينة ..
تركوا ديارهم وأموالهم ..
قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة مهاجراً .. وكان في مكة تاجراً ممكناً .. لكنه جاء المدينة فقيراً معدماً ..
كحل سريع للمشكلة .. آخى النبي .. صلى الله عليه وسلم .. بين المهاجرين والأنصار ..
آخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري ..
كانت نفوسهم سليمة .. وقلوبهم صافية ..
فقال سعد لعبد الرحمن : أي أُخيَّ .. أنا أكثر أهل المدينة مالاً ..
فأقسم مالي نصفين .. فخذ نصفه وأبق لي نصفه ..
ثم خشي سعد أن عبد الرحمن يريد أن يتزوج .. ولا يجد زوجة ..
فعرض عليه أن يزوجه ..
فقال عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك ومالك .. دُلّني على السوق ..!!
صحيح .. عبد الرحمن ترك ماله في مكة واستولى عليه الكفار ..
لكنه كان ذا عقل راجح .. وخبرة تجارية واسعة ..
دله سعد على السوق .. فذهب فاشترى وباع فربح ..
يعني اشترى بضاعة بالآجل ثم باعها حالة .. فصار عنده رأس مال تاجر فيه ..
وكان يتقن فن البيع والشراء والمماكسة .. حتى جمع مالاً فتزوج ..
ثم جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام .. وعليه ودْعُ زعفران .. أي أثر طيب نساء ..!!
ليس غريباً فهو ( عريس ) ..
النبي.. صلى الله عليه وسلم .. طبيب النفوس .. كان لماحاً .. يترقب الفرص لاصطياد القلوب .. أول ما رآه .. انتبه لهذا التغير .. وجعل ينظر إلى أثر الطيب ويقول لعبد الرحمن : " مهيم ؟ " .. أي ما الخبر ؟
ابتهج عبد الرحمن .. وقال : يا رسول الله .. تزوجت امرأة من الأنصار ..
عجب النبي.. صلى الله عليه وسلم .. .. كيف استطاع أن يتزوج وهو حديث عهد بهجرة ..!!
فقال : " فما أصدقتها ؟"
فقال : وزن نواة من ذهب ..
فأراد r أن يزيد من فرحته .. فقال " أولِمْ ولو بشاة " ..
ثم دعا له النبي.. صلى الله عليه وسلم .. .. بالبركة في ماله وتجارته ..
فحلت البركة عليه ..
قال عبد الرحمن وهو يصف كسبه وتجارته : فلقد رأيتني ولو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب ذهباً وفضة ..
وكان .. صلى الله عليه وسلم .. لماحاً حتى مع الضعفاء والمساكين ..
يشعرهم بقيمتهم .. يجعلهم يحسون أنه منتبه لهم .. وأنهم مهمون عنده .. وأنه يقدر لهم أعمالهم التي يقومون بها مهما كانت متواضعة ..
فإذا افتقدهم .. ذَكَرهم بالخير .. وتلمّح أعمالهم .. فتشجع الآخرون أن يفعلوا كفعلهم ..
كان في المدينة امرأة سوداء .. مؤمنة صالحة .. كانت تكنس المسجد ..
كان .. صلى الله عليه وسلم .. يراها أحياناً .. فيعجب بحرصها ..
مرت أيام .. ففقدها رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. فسأل عنها ؟
فقالوا : ماتت يا رسول الله ..
فقال : أفلا كنتم آذنتموني ..
فصغّروا أمرها .. وأنها مسكينة مغمورة لا تستحق أن يخبر عنها رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. وقالوا أيضاً : ماتت بليل .. فكرهنا أن نوقظك ..
فحرص .. صلى الله عليه وسلم .. على أن يصلي عليها .. فعملها وإن رآه الناس صغيراً فهو عند الله كبير .. ولكن كيف يصلي عليها وقد ماتت ودفنت ؟!
قال.. صلى الله عليه وسلم .. : دلوني على قبرها ..
فمشوا معه حتى أوقفوه على قبرها .. دلوه فصلى عليها ..
ثم قال.. صلى الله عليه وسلم .. : إن هذه القبور .. مملوءة ظلمة على أهلها .. وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم ..
فبالله عليك .. ما هو شعور من رأوه .. صلى الله عليه وسلم .. ينتبه إلى هذا العمل الصغير من امرأة ضعيفة .. كيف سيكون حماسهم للقيام بمثل فعلها وأعظم ..
دعني أهمس في أذنك :
نحن في مجتمع لا يقدر أحياناً مثل هذه المهارات .. فانتبه !! لا يطفئْ حماسَك فريق من الثقلاء الغلاظ الذين مهما لمحت ما عندهم من لطائف .. وأثنيت عليهم بالكلمات الرقيقة الرنانة .. لم يتأثروا .. أو ردوا على تلطفك بكلمات سامجة ممجوجة .. لا طعم لها .. بل ولا لون ولا رائحة !!
ومن لطائف هؤلاء ..
أن شاباً – أعرفه – دُعي إلى وليمة كبيرة .. فيها أشخاص مهمون .. مر على السوق في طريقه .. ودخل محل عطور وأظهر أنه سيشتري فجعل الموظف يحتفي به .. ويرش عليه من أنواع العطور ما غلا ثمنه وزكا ريحه .. ليختار من بينها ما يناسبه ..
فلما امتلأت ثياب صاحبنا طيباً .. قال للبائع بلطف : أشكرك .. وإن أعجبني شيء منها فقد أعود إليك ..
ذهب سريعاً إلى الوليمة متداركاً رائحة العطر قبل أن تزول ..
جلس على العشاء بجانب صديقه خالد .. لم يلاحظ خالد الرائحة .. ولم يعلق بكلمة ..
فقال له صاحبنا باستغراب : ما تشم رائحة عطر جميلة ؟!
قال خالد : لا ..
فقال صحبنا : أكيد أنفك مسدود ..!!
فأجاب خالد فوراً : .. لو كان أنفي مسدوداً .. ما شممت رائحة عرقك ..!!
اعتراف ..
مهما بلغ الشخص من النجاح .. إلا أنه يبقى بشراً يطرب للثناء ..
28. انتبه : كن لمّـّاحاًًًً للجمال فقط ..
بعض الناس يتحمس كثيراً لأنْ يكون لماحاً .. فلا يكاد يسكت عن الملاحظة والثناء ..
لكنهم قالوا قديماً : الشيء إذا زاد عن حده .. انقلب إلى ضده ..
ومن تعجل الشيء قبل أوانه .. عوقب بحرمانه ..
فكن لماحاً للأشياء الجميلة الرائعة .. التي يفرح الشخص برؤية الناس لها .. وينتظر ثناءهم عليها .. ويطرب لسماع ألفاظ الإعجاب بها ..
أما الأشياء التي يستحي من رؤيتها .. أو يخجل من ملاحظتها فحاول أن تتعامى عنها ..
مثلاً :
دخلت بيت صاحبك فرأيت الكراسي قديمة ..
فانتبه من أن تكون من الثقلاء الذي لا يكفون عن تقديم اقتراحات لم تطلب منهم ..
انتبه من أن يفرط لسانك بقول : لماذا ما تغير الكراسي ؟!
الثريات نصفها ما يشتغل ..!!
لماذا لا تشتري ثريات جديدة !!
دهان الجدار قديييييم .. لماذا ما تدهنه بألوان جديدة !!
يا أخي هو لم يطلب منك اقتراحات .. ولست مهندس ديكور اتفق معك على أن يستفيد من آرائك .. ابق ساكتاً ..
لعله لا يستطيع تغييرها ..
لعله يمر بضائقة مالية ..
لعله ..
ليس أثقل على الناس ممن يحرجهم بالنظر إلى ما يستحون منه .. ثم يثيره ويبدأ في التعليق عليه ..
ومثل ذلك .. لو كان ثوبه قديماً .. أو مكيف سيارته متعطل .. قل خيراً أو اصمت ..
ذكروا أن رجلاً زار صاحباً له فوضع له خبزاً وزيتاً ..
فقال الضيف : لو كان مع هذا الخبز زعتر !!
فدخل صاحب الدار وطلب من أهله زعتراً للضيف فلم يجد ..
فخرج ليشتري ولم يكن معه مال ..! فأبى صاحب الدكان أن يبيعه بالآجل .. فرجع وأخذ وأخذ مطهرته ( وهي الإناء الذي يضع فيه الماء ليتوضأ منه ) فخرج بها ودفعها إلى صاحب الدكان – رهناً – حتى إذا لم يسدد له قيمة الزعتر يبيع صاحب الدكان المطهرة ويستوفي الثمن لنفسه ..
ثم أخذ الزعتر ورجع به إلى ضيفه .. فأكل ..
فلما انتهى الضيف من الطعام قال : الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا .. وقنعنا بما آتانا ..
فتأوَّه صاحب الدار تأوُّه الحزين وقال : لو قنّعَك الله بما آتاك .. لما كانت مطهرتي مرهونة !!
وكذلك لو زرت مريضاً فلا تردد عليه :
أووووه .. وجهك أصفر .. عيناك زائغتان .. جلدك يابس ..
عجباً !! هل أنت طبيبه ؟ قل خيراً أو اصمت ..
ذكروا أن رجلاً زار مريضاً .. فجلس عنده قليلاً .. ثم سأله عن علته .. فأخبره المريض بها .. وكانت علة خطيرة ..
فصرخ الزائر :
آآآآ .. هذه العلة أصابت فلاناً صاحبي فمات منها .. وأصابت فلاناً صديق أخي ولا يزال مقعداً منها أشهراً ثم مات .. وأصابت فلاناً جار زوج أختي ومات ..
والمريض يستمع إليه ويكاد أن ينفجر ..
فلما أنهى الزائر كلامه وأراد الخروج التفت إلى المريض وقال : هاه .. توصيني بشيء ؟
قال المريض : نعم .. إذا خرجت فلا ترجع إلي َّ .. وإذا زرت مريضاً فلا تذكر عنده الموتى ..
وذكروا كذلك أن امرأة عجوزاً مرضت عجوز صديقة لها ..
فجعلت هذه العجوز تلتمس من أبنائها واحداً وَاحداً أن يذهبوا بها لتلك المريضة لزيارتها وهم يتعللون ويعتذرون ..
حتى رضي أحد أبنائها على مضض .. وذهب بها بسيارته ..
فلما وصل بيت العجوز المريضة نزلت أمه وجعل ينتظرها في سيارته ..
دخلت الأم على المريضة فإذا هي قد تمكّن منها المرض .. فسلمت عليها ودعت لها ..
فلما مشت خارجة مرت ببنات المريضة وهن يبكين في صالة البيت ..
فقالت بكل براءة : أنا لا يتيسر لي المجيء أليكن كلما أردت .. وأمكم مريضة ويبدو لي أنها ستموت .. فأحسن الله عزاءكم من الآن ..!!
فانتبه يا لبيب .. كن لماحاً لما يفرح ويسر .. لا لما يحزن ..
مشكلة :
إذا اضطررت للمح سيء .. كوسخ ثوبه .. أو رائحة سيئة .. فأحسن التنبيه .. كن لطيفاً ذكياً ..
29. لا تتدخل فيما لا يعنيك ..
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ..
ما أجمل هذه العبارة وأنت تسمعها من الفم الزكي الطاهر .. فم رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. ..
صحيح .. تركه ما لا يعنيه ..
كم هم ثقلاء أولئك الذين يزعجونك بالتدخل فيما لا يعنيهم ..
يشغلك إذا رأى ساعتك .. بكم اشتريتها ..
فتقول : جاءتني هديه ..
فيقول : هدية !! ممن ؟
فتجيب : من أحد الأصدقاء ..
فيقول : صديقك في الجامعة .. أم في الحارة .. أم أين ؟!
فتقول : والله .. آآآ .. صديقي في الجامعة ..
فيقول : طيب .. ما المناسبة ؟!
فتقول : يعني .. مناسبة أيام الجامعة ..
فيقول : مناسبة إيش ؟!! نجاح .. أم كنتم في رحلة .. أو يمكن .. أأ ..
ويستمر في استجوابه لك على قضية تافهة ..!!
بالله عليك ألا تحدثك نفسك أن تصرخ به : لااااا تتدخل فيما لا يعنيك ..
وقد يزداد الأمر سوءاً لو أحرجك بالسؤال في مجلس عام فسبب لك إحراجاً ..
أذكر أني كنت في مجلس مع عدد من الزملاء .. بعد المغرب ..
رن هاتف أحدهم .. كان جالساً بجانبي ..
أجاب : نعم ؟
زوجته : ألو .. وينك يا حمار ؟!
كان صوتها عالياً لدرجة أني سمعت حوارهما ..
قال : بخير .. الله يسلمك ( !!! ) ..
( يبدو أنه كان قد وعدها أن يذهب بها بعد المغرب لبيت أهلها وانشغل بنا ) ..
غضبت الزوجة : الله لا يسلمك .. أنت مبسوط أنك مع أصحابك وأنا أنتظر .. والله انك ثور ( !! ) ..
قال : الله يرضى عليك .. أمرُّك بعد العشاء ..
لاحظتُ أن كلامه لا يتوافق مع كلامها .. فأدركت أنه يفعل ذلك لكيلا يحرج نفسه ..
انتهت مكالمته .. جعلت ألتفت إلى الحاضرين وأتخيل أن واحداً منهم سأله :
من كلمك ؟ وماذا يريد منك ؟ ولماذا تغير وجهك بعد المكالمة ..؟!!
لكن الله رحِمَه لأن أحداً لم يتدخل فيما لا يعنيه ..
ومثله لو زرت مريضاً .. فسألته عن مرضه .. فأجابك بكلمات عامة : الحمد لله .. شيء بسيط .. مرض صغير وانتهى .. أو نحرها من العبارات التي لا تحمل جواباً صريحاً .. فلا تحرجه بالتدقيق عليه : عفواً .. يعني ما هو المرض بالضبط ؟ وضح أكثر ..!! ماذا تعني ..!! ونحو ذلك ..
عجباً !! ما الداعي لإحراجه ..؟ من حسن إسلام المرء تركه ما يعنيه .. يعني .. تنتظر أن يقول لك : أنا مريض بالبواسير .. أو مصاب بجرح في .. أو ..
ما دام أنه أجاب إجابة عامة فلا داعي للتطويل معه ..
ولا أعني بهذا عدم سؤال المريض عن مرضه ؟ إنما أعني عدم التدقيق في الأسئلة ..
ومثله .. الذي ينادي طالباً أمام الناس في مجلس عام .. ويسأله بصوت عالٍ :
هاه يا أحمد .. نجحت ..
فيقول : نعم ..
فيسأله : كم نسبتك ؟ كم ترتيبك في الفصل ؟
إن كنت صادقاً في اهتمامك به فاسأله على انفراد بينك وبينه ..
ثم لا داعي للتدقيق .. كم نسبتك .. لماذا لم تذاكر .. لماذا لم تقبل في الجامعة .. إن كنت مستعداً لإعانته فقف معه جانباً وحدثه بما تريد .. أما نشر غسيله أمام الناس .. فلا ..
قال .. صلى الله عليه وسلم .. : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ..
لكن انتبه !! لا تعط الموضوع أكبر من حجمه ..
سافرت إلى المدينة النبوية قبل مدة .. كنت مشغولاً بعدد من المحاضرات ..
فاتفقت مع شاب فاضل أن يأخذ ولدي عبد الرحمن وأخاه بعد العصر إلى حلقة تحفيظ أو مركز صيفي ترفيهي .. ويعيدهم بعد العشاء ..
كان عبد الرحمن في العاشرة من عمره .. خشيت أن يسأله ذلك الشاب من باب الفضول أسئلة لا داعي لها .. ما اسم أمك ؟ أين بيتكم ؟ كم عدد إخوانك ؟ كم يعطيك أبوك من المال ؟
فنبهت عبد الرحمن قائلاً : إذا سألك سؤالاً غير مناسب .. فقل له : قال .. صلى الله عليه وسلم .. : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .. وكررت عليه الحديث حتى حفظه ..
ركب عبد الرحمن وأخوه .. مع الشاب .. كان عبد الرحمن مشدوداً متهيباً ..
قال الشباب متلطفاً : حياك الله يا عبد الرحمن ..
فأجابه بحزم : الله يحييك ..
أراد الشاب المسكين أن يلطّف الجو .. فقال : الشيخ عنده محاضرة اليوم ؟!
حاول الولد أن يتذكر الحديث فلم تسعفه ذاكرته .. فصرخ قائلاً : لا تتدخل فيما لا يعنيك !!
قال الشاب : لا .. أقصد .. بل حتى أحضر وأستفيد ..
فظن عبد الرحمن أنه يتذاكى عليه : فأعاد الجواب : لا تتدخل فيما لا يعنيك ..
قال الشاب : عفواً عبد الرحمن أعني ..
فصرخ عبد الرحمن : لااااا تتدخل فيما لا يعنيك !!
ولم يزل هذا حالهما حتى رجعا !!
أخبرني عبد الرحمن بالقصة مفتخراً .. فضحكت وفهمته الأمر مرة أخرى ..
ورشة عمل ..
مجاهدة النفس على التحرر من التدخل في شئون الآخرين .. متعبة في البداية .. لكنها مريحة في النهاية ..
. كيف تتعامل مع "الملاقيف " ( ) ؟
أحياناً يتناول بعض الناس هاتفك الجوال - بدون استئذان - ويقرأ الرسائل التي فيه ..
كان صاحبي في دعوة عامة .. وليمة عشاء عند أحد القضاة .. كل من في المجلس مشايخ فضلاء ..
جلس صاحبي بينهم .. يتجاذب أطراف الحديث معهم ..
ضايقه وجود هاتفه الجوال في جيبه فأخرجه ووضعه على الطاولة التي بجانبه ..
كان الشيخ الذي بجانبه متفاعلاً في الحديث معه ..
من باب العادة أخذ الشيخ الهاتف الجوال .. رفع إليه .. فلما نظر إلى الشاشة تغير وجهه .. وأرجعه مكانه ..
كتم صاحبي ضحكة مدوية ..
لما خرج ركبت معه في سيارته .. وقد وضع هاتفه الجوال بجانبه .. فرفعته إليَّ - كما فعل الشيخ – فلما نظرت إلى الشاشة ضحكت .. بل غرقت في الضحك ..
تدري لماذا ؟
جرت عادة بعضهم أن يكتب عبارات على شاشة الهاتف .. يكتب اسمه .. أو "اذكر الله" .. أو غيرها ..
أما صاحبي فقد كتب : " أرجع الجهاز يا ملقوف " ..
كثير من الناس من هذا النوع يتدخلون في أمور الآخرين الشخصية ..
فمن الطبيعي أن يركب معك في سيارتك ثم يفتح الدرج الذي أمامه .. وينظر ما بداخله ..!!
وامرأة تفتح حقيبة امرأة أخرى لتأخذ أحمر الشفاه أو ظل العينين ..
وقد يتصل بك فيسألك أين أنت فتقول " طالع مشوار " فيقول : أين ..؟ من معك ؟
مجموعة من الناس نخالطهم يعاملوننا بمثل هذا الأسلوب ..
فكيف نتعامل معهم ؟
أهم شيء أن لا تفقده .. حاول أن تتجنب المصادمة معه ..
حاول أن لا ( يزعل ) منك أحد ..
كن ذكياً في الخروج من الموقف .. دون أن يحدث بينك وبينه مشكلة ..
لا تتساهل بكسب الأعداء أو فقدان الأصدقاء .. مهما كانت الأسباب ..
ومن أحسن الأساليب للتعامل مع الطفيليين .. هو إجابة السؤال بسؤال .. أو الانتقال إلى موضوع آخر تماماً لينسى سؤاله الأول ..
فلو سألك مثلاً : كم مرتبك الشهري ؟
قل له بلطف وتبسم : لماذا هل وجدت لي وظيفة مغرية ..
سيقول : لا .. لكن أريد أن أعرف ..
قل : المرتبات هذه الأيام مشاكل .. ويبدو أن ذلك بسبب ارتفاع أسعار البترول !!
سيقول : ما دخل البترول ..
فقل : البترول هو الذي يتحكم فغي الأسعار .. ألا تلاحظ أن الحروب تقوم لأجله ..
سيقول : لا .. ليس صحيحاً ..
فالحروب لها أسباب أخرى .. والهالمم اليوم مليء بالحروب .. و ..
وينسى سؤاله الأول ..
( هاه .. ما رأيك ألم تخرج من الموقف بذكاء ؟ ) ..
وكذلك لو سألك عن وظيفتك ..
أو أين ستسافر ..
اسأله : لماذا .. هل ستسافر معي ..
سيقول : لا أدري!! أول شيء أخبرني ..
قل : لكن إن سافرت معي .. فالتذاكر عليك ..
عندها سيدخل في موضوع التذاكر وينسى الموضوع الأصلي ..
وهكذا .. نستطيع الخروج من مثل هذه المواقف من غير وقوع مشاكل بيننا وبين ألآخرين ..
وقفة ..
إذا ابتليت بمتدخل فيما لا يعنيه .. فكن خيراً منه .. أحسن الخروج من الموقف من غير أن تجرحه ..
31. لا تنتقد !!
ركب سيارة صاحبه .. فكانت أول كلمة قالها : ياااه !! ما أقدم سيارتك !!
ولما دخل بيته .. رأى الأثاث فقال : أووووه .. ما غيرت أثاثك ؟!
ولما رأى أولاده .. قال : ما شاء الله .. حلوين .. لكن لماذا ما تلبسهم ملابس أحسن من هذه !!
ولما قدّمت له زوجته طعامه .. وقد وقفت المسكينة في المطبخ ساعات .. رأى أنواعه فقال : ياااا الله .. لماذا ما طبختي رزّ ؟ أوووه .. الملح قليل ! لم أكن أشتهي هذا النوع !!
دخل محلاً لبيع الفاكهة .. فإذا المحل مليء بأصناف الفواكه ..
فقال : عندك مانجو ؟
قال صاحب المحل : لا .. هذه في الصيف فقط ..
فقال : عندك بطيخ ؟ قال : لا ..
فتغير وجهه وقال : ما عندك شيء .. ليش فاتح المحل ! وخرج ..
ونسي أن في المحل أكثر من أربعين نوعاً من الفواكه ..
نعم ..
بعض الناس يزعجك بكثرة انتقاده .. ولا يكاد أن يعجبه شيء ..
فلا يرى في الطعام اللذيذ إلا الشعرة التي سقطت فيه سهواً ..
ولا في الثوب النظيف إلا نقطة الحبر التي سالت عليه خطئاً ..
ولا في الكتاب المفيد إلا خطئاً مطبعياً وقع سهواً ..
فلا يكاد يسلم أحد من انتقاده .. دائم الملاحظات .. يدقق على الكبيرة والصغيرة ..
أعرف أحد الناس .. زاملته طويلاً في أيام الثانوية والجامعة .. ولا تزال علاقتنا مستمرة .. إلا أني لا ذكر أنه أثنى على شيء ..
أسأله عن كتاب ألفته وقد أثنى عليه أناس كثيراً وطبع منه مئات الآلاف فيقول ببرود : والله جيد .. ولكن فيه قصة غير مناسبة .. وحجم الخط ما أعجبني .. ونوعية الطباعة أيضاً سيئة .. و ..
وأسأله يوماً عن أداء فلان في خطبته .. فلا يكاد يذكر جانباً مشرقاً ..
حتى صار أثقل علي من الجبل .. وصرت لا أسأله أبداً عن رأيه في شيء لأني أعرفه سلفاً ..
قل مثل ذلك فيمن يفترض المثالية في جميع الناس ..
فيريد من زوجته أن يكون بيتها نظيفاً 24ساعة 100% ..
ويريدها أيضاً أن يبقى أطفالها نظيفين متزينين على مدى اليوم ..
وإن زاره ضيوف افترض أن تطبخ أحسن الطعام ..
وإن جالسها افترض أن تحدثه بأجمل الأحاديث ..
وكذلك هو مع أولاده .. يريدهم 100% في كل شيء ..
ومع زملائه .. ومع كل من يخالطه في الشارع والسوق .. و ..
وإن قصّر أحد من هؤلاء أكله بلسانه وأكثر عليه الانتقاد وكرر الملاحظات .. حتى يمل الناس منه .. لأنه لا يرى في الصفحة البيضاء إلا الأسودَ ..
من كان هذا حاله عذب نفسه في الحقيقة .. وكرهه أقرب الناس إليه واستثقلوا مجالسته ..
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذا
ظمئت , وأي الناس تصفو مشاربه؟!
إذا كـنت فـي كل الأمور معاتباً
رفـيقك لن تلـق الـذي ستعاتبه
قالت أمنا عائشة t وهي تصف حال تعامله .. صلى الله عليه وسلم .. معهم :
ما عاب رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. طعاماً قط .. إن اشتهاه أكله وإلا تركه .. ( ) .. نعم ما كان يصنع مشكلة من كل شيء ..
وقال أنس t : والله لقد خدمت رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. تسع سنين .. ما علمته قال لشيء صنعته : لم فعلت كذا وكذا ؟ ولا عاب عليّ شيئاً قط .. ووالله ما قال لي أفَّ قط ..
هكذا كان .. وهكذا ينبغي أن نكون ..
وأنا بذلك لا أدعو إلى ترك النصيحة أو السكوت عن الأخطاء .. ولكن لا تكن مدققاً في كل شيء .. خاصة في الأمور الدنيوية .. تعود أن تمشّي الأمور ..
لو طرق بابك ضيف فرحبت به وأدخلته غرفة الضيوف فلما أحضرت الشاي تناول الفنجان .. فلما نظر إلى الشاي بداخله قال : لـمَ لم تملأ الفنجان ؟ فقلت : أزيدك ؟ قال : لا .. لا .. يكفي ..
فطلب ماء فأحضرت له كأس ماء فشكرك وشربه .. فلما انتهى قال : ماؤكم حار ..
ثم التفت إلى المكيف وقال : مكيفكم لا يبرّد !! وجعل يشتكى الحر .. ثم ..
ألا تشعر بثقل هذا الإنسان .. وتتمنى لو يخرج من بيتك ولا يعود ..
إذن الناس يكرهون الانتقاد ..
لكن إن احتجت إليه فغلفه بغلاف جميل ثم قدمه للآخرين ..
قدمه في صورة اقتراح .. أو بأسلوب غير مباشر .. أو بألفاظ عامة ..
كان رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. إذا لاحظ خطئاً على أحد لم يواجهه به وإنما يقول : ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ..
يعني : إياكِ أعني واسمعي يا جارة ..
في يوم من الدهر أقبل ثلاثة شباب متحمسين .. إلى المدينة النبوية ..
كانوا يريدون معرفة كيفية عبادة النبي.. صلى الله عليه وسلم .. وصلاته ..
سألوا أزواج النبي.. صلى الله عليه وسلم .. عن عمله في السر ..
فأخبرتهم زوجات النبي.. صلى الله عليه وسلم .. أنه يصوم أحياناً ويفطر أحياناً .. وينام بعضاً من الليل ويصلي بعضه ..
فقال بعضهم لبعض : هذا رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه ..
ثم اتخذ كل واحد منهم قراراً ..!
فقال أحدهم : أنا لن أتزوج .. أي سأبقى عزباً .. متفرغاً للعبادة ..
وقال الآخر : وأنا سأصوم دائماً .. كل يوم ..
وقال الثالث : وأنا لا أنام الليل .. أي سأقوم الليل كله ..
فبلغ النبي r ما قالوه ..
فقام على منبره .. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
ما بال أقوام !! ( هكذا مبهماً ، لم يقل ما بال فلان وفلان ) ..
ما بال أقوام قالوا : كذا وكذا .. لكني أصلي وأنام .. وأصوم وأفطر .. وأتزوج النساء ..
فمن رغب عن سنتي فليس مني ( ) .
وفي يوم آخر .. لاحظ النبي.. صلى الله عليه وسلم .. أن رجالاً من المصلين معه .. يرفعون أبصارهم إلى السماء في أثناء صلاتهم ..
وهذا خطأ فالأصل أن ينظر أحدهم إلى موضع سجوده ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم ..
فلم ينتهوا عن ذلك واستمروا يفعلونه .. فلم يفضحهم أو يسمهم بأسمائهم .. وإنما قال :
لينتهُنَّ عن ذلك .. أو لتخطفن أبصارهم ( ) ..
وكانت بريرة جارية أمةً مملوكة في المدينة .. أرادت أن تعتق من الرق .. فطلبت ذلك من سيدها .. فاشترط عليها مالاً تدفعه إليه ..
فجاءت بريرة .. إلى عائشة تلتمس منها أن تعينها بمال ..
فقالت عائشة : إن شئت أعطيت أهلك ثمنك .. فتعتقين .. لكن يكون الولاء لي ..( )
فأخبرت الجارية أهلها فأبوا ذلك .. وأرادوا أن يربحوا الأمرين .. ثمن عتقها .. وولاءها !!
فسألت عائشة النبي.. صلى الله عليه وسلم .. .. فعجب.. صلى الله عليه وسلم .. من حرصهم على المال .. ومنعهم للمسكينة من الحرية !!
فقال لعائشة : ابتاعيها .. فأعتقيها .. فإنما الولاء لمن أعتق ..
أي الولاء لك ما دام أنك دفعت المال .. ولا تلتفتي إلى شروطهم فهي ظالمة ..
ثم قام رسول الل.. صلى الله عليه وسلم .. على المنبر فقال :
ما بال أقوام ( ولم يقل آل فلان ) .. يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله .. من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله .. فليس له .. وإن اشترط مائة شرط ( ) ..
نعم هكذا .. لوّح بالعصا من بعيد ولا تضرب بها ..
فما أجمل أن تقول لزوجتك المهملة في نظافة بيتها : البارحة تعشينا عند صاحبي فلان .. وكان الجميع يثني على نظافة منزله ..
أو تقول لولدك المهمل للصلاة في المسجد .. : أنا أعجب من فلان ابن جيراننا ما نكاد نفقده في المسجد أبداً ..!!
يعني .. إياك أعني واسمعي يا جارة !!
ويحق لك أن تسأل : لماذا يكره الناس الانتقاد ؟
فأقول : لأنه يشعرهم بالنقص .. فكل الناس يحبون الكمال ..
ذكروا أن رجلاً بسيطاً أراد أن يكون له شيء من التحكم ..
فعمد إلى ترمسي ماء أحدهما أخضر والثاني أحمر .. وعبأهما بالماء البارد ..
ثم جلس للناس في طريقهم .. وجعل يصيح : ماء بارد مجاناً ..
فكان العطشان يقبل عليه ويتناول الكأس ليصب لنفسه ويشرب .. فإذا رآه صاحبنا قد توجه للترمس الأخضر ..
قال له : لا .. اشرب من الأحمر .. فيشرب من الأحمر ..
وإذا أقبل آخر .. وأراد أن يشرب من الأحمر .. قال له : لا .. اشرب من الأخضر ..
فإذا اعترض أحدهم .. وقال : ما الفرق ؟!
قال : أنا المسئول عن الماء .. يعجبك هذا النظام أو دبر لنفسك ماءً ..
إنه شعور الإنسان الدائم بالحاجة إلى اعتباره والاهتمام به ..
نحلة .. وذباب !!
كن نحلة تقع على الطيب وتتجاوز الخبيث .. ولا تك كالذباب يتتبع الجروح !!
32. لا تكن أُستاذيّاً !!..
قارن بين ثلاثة آباء .. رأى كل واحد ولده جالساً عند التلفاز في أيام الامتحانات ..
فقال الأول لولده : يا محمد .. ذاكر دروسك ..
وقال الثاني : ماجد .. إذا ما ذاكرت دروسك والله لأضربك .. وأحرمك من المصروف .. و ..
أما الثالث فقال : صالح .. لو تذاكر دروسك .. أحسن لك من التلفاز .. صح ؟!
أيهم أحسن أسلوباً ..؟
لا شك أنه الثالث .. لأنه قدم أمره على شكل اقتراح ..
وكذلك في التعامل مع زوجتك .. سارة ليتك تعملين شاي .. هند أتمنى أتغدى مبكراً اليوم ..
وكذلك ..
عندما يخطئ إنسان .. عالج خطأه بأسلوب يجعله يشعر أن الفكرة فكرته هو .. ولدك يغيب عن الصلاة في المسجد ..
قل له – مثلاً – : سعد .. ما تريد تدخل الجنة .. بلى .. إذن حافظ على صلاتك ..
في يوم من الأيام .. وفي خيمة أعرابي في الصحراء ..
جعلت امرأة تتأوه تلد .. وزوجها عند رأسها ينتظر خروج المولود ..
اشتد المخاض بالمرأة حتى انتهت شدتها وولدت ..
لكنها ولدت غلاماً أسود !!
نظر الرجل إلى نفسه .. ونظر إلى امرأته فإذا هما أبيضان .. فعجِبَ كيف صار الغلام أسود !!
أوقع الشيطان في نفسه الوساوس ..
لعل هذا الولد من غيرك !!
لعلها زنى بها رجل أسود فحملت منه !!
لعل ..
اضطرب الرجل وذهب إلى المدينة النبوية .. حتى دخل على رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. وعنده أصحابه ..
فقال : يا رسول الله .. إن امرأتي ولدت على فراشي غلاماً أسود !! وإنا أهل بيت لم يكن فينا أسود قط !!
نظر النبي .. صلى الله عليه وسلم .. إليه .. وكان قادراً على أن يسمعه موعظة حول حسن الظن بالآخرين .. وعدم اتهام امرأته ..
لكنه أراد أن يمارس معه في الحل أسلوباً آخر ..
أراد أن يجعل الرجل يحل مشكلته بنفسه .. فبدأ يضرب له مثلاً يقرب له الجواب ..
فما المثل المناسب له ..؟ هل يضرب له مثلاً بالأشجار ؟ أم بالنخل ؟ أم بالفُرْس والروم ؟
نظر إليه .. صلى الله عليه وسلم .. فإذا الرجل عليه آثار البادية .. وإذا هو مضطرب تتزاحم الأفكار في رأسه حول امرأته ..
فقال له .. صلى الله عليه وسلم .. : هل لك من إبل ؟
قال : نعم ..
قال : فما ألوانها ؟
قال : حمر ..
قال : فهل فيها أسود ؟
قال : لا ..
قال : فيها أورق ؟
قال : نعم ..
قال : فأنى كان ذلك ؟!
يعني : ما دام أنها كلها حمر ذكوراً وإناثاً .. وليس فيها أي لون آخر .. فكيف ولدت الناقة الحمراء ولداً أورق .. يختلف عن لونها ولون الأب ( الفحل ) ..
فكر الرجل قليلاً .. ثم قال : عسى أن يكون نزعه عرق .. يعني قد يكون من أجداده من هو أورق .. فلا زال الشبه باقياً في السلالة .. فظهر في هذا الولد ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. : فلعل ابنك هذا نزعه عرق ( ) ..
سمع الرجل هذا الجواب .. فكر قليلاً فإذا هو جوابه هو .. والفكرة فكرته .. فاقتنع وأيقن .. ومضى إلى امرأته ..
وفي يوم آخر ..
جلس .. صلى الله عليه وسلم .. مع أصحابه .. فجعل يحدثهم عن أبوب الخير ..
وكان مما ذكره .. أن قال : وفي بضع أحدكم صدقة ..
أي وطء أحدكم امرأته له فيه أجر ..
فعجب الصحابة وقالوا : يا رسول الله .. يأتي أحدنا شهوته .. ويكون له أجر ؟!!
فأجابهم .. صلى الله عليه وسلم .. بجواب يشعرون به أن الفكرة فكرتهم .. فلا يحتاجون لنقاش لإقناعهم بها ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. : أرأيتم لو وضعها في حرام .. أكان عليه وزر ..
قالوا : نعم ..
قال : فكذلك لو وضعها في حلال كان له أجر ..
بل حتى أثناء الحوار مع الآخر ..
تدرج معه عند النصح في الأشياء التي أنتما متفقان عليها ..
خرج r إلى مكة معتمراً في ألف وأربعمائة من أصحابه .. فمنعتهم قريش من دخول مكة ..
ووقعت أحداث قصة الحديبية المشهورة ..
في آخر الأمر وبعد مشاورات طويلة بين النبي .. صلى الله عليه وسلم .. وقريش .. اتفقوا على صلح ..
كان الذي تولى الاتفاق على بنود الصلح من جانب قريش هو سهيل بن عمرو ..
اتفق النبي .. صلى الله عليه وسلم .. مع سهيل على شروط ..
منها :
• أن يعود المسلمون أدراجهم إلى المدينة من غير عمرة ..
• وأن من دخل في الإسلام من أهل مكة وأراد أن يهاجر إلى المدينة فإن المسلمين في المدينة لا يقبلونه ..
• أما من ارتد عن إسلامه وأراد الذهاب إلى المشركين في مكة فإنه يقبل ..!!
إلى غير ذلك من الشروط التي في ظاهرها أنها هزيمة للمسلمين وإذلال لهم ..
كانت قريش في الواقع خائفة من هذا العدد الكبير من المسلمين .. وتعلم أن المسلمين لو شاءوا لفتحوا مكة .. ولهذا كانت قريش تضطر إلى التلطف والمصانعة ..
وكأني بهم .. ما كانوا يحلمون أن يظفروا ولا بربع هذه الشروط ..
كان أكثر الصحابة متضايقاً من شروط العقد ..
لكن أنى لهم أن يعترضوا .. والذي يكتب العقد ويمضيه رجل لا ينطق عن الهوى ..
كان عمر متحفزاً .. ينظر يميناً وشمالاً .. يتمنى لو يستطيع عمل شيء ..
فلم يصبر ..
وثب عمر فأتى أبا بكر .. وأراد أن يناقشه ..
فمن حكمته .. لم يبدأ بالاعتراض .. وإنما بدأ بالأشياء التي هما متفقان عليها ..
وجعل يسأل أبا بكر أسئلة جوابها .. بلى .. نعم .. صحيح ..
فقال : يا أبا بكر .. أليس برسول الله ..؟!
قال : بلى ..
قال : أولسنا بالمسلمين ؟!
قال : بلى ..
قال : أوليسوا بالمشركين ؟!
قال : بلى ..
قال : أولسنا على الحق ؟
قال : بلى ..
قال : أوليسوا على الباطل ؟
قال : بلى ..
قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟!
فقال أبو بكر : يا عمر .. أليس هو رسول الله .؟
قال : بلى ..
قال : فالزم غِرْزه .. فإني أشهد أنه رسول الله ..
أي كن وراءه تابعاً لا تخالفه أبداً .. كما أن غرزات الخيط في الثوب تكون متتابعة ..
قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله ..
مضى عمر .. حاول أن يصبر .. فلم يستطع ..
فذهب إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. ..
فقال : يا رسول الله .. ألست برسول الله ؟!
قال : بلى ..
قال : أولسنا بالمسلمين .. ؟
قال : بلى ..
قال : أوليسوا بالمشركين .. ؟!
قال : بلى ..
قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟!
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. : أنا عبد الله ورسوله .. لن أخالف أمره .. ولن يضيعني ..
سكت عمر .. ومضى الكتاب .. ورجع المسلمون إلى المدينة ..
ومضت الأيام .. ونقضت قريش العهد .. وأقبل رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. فاتحاً مكة .. مطهراً البيت الحرام من الأصنام ..
وأدرك عمر أنه كان في اعتراضه حينذاك على غير السبيل ..
فكان يقول :
ما زلت أصوم .. وأتصدق .. وأصلي .. وأعتق .. من الذي صنعت يومئذ .. مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ .. حتى رجوت أن يكون خيراً ..
فلله در عمر .. ودر رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. قبله ..
كيف نستفيد أكثر من هذه المهارة ؟
لو كان ولدك لا يعتني بحفظ القرآن .. وتريده أن يزداد حرصاً ..
ابدأ بالأشياء التي أنتما متفقان عليها .. ألا تريد أن يحبك الله .. ألا تريد أن ترتقي في درجات الجنة ..
سيجيبك حتماً : بلى ..
عندها قدم النصيحة على شكل اقتراح .. : إذن فلو أنك شاركت في حلقة تحفيظ القرآن ..
وكذلك أنتِ : لو رأيتِ امرأة لا تعتني بحجابها ..
ابدئي معها بالأشياء التي أنتما متفقتان عليها ..
أنا أعلم أنك مسلمة .. وحريصة على الخير ..
ستقول : صحيح .. الحمد لله ..
وامرأة عفيفة .. وتحبين الله ..
ستقول : إي والله .. الحمد لله ..
عندها قدمي النصيحة على شكل اقتراح : فلو أنك اعتنيت بحجابك أكثر .. وحرصت على الستر ..
هكذا يمكننا أن نحصل على ما نريد من الناس من غير أن يشعروا ..
بارقة ..
تستطيع أن تأكل العسل دون تحطيم الخلية ..
33. أمسك العصا من النصف !!
أشكرك على اختيارك مهنة التدريس .. وقد آتاك الله أسلوباً حسناً .. وطلابك يحبونك كثيراً .. و ..
ولكن : ليتك ما تتأخر على الدوام في الصباح ..
أنت جميلة .. والبيت مرتب .. ولا أنكر أن الأولاد متعبون .. و ..
ولكن : أتمنى أن تهتمي بملابسهم أكثر ..
هكذا كان أسلوب صالح مع الناس .. يذكر الجوانب المشرقة عند المخطئ ثم ينبهه على أخطائه .. ليكون عادلاً ..
عندما تنتقد حاول أن تذكر جوانب الصواب في المخطئ .. قبل غيرها ..
حاول دائماً أن تشعر الذي أمامك أن نظرتك إليه مشرقة .. وأنك عندما تنبهه على أخطائه لا يعني ذلك أنه سقط من عينك .. أو أنك نسيت حسناته ولا تذكر إلا سيئاته ..
لا .. بل أشعره أن ملاحظاتك عليه تغوص في بحر حسناته ..
كان النبي .. صلى الله عليه وسلم .. محبوباً بين أصحابه .. وكان يمارس أساليب رائعة في التعامل معهم ..
وقف مرة بينهم .. فشخص ببصره إلى السماء .. كأنه يفكر أو يترقب شيئاً ..
ثم قال : هذا أوانُ يختلس العلم من الناس .. حتى لا يقدروا منه على شيء ..
أي : يُعرض الناس عن القرآن وتعلمه .. وعن العلم الشرعي .. فلا يحرصون عليه ولا يفهمونه ..
فيُختلسُ منهم .. أي : يرفع عنهم ..
فقام صحابي جليل .. هو زياد بن لبيد الأنصاري وقال بكل حماس :
يا رسول الله ، وكيف يختلس منا ؟! وقد قرأنا القرآن ! فوالله لنقرأنه ، ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا ..
فنظر إليه النبي .. صلى الله عليه وسلم .. .. فإذا شاب يتفجر حماساً وغيرة على الدين .. فأراد أن ينبهه على فهمه .. فقال :
ثكلتك أمك يا زياد ، إني كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة ..
وهذا ثناء على زياد .. أن يقول له رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. أمام الناس إنه من فقهاء المدينة .. هذا ذكر لجوانب الصواب والصفحات المشرقة لزياد ..
ثم قال.. صلى الله عليه وسلم .. : هذا التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم ؟! ( ) ..
أي ليست العبرة يا زياد بوجود القرآن .. وإنما العبرة بقراءته ومعرفة معانيه والعمل بأحكامه ..
هكذا كان تعامله رائعاً ..
وفي يوم آخر .. يمر .. صلى الله عليه وسلم .. ببعض قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام .. وكان يختار أحسن العبارات لأجل ترغيبهم في الاستجابة له والدخول في الإسلام ..
فمر بقبيلة منهم .. اسمهم : بنو عبد الله .. فدعاهم إلى الله .. وعرض عليهم نفسه .. وجعل يقول لهم :
يا بني عبد الله .. إن الله قد أحسن اسم أبيكم ..
يعني لستم ببني عبد العزى .. أو بني عبد اللات .. وإنما أنتم بنو عبد الله .. فليس في اسمكم شرك فادخلوا في الإسلام ..
بل كان من براعته.. صلى الله عليه وسلم .. أنه كان يرسل رسائل غير مباشرة إلى الناس .. يذكر فيها إعجابه بهم .. ومحبته الخير لهم .. فإذا بلغتهم هذه الرسائل .. عملت فيهم من التأثير أكثر مما تعمله – ربَّما – الدعوة المباشرة ..
كان خالد بن الوليد بطلاً .. ولم يكن بطلاً عادياً .. بل كان بطلاً مغواراً .. يضرب له ألف حساب ..
وكان النبي.. صلى الله عليه وسلم .. يتشوق لإسلامه .. لكن أنى له ذلك .. وخالد ما ترك حرباً ضد المسلمين إلا خاضها .. بل كان هو من أكبر أسباب هزيمة المسلمين في معركة أحد ..
قال فيه النبي.. صلى الله عليه وسلم .. يوماً .. لو جاءنا لأكرمناه .. وقدمناه على غيره ..
فكيف كان تأثير ذلك ؟
خذ القصة من أولها ..
كان خالد من أشداء الكفار وقادتهم ..
لا يكاد يفوت فرصة إلا حارب فيها رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. أو ترصّد له ..
فلما أقبل رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. مع المسلمين إلى الحديبية .. وأرادوا العمرة ..
خرج خالد في خيل من المشركين .. فلقوا النبي.. صلى الله عليه وسلم .. وأصحابه بموضع يقال له : عسفان ..
فقام خالد قريباً منهم يتحين الفرصة ليصيب رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. برمية سهم أو ضربة سيف ..
جعل يترصد ويترقب ..
فصلى النبي.. صلى الله عليه وسلم .. بأصحابه صلاة الظهر أمامهم .. فهموا أن يهجموا عليهم .. فلم يتيسر لهم ..
فكأن النبي .. صلى الله عليه وسلم .. علم بهم .. فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف ..
أي قسم أصحابه إلى فريقين .. فريق يصلي معه وفريق يحرس ..
فوقع ذلك من خالد وأصحابه موقعاً .. وقال في نفسه : الرجل ممنوع عنا .. أي هناك من يحميه ويمنع عنه الأذى !!
ثم ارتحل .. صلى الله عليه وسلم .. وأصحابه .. وسلكوا طريقاً ذات اليمين .. لئلا يمروا بخالد وأصحابه ..
وصل .. صلى الله عليه وسلم .. إلى الحديبية .. صالح قريشاً على أن يعتمر في العام القادم .. ورجع إلى المدينة ..
رأى خالد أن قريشاً لا يزال شأنها ينخفض في العرب يوماً بعد يوم ..
فقال في نفسه : أي شيء بقي ؟ أين أذهب ؟
إلى النجاشي ؟ .. لا .. فقد اتبع محمداً وأصحابه عنده آمنون ..
فأخرج إلى هرقل ؟.. لا .. أخرج من ديني إلى نصرانية ؟.. أو يهودية ؟ وأقيم في عجم ؟..
فبنما خالد يفكر في شأنه .. ويتردد .. والأيام والشهور تمضي عليه ..
إذ جاء موعد عمرة المسلمين .. فأقبلوا إلى المدينة ..
دخل.. صلى الله عليه وسلم .. مكة معتمراً ..
فلم يحتمل خالد رؤية المسلمين محرمين .. فخرج من مكة .. وغاب أياماً أربعة وهي الأيام التي قضاها النبي.. صلى الله عليه وسلم .. في مكة ..
قضى النبي.. صلى الله عليه وسلم .. عمرته .. وجعل ينظر في طرقات مكة وبيوتها .. ويستعيد الذكريات ..
تذكر البطل خالد بن الوليد ..
فالتفت إلى الوليد بن الوليد .. وهو أخو خالد .. وكان الوليد مسلماً قد دخل مع النبي.. صلى الله عليه وسلم .. معتمراً ..
وأراد .. صلى الله عليه وسلم .. أن يبعث إلى خالد رسالة غير مباشرة .. يرغبه فيها بالدخول في الإسلام ..
قال.. صلى الله عليه وسلم .. للوليد : أين خالد ؟
فوجئ الوليد بالسؤال .. وقال : يأتي الله به يا رسول الله ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : " مثله يجهل الإسلام !! ولو كان جعل نكايته وَحَدَّه مع المسلمين .. كان خيراً له ..
ثم قال : ولو جاءنا لأكرمناه .. وقدمناه على غيره ..
استبشر الوليد .. وجعل يطلب خالداً ويبحث عنه في مكة .. فلم يجده ..
فلما عزموا على الرجوع للمدينة ..
كتب الوليد كتاباً إلى أخيه :
بسم الله الرحمن الرحيم .. أما بعد .. فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام .. وعقلك عقلك ! ومثل الإسلام يجهله أحد ؟
وقد سألني رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. عنك وقال : أين خالد ؟ فقلت : يأتي الله به ..
فقال : " مثله جهل الإسلام !! ولو كان جعل نكايته وَحَدَّه مع المسلمين .. كان خيراً له .. ولو جاءنا لأكرمناه .. وقدمناه على غيره ..
فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة ..
قال خالد : فلما جاءني كتابه .. نشطت للخروج .. وزادني رغبة في الإسلام ..
وسرني سؤال رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. عني ..
وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة .. فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة ..
فقلت : إن هذه لرؤيا حق ..
فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. قلت :
من أصاحب إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. ؟!
فلقيت صفوان بن أمية .. فقلت :
يا أبا وهب أما ترى ما نحن فيه ؟ إنما نحن كأضراس يطحن بعضها بعضاً ..
وقد ظهر محمد على العرب والعجم ..
فلو قدمنا على محمد واتبعناه .. فإن شرف محمد لنا شرف ؟
فأبى أشد الإباء .. وقال : لو لم يبق غيري ما اتبعته أبداً ..
فافترقنا .. وقلت في نفسي :
هذا رجل مصاب .. قتل أخوه وأبوه بمعركة بدر ..
فلقيت عكرمة بن أبي جهل .. فقلت له مثل ما قلت لصفوان بن أمية ..
فقال لي مثل ما قال لي صفوان بن أمية ..
قلت : فاكتم علي خروجي إلى محمد ..
قال : لا أذكره لأحد .
فخرجت إلى منزلي .. فأمرت براحلتي فخرجت بها ..
إلى أن لقيت عثمان بن طلحة .. فقلت :
إن هذا لي صديق .. فلو ذكرت له ما أرجو ..
ثم ذكرت من قتل من آبائه في حربنا مع المسلمين .. فكرهت أن أذكِّره ..
ثم قلت : وما علي أن أخبره .. وأنا راحل في ساعتي هذه !..
فذكرت له ما صار أمر قريش إليه .. وقلت :
إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر .. لو صُب عليه ذنوب من ماء لخرج ..
وقلت له نحواً مما قلت لصاحبَيْ .. فأسرع الإستجابة وعزم على الخروج معي للمدينة !..
فقلت له : إني خرجت هذا اليوم .. وأنا أريد أن أمضي للمدينة ..
وهذه راحلتي مجهزة لي على الطريق ..
قال : فتواعدنا أنا وهو في موضع يقال له "يأجج " .. إن سبقني أقام ينتظرني .. وإن سبقته أقمت أنتظره ..
فخرجت من بيتي آخر الليل سَحَراً .. خوفاً من أن تعلم قريش بخروجنا ..
فلم يطلع الفجر حتى التقينا في "يأجج" .. فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة ..
فوجدنا عمرو بن العاص على بعيره ..
قال : مرحباً بالقوم .. إلى أين مسيركم ؟
فقلنا : وما أخرجك ؟
فقال : وما أخرجكم ؟
قلنا : الدخول في الإسلام .. واتباع محمد .. صلى الله عليه وسلم .. ..
قال : وذاك الذي أقدمني .
فاصطحبنا جميعاً حتى دخلنا المدينة ..
فأنخنا بظهر الحرة ركابنا ..
فأُخبر بنا رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. فسر بنا ..
فلبست من صالح ثيابي .. ثم توجهت إلى رسول الل.. صلى الله عليه وسلم .. .. فلقيني أخي فقال :
أسرع .. فإن رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..
. . قد أُخبر بك فسُرَّ بقدومك وهو ينتظركم ..
فأسرعنا السّير .. فأقبلت إلى رسول الله أمشي .. فلما رآني من بعيد تبسّم .. فما زال يتبسم إليَّ حتى وقفت عليه ..
فسلمت عليه بالنبوة .. فرد على السلام بوجه طلْق ..
فقلت : إني أشهد أن لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله ..
فقال : " الحمد لله الذي هداك .. قد كنت أرى لك عقلاً .. رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير " ..
قلت : يا رسول الله .. إني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك .. معانداً للحق .. فادع الله أن يغفرها لي ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : " الإسلام يجب ما كان قبله " ..
قلت : يا رسول الله .. على ذلك .. فاستغفر لي ..
قال : " اللهم اغفر لخالد بن الوليد .. كل ما أَوْضع فيه .. من صد عن سبيل الله " ..
ومن يعدها كان خالد رأساً من رؤوس هذا الدين ..
أما إسلامه فكان برسالة غير مباشرة وصلت إليه من رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فما أحلمه.. صلى الله عليه وسلم .. وأحكمه ..
فلنتبع مثل هذه المهارات في التأثير في الناس ..
فلو رأيت شخصاً يبيع دخاناً في بقالة فأردت تنبيهه ..
فأثن أولاً على بقالته ونظافتها .. وادعُ له بالبركة في الربح .. ثم نبهه على أهمية الكسب الحلال .. ليشعر أنك لم تنظر إليه بمنظار أسود .. بل أمسكت العصا من النصف ..
كن ذكياً .. ابحث عن أي حسنات فيمن أمامك تغمر فيها سيئاته .. أحسن الظن بالآخرين .. ليشعروا بعدلك معهم فيحبوك ..
لمحة ..
عندما يقتنع الناس أننا نلحظ حسناتهم .. كما نلحظ سيئاتهم .. يقبلون منا التوجيه ..
34. اجعل معالجة الخطأ سهلة ..
تتنوع الأخطاء التي تقع من الناس كبراً وصغراً ..
ومهما كان حجم الخطأ فإنه يمكن علاجه ..
نعم قد لا يفيد العلاج في إصلاح ما أفسده الخطأ 100% .. لكنه على الأقل يصلح أكثر الفاسد ..
عدد غير قليل من الناس لا يسعى إلى إصلاح أخطائه لشكه في قدرته أصلاً على علاجها ..
وأحياناً تكون طريقتنا في التعامل مع الأخطاء هي جزء من الخطأ نفسه ..
يقع ولدي في خطأ فألومه وأحقره وأعظِّم عليه الخطأ حتى يشعر بأنه سقط في بئر ليس له قاع !! فييأس من الإصلاح .. ويبقى على ما هو عليه ..
وقد تقع في الخطأ زوجتي أو يقع فيه صديقي ..
فإذا أشعرته أنه أخطأ ولكن الطريق لم ينقطع بعد فمعالجة الخطأ سهلة .. والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ..
جاء رجل إلى النبي .. صلى الله عليه وسلم .. يبايعه على الهجرة .. وقال : إني جئت أبايعك على الهجرة .. وتركت أبوي يبكيان ..
فلم يعنفه.. صلى الله عليه وسلم .. .. أو يحقر فِعْله .. أو يصغر عقله .. فالرجل جاء بنية صالحة ويرى أنه فعل الأصلح ..
أشعره .. صلى الله عليه وسلم .. أن معالجة الخطأ سهلة فقال له بكل بساطة : ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ..( ) ..
وانتهى الأمر ..
كان.. صلى الله عليه وسلم .. يتعامل مع الناس بأساليب تربي فيهم الرغبة في الخير وتشعرهم أنهم إلى الخير أقرب .. حتى وإن وقعوا في أخطاء ..
وبين يدي حادثة مروّعة .. الشاهد منها آخرُها .. لكني سأوردها من أولها رغبة في الفائدة ..
كان رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين نسائه .. فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ..
فلما أراد الخروج إلى غزوة بني المصطلق .. أقرع بينهن فخرج سهم عائشة ..
فخرجت مع رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. وذلك بعدما أنزل الحجاب ..وكانت تحمل في هودج .. فإذا نزلوا نزلت من هودجها .. وقضت حاجاتها .. فإذا أرادوا الارتحال ركبت فيه ..
فلما فرغ رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. من غزوته .. توجه قافلاً إلى المدينة .. حتى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلاً فبات به بعض الليل ..
ثم آذن الناس بالرحيل .. فبدأ الناس يجمعون متاعهم للرحيل ..فخرجت عائشة لبعض حاجتها .. وفي عنقها عقد لها فيه جزع ظفار ..
فلما فرغت من حاجتها .. انسل العقد من عنقها وهي لا تدري ..
فلما رجعت العسكر .. وأرادت الدخول في هودجها .. لمست عنقها فلم تجد العقد .. وقد بدأ الناس في الرحيل ..
فرجعت سريعاً إلى مكانها الذي قضت فيه حاجتها .. فأخذت تبحث عنه .. وأبطأت ..
وجاء القوم فحملوا هودجها وهم يظنون أنها فيه .. فاحتملوه .. فشدوه على البعير .. ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به ..
وسار الجيش .. أما عائشة فبعد بحث طويل .. وجدت العقد .. فعادت إلى مكان الجيش ..
* * * * * * * * *
قالت عائشة :
. فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب .. قد انطلق الناس ..
فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي ..
فتلففت بجلبابي .. فبينما أنا جالسة في منزلي إذ غلبتني عيني فنمت ..
فوالله إني لمضطجعة إذ مرَّ بي صفوان بن المعطل ..
وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجاته .. فلم يبت مع الناس ..
فرأى سواد إنسان نائم .. فأتاني فعرفني حين رآني .. وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب علينا ..
فلما رآني قال : إنا لله وإنا إليه راجعون .. ظعينة رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. ؟
فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ..
ووالله ما كلمني كلمة .. ولا سمعت منه غير استرجاعه ..
حتى أناخ راحلته .. فوطئ على يديها .. فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطلب الناس ..
فوالله ما أدركنا الناس وما افتقدوني حتى أصبحنا .. فوجدناهم نازلين .. فبينما هم كذلك .. إذ طلع الرجل يقود بي البعير ..
فقال أهل الإفك ما قالوا .. وارتجَّ العسكر .. ووالله ما أعلم بشيء من ذلك ..
* * * * * * * * *
ثم قدمنا المدينة .. فلم ألبث أن مرضت واشتكيت شكوى شديدة .. وأنا لا يبلغني من كلام الناس شيء ..
وقد انتهى الحديث إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. وإلى أبويَّ .. وهم لا يذكرون لي منه قليلاً ولا كثيراً .. إلا أني قد أنكرت من رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. بعض لطفه بي ..
كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي .. فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك ..
بل كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال : كيف تيكم ؟ لا يزيد على ذلك ..
حتى وجدت في نفسي ..فلما رأيت جفاءه لي قلت :
يا رسول الله .. لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني ..
قال : لا عليك ..
* * * * * * * * *
فانتقلت إلى أمي ولا علم لي بشيء مما كان .. حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة ..
فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح بنت خالة أبي بكر t ..
فوالله إنها لتمشي معي إذ تعثرت في مِرطها .. وسقطت أو كادت ..
فقالت : تعس مسطح ..
قلت : بئس لعمر الله ما قلت .. تسبين رجلاً قد شهد بدراً ؟
فقالت : أي هنتاه .. أولم تسمعي ما قال ؟ أوما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ..
قلت : وما الخبر ؟
فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك ..
قلت : أوقد كان هذا ؟
قالت : نعم والله لقد كان ..
فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت .. فازددت مرضاً إلى مرضي ..
فوالله ما زلت أبكي .. حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي ..
وقلت لأمي : يغفر الله لك .. تحدث الناس بما تحدثوا يه .. ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً ..
قالت : أي بنية خففي عليك الشأن .. فوالله لقلَّ ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها .. ولها ضرائر إلا كثّرن .. وكثّر الناس عليها ..
قلت : سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا ؟
فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت .. لا يرقأ لي دمع .. ولا أكتحل بنوم ..
ثم أصبحت أبكي ..
* * * * * * * * *
هذا حال عائشة .. تتهم بذلك وهي الفتاة التي لم يتجاوز عمرها خمس عشرة سنة ..
تتهم بالزنا .. وهي العفيفة الشريفة .. زوجة أطهر الناس .. التي ما كشفت سترها .. ولا هتكت عرضها .. هذا حالها تبكي في بيت أبويها ..
أما حال رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. فلا يبعد حزناً وهماً .. عن عائشة ..
فلا جبريل يرسل .. ولا القرآن ينزل .. ويبقى.. صلى الله عليه وسلم .. متحيراً في أمره .. وقد كبر عليه اتهام المنافقين .. وكلام الناس في عرضه زوجه ..
* * * * * * * * *
فلما طال الأمر عليه .. قام.. صلى الله عليه وسلم .. في الناس فخطبهم .. فحمد الله .. وأثنى عليه .. ثم قال :
أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي .. ويقولون عليهم غير الحق .. والله ما علمت عليهم إلا خيراً .. ويقولون ذلك لرجل .. والله ما علمت منه إلا خيراً .. ولا يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي ..
فلما قال رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. تلك المقالة ..
قام أمير الأوس سعد بن معاذ فقال :
يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفك إياهم .. وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا أمرك فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم ..
فلما سمع ذلك أمير الخزرج سعد بن عبادة قام .. وكان رجلاً صالحاً .. لكن أخذته الحمية ..
قام فقال : كذبت لعمر الله .. ما تضرب أعناقهم .. أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج ؟ ولو كانوا من قومك ما قلت هذا ..
فقال أسيد بن حضير : كذبت لعمر الله .. والله لنقتلنه .. ولكنك منافق تجادل عن المنافقين ..
ثم ثار الناس بعضهم إلى بعض .. حتى كادوا أن يقتتلوا ..
ورسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. قائم على المنبر .. فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا .. وسكت ..
فلما رأى.. صلى الله عليه وسلم .. ذلك .. نزل فدخل بيته ..
* * * * * * * * *
ولما رأى أن الأمر لا يمكن حله من جهة عموم الناس ..
أراد أن يجد حلاً من جهة أهل بيته .. وأخص الناس به ..
فدعا علياً وأسامة بن زيد .. فاستشارهما ..
فأما أسامة فأثنى على عائشة خيراً وقال : يا رسول الله .. أهلك وما نعلم منهم إلا خيراً .. وهذا الكذب والباطل ..
وأما علي فإنه قال : يا رسول الله إن النساء لكثير .. وإنك لقادر على أن تستخلف .. وسل الجارية فإنها ستصدقك .. فدعا رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. بريرة ..
فقال : أي بريرة .. هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟
فقالت بريرة : لا .. والذي بعثك بالحق نبياً ..
والله ما أعلم إلا خيراً .. وما كنت أعيب على عائشة شيئاً .. إلا أنها جارية حديثة السن .. فكنت أعجن عجيني .. فآمرها أن تحفظه فتنام عنه .. فتأتي الشاة فتأكله ..
نعم .. كيف ترى الجارية على عائشة ريبة .. وهي الفتاة الصالحة التي رباها صديق الأمة أبو بكر .. وتزوجها سيد ولد آدم ..
بل كيف تقع في ريبة .. وهي أحب الناس إلى رسول الله .. ولم يكن.. صلى الله عليه وسلم .. يحب إلا طيباً ..
فهي البريئة المبرأة .. ولكن الله يبتليها ليعظم أجرها .. ويرفع ذكرها ..
* * * * * * * * *
وتمضي على عائشة الأيام .. والآلام تلد الآلام .. وهي تتقلب على فراش مرضها .. لا تهنأ بطعام ولا شراب ..
وقد حاول رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. أن يحل المشكلة .. بخطبة على رؤوس الناس فكادت أن تقع الحرب بين المسلمين .. وحاول أن يحلها في بيته ويسأل علياً وزيداً .. فلم يخرج بشيء ..
فلما رأى ذلك .. أراد أن ينهي الأمر من جهة عائشة ..
قالت رضي الله عنها :
وبكيت يومي ذلك لا ترقأ لي دمعه .. ولا اكتحل بنوم ..
ثم بكيت ليلتي المقبلة لا ترقأ لي دمعه ولا أكتحل بنوم ..
وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي ..
* * * * * * * * *
فأقبل يحث الخطى إلى بيت أبي بكر ..
فاستأذن .. ودخل عليها وعندها أبوها وأمها.. وامرأة من الأنصار ..
وهي أول مرة يدخل فيها بيت أبي بكر .. منذ قال الناس ما قالوا .. وما رأى عائشة منذ قرابة الشهر .. وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شيء في شأن عائشة ..
دخل r على عائشة ..
فإذا طريحة الفراش .. وكأنها فرخ منتوف من شدة البكاء والهم ..
وإذا هي تبكي .. والمرأة تبكي معها .. لا يملكان من الأمر شيئاً ..
فجلس رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. فحمد الله وأثنى عليه .. ثم قال :
أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا .. وذكر.. صلى الله عليه وسلم .. خبر الإفك .. وما أشيع من وقوعها في خطأ كبير ..ثم أراد .. صلى الله عليه وسلم .. أن يبين لها أن الإنسان مهما وقع في خطأ فإن معالجة هذا الخطأ ليست صعبة .. فقال لها :
فإن كنت بريئه فسيبرئك الله عز وجل ..
وإن كنت ألممت بذنب .. فاستغفري الله عز وجل وتوبي إليه .. فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب .. تاب الله عليه ..
هكذا .. حل سهل للخطأ – إن كان قد وقع – دون تعقيد وتطويل ..
قالت عائشة :
فلما قضى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. مقالته .. قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ..
وانتظرت أبويَّ أن يجيبا عني رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. فلم يتكلما ..
فقلت لأبي : أجب عني رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. فيما قال ..
فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. ! ..
فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. !
ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام ..
فلما استعجما علي .. استعبرت فبكيت ؟
ثم قلت : لا .. والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً ..
إني والله قد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به .. ولئن قلت لكم إني بريئة - والله عز وجل يعلم إني بريئة - لا تصدقوني ..
وإن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني منه بريئة - تصدقوني ..
وإني والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف : ] فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [ ..
قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ..
وأنا والله أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي ..
ولكن والله ما كنت أظن أن يَنزِلَ في شأني وحيٌ يتلى ..
ولشأني كان أحقرَ في نفسي من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى ..
ولكن كنت أرجو أن يرى رسولُ الله.. صلى الله عليه وسلم .. في النوم رؤيا يبرئني الله عز وجل بها ..
* * * * * * * * *
فوالله ما برح رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. مجلسه .. ولا خرج من أهل البيت أحد ..
حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه .. وأنزل الله على نبيه ..
فأما أنا حين رأيته يوحى إليه .. فوالله ما فزعت .. وما باليت .. قد عرفت أني بريئة .. وأن الله غير ظالمي ..
وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده .. ما سُرّي عن رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. حتى ظننت لتخرجن أنفسهما .. فرقاً من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس ..
فلما سُرّي عنه.. صلى الله عليه وسلم .. .. فإذا هو يضحك .. فجعل يمسح العرق عن وجهه ..
وكان أول كلمة تكلم بها أن قال :
أبشري يا عائشة قد أنزل الله عز وجل براءتك ..
فقلت : الحمد لله ..
وأنزل الله تعالى :
] إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عظيم * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ ..
وتوعد الله أولئك بقوله : ] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ ..
ثم خرج رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. إلى الناس .. فخطبهم .. وتلا عليهم ما أنزل الله من القران في ذلك .. ثم أقام حد القذف على من قذف ..
إذن .. ينبغي أن تتعامل مع المخطئ على أنه مريض يحتاج إلى علاج .. لا أن تبالغ في كبته وتعنيفه .. لأنه قد يصل إلى درجة يشعر معها أنك فرحٌ بهذا الخطأ ..
والطبيب الناصح هو الذي يهتم بصحة مرضاه أكثر من اهتمامهم هم بأنفسهم ..
قال.. صلى الله عليه وسلم .. :
إنما مثلي ومثل الناس .. كمثل رجل استوقد ناراً ..
فلما أضاءت ما حوله .. جعل الفَرَاشُ وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها ..
فجعل ينزعهن .. ويغلبنه فيقتحمن فيها !!
فأنا آخذٌ بحجَزِكُم عن النار .. وأنتم تقحمون فيها ..
رأي ..
أحياناً تكون طريقتنا في التعامل مع الأخطاء أكبر من الخطأ نفسه ..
35.
كما أن الناس يختلفون في طباعهم وأشكالهم .. كذلك هم يختلفون في وجهات نظرهم .. وفي قناعاتهم وتصرفاتهم ..
فإذا شعرت أن أحداً خالف الصواب .. ونصحته وحاولت إصلاح خطئه ولم يقتنع ..
فلا تصنف اسمه من بين أعدائك .. وخذ الأمور بأريحية قدر المستطاع ..
فلو حاولت إصلاح خطأ عند أحد زملائك فلم يستجب .. فلا تقلب الصداقة عداوة .. وإنما استمر في التلطف فلعله أن يبقى على خطئه ولا يزيد ..
وقد قيل : حنانيك بعض الشر أهون من بعض ..
إذا تعاملت مع الناس بهذه الأريحية .. فلم تغضب على كل صغيرة وكبيرة .. عشت سعيداً ..
قالت عائشة رضي الله عنها :
• ما انتقم رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. لنفسه قط ..
• وما ضرب شيئاً قط بيده .. ولا امرأة .. ولا خادماً .. إلا أن يجاهد في سبيل الله ..
• وما نيل منه شيء قط .. فينتقم من صاحبه .. إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله .. ( )
إذن .. كان .. صلى الله عليه وسلم .. يغضب .. لكنه غضبه لله .. لا يغضب لنفسه .. وحتى نفهم الفرق بين الغضبين :
افرض أن ولدك الصغير جاءك ذات صباح وطلب ريالاً أو ريالين مصروفاً للمدرسة .. فبحثت في محفظة نقودك .. فلم تجد إلا فئة الخمسمائة ريال .. فأعطيتها له .. وقلت :
هذه خمسمائة ريال .. اصرف منها ريالين .. وأرجع الباقي .. وأكدت عليه وكررت ..
فلما رجع بعد الظهر فإذا المال كله قد صرفه ..
فماذا ستفعل ؟.. وكيف سيكون غضبك ..؟ قد تضرب وتعنف وتمنعه من مصروفه أياماً ..
ولكن لو رجعت مرة من صلاة العصر ووجدته يلعب بالكمبيوتر .. أو عند التلفاز .. ولم يصل في المسجد .. فهل ستغضب كغضبك الأول ؟
أظننا نتفق أن غضبنا الأول سيكون أشد وأطول وأكثر تأثيراً من غضبنا الثاني ..
أما رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. فكان غضبه لله ..
وكان يعرض النصيحة أحياناً ولا تقبل .. فياخذ الأمر بهدووووء .. فالهداية بيد الله ..
قدم رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. إلى تبوك على حدود الشام ..
اقترب من مملكة الروم .. فبعث دحية الكلبي رسولاً إلى هرقل ملك الروم ..
وصل دحية إلى هرقل .. دخل عليه .. ناوله كتاب رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. .
فلما أن رأى هرقل الكتاب دعا قسيسي الروم وبطارقتها .. ثم أغلق عليه وعليهم الدار فقال :
" قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم .. وقد أرسل إليَّ أن يدعوني إلى ثلاث خصال .. يدعوني :
• أن أتبعه على دينه ..
• أو على أن نعطيه مالنا على أرضنا والأرض أرضنا ..
• أو نلقي إليه الحرب ..
ثم قال هرقل :
والله لقد عرفتم فيما تقرأون من الكتب ليأخذن أرضنا .. فهلمَّ فلنتبعه على دينه .. أو نعطيه مالنا على أرضنا ..
فلما سمع القساوسة ذلك .. ورأوا أنه يدعوهم لترك دينهم ! غضبوا .. ونخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم .. أي سقطت أرديتهم من شدة الغضب والانتفاض !!
وقالوا : تدعونا إلى أن نذر النصرانية .. أو نكون عبيداً لأعرابي جاء من الحجاز .!!
أسقط في يد هرقل .. وأيقن أنه تورط بعرضه عليهم ..
وكان هؤلاء القساوية لهم سطوة وجمهور قوي ..
فعلم هرقل أنهم إن خرجوا من عنده .. أفسدوا عليه الروم ..
فجعل يهدئهم .. ويقول : إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم على أمركم ..
كان هرقل يعلم أن النبي.. صلى الله عليه وسلم .. هو الرسول الذي بشر به عيسى عليه السلام .. .
فأراد أن يتأكد من ذلك ..
دعا هرقل رجلاً من عرب قبيلة "تجيب" .. كان من نصارى العرب ..
وقال له :
ادع لي رجلاً حافظاً للحديث .. عربيَّ اللسان .. أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه ..
مضى ذاك التجيبي .. وجاء برجل من بني تنوخ .. من نصارى العرب ..
دفع هرقل كتاباً لهذا التنوخي ليوصله لرسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. . وقال له : اذهب بكتابي إلى هذا الرجل ..
فما سمعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال :
• انظر هل يذكر صحيفته إلى التي كتب بشيء ..؟
• وانظر إذا قرأ كتابي فهل يذكر الليل ؟
• وانظر في ظهره هل به شيء يريبك ؟
مضى التنوخي كفارقاً للشام .. حتى وصل إلى تبوك ..
فإذا رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. جالس بين ظهراني أصحابه .. محتبياً على الماء ..
فوقف التنوخي عليهم .. وقال : أين صاحبكم ؟
قيل : ها هو ذا ..
فأقبل يمشي حتى جلس بين يديه ..
فناوله كتاب هرقل ..
فأخذه.. صلى الله عليه وسلم .. .. فوضعه في حِجْره .. ثم قال : " ممن أنت " .. ؟
قال : أنا أخو تنوخ ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. " هل لك إلى الإسلام .. الحنيفية .. ملة أبيك إبراهيم ؟
كان .. صلى الله عليه وسلم .. راغباً في دخول هذا الرجل في الإسلام ..
في الحقيقة لم يكن هناك ما يمنع التنوخي من اتباع الحق .. إلا التعصب لدين قومه .. فحسب !!
فقال التنوخي بكل صراحة : إني رسول قوم .. وعلى دين قومي .. لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم ..
فما رأى.. صلى الله عليه وسلم .. هذا التعصب .. لم يغضب .. ولم يعمل مشكلة .. وإنما ضحك وقال :
" إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " ..
ثم قال.. صلى الله عليه وسلم .. بكل هدوء :
يا أخا تنوخ ..
• إني كتبت بكتاب إلى كسرى فمزقه والله ممزقه وممزق ملكه ..
• وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها والله مخرق ملكه ..
• وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها .. فلن يزال الناس يجدون منه بأساً ما دام في العيش خير " ..
تذكر التنوخي وصية هرقل .. وقال في نفسه : هذه إحدى الثلاث التي أوصاني بها صاحبي ..
فخشي أن ينساها .. فأخذ سهماً من جعبته فكتبها في جنب سيفه ..
ثم إن رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. ناول الصحيفة رجلاً عن يساره ..
فقال التنوخي : من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم ؟
قالوا : معاوية ..
بدأ معاوية رضي الله عنه يقرأ .. فإذا هرقل قد كتب إلى النبي .. صلى الله عليه وسلم ..
تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين !! فأين النار ؟
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : " سبحان الله ! أين الليل إذا جاء النهار " .
فانتبه التنوخي أن هذه الثانية التي أمره هرقل بترقبها .. فأخذ سهماً من جعبته فكتبه في جلد سيفه ..
فلما أن فرغ معاوية من قراءة الكتاب ..
التفت .. صلى الله عليه وسلم .. إلى التنوخي .. الذي لم يقبل النصح .. ولم يدخل في الدين .. وقال له متلطفاً :
إن لك حقاً وإنك لرسول .. فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها .. إنا سِفْر مُرمِلون ..
يعني أتمنى أن أعطيك هدية .. لكننا كما ترانا مسافرين جالسين على الرمال !!
فقال عثمان رضي الله عنه : أنا أجوزه يا رسول الله ..
ثم قام عثمان ففتح رحله .. فأتى بحلة ولباس فوضعها في حجر التنوخي ..
ثم قال r الكريم : " أيكم ينزل هذا الرجل ؟ " .. يعني يقوم بحق ضيافته !!
فقال فتى من الأنصار : أنا ..
فقام الأنصاري وقام التنوخي يمشي معه .. وباله مشغول بالأمر الثالث الذي أمره هرقل أن يتأكد له منه .. وهو خاتم النبوة بين كتفي النبي .. صلى الله عليه وسلم .. ..
مشى التنوخي خطوات .. وفجأة .. إذا برسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. يصيح به :
" تعال يا أخا تنوخ " ..!!
فأقبل التنوخي يهوي مسرعاً .. حتى قام بين يدي النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فحل .. صلى الله عليه وسلم .. حبوته .. ثم أسقط رداءه عن ظهره .. فانكشف ظهره للتنوخي .. فقال.. صلى الله عليه وسلم .. " هاهنا امض لما أمرت به " ..
قال التنوخي : فنظرت في ظهره .. فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف مثل الحجمة الضخمة .. ( )
فكرة ..
المقصود أن يدرك الناس أخطاءهم .. وليس شرطاً أن يصححوها أمامك .. فلا تغضب ..
36. قابل الإساءة بالإحسان ..
عندما تتعامل مع الناس فإنهم يعاملونك في الغالب على ما يريدون هُم .. لا على ما تريد أنت ..
فليس كل من قابلته ببشاشة بادلك بشاشة مثلها .. فبعضهم قد يغضب ويسيء الظن ويسألك : مم تضحك ؟!
ولا كل من أهديت له هدية .. رد لك مثلها .. فبعضهم قد تهدي إليه ثم يغتابك في المجالس ويتهمك بالسفه وتضييع المال ..!!
ولا كل من تفاعلت معه في كلامه .. أو أثنيت عليه وتلطفت معه في عباراتك قابلك بمثلها ..
فإن الله قسم الأخلاق كما قسم الأرزاق ..
والمنهج الرباني هو : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) ..
وبعض الناس لا حل له ولا إصلاح إلا أن تتعامل معه بما هو عليه .. فتصبر عليه أو تفارقه ..
ذُكر أن أشعب سافر مع رجل من التجار .. وكان هذا الرجل يقوم بكل شيء من خدمة وإنزال متاع وسقي دواب .. حتى تعب وضجر ..
وفي طريق رجوعهما .. نزلا للغداء ..
فأناخا بعيريهما ونزلا .. فأما أشعب فتمدد على الأرض ..
وأما صاحبه فوضع الفرش .. وأنزل المتاع ..
ثم التفت إلى أشعب وقال : قم اجمع الحطب وأنا أقطع اللحم ..
فقال أشعب : أنا والله متعب من طول ركوب الدابة .. فقام الرجل وجمع الحطب ..
ثم قال : يا أشعب ! قم أشعل الحطب .. فقال : يؤذيني الدخان في صدري إن اقتربت منه .. فأشعلها الرجل ..
ثم قال : يا أشعب ! قم أمسك علي لأقطع اللحم .. فقال : أخشى أن تصيب السكين يدي .. فقطع الرجل اللحم وحده ..
ثم قال : يا أشعب ! قم ضع اللحم في القدر واطبخ الطعام .. فقال : يتعبني كثرة النظر إلى الطعام قبل نضوجه ..
فتولى الرجل الطبخ والنفخ .. حتى جهز الطعام وقد تعب .. فاضجع على الأرض .. وقال : يا أشعب ! قم جهز سفرة الطعام .. وضع الطعام في الصحن ..
فقال أشعب : جسمي ثقيل ولا أنشط لذلك ..
فقام الرجل وجهز الطعام ووضعه على السفرة ..
ثم قال : يا أشعب ! قم شاركني في أكل الطعام ..
فقال أشعب : قد استحييت والله من كثيرة اعتذاري وها أنا أطيعك الآن .. ثم قام وأكل !!
فقد تلاقي من الناس من هو مثل أشعب .. فلا تحزن .. وكن جبلاً ..
كان المربي الأول..صلى الله عليه وسلم .. يتعامل مع الناس بعقله لا بعاطفته .. كان يتحمل أخطاء الآخرين ويرفق بهم ..
وانظر إليه ..صلى الله عليه وسلم .. وقد جلس في مجلس مبارك يحيط به أصحابه ..
فيأتيه أعرابي يستعينه في دية قتيل .. قد قتل - هو أو غيره -رجلاً .. فأقبل يريد من النبي..صلى الله عليه وسلم .. أن يعينه بمال .. يؤديه إلى أولياء المقتول ..
فأعطاه رسول الله ..صلى الله عليه وسلم .. شيئاً .. ثم قال تلطفاً معه : أحسنت إليك ؟
قال الأعرابي : لا .. لا أحسنت ولا أجملت ..
فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه .. فأشار النبي ..صلى الله عليه وسلم .. إليهم أن كفوا ..
ثم قام..صلى الله عليه وسلم .. إلى منزله .. ودعا الأعرابي إلى البيت فقال له :
إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك .. فقلت ما قلت ..
ثم زاده ..صلى الله عليه وسلم .. شيئاً من مال وجده في بيته ..
فقال : أحسنت إليك ؟
فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ..
فأعجبه ..صلى الله عليه وسلم .. هذا الرضى منه .. لكنه خشي أن يبقى في قلوب أصحابه على الرجل شيء .. فيراه أحدهم في طريق أو سوق .. فلا يزال حاقداً عليه ..
فأراد أن يسلَّ ما في صدورهم ..
فقال له ..صلى الله عليه وسلم .. : إنك كنت جئتنا فأعطيناك .. فقلت ما قلت .. وفي نفس أصحابي عليك من ذلك شيء .. فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي .. حتى يذهب عن صدورهم ..
فلما جاء الأعرابي .. قال ..صلى الله عليه وسلم .. : إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال .. وإنا قد دعوناه فأعطيناه .. فزعم أنه قد رضي ..
ثم التفت إلى الأعرابي وقال : أكذاك ؟
قال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ..
فلما هم الأعرابي أن يخرج إلى أهله ..
أراد..صلى الله عليه وسلم .. أن يعطي أصحابه درساً في كسب القلوب .. فقال لهم :
إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه .. فاتبعها الناس .. يعني يركضون وراءها ليمسكوها .. وهي تهرب منهم فزعاً .. ولم يزيدوها إلا نفوراً .. فقال صاحب الناقة :
خلوا بيني وبين ناقتي .. فأنا أرفق بها وأعلم بها ..
فتوجه إليها صاحب الناقة فأخذ لها من قشام الأرض .. ودعاها ..
حتى جاءت واستجابت .. وشد عليها رحلها .. واستوى عليها ..
ولو أني أطعتكم حيث قال ما قال .. دخل النار ..
يعني لو طردتموه .. لعله يرتدّ عن الدين .. فيدخل النار .. ( )
وما كان الرفق في شيء إلا زانه .. وما نزع من شيء إلا شانه .
( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) ..
ذُكر أنه ..صلى الله عليه وسلم .. لما فتح مكة .. جعل يطوف بالبيت ..
فأقبل فضالة بن عمير .. رجل يظهر الإسلام ..
فجعل يطوف خلف النبي..صلى الله عليه وسلم .. .. ينتظر منه غفلة .. ليقتله ..!!
فلما دنا من النبي ..صلى الله عليه وسلم ..
انتبه..صلى الله عليه وسلم .. إليه .. فالتفت إليه وقال : أفضالة !!
قال : نعم .. فضالة يا رسول الله ..
قال : ماذا كنت تحدث به نفسك ؟
قال : لاشيء .. كنت أذكر الله ..!!
فضحك النبي ..صلى الله عليه وسلم .. .. ثم قال : أستغفر الله ..
قال فضالة .. : ثم وضع رسول الله..صلى الله عليه وسلم .. يده على صدري .. فسكن قلبي ..
فوالله ما رفع رسول الل..صلى الله عليه وسلم .. يده عن صدري ..
حتى ما خلق الله شيء أحب إلي منه ..
ثم رجع فضالة إلى أهله .. فمر بامرأة كان يجالسها .. ويتحدث إليها ..
فلما رأته .. قالت : هلم إلى الحديث ..
فقال : لا .. ثم قال ..
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ** يأبى عليك الله و الإسلام
لو ما رأيت محمداً وقبيله ** بالفتح يوم تكسَّر الأصنامُ
لرأيت دين الضحى بينا ** والشرك يغشى وجهه الإظلام
وكان فضالة بعدها من صالحي المسلمين ..
كان..صلى الله عليه وسلم .. يملك قلوب الناس بالعفو عنهم .. يتحمل الأذى في سبيل التأثير فيهم .. وجرهم إلى الخير ..
كان أبو طالب يكف عن النبي..صلى الله عليه وسلم .. كثيراً من أذى قريش ..
فلما مات أبو طالب .. ضيقت قريش كثيراً على النبي ..صلى الله عليه وسلم .. في مكة ..
ونالت من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب ..
فجعل..صلى الله عليه وسلم .. يفكر في مكان آخر يلجأ إليه .. يجد فيه النصرة والتأييد ..
فخرج إلى الطائف يلتمس من قبيلة ثقيف النصرة والمنعة ..
دخل الطائف ..
فتوجه إلى ثلاثة رجال هم سادة ثقيف وأشرافهم ..
وهم أخوة ثلاثة :
عبد ياليل بن عمرو ..
وأخوه مسعود ..
وحبيب ..
جلس اليهم .. دعاهم إلى الله .. كلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام .. والقيام معه على من خالفه من قومه ..
فكان ردهم بذيئاً !!
أما أحدهم فقال : أنا أمرط ثياب الكعبة .. إن كان الله أرسلك !!
وقال الآخر : أما وجد الله أحداً يرسله غيرك ؟!
وجعل الثالث يبحث متحذلقاً عن عبارة يرد بها .. حرص على أن تكون أبلغ من كلام صاحبيه ..
فقال : والله لا أرد عليك أبداً .. لئن كنت رسولاً من الله كما تقول .. لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام .. ولئن كنت تكذب على الله .. فما ينبغي لي أن أكلمك ..
فقام..صلى الله عليه وسلم .. من عندهم وقد يئس من خير ثقيف ..
وخشي أن تعلم قريش أنهم ردوه .. فيزدادون أذى له ..
فقال لهم : إن فعلتم ما فعلتم .. فاكتموا عليَّ ..
فلم يفعلوا .. بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم .. فجعلوا يركضون وراء رسول الله..صلى الله عليه وسلم .. .. يسبونه ويصيحون به .. وقد اصطفوا صفين .. وهو يسرع الخطى بينهم .. وكلما رفع رجلاً رضخوها بالحجارة ..
وهو..صلى الله عليه وسلم .. يحاول .. أن يسرع فيخطاه ليتقي ما يرمونه به من حجارة ..
وجعلت قدماه الشريفتان..صلى الله عليه وسلم .. تسيلان بالدماء ..
وهو الكهل الذي جاوز الأربعين ..
فأبعد عنهم .. ومشى .. ومشى ..
حتى جلس في موضع آمن يستريح .. تحت ظل نخلة ..
وهو منشغل البال .. كيف ستستقبله قريش .. كيف سيدخل مكة ..
فرفع طرفه إلى السماء وقال :
اللهم اليك أشكو ضعف قوتي .. وقلة حيلتي .. وهواني على الناس ..
يا أرحم الراحمين ..
أنت رب المستضعفين .. وأنت ربي .. إلى من تكلني ! إلى بعيد يتجهمني .. أم إلى عدو ملكته أمري !
إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي .. ولكن عافيتك هي أوسع لي ..
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات .. وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ..
من أن تنزل بي غضبك .. أو تحل عليَّ سخطك ..
لك العتبى حتى ترضى .. ولا حول ولا قوة الا بك ..
فبينما هو كذلك .. فإذ بسحابة تظله ..صلى الله عليه وسلم .. ..
وإذا فيها جبريل عليه السلام .. فناداه :
يا محمد .. إن الله قد سمع قول قومك لك .. وما ردوا عليك .. وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ..
وقبل أن ينطق..صلى الله عليه وسلم .. بكلمة ..
ناداه ملك الجبال .. السلام عليك يا رسول الله ..
يا محمد .. إن الله قد سمع قول قومك لك .. وأنا ملك الجبال .. قد بعثني اليك ربك لتأمرني ما شئت ..
ثم قبل أن ينطق..صلى الله عليه وسلم .. أو يختار ..
جعل ملك الجبال يعرض عليه .. ويقول :
إن شئت تطبق عليهم الأخشبين .. وهما جبلان عظيمان في جانبي مكة ..
وجعل ملك الجبال ينتظر الأمر ..
فإذا به..صلى الله عليه وسلم .. يطأ على حظوظ النفس .. وشهوة الانتقام .. ويقول :
بل .. أستأني بهم .. فإني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً ..
كن بطلاً ..
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جداً
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هم
دعوني إلى نصر أتيتهم شداً
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
وليس رئيس القوم من يحمل الحقد
37. أقنعه بخطئه ليقبل النصح ..
بعض الناس يشغل الآخرين بكثرة التوجيهات والملاحظات حتى يوصلهم إلى مرحلة الملل والاستثقال ..
خاصة إذا كانت النصائح والتوجيهات مبنية على آراء وأمزجة شخصية ..
كمن ينصحك بعد وليمة دعوت الناس إليها وتعبت في إعدادها وتعب معك أهلك ومالك ! ثم يقول لك هذا الناصح : يا أخي الوليمة ما كانت مناسبة .. وتعبك ذهب هدراً .. وكنت أظن أنها ستكون بمستوى أعلى من هذا .. فتقول لماذا ؟ فيقول : يا أخي أكثر اللحم كان مشوياً .. وأنا أحب اللحم المسلوق !!
والسلطات كانت حامضة بسبب اللليمون .. وأنا لا أحب ذلك ..
وكذلك الحلويات كانت مزينة بالكريمة .. وهذا يجعل طعمها غير مقبول ..
ثم يقول لك : وعموماً أكثر الناس أيضاً تضايقوا .. وما أكلوا إلا مجاملة .. أو لأنهم اضطروا إليه ..
فقطعاً .. أنت هنا ستنظر إلى هذا الناصح نظرة ازدراء وإعراض .. ولن تقبل منه نصيحته ؛ لأنها مبنية على آراء وأمزجة شخصية ..!!
قل مثل ذلك فيمن ينصح آخر حول طريقة تعامله مع أولاده .. أو مع زوجته .. أو طريقة بنائه لبيته .. أو نوع سيارته .. بناء على ذوقه الخاص ..
انتبه دائماً أن تكون هذه النصائح والانتقادات مبنية على مجرد أمزجة شخصية ..
نعم لو طلب رأيك .. أبده له واعرضه عليه .. أما أن تتكلم معه وتنصح كما تنصح المخطئ .. فلا ..
وأحياناً .. المنصوح لا يشعر أنه مخطئ فلا بد أن تكون حجتك قوية عند نصحه ..
جلس أعرابي صلف مع قوم صالحين .. فتكلموا حول بر الوالدين .. والأعرابي يسمع ..
فالتفت إليه أحدهم وقال : يا فلان .. كيف برك بأمك ..
فقال الأعرابي : أنا بها بار ..
قال : ما بلغ من برك بها ؟
قال : والله ما قرعتها بسوط قط !!
يعني إن احتاج إلى ضربها .. ضربها بيده أو عمامته .. أما السوط فلا يضربها به .. من شدة البرّ!!
فالمسكين ما كان ميزان الخطأ والصواب عنده مستقيماً ..
فكن رفيقاً لطيفاً .. حتى يقتنع الذي أمامك بخطئه ..
كان في عهده.. صلى الله عليه وسلم .. امرأة من بني مخزوم تستلف المتاع من النساء .. وتتغافل عن رده فإذا سألوها عنه جحدته .. وأنكرت أنها أخذت شيئاً ..
حتى زاد أذاها في الجحد والسرقة فرفع أمرها إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. .. فقضى فيها أن تقطع يدها ..
فشق على قريش أن تقطع يدها وهي من قبيلة من كبار قبائل قريش ..
فأرادوا أن يكلموا النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ليخفف هذا الحكم إلى حكم آخر .. كجلد أو غرامة مال .. أو نحو ذلك ..
وكلما توجه رجل منهم لنقاش النبي .. صلى الله عليه وسلم .. في هذا الأمر .. تردد ورجع ..
فقالوا لن يجترئ على رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. إلا أسامة بن زيد .. حِبُّ رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. وابن حِبِّه .. تربى هو وأبوه في بيت النبي.. صلى الله عليه وسلم .. حتى صار كولده ..
فكلموا أسامة ..
أقبل أسامة إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. .. فرحب به وأجلسه عنده ..
جعل أسامة يكلم النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ليخفف الحكم .. ويبين أن هذه المرأة من أشراف الناس ..
وأسامة يواصل الكلام والنبي.. صلى الله عليه وسلم .. يستمع .. كان أسامة يحاول إقناع النبي.. صلى الله عليه وسلم ..برأيه ..نظر النبي.. صلى الله عليه وسلم .. إلى أسامة .. فإذا هو يحاول ويناقش .. بكل قناعة .. ولا يدري أنه يطلب منه ما لا يجوز ..!!
فتغير النبي وغضب.. صلى الله عليه وسلم .. وكان أول كلمة قالها أن بين له خطأه فقال :
أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة ؟
فكأنه يبين سبب غضبه لأسامة .. وأن حدود الله تعالى التي أوجب على عباده إقامتها لا تجوز الشفاعة فيها ..
فانتبه أسامة .. وقال فوراً : استغفر لي يا رسول الله ..
فلما كان الليل .. قام.. صلى الله عليه وسلم .. فخطب في الناس وأثنى على الله بما هو أهله .. ثم قال :
" أما بعد .. فإنما أهلك الذين من قبلكم :
أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه .. وإذا سرق فيهم الضعيف .. أقاموا عليه الحد ..
وإني والذي نفسي بيده .. لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها .."
ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها ..
قالت عائشة.. صلى الله عليه وسلم .. فحسنت توبتها بعدُ .. وتزوجت ..
وكانت تأتيني بعد ذلك .. فأرفع حاجتها إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. ( ) ..
أسامة له مواقف متعددة مع رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. .. كلها تفيض بالرحمة والتعامل الراقي ..
قال أسامة بن زيد : بعثنا رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. إلى الحرقات من جهينة ..
فهزمناهم وخرجنا في آثارهم .. فلحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم ..
فلاذ منا بشجرة ..
فلما أدركناه .. ورفعنا عليه السيف .. قال : لا إله إلا الله ..
فأما صاحبي الأنصاري فخفض سيفه ..
وأما أنا فظننت أنه يقولها فرقاً من السلاح .. فحملت عليه فقتلته ..
فعرض في نفسي من أمره شيء .. فأتيت النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فأخبرته ..
فقال لي : أقال لا إله إلا الله .. ثم قتلته ؟!
قلت : إنه لم يقلها من قِبَلِ نفسه .. إنما قالها فرقاً من السلاح ..
فأعاد علي : أقال لا إله إلا الله .. ثم قتلته ؟!
فهلا شققت عن قلبه .. حتى تعلم أنه إنما قالها فرقاً من السلاح ..
سكت أسامة .. فهو لم يشق عن قلب الرجل فعلاً ..!! لكنه كان في ساحة حرب .. والرجل مقاتل !!
فأعاد عليه .. صلى الله عليه وسلم .. لسؤال مستنكراً : أقال لا إله إلا الله .. ثم قتلته ؟!
يا أسامة قتلت رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله !! كيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟!
فما زال يقول ذلك حتى وددت إني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ( ) ..
فتأمل كيف تدرج معه ببيان الخطأ وإقناعه به .. ثم وعظه ونصحه ..
ولأجل أن يقتنع المنصوح بما تقول .. ناقشه بأفكاره ومبادئه هو قدر المستطاع ..
نعم فكر من وجهة نظره ..
بينما رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. في مجلسه المبارك .. يحيط به أصحابه ألأطهار ..
إذ دخل شاب إلى المسجد وجعل يتلتفت يميناً وشمالاً كأنه يبحث عن أحد ..
وقعت عيناه على رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. فأقبل يمشي إليه ..
كان المتوقع أن يجلس الشاب في الحلقة ويستمع إلى الذكر .. لكنه لم يفعل ..!
إنما نظر الشاب إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. وأصحابه حوله .. ثم قال بكل جرأة :
يا رسول الله .. ائذن لي بـ .. بطلب العلم ؟!
لا .. لم يقلها .. ويا ليته قالها ..
ائذن لي بالجهاد .. لا .. ويا ليته قالها ..
أتدري ماذا قال ؟
قال : يا رسول الله .. ائذن لي بالزنا ..
عجباً !! هكذا بكل صراحة ؟!!
نعم .. هكذا : ائذن لي بالزنا ..
نظر النبي .. صلى الله عليه وسلم .. إلى الشاب .. كان يستطيع أن يعظه بآيات يقرؤها عليه .. أو نصيحة مختصرة يحرك بها الإيمان في قلبه .. لكنه.. صلى الله عليه وسلم .. سلك أسلوباً آخر ..
قال له.. صلى الله عليه وسلم .. بكل هدوء : أترضاه لأمك ؟
فانتفض الشاب وقد مرَّ في خاطره أن أمه تزني .. فقال : لا .. لا أرضاه لأمي ..
فقال له.. صلى الله عليه وسلم .. بكل هدوء : كذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم ..
ثم فاجأه سائلاً : أترضاه لأختك ؟!
فانتفض الشاب أخرى .. وقد تخيل أخته العفيفة تزني .. وقال مبادراً : لا .. لا أرضاه لأختي ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. : كذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم ..
ثم سأله : أترضاه لعمتك ؟! أترضاه لخالتك ؟!
والشاب يردد : لا .. لا ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : فأحب للناس ما تحب لنفسك .. واكره للناس ما تكره لنفسك ..
أدرك الشاب عند ذلك أنه كان مخطئاً .. فقال بكل خضوع :
يا رسول الله .. ادعُ الله أن يطهر قلبي ..
فدعاه.. صلى الله عليه وسلم .. .. فجعل الشاب يقترب .. ويقترب .. حتى جلس بين يديه .. ثم وضع يده على صدره .. وقال :
اللهم اهد قلبه .. واغفر ذنبه .. وحصن فرجه ..
فخرج الشاب وهو يقول : والله لقد دخلت على رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. . وما شيء أحب إليَّ من الزنا .. وخرجت من عنده وما شيء أبغض إليَّ من الزنا ..
ثم انظر إلى استعمال العواطف .. دعاه .. وضع يده على صدره .. دعا له ..
يعني استعمل جميع الأساليب لإصلاح من أمامه .. بعدما جعله يقتنع بشناعة الفعل ليتركه عن قناعة .. فلا يفعله أبداً .. لا أمامه ولا خلفه ..
قاعدة ..
إذا شعر المخطئ ببشاعة خطئه اقتنع بحاجته للنصيحة .. وصار قبوله أكثر .. وقناعته أكبر ..
38. لا تلمني !! انتهى الأمر .. ؟
يظن بعض الناس أنه عندما يلوم الآخرين على أخطائهم التي ربما تكون لا ترى إلا بالمجهر ..
يظن أنه يتقرب منهم أكثر .. أو أنه يقوي شخصيته بذلك ..
والحق أنه ليس الذكاء والفطنة أن تستطيع اللوم .. وإنما هو أن تتجنبه قدر المستطاع .. وتسعى إلى إصلاح الأشخاص بأساليب لا تجرح .. ولا تحرج ..
أحياناً تحتاج في بعض الأمور أن تتعامى .. خاصة الأشياء الدنيوية .. والحقوق الخاصة ..
ليس الغبي بسيد في قومه 00 لكن سيد قومه المتغابي
والملوم يعتبر اللوم سهماً حاداً يوجه إليه .. لأنه يشعره بنقصه ..
هذا أولاً ..
ثانياً : تجنب النصح في الملأ قدر المستطاع ..
تغمدني بنصحك في انفرادي ..
وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع ..
من التوبيخ لا أرضى استماعه
بل .. إذا انتشر خطأ معين .. واضطررت إلى النصح العام .. فاعمل بقاعدة : ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا .. كما تقدم معنا ..
إذن .. اللوم كالسوط الذي يجلد به اللائم ظهر الملوم ..
وبعض الناس ينفر الآخرين إما بكثرة لومه .. أو بلومه على أمور انتهت ولا يقدم اللوم أو يؤخر فيها شيئاً ..
أذكر أن رجلاً فقيراً .. تغرب عن أهله إلى بلد آخر .. واشتغل سائق شاحنة .. كان في أحد الأيام متعباً لكنه ركب الشاحنة ومضى بها في طريق طويل بين مدينتين ..
غلبه النوم أثناء الطريق .. فجعل يصارعه وأسرع قليلاً .. فتجاوز سيارة أمامه دون أن ينتبه إلى الطريق فإذا أماه سيارة صغيره فيها ثلاثة أشخاص .. حاول أن يتفاداها .. لم يستطع .. فاصطدم بها وجهاً لوجه ..
ثار الغبار .. وجعل المارة يوقفون سياراتهم ويتفرجون على الحادث ..
نزل سائق الشاحنة .. ونظر إلى السيارة المصدومة .. وإلى من بداخلها فإذا هم موتى ..
أنزلهم الناس واتصلوا بالإسعاف ..
قعد سائق الشاحنة ينتظر ووصول الإسعاف .. ويفكر فيما سيحصل له بعد الحادث من سجن ودية .. ويفكر في أولاده الصغار .. وزوجته ..
مسكين .. هموم انهدت عليه كالجبال ..!!
جعل الناس يمرون به ويلومونه ..
عجباً ..!! أهذا وقت اللوم .. ألا يمكن أن يؤجل قليلاً ؟
قال أحدهم : لماذا تسرع ؟ هذه عواقب السرعة ..
وقال آخر : أكيد أنك كنت نعسان ومع ذلك استمريت في القيادة ..! لم توقف سيارتك وتنام ..؟
وقال ثالث : المفروض أن مثلك لا تصرف لهم رخص قيادة !!
كانوا يقولون هذه العبارات بأسلوب حاد .. فيه تعنيف وصراخ ..
كان الرجل واجماً .. جالساً على صخرة ساكتاً .. متكئاً برأسه على يديه ..
وفجأة هوى على جنبه .. و .. و .. مااات ..
قتلوه بلومهم .. ولو صبروا قليلاً لكان خيراً له ولهم ..
ضع نفسك موضع الملوم ..المخطئ .. وفكر من وجهة نظره ..
فأحياناً لو كنت مكانه قد تقع في خطأ أكبر من خطئه ..
كان رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. يراعي ذلك كثيراً ..
لما انصرف.. صلى الله عليه وسلم .. من خيبر.. أطالوا المسير حتى تعبوا ..
فلما أقبل الليل .. نزلوا في موضع في الطريق ليناموا ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام ؟
كان بلال متحمساً فقال : أنا يا رسول الله أحفظه عليك ؟
فاضطجع رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. .. ونزل الناس فناموا ..
وقام بلال يصلي حتى تعب .. وقد كان متعباً من طول الطريق قبل ذلك ..
فقعد واستند إلى بعيره مستريحاً .. واستقبل الفجر يرمقه .. فغلبته عينه .. فناااام ..
كان الجميع في تعب شديد .. فطال نومه ونومهم .. ومضى الليل .. وطلع لاصبح .. والكل نيام .. ولم يوقظهم إلا حر الشمس ..
استيقظ رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. وهبَّ الناس من نومهم .. فلما رأوا الشمس اضطربوا .. وكثر لغطهم ..
الكل ينظر إلى بلال ..
التفت .. صلى الله عليه وسلم .. إلى بلال وقال : ماذا صنعت بنا يا بلال ؟
فأجاب بلال بجواب مختصر .. لكنه موضح للواقع تماماً ..
قال : يا رسول الله .. أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ..
يعني أنا بشر .. حاولت أن أقاوم النوم .. فلم أستطع .. غلبني النوم كما غلبكم !!
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : صدقت .. وسكت عنه ..
نعم فما فائدة اللوم هنا ..
فلما رأى .. صلى الله عليه وسلم .. اضطراب الناس .. قال .. صلى الله عليه وسلم ..
: ارتحلوا ..
فارتحلوا .. فمشى شيئاً يسيراً ..
ثم نزل ونزلوا .. فتوضأ وتوضئوا ..
ثم صلى بالناس ..
فلما سلم .. أقبل على الناس فقال :
إذا نسيتم الصلاة .. فصلوها إذا ذكرتموها ..
فلله دره ما أعقله وأحكمه.. صلى الله عليه وسلم .. ..
كان مدرسة لكل قائد ..
ليس مثل بعض الرؤساء اليوم لا تكاد عصا اللوم والتقريع تنزل من يده ..
بل كان.. صلى الله عليه وسلم .. يضع نفسه مكان من تحته ويفكر بعقولهم .. ويتعامل مع القلوب قبل الأجساد ..
يعلم أنهم بشر .. وليسوا آلات !!
في السنة الثامنة من الهجرة ..
جمع الروم جيشاً .. وأقبل من جهة الشام .. لقتال النبي.. صلى الله عليه وسلم .. وأصحابه ..
وقيل إنه.. صلى الله عليه وسلم .. جمع جيشاً لغزوهم ابتداءً ..
بدأ .. صلى الله عليه وسلم .. يجهز جيشاً لإرساله إليهم .. فلم يزل يحث الناس حتى جمع ثلاثة آلاف ..
فزودهم بما وجد من سلاح وعتاد ..
قال لهم : أميركم زيد بن حارثة ..
فإن أصيب زيد .. فجعفر بن أبي طالب على الناس ..
فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة ..
وخرج معهم .. صلى الله عليه وسلم .. يودعهم ..
وخرج الناس يودعون الجيش ..
ويقولون : صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين ..
كان عبد الله بن رواحة مشتاقاً إلى الشهادة .. فقال :
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي ياأرشد الله من غازٍوَقد رشدا
ثم مضى الجيش حتى نزلوا "معان" من أرض الشام ..
فبلغهم أن هرقل ملك الروم قد نزل من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم ..
وانضم إليه من القبائل حوله مائة ألف .. فصار جيش الروم مائتي ألف ..
فلما تيقن المسلمون من ذلك .. أقاموا في "معان" ليلتين ينظرون في أمرهم ..
فقال بعضهم : نكتب إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. نخبره بعدد عدونا ..
فإما أن يمدنا بالرجال ..
أو يأمرنا بما يشاء فنمضي له .. وكثر كلام الناس في ذلك ..
فقام عبد الله بن رواحة .. ثم صاح بالناس وقال :
يا قوم .. والله إن التي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون .. الشهادة في سبيل الله .. تفرون منها !!
وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة .. ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به .. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين .. إما ظهور وإما شهادة ..
فمضى الناس .. يسيرون ..
حتى إذا دنوا من جيش الروم .. في موقعة "مؤتة" فإذا أعداد عظيمة لا قبل لأحد بها ..
قال أبو هريرة: شهدت يوم مؤتة .. فلما دنا منا المشركون .. رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة .. والسلاح .. والكراع .. والديباج .. والحرير .. والذهب ..
فبرق بصري ..
فقال لي ثابت بن أرقم : يا أبا هريرة .. كأنك ترى جموعاً كثيرة ؟
قلت : نعم ..
قال : إنك لم تشهد بدراً معنا .. إنا لم ننصر بالكثرة ..
ثم التقى الناس فاقتتلوا ..
فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. حتى كثرت عليه الرماح وسقط صريعاً شهيداً..
فأخذ الراية جعفر بكل بطولة .. فاقتحم عن فرس له شقراء فجعل يقاتل القوم .. وهو يقول :
يا حبذا الجنة واقـترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها
أن جعفر أخذ اللواء بيمينه فقطعت ..
فأخذ اللواء بشماله فقطعت ..
فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ..
قال ابن عمر : وقفت على جعفر يومئذ .. وهو قتيل .. فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره ..
فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء ..
إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعته نصفين ..
فلما قتل جعفر .. أخذ عبد الله بن رواحة الراية ..
ثم تقدم بها وهو على فرسه ..
فجعل يستنزل نفسه .. ويتردد بعض التردد .. ويقول :
أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة مالي أراك تكرهين الجنة
ثم قال :
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت
ثم نزل .. فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم ..
شد بهذا صلبك .. فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت ..
فأخذه من يده فانتهش منه نهشة .. ثم سمع الحطمة في ناحية الناس ..
فقال : وأنت في الدنيا ! فألقاه من يده .. ثم أخذ سيفه ثم تقدم ..
فقاتل حتى قتل t ..
فوقعت الراية .. واضطرب المسلمون .. وابتهج الكافرون ..
والراية تطؤها الخيل .. ويغلوها الغبار ..
فأقبل البطل ثابت بن أرقم ..
ثم رفعها .. وصاح ..
يا معاشر المسلمين .. هذه الراية .. فاصطلحوا على رجل منكم ..
فتصايح من سمعه وقالوا : أنت .. أنت ..
قال : ما أنا بفاعل ..
فأشاروا إلى خالد بن الوليد ..
فلما أخذ الراية .. قاتل بقوة .. حتى إنه كان يقول :
لقد اندقَّ في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية ..
ثم انحاز خالد بالجيش .. وانحاز الروم إلى معسكرهم ..
خشي خالد أن يرجع بالجيش إلى المدينة من ليلته .. فيتبعهم الروم ..
فلما أصبحوا .. غير خالد مواقع الجيش ..
فجعل مقدمة الجيش .. في المؤخرة ..
وجعل مؤخرة الجيش مقدمة ..
ومن كانوا يقاتلون في يمين الجيش .. أمرهم بالانتقال إلى يساره ..
وأمر من في الميسرة أن يذهبوا للميمنة ..
فلما ابتدأ القتال .. وأقبل الروم ..
فإذا كل سرية منهم ترى رايات جديدة .. ووجوهاً جديدة ..
فاضطرب الروم .. وقالوا : قد جاءهم في الليل مدد .. فرعبوا في القتال ..
فقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة .. ولم يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً ..
وانسحب خالد بالجيش .. آخر النهار من ساحة القتال .. ثم واصل مسيره نحو المدينة ..
فلما أقبلوا إلى المدينة ..
لقيهم الصبيان يتراكضون إليهم .. ولقيتهم النساء ..
فجعلوا يحثون التراب في وجوه الجيش .. ويقولون :
يا فرار .. فررتم في سبيل الله ..
فلما سمع النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ذلك ..
علم أنهم لم يكن أمامهم إلا ذلك ..
وأنهم فعلوا ما بوسعهم ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. مدافعاً عنهم :
ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار .. إن شاء الله عز وجل " .
نعم انتهى الأمر .. وهم أبطال ماقصروا .. لكنهم بشر والأمر كان فوق طاقتهم ..
إذن الصلاة على الميت الحاضر .. أحياناً انتهى الأمر فلا فائدة من اللوم ..
كان هذا منهجه .. صلى الله عليه وسلم .. دائماً ..
لما سمع الكفار برسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. قادماً بجيشه إلى مكة فاتحاً .. دخلهم الرعب ..
فأرسل إليهم رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. من يقول لهم :
• من دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن ..
• ومن دخل المسجد فعو آمن ..
• ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ..
فبدأ الناس يفرون من بين يديه.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فاجتمع بعض فرسان قريش .. وأردوا أن يحاربوا .. فأبى عليهم قومهم ..
فاجتمع نفر منهم في مكان يقال له الخندمة ..
اجتمع صفوان بن أمية .. وعكرمة بن أبي جهل .. وسهيل بن عمرو ..
وجمعوا ناساً معهم بالخندمة ليقاتلوا ..
وكان حماس بن قيس ..
يعد سلاحاً قبل قدوم النبي.. صلى الله عليه وسلم .. .. ويصلحه ..
فقالت له امرأته : لماذا تعد ما أرى ؟
قال : لمحمد وأصحابه ..!!
كانت امرأته تعلم بقوة المسلمين .. فقالت : والله ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء !
قال : والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم .. يعين ياسر بعضهم ويجيء بهم إليها خدماً ..
ثم قال مفتخراً :
إن يقبلوا اليوم فما لي علة هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السلة
ثم خرج من عندها .. إلى موقع "الخندمة" .. حيث اجتمع أصحابه ..
فما هو إلا أن لقيهم المسلمون .. يتقدمهم سيف الله خالد بن الوليد ..
فابتدأ القتال .. وصال الأبطال ..
فقتل في لحظة واحدة .. أكثر من اثني عشر أو ثلاثة عشر .. من الكفار ..
فلما رأى حماس بن قيس ذلك ..
التفت إلى صفوان وعكرمة .. فإذا هما يفران إلى بيوتهما ..
فانهزم معهم .. وذهب يعدو إلى بيته .. فدخله سريعاً ..
وأخذ يصيح بامرأته فزعاً : أغلقي علي بابي .. فإنهم يقولون من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن ..!!
فقالت : فأين ما كنت تقول ؟ أن تهزمهم .. وتخدمني بعضهم ..!!
فقال :
إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة
وأبو يزيد قائم كالمؤتمة واستقبلتهم بالسيوف المسلمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة ضرباً فلا يسمع إلا غمغمة
لهم نهيت خلفنا وهمهمة لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
صحيح .. لو رأت امرأته ما رأى من شدة القتال .. ما نطقت في لومه كلمة ..
وفي موقف آخر ..
لما دخل النبي.. صلى الله عليه وسلم .. . مكة فاتحاً .. فقد كان يعلم عظمة البلد الحرام .. فقاتل قتالاً يسيراً ..
ثم قال : إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض .. وإنما حلَّ لي ساعة من نهار " ..
فقيل له : يا رسول الله .. أنت تنهى عن القتل .. وهذا خالد بن الوليد في كتيبته .. يقتل من لقيه من المشركين ؟
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : " قم يا فلان .. فأت خالد بن الوليد .. فقل له : فليرفع يده من القتل " .
هذا الرجل يعلم أنهم الآن يعيشون حالة حرب .. وأن النبي.. صلى الله عليه وسلم .. أمرهم قريشاً بالبقاء في بيوتهم لئلا يقتلوا .. فمن كان في غير بيته استحق المقاتلة ..
ففهم من قول النبي.. صلى الله عليه وسلم .. : يرفع يده من القتل .. أي يقتل كل من وقف أمامه .. حتى يرفع يده بالسيف لأنه لا يجد من يقتل ..!!
فأتى الرجل خالداً فصاح به : يا خالد .. إن رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. يقول : اقتل من قدرت عليه !
فقتل خالد سبعين إنساناً ..
فأتي رجل النبي.. صلى الله عليه وسلم .. .. قال : يا رسول الله .. هذا خالد يقتل ..
فعجب النبي .. صلى الله عليه وسلم .. .. كيف يقتل وقد نهاه ..؟!
فأرسل إلى خالد ليأتيه .. فأتاه .. فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : " ألم أنهك عن القتل ؟ "
فعجب خالد وقال : يا رسول الله .. جاءني فلان فأمرني أن أقتل من قدرت عليه ..
فأرسل النبي .. صلى الله عليه وسلم .. إلى ذاك الرجل .. فجاء ورأى خالداً .. فقال له.. صلى الله عليه وسلم .. : " ألم أقل يرفع يده من القتل ؟ "
فأدرك الرجل خطأه .. لكن الأمر انتهى .. فقال : يا رسول الله .. أردتَّ أمراً .. وأراد الله أمراً .. فكان أمرُ الله فوق أمرك .. وما استطعتُ إلا الذي كان ..
فسكت عنه النبي.. صلى الله عليه وسلم .. وما ردَّ عليه شيئاً ..
من تأمل في مسيرة الحياة .. وجد هذا الأمر ظاهراً ..
أحياناً يكون الشخص قد فعل أحسن ما يستطيع ..
ركبت مع أحد الشباب في سيارته .. فإذا قيادته جيدة ..
وكنت أعلم أنه وقع له حادث تصادم قبل اسبوع ..
فسألته : ألاحظ أن قيادتك جيدة .. فلماذا صدمت قبل أسبوع ؟!
قال : كان لا بد أن أصدم !!
قلت عجباً !!
قال : نعم .. كان لا بد أن أصدم .. أتدري لماذا ؟
قلت : لماذا ؟!
قال :
أقبلت بسيارتي على جسر .. وكنت مسرعاً ..
فلما نزلت منه فإذا السيارات أمامي متوقفة صفوفاً ..
لا أدري ما السبب .. حادث في الأمام .. أو نقطة تفتيش .. لا أدري .. المهم أني تفاجات بها ..
كان أمامي أربعة مسارات كلها مليئة بالسيارات .. وكنت مخيراً بين أن أنحرف عنها كلها وأسقط من فوق الجسر .. أو أمسك فرامل بأقوى ما أستطيع وعندها ستلعب بي السيارة في الطريق ..
أو الاختيار الثالث .. وهو أهونها ..
قلت : وما هو ؟!
قال : أن أصدم إحدى السيارات الأربع الواقفة أمامي ..
ضحكت .. وقلت .. هاه وماذا فعلت ؟
قال : خففت سرعتي قدر استطاعتي .. واخترت أرخص السيارات التي أمامي .. و .. و .. صدمتها ..
فكرت فيما قال .. فرأيت أنه لا يستحق اللوم كثيراً .. وذلك أن الاختيارات التي كانت أمامه محدودة ..
يعني بعض المشاكل ليس لها حل .. شخص أبوه عصبي .. نصحه بجميع الأساليب .. ما نفع .. ماذا يفعل ؟
لفتة ..
ضع نفسك موضع الملوم وفكر من وجهة نظره .. ثم احكم عليه ..
39. تأكد من الخطأ قبل النصيحة ..
كان واضحاً من نبرة صوته لما اتصل بي .. أنه كن غضباناً يكتم غيظه قدر المستطاع ..
ليست هذه هي النبرة التي تعودت عليها من فهد ..
شعرت أن عنده شيئاً ..
بدأ كلامه .. متحدثاً عن الفتن وتعرض الناس لها ..
ثم احتدت النبرة .. وجعل يكرر : أنت داعية .. وطالب علم .. وأفعالك محسوبة عليك ..
قلت : أبا عبد الله ليتك تدخل في الموضوع مباشرة ..
قال : المحاضرة لتي ألقيتها في .. وقلت ..
تعجبت .. قلت : متى كان ذلك ؟
قال : قبل ثلاثة أسابيع ..
قلت : لم أذهب لتلك المنطقة منذ سنة ..
قال : بلى .. وتحدثت عن كذا ..
ثم تبين لي أن صاحبي .. بلغته إشاعة فصدقها .. وبنى على أساسها مناصحته .. وموقفه .. وكلامه ..
صحيح أنني لا أزال أحبه .. لكن نظرتي إليه قصرت .. لأنني اكتشفت أنه متسرع .. ومثل ما يقولون ( يطير في العجّة ) ..!!
كم هم أولئك الذين يبنون مواقفهم ونظراتهم على إشاعات ..
قليل منهم من يأتيك مناصحاً .. ليكتشف بعدها أنه كان يجري وراء إشاعة ..
وكثير منهم من تنطبع هذه الإشاعة في قلبه .. ويكوّن على أساسه تصوره عنك .. وهي كذبة ..
أحياناً يشاع أن فلاناً فعل كذا وكذا ..
فلأجل أن تحتفظ بقدرك عنده .. تأكد من الخبر قبل الكلام عنه ..
وهذا منهج النبي .. صلى الله عليه وسلم ..
أتى رجل إلى النبي .. صلى الله عليه وسلم .... فنظر النبي .. صلى الله عليه وسلم .. إليه ..
فإذا رجل رث الهيئة .. مغبر الشعر .. فأراد .. صلى الله عليه وسلم .. أن ينصحه ليصلح من هيئته .. لكنه خشي أن يكون الرجل فقيراً أصلاً .. ليس ذا مال ..
فقال له : هل لك من مال ؟
قلت : نعم ..
قال : من أي المال ..؟
قال : من كل المال .. من الإبل .. والرقيق .. والخيل .. والغنم ..
قال : فإذا آتاك الله مالاً .. فليُر عليك ..
ثم قال : تنتج إبل قومك صحاح آذانها .. فتعمد إلى الموسى .. فتقطع آذانها ..
فتقول : هذه بحيرة .. وتشقها .. أو تشق جلودها ..
وتقول :هذه صرم .. فتحرمها عليك وعلى أهلك ..
قال : نعم ..
قال : فإن ما أعطاك الله لك حل .. موسى الله أحد .. ( )
وفي عام الوفود .. كان بعض الناس يأتي مسلماً .. ويبايع النبي .. صلى الله عليه وسلم .. .. وبعضهم يأتي كافراً .. ويسلم أو يعاهد ..
فبينما رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..مع أصحابه يوماً .. إذ جاء وفد الصّدِف .. وهم بضعة عشر راكبا .. فأقبلوا إلى مجلس النبي. .. صلى الله عليه وسلم .. فجلسوا و لم يسلموا ..
فسألهم : " أمسلمون أنتم ؟ "
قالوا : نعم .. قال : " فهلا سلمتم ؟ " ..
فقاموا قياماً فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ..
فقال : " وعليكم السلام .. اجلسوا " .. فجلسوا ثم سألوه .. صلى الله عليه وسلم ..عن أوقات الصلوات ..
وفي عهد عمر رضي الله عنه.. توسعت بلاد الإسلام ..
فعين عمر سعد بن أبي وقاص أميراً على الكوفة ..
كان أهل الكوفة حينذاك مشاغبين على ولاتهم ..
أرسل نفر منهم رسالة إلى الخليفة عمررضي الله عنه .. يشتكون إليه من سعد ..
وذكروا عيوباً كثيرة .. حتى إنهم قالوا : ولا يحسن أن يصلي !!
فلما قرأ عمر الكتاب .. لم يتسرع باتخاذ قرار .. ولا كتابة نصيحة ..
وإنما أرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة معه كتاب إلى سعد ..
وأمره أن يسير مع سعد ويسأل الناس عنه ..
جعل محمد بن مسلمة يصلي مع سعد في المساجد .. ويسأل الناس عن سعد ..
ولم يدع مسجد إلا سأل عنه .. ولا يذكرون عن سعد إلا معروفاً ..
حتى دخلا مسجداً لبني عبس ..
فقام محمد بن مسلمة .. وسأل الناس عن أميرهم سعد ؟؟
فأثنوا عليه خيراً ..
فقال محمد : أنشدكم بالله .. هل تعلمون منه غير ذلك ؟
قالوا : لا نعلم إلا خيراً ..
فكرر عليهم السؤال ..
عندها قام رجل في آخر المسجد .. اسمه أسامة بن قتادة .. فقال :
أما إذ نشدتنا بالله .. فاسمع :
إن سعداً كان لا يسير بالسوية .. ولا يعدل في القضية ..
فعجب سعد وقال : أنا كذلك ؟
قال الرجل نعم ..
فقال سعد : أما والله لأدعون بثلاث :
اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً .. وقد قام رياء وسمعة ..
اللهم فـ :
• أطل عمره ..
• وأطل فقره ..
• وعرضه للفتن ..
ثم خرج سعد من المسجد ..
ومضى إلى لمدينة ومات بعدها بسنوات ..
أما ذلك الرجل فلا زالت دعوة سعد تلاحقه ..
حتى كبرت سنه .. ورق عظمه .. واحدودب ظهره ..
وطال عمره حتى مل من حياته .. واشتد فقره ..
فكان يجلس وسط الطريق يسأل الناس .. وقد سقط حاجباه على عينيه من شدة الكبر .. فإذا مرت به النساء مد يده يغمزهن ويتعرض لهن ..
فكان الناس يصيحون به .. ويسبونه .. فيقول :
وماذا أفعل !! شيخ كبير مفتون .. أصابتني دعوة الرجل الصالح سعد بن أبي وقاص ..
حديث ..
بئس مطية الرجل زعموا .. وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع ..
40. اجلدني برفق !!
لا يعني ما تقدم من كلام عدمُ اللوم أبداً ..
بلى .. فقد تحتاج في أحيان متكررة أن تلوم الآخرين .. ولدك .. زوجتك .. صديقك ..
لكن يمكن تأجيله قليلاً .. أو استخدام أساليب أخف ..
دع الملوم يحتفظ بماء وجهه ..
بعدما فتح.. صلى الله عليه وسلم .. مكة .. وقد قوي شأنه عند العرب ..
وكثر الداخلون في الإسلام ..
غزا.. صلى الله عليه وسلم .. بالناس حنيناً .. فجاء المشركون بأحسن صفوف .. فصفت الخيل ..
ثم صفت المقاتلة .. ثم صفت النساء من وراء ذلك ..
ثم صفت الغنم .. ثم النعم ..
والمسلمون بشر كثير .. قد بلغوا اثني عشر ألفاً ..
وكان المشركون قد سبقوا إلى وادي حنين .. واختبأت كتائب منهم في جانبيه بين الصخور ..
فما هو إلا أن ابتدأ القتال .. ودخلت جموع المسلمين في الوادي ..
حتى تفجر عليهم الكفار من كل جانب .. واضطرب الناس ..
وجعلت خيل المسلمين .. تلوذ خلف ظهورهم .. فلم يلبثوا أن انكشفت خيلهم .. وكان أولُ من فرَّ الأعراب .. وتسلط الكفار وظهروا ..
فالتفت رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. فإذا الجموع تفر .. والدماء تسيل .. والخيل يضرب بعضها في بعض ..
فجعل يأمر العباس بأن ينادي : يا للمهاجرين يا للأنصار ؟
فرجعوا حتى ثبت .. صلى الله عليه وسلم ..
في ثمانين أو مائة رجل ..
ثم نصر الله المسلمين .. وانتهى القتال ..
وجمعت الغنائم بين يدي النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فإذا الذين فروا من القتال .. وخافوا من الرماح والنبال ..
هم أول من اجتمع على رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. يريد الغنائم ..
تعلقت الأعراب .. برسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. يقولون له :
اقسم علينا فيئنا .. اقسم علينا فيئنا .. يريدون الغنائم ..
عجباً ..!! يقسم فيئكم .. متى صار فيؤكم وأنتم لم تقاتلوا ..
كيف تطلبون من الغنيمة .. وهو الذي كان يصرخ بكم لتعودوا وأنتم لا تستجيبون ..!!
لكنه.. صلى الله عليه وسلم .. لم يكن يدقق على مثل هذا .. فالدنيا لا تساوي عنده شيئاً ..
جعلوا يتبعونه ويرددون : اقسم علينا فيئنا ..
حتى تزاحموا عليه .. وضيقوا الطريق بين يديه ..
واضطروه إلى شجرة .. فمرّ من شدة الزحام ملاصقاً لها ..
فتعلق رداؤه بأغصانها .. حتى سقط عن منكبيه .. وصار بطنه وظهره مكشوفاً ..
فلم يغضب .. وإنما التفت إليهم وقال .. بكل هدووووء :
أيها الناس .. ردوا علي ردائي .. فوالذي نفسي بيده لو كان لي عدد شجر تهامة .. نَعماً لقسمته عليكم ..
ثم لا تجدوني بخيلا .. ولا جباناً .. ولا كذاباً ..
نعم .. لأنه لو كان بخيلاً لأمسك الأموال لنفسه ..
ولو كان جباناً لفرّ مع الفارين ..
ولو كان كذاباً لما نصره رب العالمين ..
مواقفه .. صلى الله عليه وسلم .. الرائعة كثيرة ..
كان.. صلى الله عليه وسلم .. يمشي مع بعض أصحابه .. فمر بامرأة تبكي عند قبر .. على صبي لها ..
فقال لها .. صلى الله عليه وسلم .. : اتقي الله واصبري ..
وكانت المرأة باكية مهمومة .. فلم تعرف النبي.. صلى الله عليه وسلم .. .. فقالت : إليك عني .. وما تبالي أنت بمصيبتي ..؟!
فسكت النبي .. صلى الله عليه وسلم .. .. وذهب وتركها .. فقد أدى ما عليه ..
وأدرك أن المرأة الآن في وضع نفسي قد لا يناسب أن يزاد عليها في النصح أكثر مما سمعت ..
التفت بعض الصحابة إليها وقالوا : هذا رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. ..!!
فندمت المرأة على ما قالت .. وقامت تحاول أن تلحق بالنبي .. صلى الله عليه وسلم .. .. حتى وصلت بيته ..
فلم تجد على بابه بوابين ..
فقالت معتذرة : يا رسول الله .. لم أعرفك .. الآن أصبر ..
فقال إنما الصبر عند الصدمة الأولى .. ( )
اقتل برفق ..
إن الله كتب الإحسان على كل شيء .. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة .. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح .. وليحد أحدكم شفرته .. وليرح ذبيحته .. حديث رواه مسلم
41. فِرَّ من المشاكل !!
أظنه لو أجرى تحليلاً في مستشفى بدائي لاكتشف في جسمه عشرة أنواع من الأمراض .. أهونها الضغط والسكر ..
كان المسكين يعذب نفسه كثيراً لأنه يطالب الناس بالمثالية التامة .. دائماً تجده متضايقاً من زوجته ..
كسرت الصحن الجديد ..
نسيت كنس الصالة ..
أحرقت ثوبي الجديد بالمكواة ..
وأولاده .. خالد إلى الآن لم يحفظ جدول الضرب ..
وسعد .. لم يظفر بتقدير ممتاز ..
وسارة .. وهند ..
هذا حاله في بيته ..
أما بين زملائه .. فأعظم .. أبو عبد الله قصدني لما ذكر قصة البخيل ..!
والبارحة أبو أحمد يعنيني لما تكلم عن السيارات القديمة .. نعم يقصد سيارتي .. نعم .. كان ينظر إليَّ ..
إلى آخر مواقف وتفكيرات هذا الرجل المسكين ..
قديماً قالوا في المثل : إن أطاعك الزمان وإلا فأطعه ..
أذكر أن أعرابياً - من أصدقائي - كان يردد مثلاً حفظه من جده .. كان يسمعني إياه كثيراً إذا بدأت أتفلسف عليه ببعض المعلومات .. فكان يخرج زفيراً طوييييلاً من صدره ثم يقول : ياااا شيخ .. اليد اللي ما تقدر تلويها صافحها ..!!
وإذا تفكرت في هذا وجدته صحيحاً .. فنحن إذا لم نعود أنفسنا على التسامح وتمشية الأمور .. أو بمعنى آخر التغابي .. وعدم الإغراق في التفسيرات والظنون .. وإلا فسوف نتعب كثيراً ..
ليس الغبي بسيد في قومه .. لكن سيد قومه المتغابي
وأذكر أن شاباً متحمساً أقبل إلى شيخه يريده أن يساعده في اختيار زوجة تكون رفيقة دربه حتى الممات .. فقال الشيخ : ما هي الصفات التي ترغب وجودها في زوجتك ؟
فقال : منظرها جميل .. وقوامها طويل .. وشعرها حرير.. ورائحتها عبير .. لذيذة الطعام .. عذبة الكلام .. إن نظرت إليها سرتني .. وإن غبت عنها حفظتني .. لا تخالف لي أمراً .. ولا أخشى منها شراً .. لها دين يرفعها .. وحكمة تنفعها ..
وراح يسرد من صفات الكمال المتفرقة في النساء ويجمعها في امرأة واحدة ..
فلما أكثر على الشيخ .. قال له : يا ولدي .. عندي طلبك ..
قال : أين ؟ قال : في الجنة بإذن الله .. أما في الدنيا فعود نفسك التسامح ..
نعم في الدنيا عود نفسك التسامح .. لا تعذب نفسك بالبحث عن مشاكل لإثارتها .. والنقاش حولها ..
فيوماً تصرخ في وجه جليس : أنت تقصدني بكلامك ؟
ويوماً في وجه ولدك : أنت تريد أن تحزنني بكسلك ؟
ويوماً في وجه زوجتك : أنت تتعمدين إهمال بيتك ؟ ...
وقد كان منهج النبي.. صلى الله عليه وسلم .. . التسامح عموماً .. فكان يستمتع بحياته ..
كان يدخل.. صلى الله عليه وسلم .. على أهله أحياناً .. في الضحى .. وهو جائع .. فيسألهم : هل عندكم من شيء .. عندكم طعام ..
فيقولون : لا ..
فيقول .. صلى الله عليه وسلم .. : إني إذا صائم ..
ولم يكن يصنع لأجل ذلك مشاكل .. ما كان يقول : لِمَ لم تصنعوا طعاماً .. لِم لم تخبروني لأشتري .. إني إذا صائم .. وانتهى الأمر ..( )
وكان في تعامله مع الناس .. يتعامل بكل سماحة ..
قال كلثوم بن الحصين .. كان من خيار الصحابة ..
قال : غزوت مع رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. غزوة تبوك .. فسرت ذات ليلة معه ونحن بوادي "الأخضر" ..
أطالوا المشي .. فجعل يغلبه النعاس ..
وجعلت ناقته تقترب من ناقة النبي.. صلى الله عليه وسلم .. . ويستيقظ فجأة .. فيبعدها .. خوفاً من أن يصيب رحل ناقته رجل النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ..
حتى غلبته عينه في بعض الطريق .. فزاحمت راحلته راحلة النبي.. صلى الله عليه وسلم .. .. وضرب رحله رجل النبي .. صلى الله عليه وسلم .. . فآلمه ..
فقال النبي .. صلى الله عليه وسلم .. من حر ما يجد : " حسّ "
فاستيقظ كلثوم .. فاضطرب وقال :
يا رسول الله .. استغفر لي ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. بكل سماحة : سِرْ .. سِرْ ..
نعم : سِرْ .. ولم يعمل قضية .. لماذا تضايقني ؟ الطريق واسع ! ما الذي جاء بك بجانبي ؟! لا .. لم يتعب نفسه .. ضربة رجل .. وانتهت ..
كان هذا أسلوبه.. صلى الله عليه وسلم .. دائماً ..
جلس يوماً بين أصحابه ..
فأقبلت إليه امرأة ببردة .. قطعة قماش ..
فقالت : يا رسول الله .. إني نسجت هذه بيدي .. أكسوكها ..
فأخذها النبي.. صلى الله عليه وسلم .. .. وكان محتاجاً إليها ..
وقام ودخل بيته .. فلبسها .. ثم خرج إلى أصحابه وهي إزاره ..
فقال رجل من القوم : يا رسول الله .. اكسنيها ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. : نعم ..
ثم رجع.. صلى الله عليه وسلم .. .. فخلعها وطواها .. ولبس إزاراً قديماً ..
ثم أرسل بها إلى الرجل ..
فقال الناس للرجل : ما أحسنت .. سألته إياها وقد علمت أنه لا يرد سائلاً ؟!
فقال الرجل : والله ما سألته .. إلا لتكون كفني يوم أموت ..
فلما مات الرجل .. كفنه أهله فيها ( ) ..
ما أجمل احتواء الناس بهذه التعاملات ..
قام .. صلى الله عليه وسلم .. يوماً يؤم أصحابه في صلاة العشاء ..
فدخل إلى المسجد طفلان .. الحسن والحسين .. ابنا فاطمة ..
فأقبلا إلى جدهما رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. وهو يصلي ..
فكان إذا سجد .. وثب الحسن والحسين على ظهره ..
فإذا أراد .. صلى الله عليه وسلم .. أن يرفع رأسه .. تناولهما بيديه من خلفه تناولاً رفيقاً ..
ووضعهما عن ظهره .. فجلسا جانباً ..
فإذا عاد لسجوده .. عادا فوثبا على ظهره ..
حتى قضى.. صلى الله عليه وسلم .. صلاته ..
فأخذهما بكل رفق .. وأقعدهما على فخذيه ..
فقام أبو هريرة .. فقال : يا رسول الله .. أردُّهما ..؟ يعني أعيدهما لأمهما ..؟
فلم يعجل.. صلى الله عليه وسلم .. عليهما ..
ثم لبث قليلاً .. فبرقت برقة من السماء ..
فقال لهما.. صلى الله عليه وسلم .. : الحقا بأمكما .. فقاما فدخلا على أمهما ..( )
وفي يوم آخر ..
خرج النبي عليه.. صلى الله عليه وسلم .. .. على أصحابه في إحدى صلاتي الظهر أو العصر ..
وهو حامل الحسن أو الحسين ..
فتقدم إلى موضع صلاته .. فوضعه .. ثم كبر مصلياً بالناس ..
فسجد رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. سجدة .. أطالها .. حتى خشي عليه أصحابه أن يكون قد أصابه شيء ..
ثم رفع من سجوده ..
وبعد انتهاء الصلاة .. سأله أصحابه .. قالوا : يا رسول الله .. لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها ..!! أشيء أمرت به ؟ أو كان يوحى إليك ؟
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. : كل ذلك لم يكن .. ولكن ابني ارتحلني .. فكرهت أن أعجله .. حتى يقضي حاجته .. ( ) ..
ودخل.. صلى الله عليه وسلم .. يوماً على أم هانئ بنت أبي طالب .. وكان جائعاً ..
فقال : هل عندك من طعام نأكله ؟
فقالت : ليس عندي إلا كسر يابسة .. وإني لأستحي أن أقدمها إليك ..
فقال : هلمي بهن ..
فأتته بهن .. فكسرهن في ماء .. وجاءت بملح فذرته عليه ..
فجعل .. صلى الله عليه وسلم .. . يأكل هذا الخبز مخلوطاً بالماء ..
فالتفت إلى أم هانئ وقال : هل من إدام ؟
فقالت : ما عندي يا رسول الله إلا شيء من "خلٍّ" ..
فقال : هلميه ..
فجاءته به .. فصبه على طعامه .. فأكل منه ..
ثم حمد الله عز وجل .. ثم قال : نعم الإدام الخل ( ) ..
نعم .. كان يعيش حياته كما هي .. يتقبل الأمور بحسب ما هي عليه ..
وفي رحلة الحج ..
خرج.. صلى الله عليه وسلم .. مع أصحابه .. فنزلوا منزلاً .. فذهب النبي.. صلى الله عليه وسلم .. فقضى حاجته ..
ثم جاء إلى حوض ماء فتوضأ منه ..
ثم قام.. صلى الله عليه وسلم .. ليصلي ..
جاء جابر بن عبد الله.. فوقف عن يسار رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. وكبّر مصلياً معه ..
فأخذ النبي.. صلى الله عليه وسلم .. بيده .. فأداره حتى أقامه عن يمينه ..
ومضيا في صلاتهما ..
فجاء جبار بن صخر .. فتوضأ ..
ثم أقبل فقام عن يسار رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فأخذ.. صلى الله عليه وسلم .. بأيديهما جميعاً – بكل هدوء - فدفعهما حتى أقامهما خلفه ( ) ..
وفي يوم كان.. صلى الله عليه وسلم .. جالساً ..
فأقلبت إليه أم قيس بنت محصن بابن لها حديث الولادة .. ليحنكه ويدعو له ..
فأخذه.. صلى الله عليه وسلم .. فجعله في حجره .. فلم يلبث الصغير أن بال في حجر النبي.. صلى الله عليه وسلم .. .. وبلل ثيابه بالبول ..
فلم يزد النبي.. صلى الله عليه وسلم .. على أن دعا بماء فنضحه على أثر البول ( ) ..
وانتهى الأمر .. لم يغضب .. ولم يعبس ..
فلماذا نعذب نحن أنفسنا ونصنع من الحبة قبة .. ليس شرطاً أن يكون كل ما يقع حولك مرضياً لك 100% ..
وإن تجد عيباً فسدَّ الخللا جل من لا عيب فيه وعلا
بعض الناس يحرق أعصابه .. ويكبر القضايا .. وبعض الآباء والأمهات كذلك .. وربما بعض المدرسين والمدرسات كذلك ..
ولا تفتش عن الأخطاء الخفية ..
وكن سمحاً في قبول أعذار الآخرين .. خاصة من يعتذرون إليك حفاظاً على محبتهم معك .. لا لأجل مصالح شخصية ..
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً
إن برَّ عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره
وقد أجلّك من يعصيك مستتراً
وانظر إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. وقد رقى منبره يوماً ..
وخطب بأصحابه فرفع صوته حتى أسمع النساء العواتق في خدورها داخل بيوتهن ..!!
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه .. لا تغتابوا المسلمين .. ولا تتبعوا عوراتهم ..فإنه من يتبع عورة أخيه .. يتبع الله عورته .. ومن يتبع الله عورته .. يفضحه ولو في جوف بيته .. ( ) ..
نعم لا تتصيد الأخطاء .. وتتبع العورات .. كن سمحاً ..
وكان.. صلى الله عليه وسلم .. حريصاً على عدم إثارة المشكلات أصلاً ..
في مجلس هادئ مع بعض أصحابه .. صفت فيه النفوس .. واطمأنت القلوب .. قال.. صلى الله عليه وسلم .. لأصحابه :
ألا لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً .. فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر .. ( ) ..
لا تعذب نفسك ..
لا تثر على نفسك الغبار ما دام ساكناً .. وإن ثار فسدَّ أنفك بِكُمِّك .. واستمتع بحياتك ..
42. اعترف بخطئك .. لا تكابر ..
كثير من المشاكل التي ربما تستمر العداوة بسببها .. سنة وسنتين .. وربما العمر كله .. يكون حلها أن يقول أحدهما للآخر : أنا أخطأت .. وأعتذر ..
موعد أخلفته .. أو مزحة ثقيلة ..أو كلمة نابية .. سارع إلى إطفاء شرارها قبل أن تضطرم النار بسببها ..
أنا آسف .. حقك عليَّ .. ما يصير خاطرك إلا طيب ..
ما أجمل أن نتواضع ونسمع الناس هذه العبارات ..
وقعت خصومة بين أبي ذر وبلال .. رضي الله عنهما .. وهما صحابيان .. لكنهما بشر ..
فغضب أبو ذر .. وقال لبلال : يا ابن السوداء ..
فشكاه بلال إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فدعاه النبي.. صلى الله عليه وسلم .. فقال : أساببت فلاناً ؟
قال : نعم ..
قال : فهل ذكرت أمه ؟
قال : من يسابب الرجال .. ذُكر أبوه وأمه يا رسول الله ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : إنك امرؤ فيك جاهلية ..
فتغير أبو ذر .. وقال : على ساعتي من الكبر ..؟
قال : نعم ..
ثم أعطاه النبي.. صلى الله عليه وسلم .. منهجاً يتعامل به مع من هم أقل منه فقال :
إنما هم إخوانكم .. جعلهم الله تحت أيديكم .. فمن كان أخوه تحت يده .. فليطعمه من طعامه .. وليلبسه من لباسه .. ولا يكلفه ما يغلبه .. فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه ..
فماذا فعل أبو ذر رضي الله عنه ؟!
مضى أبو ذر حتى لقي بلالاً .. ثم اعتذر .. وقعد على الأرض .. بين يدي بلال .. ثم جعل يقرب من الأرض حتى وضع خده على التراب وقال : يا بلال .. طأ برجلك على خدي .. ( )
هكذا كان الصحابة رضي الله عنهم في حرصهم على إطفاء نار العداوة قبل اشتعالها .. فإن اشتعلت منعوها من الامتداد..وقعت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة .. فأغضب أبو بكر عمرَ ..
فانصرف عنه عمرُ مغضباً ..
فلما رأى أبو بكر ذلك .. ندم .. وخشي أن يتطور الأمر ..
فانطلق يتبع عمر .. ويقول : استغفر لي يا عمر ..
وعمر لا يلتفت إليه .. وأبو بكر يعتذر .. ويمشي وراءه حتى وصل عمر إلى بيته .. وأغلق بابه في وجهه ..
فمضى أبو بكر إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فلما رآه النبي .. صلى الله عليه وسلم .. مقبلاً من بعيد .. رآه متغيراً .. فقال :
أما صاحبكم هذا فقد غامر .. جلس أبو بكر ساكتاً ..
فلم تمض لحظات .. حتى ندم عمر على ما كان منه .. وكانت قلوبهم بيضاء ..
فأقبل إلى مجلس رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. فسلم وجلس بجانب النبي .. صلى الله عليه وسلم .. . وقص عليه الخبر ..
وحكى كيف أعرض عن أبي بكر ولم يقبل اعتذاره ..
فغضب رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فلما رأى أبو بكر غضبه .. جعل يقول : والله يا رسول الله .. لأنا كنت أظلم .. أنا كنت أظلم ..
وجعل يدافع عن عمر ويعتذر له ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. : هل أنتم تاركون لي صاحبي ؟ هل أنتم تاركون لي صاحبي ؟ إني قلت : يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً .. فقلتم : كذبت .. وقال أبو بكر : صدقت ( ) ..
وانتبه أن تكون ممن يصلح الناس ويفسد نفسه .. يدور بها كما يدور الحمار في الرحى ..
فإذا كنت في موضع توجيه أو اقتداء .. كمدرس مع طلابه .. وأب مع أولاده .. أو أم .. وكذلك الزوجان مع بعضهما ..
وزع عمر رضي الله عنه ثياباً على الناس .. فنال كل واحد قطعة قماش تكفيه إزاراً أو رداءً ..
ثم قام يخطب الناس يوم الجمعة ..
فقال في أول خطبته : إن الله كتب لي عليكم السمع والطاعة ..
فقام رجل من القوم وقال : لا سمع لك ولا طاعة ..
فقال عمر : لمه ؟
قال : لأنك قسمت علينا ثوباً .. ثوباً .. وأنت تلبس ثوبين جديدين ..
أي إزارك ورداؤك .. كلاهما نلحظ أنه جديد ..
فقال عمر : قم يا عبد الله بن عمر .. فقام .. فقال : ألست دفعت لي ثوبك لأخطب به ..؟
قال : نعم ..
فقعد الرجل وقال : الآن نسمع ونطيع .. وانتهت المشكلة ..
عزيزي لا تعجل عليَّ .. أنا معك أن أسلوب الرجل لما اعترض على عمر .. غير مناسب .. لكن العجب هو من قدرة عمر على استيعاب الموقف .. وإطفاء النار ..
وأخيراً .. إذا أردت أن يقبل الناس منك ملاحظتك .. ونصحك .. أياً كانوا .. زوجة .. ولداً .. أختاً ..
فكن أنت متقبلاً للنصح أصلاً .. غير متكبر عنه ..
كان كثيراً ما يقول لها : اعتن بأولادك أكثر .. اطبخي جيداً .. إلى متى أقول : رتبي غرفة النوم ..
وكانت تردد دائماً بكل أريحية : أبشر .. إن شاء الله .. أمرك ..
قالت له يوماً – ناصحة - : الأولاد في أيام اختبارات ويحتاجون وجودك بينهم .. فلا تتأخر إذا خرجت لأصحابك .. فما كاد يسمع منها ذلك حتى صاح بها :
لست متفرغاً لهم .. أتأخر أو لا أتأخر .. ليس شغلك .. ليس لك دخل فيَّ ..
فبالله عليك قل لي : كيف تريدها أن تقبل منه نصحاً بعد ذلك !!
وأخيراً ..
الذكي .. هو الذي يسد الفتحات في جداره حتى لا يستطيع الناس أن يسترقوا النظر ..
بمعنى : أن لا تفتح مجالاً لشك الناس فيك ..
أذكر أن إحدى الجمعيات الدعوية استدعت مجموعة من الدعاة لعقد محاضرات في ألبانيا ..
كان رئيس المراكز الدعوية في ألبانيا حاضراً الاجتماع ..
نظرنا إليه .. فإذا ليس في خديه شعرة واحدة ..
فنظر بعضنا إلى بعض مستغرباً ..!! فقد جرت العادة أن يكون الداعية ملتزماً بهدي رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..
معفياً لحيته .. ولو بعضها .. فكيف برئيس الدعاة ؟!
فلما ابتدأ الاجتماع قال لنا ضاحكاً : يا جماعة .. أنا أمرد .. أصلاً لا ينبت لي لحية .. لا تعملوا لي محاضرة إذا انتهينا ..
تبسمنا وشكرناه ..
وإن شئت فارحل معي إلى المدينة .. وانظر إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. وقد كان معتكفاً في مسجده في ليالي رمضان ..
فأقبلت إليه زوجه صفية بنت حيي زائرة ..
فمكثت عنده قليلاً ..
ثم قامت لتعود لبيتها ..
فلم يشأ النبي.. صلى الله عليه وسلم .. أن تعود في ظلمة الليل وحدها ..
فقام معها ليوصلها ..
فمشى معها في الطريق .. فمر به رجلان من الأنصار ..
فلما رأيا النبي.. صلى الله عليه وسلم .. والمرأة معه .. أسرعا ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. لهما : على رسلكما إنها صفية بنت حيي ..
فقالا : سبحان الله يا رسول الله .. أي : أيُعقل أن نشك فيك أن يكون معك امرأة أجنبية عنك ..!!
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم .. وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً .. أو قال شيئاً .. ( ) ..
شجاعة ..
ليست الشجاعة أن تصر على خطئك .. وإنما أن تعترف به .. ولا تكرره مرة أخرى ..
43. مفاتيح الأخطاء!
التعامل مع الأخطاء فن .. فلكل باب مفتاح .. وللقلوب دروب ..
إذا وقع أحد في خطأ كبير .. وانتشر خبره في الناس .. وبدأ الناس يترقبون ماذا تفعل فأشغلهم بشيء .. حتى يكون عندك وقت لدراسة الأمر .. حتى لا يتجرّأ أحد على مثل فعله .. أو يتعودوا على مثل هذا الخطأ ..
خرج.. صلى الله عليه وسلم ..مع أصحابه في غزوة بني المصطلق ..
وأثناء رجوعهم .. نزلوا يستريحون ..
فأرسل المهاجرون غلاماً لهم اسمه : جهجاه بن مسعود .. ليستقي لهم من البئر ماءً ..
وأرسل الأنصار غلاماً لهم اسمه : سنان بن وبر الجهني .. ليستقي لهم أيضاً ..
فازدحم الغلامان على الماء .. فكسع أحدهما صاحبه .. أي ضربه على مؤخرته ..
فصرخ الجهني : يااااا معشر الأنصار ..
وصرخ جهجاه : يااااا معشر المهاجرين ..
فثار الأنصار .. وثار المهاجرون ..
واشتد الخلاف .. والقوم قادمون من حرب .. ولا يزالون بسلاحهم !!
فانطلق.. صلى الله عليه وسلم .... حتى اطفأ ما بينهم ..
فتحركت الأفاعي ..
غضب عبد الله بن أبي بن سلول .. وعنده رهط من قومه الأنصار ..
فقال : أوقد فعلوها!! قد نافرونا .. وكاثرونا في بلادنا .. والله ما أعدُّنا وجلابيب قريش هذه .. إلا كما قال الأول : سَـمِّن كلبك يأكلك .. وجوِّع كلبك يتبعك !!
ثم قال الخبيث : أما والله لئن رجعنا الى المدينة .. ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ ..
ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم .. أحللتموهم بلادكم .. وقاسمتموهم أموالكم .. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم .. لتحولوا إلى غير داركم ..
وجعل الخبيث يهدد ويتوعد .. والذين عنده من أنصاره المنافقين .. يؤيدونه ويشجعونه ..
كان من بين الجالسين غلام صغير .. اسمه زيد ابن أرقم ..
فمضى إلى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..فأخبره الخبر ..
وكان عمر بن الخطاب جالساً عند النبي.. صلى الله عليه وسلم ..
فثار .. كيف يجرؤ هذا المنافق على رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..بهذا الأسلوب القبيح .. ورأى عمر أن قتل الأفعى أولى من قطع ذيلها .. ورأى أن قتل ابن سلول .. يقضي على الفتنة في مهدها ..
ولكن أن يقتله رجل من قومه الأنصار .. أسلم من أن يقتله رجل من المهاجرين ..
ففقال عمر : يا رسول الله ..
من مر به عباد ابن بشر الأنصاري فليقتله ..
لكن رسول الله كان أحكم .. فهم قادمون من حرب .. والناس بسلاحهم .. والنفوس مشحونة .. وليس من المناسب إثارتهم أكثر ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم ..فكيف يا عمر اذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؟!
لا يا عمر .. ولكن آذن الناس بالرحيل ..
وكان الناس قد نزلوا للتوّ واستظلوا .. فكيف يأمرهم بالرحيل .. في شدة الحر والشمس ..
ولم تكن عادته.. صلى الله عليه وسلم ..أن يرتحل في شدة الحر ..
ارتحل الناس ..
وبلغ عبد الله بن سلول أن رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .... أخبره زيد بن أرقم بما سمع منه ..
فأقبل ابن سلول إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... وجعل يحلف بالله .. ما قلت .. ولا تكلمت به .. كذب عليَّ الغلام ..
وكان ابن سلول رئيساً في قومه .. شريفا عظيما ..
فقال الأنصار : يا رسول الله .. عسى أن يكون الغلام أوْهمَ في حديثه .. ولم يحفظ ما قال الرجل ..
وجعلوا يدافعون عن ابن سلول ..
فأقبل سيد من سادة الأنصار .. أسيد بن حضير .. فحياه بتحية النبوة وسلم عليه .. وقال :
يا رسول الله .. والله لقد رحت في ساعة منكرة .. ما كنت تروح في مثلها !!
فالتفت إليه .. صلى الله عليه وسلم ..وقال : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟
قال : أي صاحب يا رسول الله ؟
قال : عبد الله بن أبي ..
قال : وما قال ؟
قال : زعم أنه ان رجع الى المدينة أخرج الأعزُّ منها الأذلَّ ..
فثار أسيد وقال : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت .. هو والله الذليل .. وأنت العزيز ..
ثم قال أسيد مخففاً على رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..:
يا رسول الله .. ارفق .. لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه .. فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً ..
فسكت النبي.. صلى الله عليه وسلم ... ومضى براحلته .. والناس منهم من يجمع متاعه .. ومنهم من يرحل راحلته ..
وجعلت الحادثة تنتشر .. وصارت أحاديث الجيش : .. لماذا ارتحلنا في هذا الوقت .. ماذا قال ؟ كيف تعامل معه ؟ صدق ابن سلول .. لا بل كذب ..
وبدأت الشائعات تزيد .. والكلام يزاد فيه ويُنقَص .. واضطرب الجيش .. وهم في طريقهم من قتال .. ويمرون بقبائل أعداء يتربصون بهم ..
فشعر.. صلى الله عليه وسلم ..أن الجيش بدأ ينقسم .. فأراد أن يشغلهم عن المشكلة .. وعن النقاش فيها .. لأنهم يزيدون أوارها .. ويشعلون الفتنة بين المهاجرين والأنصار ..
وصار الناس يترقبون متى ينزلون حتى يجتمع بعضهم إلى بعض ويتحدثوا في الأمر ..
فمشى.. صلى الله عليه وسلم ..بالناس يومهم ذلك والشمس فوقهم .. ومشى ومشى حتى غابت الشمس .. فظن الناس أنهم سينزلون للصلاة ويرتاحون .. فلم ينزل إلا دقائق معدودات .. صلوا ثم أمرهم فارتحلوا .. وواصل المشي ليلتهم حتى أصبح ..
ثم نزل فصلى الفجر .. ثم أمرهم فارتحلوا ..
ومشوا صباحهم حتى تعبوا .. وآذتهم الشمس ..
فلما شعر أن الإرهاق والتعب سيطر عليهم .. فليس فيهم جهد للكلام ..
أمرهم فنزلوا .. فما كادت أجسادهم تمس الأرض .. حتى وقعوا نياما ..
وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عما حدث ..
ثم أيقظهم .. وارتحل بهم .. وواصل حتى دخل المدينة .. وتفرق الناس في بيوتهم عند أهليهم ..
وأنزل الله تعالى سورة المنافقين :
( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) ..
فقرأها رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .... ثم أخذ بأذن الغلام زيد بن أرقم .. وقال : هذا الذي أوفى لله بأذنه ..
وبدأ الناس يسبون ابن سلول .. ويلومونه ..
فالتفت .. صلى الله عليه وسلم ..إلى عمر وقال : أرأيت يا عمر .. لو قتلته يوم ذكرت ذلك .. لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ..
ثم سكت عنه.. صلى الله عليه وسلم ..
. فلم يتعرض له بشيء ..
وأحياناً إذا وقع الخطأ أمام الناس قد تحتاج أن تنكر عليه بأسلوب مناسب .. وإن كان أمام الناس ..
بينما رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..جالساً يوماً مع أصحابه .. وكانوا في أيام قحط .. واحتباس مطر .. وقلة زرع ..
إذ أتاه أعرابي فقال :
يا رسول الله جهدت الأنفس .. وضاعت العيال .. ونهكت الأموال .. وهلكت الأنعام ..
فاستسق الله لنا .. فإنا نستشفع بك على الله .. ونستشفع بالله عليك ..
فتغير رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... لما سمعه يقول نستشفع بالله عليك ..
فالشفاعة والواسطة تكون من الأدنى إلى الأعلى .. فلا يجوز أن يقال إن الله يشفع عند خلقه .. بل يأمرهم جل جلاله .. لأنه أعلى وأرفع ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم ..: ويحك !! أتدري ما تقول ؟!!
ثم جعل .. صلى الله عليه وسلم ..يقدس الله .. ويردد .. سبحااان الله .. سبحااان الله ..
فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه ..
ثم قال :
ويحك !! إنه لا يُسْتَشفعُ بالله على أحد من خلقه .. شأنُ الله أعظم من ذلك ..
ويحك !! أتدري ما الله ؟! إن عرشه على سماواته لهكذا .. وقال بأصابعه مثل القبة عليه .. وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب .. ( ) ..
ولكن إذا وقع الخطأ من الشخص لوحده قد يكون هناك شيء من اللين ..
أتى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..إلى بيت عائشة t في ليلتها ..
فوضع نعليه من رجليه .. ووضع رداءه .. واضطجع على فراشه ..
فلبث كذلك .. حتى ظن أن عائشة قد رقدت ..
فقام من على فراشه .. ولبس رداءه ونعليه .. رويداً ..
ثم فتح الباب رويداً .. وخرج .. وأغلقه رويداً ..
فلما رأت عائشة ذلك .. دخلتها غَيْرةُ النساء .. وخشيت أنه ذهب إلى بعض نسائه ..
فقامت .. ولبست درعها .. وخمارها .. وانطلقت في إثره .. تمشي وراءه .. دون أن يشعر بها ..
فانطلق.. صلى الله عليه وسلم .... يمشي في ظلمة الليل .. حتى جاء مقبرة البقيع ..
فوقف عندها .. ينظر إلى قبور أصحابه .. الذين عاشوا عابدين .. وماتوا مجاهدين .. واجتمعوا تحت الثرى .. ليرضى عنهم من يعلم السرَّ وأخفى ..
أخذ.. صلى الله عليه وسلم ..ينظر إلى قبورهم .. ويتذكر أحوالهم ..
ثم رفع يديه فدعا لهم .. ثم أخذ ينظر إلى القبور .. ثم رفع يديه ثانية فدعا لهم ..
ثم لبث ملياً .. ثم رفعها فاستغفر لهم ..
وأطال القيام .. وعائشة تنظر إليه من بعيد ..
ثم التفت.. صلى الله عليه وسلم ..وراءه راجعاً ..
فلما رأت ذلك عائشة .. انحرفت إلى ورائها راجعة .. خشية أن يشعر بها ..
فأسرع.. صلى الله عليه وسلم ..مشيه .. فأسرعت عائشة ..
فهرول .. فهرولتْ .. فأحضرَ – أي جرى مسرعاً - فأحضرتْ وجرت ..
حتى سبقته إلى البيت فدخلت ..
ونزعت درعها وخمارها .. وأقبلت إلى فراشها فاضطجعت عليه .. كهيئة النائمة .. ونفَسها يتردد في صدرها ..
فدخل.. صلى الله عليه وسلم ..البيت .. فسمع صوت نَفَسها .. فقال :
مالك يا عائش .. حشياً رابية ..
قالت : لا شيء ..
قال : لتخبرني .. أو ليخبرني اللطيف الخبير ..
فأخبرته بالخبر .. وأنها غارت عليه .. فانطلقت تنظر أين يذهب ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم ..: أنت الذي رأيتُ أمامي ؟
قالت : نعم ..
فدفعها في صدرها .. دفعة .. ثم قال :
أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله ..
فقالت عائشة : مهما يكتمِ الناسُ .. يعلمه الله عز وجل ..؟
قال : نعم .. ثم قال.. صلى الله عليه وسلم ..مبيناً لها خبر خروجه :
إن جبريل عليه السلام .. أتاني حين رأيت .. ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك ..
فناداني .. فأخفى منك فأجبته وأخفيته منك .. وظننت أنك قد رقدت .. فكرهت أن أوقظك .. وخشيت أن تستوحشي .. فأمرني أن آتي أهل البقيع فأستغفرَ لهم .. ( ) ..
نعم .. كان .. صلى الله عليه وسلم .... سهلاً لـيِّناً لا يكبر الأخطاء ..
بل كان يرددها في الناس ويقول :
كما عند مسلم : لا يفرك مؤمن مؤمنة .. إن كره منها خلقاً .. رضي منها آخر ..
أي لا يبغضها بغضاً تاماً .. لأجل خلق عندها .. أو طبعٍ يلازمها ..
بل يغفر سيئتها لحسنتها .. فإذا رأى خطأها تذكر صوابها .. وإذا شاهد سوءها تذكر حسنها ..
ويتغاضى عما يكرهه من خلقها .. وما لا يرضاه من تعاملها
إضاءة ..
ليس اللوم على من لا يقبل النصيحة .. وإنما على من يقدمها بأسلوب غير مناسب ..
44. فَـكِّك الحزمة ..!!
إذا كان الخطأ واقعاً من مجموعة .. فالأصل أن تنصحهم وهم مجتمعون ..
ولكن قد تحتاج أحياناً أن تفكك الحزمة .. أعني ..أن تكلم كل واحد علىا حدة .. وتنصحه .
مثال : مررت بمجلس منزلكم .. وسمعت أخاك يتحدث مع أصدقائه – وكانوا ضيوفاً عنده – ويخططون أن يسافروا إلى بلد كذا .. وهذا البلد لا يسلم من يذهب إليه غالباً من التعرض للمحرمات الكبار .. كالزنا وشرب الخمر ..
أردت أن تنصح ..
من الأساليب أن تدخل عليهم وتنصحهم بكلمتين .. وتخرج .. لكن نتيجة ذلك قد لا تكون ناجحة كثيراً ..
فما رأيك أن تفكك الحزمة .. وتكسر كل عود على حدة ..
كيف ؟!
إذا تفرقوا اجلس مع من تظنه أعقلهم .. وقل : يا فلان .. بلغني أنكم ستسافرون .. وأنت أعقلهم .. وتعلم أن هذا البلد لا يسلم المسافر إليه من البلايا والفتن .. وقد يعود مريضاً أو مبتلى .. فما رأيك أن تكسب أجرهم .. وتقترح عليهم أن يسافروا إلى بلد آخر .. تستمتعون فيه بالأنهار والبحار .. واللعب والأنس .. من غير معصية ..
لا شك أنه إذا سمع منك هذا الكلام بالأسلوب الحسن .. سيقل حماسه إلى النصف ..
اذهب إلى آخر .. وقل له مثل ذلك ..
ثم قل للثالث مثله ..
دون أن يشعر كل منهم بحديثك لصاحبه ..
فتجد أنهم إذا اجتمعوا .. وتشجَّع أحدهم واقترح تغيير البلد .. وجد من يعاونه ..
أو لو اكتشفت يوماً أن أولادك يجتمعون في غرفة أحدهم .. وينظرون إلى شريط فيديو خليع .. أو مقاطع ( بلوتوث ) فيها صور خليعة .. أو نحو ذلك ..
فقد يكون من المناسب أن تنصح كلاً منهم على حدة .. لكيلا تأخذهم العزة بالإثم ..
هل لهذا شاهد من السيرة ؟ نعم ..
لما اشتد الخلاف بين رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. وبين قريش ..
اجتمعت قريش وقاطعت النبي وجميع أقاربه من بني هاشم .. وكتبت صحيفة أن بني هاشم لا يُشترى منهم .. ولا يُباع عليهم .. ولا يُزوَّجون .. ولا يُتزوَّج منهم ..
وحُبس النبي .. صلى الله عليه وسلم .. مع أصحابه في وادٍ غير ذي زرع ..
واشتدت الكربة على الصحابة حتى أكلوا الشجر ..
بل مضى أحدهم يوماً ليبول .. فسمع صوتاً تحته .. فنظر فإذا قطعة من جلد بعير .. فأخذها .. وغسلها وشواها بالنار .. ثم فتّـتَـتها .. وخلطها بالماء .. وجعل يتموَّن بها ثلاثة أيام !!
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. يوماً لعمه أبي طالب – وكان محبوساً معهم في الشعب - :
يا عم إن الله قد سلط الأَرَضة على صحيفة قريش .. فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها .. ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان ..
أي إن دابة الأرضة أكلت صحيفة قريش فلم يبق منها إلا عبارة : باسمك اللهم !!
فعجب أبو طالب وقال : أربك أخبرك بهذا ؟ قال : نعم ..
قال : فوالله ما يدخل عليك أحد .. حتى أخبر قريشاً بذلك ..
ثم خرج إلى قريش فقال :
يا معشر قريش .. إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا ..
فهلمَّ صحيفتكم ..
فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها ..
وإن كان كاذباً .. دفعت إليكم ابن أخي فافعلوا به ما شئتم ..
فقال القوم : قد رضينا .. فتعاقدوا على ذلك ..
ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله-.. فزادهم ذلك شراً ..
وظل بنو هاشم وبنو المطلب في واديهم .. حتى كادوا أن يهلكوا ..
وكان من كفار قريش رجال رحماء ..
منهم : هشام بن عمرو .. وكان ذا شرف في قومه ..
فكان يأتي بالبعير قد حمله طعاماً .. وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً ..
حتى إذا بلغ به فم الشعب .. خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فدخل الشعب عليهم ..
ومضت اليام ورأى هشام .. أنه لا طاقة له بإطعامهم كل ليلة .. وهم كثير ..
فقرر أن يسعى لنقض الصحيفة الظالمة .. ولكن أنى له ذلك وقريش قد أجمعت عليها ..
فاتبع أسلوب تفكيك الحزمة ..
مشى إلى زهير بن أبي أمية .. وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ..
فقال : يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء .. وأخوالك حيث علمت ؟ لا يباع لهم ولا يبتاع منهم .. ولا يُنَكَّحون ولا يُنكحُ إليهم ؟!
أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام .. - يعني أبا جهل .. وكان أشدهم عداوة للمؤمنين وتعصباً للمقاطعة .. – ما تركهم على هذا الحال ..
قال : ويحك يا هشام .. فماذا أصنع ؟
إنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها ..
قال : قد وجدت رجلاً ..
قال : من هو ؟
قال : أنا ..
قال زهير : أبغنا ثالثاً ..
قال هشام : فاكتم عني ..
فذهب إلى المطعم بن عدي .. وكان رجلاً عاقلاً .. فقال له : يا مطعم .. أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف .. وأنت شاهد على ذلك .. موافق لقريش فيه ؟!
قال : ويحك فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد ..
قال : وجدت لك ثانياً ..
قال : من ؟ قال : أنا ..
قال : أبغنا ثالثاً .
قال : قد فعلت .. قال : من هو ؟
قال : زهير بن أبي أمية ..
قال : أبغنا رابعاً ..
قال : فاكتم عني ..
فذهب إلى أبي البختري بن هشام .. فقال له ما قال لصاحبيه ..
فتحمس لذلك .. وقال : وهل تجد أحدا يعين على هذا ؟
قال : نعم ..
قال : من هو ؟
قال : زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك ..
قال : أبغنا خامساً ..
فذهب هشام إلى زمعة بن الأسود .. فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم ..
فقال له : وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد ؟
قال : نعم .. فلان وفلان ..
فاتفقوا جميعاً على هذا الرأي .. وتوعدوا عند "حطم الحجون " ليلاً بأعلى مكة .. فاجتمعوا هنالك ..
وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها ..
وقال زهير : أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم .. ثم تقوموا أنتم فتتكلمون ..
فلما أصبحوا غدوا إلى مجالسهم حول الكعبة .. حيث يجتمع الناس ويتبايعون ..
وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة ..
فطاف بالبيت سبعاً .. ثم أقبل على الناس وصرخ :
ياااا أهل مكة أنأكل الطعام ..؟ ونلبس الثياب ..؟ وبنو هاشم هلكي !! لا يباع لهم ولا يبتاع منهم .. والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة ..
فصرخ أبو جهل ..وكان في مجلس مع أصحابه .. قال : كذبت .. والله لا تشق ..
فقام زمعة بن الأسود وصرخ : بل أنت والله أكذب .. ما رضينا كتابتها حين كتبت ..
فالتفت إليه أبو جهل ليرد عليه .. ففاجأه البخترى قائماً يقول : صدق زمعة .. لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به ..
فالتفت أبو جهل إلى البخنري ..
فإذا بالمطعم بن عدى يصرخ : صدقتما وكذب من قال غير ذلك .. نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها ..
وقام هشام بن عمرو وقال مثل قولهم ..
فتحير أبو جهل .. وسكت هنية ثم قال : هذا أمر قُضِي بليل .. تشورو فيه بغير هذا المكان ..
ثم انطلق المطعم بن عدي إلى الكعبة .. وتوجه إلى الصحفية ليشقها .. فوجد دابة الأرضة قد أكلتها .. إلا باسمك اللهم ..
كن ذكياً ..
الطبيب الحاذق يتلمس أولاً بأصابعه .. فيختار الموضع المناسب قبل غرز الإبرة ..
45. جلد الذات !!
من الذكريات ..
أنا خرجنا مرة للبر .. وكان معنا أبو خالد .. صديق لنا نظره ضعيف جداً ..
كنا نخدمه .. نقرب إليه الماء .. التمر .. القهوة .. وهو يردد : لا بد أن أساعدكم .. أريد أن أشتغل معكم .. كلفوني بأي عمل ..
ونحن ننهاه عن ذلك ..
ذبحنا شاة معنا .. وقطعناها ووضعناها في القدر .. تمهيداً لطبخها .. ولم نشعل النار بعد ..
وانشغلنا بنصب الخيمة .. وترتيب الأغراض ..
تحركت الشهامة في أبي خالد – ويا ليتها لم تفعل - فقام وتوجه إلى القدر .. فرأى اللحم .. فأدرك أن أول شيء سنفعله هو أن نصب الماء على اللحم .. فتوجه إلى الأغراض في السيارة .. وجعل يتلمس الأغراض .. مولد كهرباء .. أسلاك .. مصابيح .. أربع مطارات بلاستيك فيها ماء .. وبنزين .. وأغراض أخرى ..
فالتقط أقرب مطارة إليه .. وأقبل بها مبتهجاً إلى القدر .. وأفرغ نصفها فيه ..
لمحه أحدنا .. فصرخ به .. لا .. لا .. أبو خالد ..
وهو يردد : خلوني أشتغل .. خلوني ..
فسحبنا المطارة منه فوراً .. وغرقنا في الضحك الذي يغالبه البكاء ..
لأننا اكتشفنا أنها مطارة البنزين .. وليست مطارة الماء ..!!
وتغدينا على خبز وشاي ..
لم تفسد الرحلة .. بل كانت من أمتع الرحلات ..
ولماذا نعذب أنفسنا بأمر قد انتهى ..
وأذكر أيضاً :
لما كنت في الثانوية خرجت مع بعض الزملاء في رحلة .. تعطلت بطارية إحدى السيارات ..
أقبلنا بسيارة أخرى وأوقفاناها أمامها لنوصل ببطاريتها البطارية المتعطلة ..
أقبل طارق ووقف بين السيارتين .. وشبك الأسلاك في بطارية السيارة الأولى .. ثم شبكها في البطارية المتعطلة .. ثم أشار لأحد الشباب .. شغل السيارة ..
ركب صاحبنا .. وكان ناقل الحركة ( القير ) على رقم واحد .. فما إن شغل السيارة حتى قفزت السيارة إلى الأمام وصكت ركبتي طارق بين صدامي السيارتين .. ووقع على الأرض مصاباً ..
وصاحبنا في السيارة يردد : أشغل مرة ثانية ؟!!
أبعدنا السيارتين .. وساعدنا طارق على المشي .. كان يعرج ويتألم من ركبتيه بشدة ..
لكنه أعجبني أنه لم يزد ألمه بصراخ أو سبّ .. أو توبيخ .. بل ابتسم وأظهر الرضى ..
وما فائدة الصراخ ؟ والأمر قد انتهى .. وصاحبنا أدرك خطأه ..
إذا أردت أن تستمتع بحياتك .. فاعمل بهذه القاعدة :
لا تهتم بصغائر الأمور ..
نحن أحياناً نعذب أنفسنا .. ونجلدها ..
ونضيق ونتألم .. والألم لا يحل المشكلة ..
افرض أنك دخلت إلى حفل عرس .. وقد لبست ثوباً حسناً .. ووضعت فوق رأسك غترة وعقالاً .. حتى صرت أجمل من العريس !!
وبدأت تصافح الناس واحداً واحداً .. وفجأة أقبل طفل من ورائك .. وتعلق بطرف غترتك .. وسحبها فسقطت الغترة والعقال .. والطاقية .. وصار شكلك مضحكاً ..
كيف تتصرف؟
كثير منا يتعامل مع هذه المشكلة بأسلوب هو ليس حلاً لها ..
يركض وراء الصغير .. يصرخ .. يسب .. يلعن ..
والنتيجة : أنه حقق ما كان يريده الطفل من جذب انتباه .. وضجة .. وأضحك الناس عليه ..
وربما صوره بعضهم وصار بلوتوثاً يتناقلونه ..!!
أنت هنا – حقيقة – لا تعذب الطفل إنما تعذب نفسك ..
أو افرض أنك ..
لبست ثوباً جديداً .. ربما لم تسدد قيمته بعد ..
وذهبت إلى شركة لتقدم على وظيفة ..
مررت بأحد الأبواب كان مدهوناً بالطلاء للتوّ .. وبجانبه لوحة تحذيرية لم تنتبه لها ..
وفجأة مسحت نصف الطلاء بثوبك .. وطفق عامل الطلاء يصرخ بك ساباً غضباباً ..
كيف تتعامل مع هذه المشكلة ؟
نحن في كثير من الأحيان أيضاً نتعامل معها بأسلوب ليس حلاً لها ..
نثور .. نسبُّ العامل .. لِمَ لم تضع لوحة واضحة .. فيرد عليك بغضب .. وقد تكون النتيجة أن تتلطخ بتراب الأرض أكثر مما تلطخت بطلاء الباب !!
على رسلك .. تدري أنت الآن ماذا تفعل ؟! إنك تعذب نفسك .. تجلد ذاتك ..
وقل مثل ذلك لو تزينت وذهبت خاطباً .. فمرت بك سيارة وأنت خارج من البيت .. ورشت عليك من ماء كان مجتمعاً على الأرض .. هل ستعذب نفسك فتصرخ وتزعق بالسيارة وركابها .. وهي قد ولَّتك ظهرها ..
وكذلك ..
لا داعي لنتذكر دائماً الآلام التي مستنا في حياتنا ..
محمد .. صلى الله عليه وسلم .. مرت به لحظات حزينة في حياته ..
حتى جلس يوماً مع زوجه الحنون عائشة رضي الله عنها .. في لحظة ساكنة .. فسألته :
هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد ؟
مرَّت تلك المعركة في ذاكرة النبي.. صلى الله عليه وسلم .. .
آآآه .. ما أقسى ذلك اليوم .. يوم قُتل عمه حمزة وهو من أحب الناس إليه ..
يوم وقف ينظر إلى عمه وقرة عينه .. وقد جُدع أنفه .. وقطعت أذناه .. وشُقَّ بطنه .. ومُزِّق جسده ..
يوم كسرت أسنانه رضي الله عنه . وجُرح وجهه .. وسالت منه الدماء ..
يوم قتل أصحابه بين يديه ..
يوم عاد.. صلى الله عليه وسلم .. إلى المدينة .. وقد نقص سبعون من أصحابه .. فرأى النساء الأرامل والأطفال اليتامى .. يبحثون عن أحبابهم وآبائهم ..
فعلاً .. كان ذلك اليوم قاسياً ..
كانت عائشة تنتظر الجواب .. فقال.. صلى الله عليه وسلم ..
ما لقيت من قومك كان أشد منه ..
يوم العقبة .. إذ عرضت نفسي ..
ثم ذكر لها قصة استنصاره بأهل الطائف .. وتكذيبهم له .. ورمي سفهائهم له بالحجارة حتى أدموا قدميه .. ( ) ..
ومع وجود هذه الآلام في تاريخ حياته.. صلى الله عليه وسلم .. . إلا أنه كان لا يسمح لها أن تنغص عليه استمتاعه بالحياة ..
لا تستحق الالتفات إليها .. وقد مضت آلامها وبقيت حسناتها ..
إذن لا تقتل نفسك بالهمّ ..
وكذلك لا تقتل الناس بالهم واللوم ..
نحن أحياناً نتعامل مع بعض المشاكل بأساليب هي في الحقيقة ليست حلاً لها ..
كان الأحنف بن قيس سيد بني تميم ..
لم يكن ساد قومه بقوة جسد .. ولا كثرة مال .. ولا ارتفاع نسب ..
وإنما سادهم بالحلم والعقل ..
حقد عليه قوم ..
فأقبلوا إلى سفيه من سفهائهم وقالوا له :
هذه ألف درهم على أن تذهب إلى سيد بني تميم .. الأحنف بن قيس .. فتلطمه على وجهه ..
مضى السفيه .. فإذا الأحنف جالس مع رجال .. محتبياً بكل رزانة .. قد ضم ركبتيه إلى صدره .. وجعل يحدث قومه ..
اقترب السفيه منه .. ودنا .. ودنا .. فلما وقف عنده .. مدَّ الأحنف إليه رأسه ظاناً أنه سيسرّ إليه بشيء ..
فإذا بالسفيه يرفع يده ويلطم الأحنف على وجهه لطمة كادت تمزق خده !!
نظر الأحنف إليه .. ولم يحلّ حبوته .. وقال بكل هدوووء :
لماذا لطمتني ؟!!
قال : قوم أعطوني ألف درهم على أن ألطم سيد بني تميم ..
فقال الأحنف .. آآآه .. ما صنعت شيئاً ..
لست سيد بني تميم ..!
قال : عجباً !! فأين سيد بني تميم ..
قال : هل ترى ذاك الرجل الجالس وحده .. وسيفه بجانبه ؟
وأشار إلى رجل اسمه حارثة بن قدامة .. امتلأ غضباً وغيظاً .. لو قُسِّم غضبه على أمةٍ لكفاهم ..
قال : نعم أراه .. الجالس هناك ..
قال : فاذهب والطمه لطمة .. فذاك سيد بني تميم ..
مضى الرجل إليه : واقترب من حارثة .. فإذا عينا حارثة تلتمع شرراً ..
وقف السفيه عليه .. ورفع يده ولطمه على وجهه .. فما كادت يده تفارق خده حتى التقط حارثة سيفه .. وقطع يده ..!!
وقديماً قيل : الفائز هو الذي يضحك في النهاية !!
قناعة ..
التعامل مع المشكلة بأساليب ليست حلاً لها .. يعذبك .. ولا يحل المشكلة !!
46. مشاكل ليس لها حل ..
كم ترى من الناس غاضباً وهو يقود سيارته ..
وربما ضرب بيديه على مقودها .. وردد .. أوووه دائماً زحمة .. زحمة ..
أو قد تراه يمشي في الطريق .. ولا يحتمل أن يكلمه أحد .. بل متضايق أشد الضيق .. ويردد : أوووف حررر شديييد ..!!
وربما كنت زميلاً له في مكتب واحد .. تبتلى برؤيته كل يوم .. ويشغلك كلما جلس .. " ياخي العمل كثييير .. أوووه إلى متى ما يزيدون رواتبنا " .. ويدخل عابساً .. ويخرج ساخطاً ..
وربما أكثر التشكي من آلام بدنه .. أو إعاقة ولده ..
لا بد أن نقتنع جميعاً أننا تواجهنا في حياتنا مشاكل ليس لها حل .. فلا بد أن نتعامل معها بأريحية ..
قال : السماء كئيبة وتجهما *** قلت : ابتسم ، يكفي التجهم في السما!
قال : الصبا ولى ! فقلت له : ابتسم *** لن يرجع الأسف الصبا المتصرما
قال : التي كانت سمائي في الهوى *** صارت لنفسي في الغرام جهنما
خانت عهودي بعدما ملكتها *** قلبي فكيف أطيق أن أتبسما
قلت : ابتسم واطرب فلو قارنتها *** قضيت عمرك كله متألما
قال : العدى حولي علت صيحاتهم *** أَأُسَرُّ والأعداء حولي في الحمى
قلت : ابتسم ، لم يطلبوك بذمهم *** لو لم تكن منهم أجلَّ وأعظما!
قال : الليالي جرعتني علقماً *** قلت : ابتسم ولئن جرعت العلقما
فلعل غيرك إن رآك مُرَنِّـماً *** طرح الكآبة خلفه وترنما
أتراك تغنم بالترنم درهماً *** أم أنت تخسر بالبشاشة مغنماً
فاضحك فإن الشهب تضحك والدجى *** متلاطم ولذا نحب الأنجما ( ) ..
نعم استمتع بحياتك ..
انتبه أن تكون ظروفك مؤثرة على سلوكك .. في عملك .. أولادك .. زملائك ..
فما ذنبهم أن يتعذبوا بأمور ليس هم طرفاً فيها .. ولا يملكون حلها ؟
لا تجعلهم إذا رأوك .. أو ذكروك . ذكروا معك الهم والحزن ..
لذا نهى.. صلى الله عليه وسلم .. عن النياحة على الميت .. والصراخ .. وشق الجيب .. وحلق الشعر .. و ..
لماذا ؟
لأن التعامل مع الموت يكون بتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه .. والدعاء له ..
أما الصراخ والعويل فلا ينفع شيئاً .. سوى أنه يقلب متعة الحياة إلى أحزان ..
مشى المعافى بن سليمان مع صاحب له .. فالتفت إليه صاحبه عابساً وقال : ما أشد البرد اليوم ؟
فقال المعافى : أستدفأت الآن ؟
قال : لا ..
قال : فماذا استفدت من الذم ؟ لو سبّحت لكان خيراً لك ..
عش حياتك ..
لا تنقب عن المشكلات .. ولا تدقق في صغائر الأمور .. وإنما استمتع بحياتك ..
47. لا تقتل نفسك بالهم ..
كان أحد طلابي في الجامعة ..
غاب أسبوعاً كاملاً .. ثم لقيته فسألته : سلامات .. سعد ..؟
قال : لا شيء .. كنت مشغولاً قليلاً ..
كان الحزن واضحاً عليه ..
قلت : ما الخبر ؟
قال : كان ولدي مريضاً .. عنده تليف في الكبد .. وأصابه قبل أيام تسمم في الدم .. وتفاجأت أمس أن التسمم تسلل إلى الدماغ ..
قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله .. اصبر .. وأسأل الله أن يشفيه ..
وإن قضى الله عليه بشيء .. فأسأل الله أن يجعله شافعاً لك يوم القيامة ..
قال : شافع ؟ يا شيخ .. الولد ليس صغيراً ..
قلت : كم عمره ؟
قال : سبع عشرة سنة ..
قلت : الله يشفيه .. ويبارك لك في إخوانه ..
فخفض رأسه وقال : يا شيخ .. ليس له إخوان .. لم أُرْزق بغير هذا الولد .. وقد أصابه ما ترى ..
قلت له : سعد .. بكل اختصار .. لا تقتل نفسك بالهم .. لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ..
ثم خففت عنه مصابه وذهبت ..
نعم لا تقتل نفسك بالهم .. فالهم لا يخفف المصيبة ..
أذكر أني قبل فترة .. ذهبت إلى المدينة النبوية ..
التقيت بخالد .. قال لي : ما رأيك أن نزور الدكتور : عبد الله ..
قلت : لماذا .. ما الخبر ؟
قال : نعزيه ..
قلت : نعزيه ؟!!
قال : نعم .. ذهب ولده الكبير بالعائلة كلها لحضور حفل عرس في مدينة مجاورة .. وبقي هو في المدينة لارتباطه بالجامعة ..
وفي أثناء عودتهم وقع لهم حادث مروع .. فماتوا جميعاً .. أحدى عشر نفساً !!
كان الدكتور رجلاً صالحاً قد جاوز الخمسين .. لكنه على كل حال .. بشر .. له مشاعر وأحاسيس ..
في صدره قلب .. وله عينان تبكيان .. ونفس تفرح وتحزن ..
تلقى الخبر المفزع .. صلى عليهم .. ثم وسدهم في التراب بيديه .. إحدى عشر نفساً ..
صار يطوف في بيته حيران .. يمر بألعاب متناثرة .. قد مضى عليها أيام لم تحرك .. لأن خلود وسارة اللتان كانتا تلعبان بها .. ماتتا ..
يأوي إلى فراشه .. لم يرتب .. لأن أم صالح .. ماتت ..
يمر بدراجة ياسر .. لم تتحرك .. لأن الذي كان يقودها .. مااات ..
يدخل غرف ابنته الكبرى .. يرى حقائب عرسها مصفوفة .. وملابسها مفروشة على سريرها .. ماتت .. وهي ترتب ألوانها وتنسقها ..
سبحان من صبّره .. وثبت قلبه ..
كان الضيوف يأتون .. معهم قهوتهم .. لأنه لا أحد عنده يخدم أو يُعين ..
العجيب أنك إذا رأيت الرجل في العزاء .. حسبت أنه أحد المعزين .. وأن المصاب غيره ..
كان يردد .. إنا لله وإنا إليه راجعون .. لله ما أخذ وله ما أعطى .. وكل شيء عنده بأجل مسمى ..
وهذا هو قمة العقل .. فلو لم يفعل ذلك .. لمات هماً ..
أعرف أحد الناس أراه دائماً سعيد .. وإذا تأملت حاله وجدت :
وظيفته متواضعة
بيته وضيق .. إيجار ..
سيارته قديمة ..
أولاده كثيرون ..
ومع ذلك كان دائم الابتسامة .. محبوباً .. يعيش حياته ..
صحيح .. لا يقتل نفسه بالهم ..
ولا تكثر التشكي..فيملّك الناس..
عنده ولد معوق .. ولدي مريض .. ضايق صدري .. يا أخي مسكين ولدي .. خلاص فهمنا ..
راتبي قليل ..
امرأة مع زوجها : بيتنا قديم .. سيارتنا متهالكة .. ثيابي ليست على الموضة ..
أفنيت يا مسكين عمرك بالتأوه والحزن
وظللت مكتوف اليدين تقول حاربني الزمن
إن لم تقم بالعبء أنت فمن يقوم به إذن
إضاءة
عش حياتك بما بين يدك من معطيات .. لتسعد
48. ارض بما قسم الله لك ..
كنت في رحلة إلى أحد البلدان لإلقاء عدد من المحاضرات ..
كان ذلك البلد مشهوراً بوجود مستشفى كبير للأمراض العقلية ..أو كما يسميه الناس "مستشفى المجانين" ..
ألقيت محاضرتين صباحاً .. وخرجت وقد بقي على أذان الظهر ساعة ..
كان معي عبد العزيز .. رجل من أبرز الدعاة ..
التفت إليه ونحن في السيارة .. قلت : عبد العزيز .. هناك مكان أود أن أذهب إليه ما دام في الوقت متسع ..
قال : أين ؟ صاحبك الشيخ عبد الله .. مسافر .. والدكتور أحمد اتصلت به ولم يجب .. أو تريد أن نمر المكتبة التراثية .. أو ..
قلت : كلا .. بل : مستشفى الأمراض العقلية ..
قال : المجانين !! قلت : المجانين ..
فضحك وقال مازحاً : لماذا .. تريد أن تتأكد من عقلك ..
قلت : لا .. ولكن نستفيد .. نعتبر .. نعرف نعمة الله علينا ..
سكت عبد العزيز يفكر في حالهم .. شعرت أنه حزين .. كان عبد العزيز عاطفياً أكثر من اللازم ..
أخذني بسيارته إلى هناك ..
أقبلنا على مبنى كالمغارة..الأشجار تحيط به من كل جانب..كانت الكآبة ظاهرة عليه..
قابلنا أحد الأطباء .. رحب بنا ثم أخذنا في جولة في المستشفى ..
أخذ الطبيب يحدثنا عن مآسيهم .. ثم قال :
وليس الخبر كالمعاينة ..
دلف بنا إلى أحد الممرات .. سمعت أصواتاً هنا وهناك ..
كانت غرف المرضى موزعة على جانبي الممر ..
مررنا بغرفة عن يميننا .. نظرت داخلها فإذا أكثر من عشرة أسرة فارغة .. إلا واحداً منها قد انبطح عليه رجل ينتفض بيديه ورجليه ..
التفتُّ إلى الطبيب وسألته : ما هذا !!
قال : هذا مجنون .. ويصاب بنوبات صرع .. تصيبه كل خمس أو ست ساعات ..
قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله .. منذ متى وهو على هذا الحال ؟
قال :منذ أكثر من عشر سنوات ..كتمت عبرة في نفسي .. ومضيت ساكتاً ..
بعد خطوات مشيناها .. مررنا على غرفة أخرى .. بابها مغلق .. وفي الباب فتحة يطل من خلالها رجل من الغرفة .. ويشير لنا إشارات غير مفهومة ..
حاولت أن أسرق النظر داخل الغرفة .. فإذا جدرانها وأرضها باللون البني ..
سألت الطبيب : ما هذا ؟!! قال : مجنون ..
شعرت أنه يسخر من سؤالي .. فقلت : أدري أنه مجنون .. لو كان عاقلاً لما رأيناه هنا .. لكن ما قصته ؟
فقال : هذا الرجل إذا رأى جداراً .. ثار وأقبل يضربه بيده .. وتارة يضربه برجله .. وأحياناً برأسه ..
فيوماً تتكسر أصابعه .. ويوماً تكسر رجله .. ويوماً يشج رأسه .. ويوماً .. ولم نستطع علاجه .. فحبسناه في غرفة كما ترى .. جدرانها وأرضها مبطنة بالإسفنج .. فيضرب كما يشاء .. ثم سكت الطبيب .. ومضى أمامنا ماشياً ..
أما أنا وصاحبي عبد العزيز .. فظللنا واقفين نتمتم : الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به
ثم مضينا نسير بين غرف المرضى ..
حتى مررنا على غرفة ليس فيها أسرة .. وإنما فيها أكثر من ثلاثين رجلاً .. كل واحد منهم على حال .. هذا يؤذن .. وهذا يغني .. وهذا يتلفت .. وهذا يرقص ..
وإذا من بينهم ثلاثة قد أُجلسوا على كراسي .. وربطت أيديهم وأرجلهم .. وهم يتلفتون حولهم .. ويحاولون التفلت فلا يستطيعون ..
تعجبت وسألت الطبيب : ما هؤلاء ؟ ولماذا ربطتموهم دون الباقين ؟
فقال : هؤلاء إذا رأوا شيئاً أمامهم اعتدوا عليه .. يكسرون النوافذ .. والمكيفات .. والأبواب ..
لذلك نحن نربطهم على هذا الحال .. من الصباح إلى المساء ..
قلت وأنا أدافع عبرتي : منذ متى وهم على هذا الحال ؟
قال : هذا منذ عشر سنوات .. وهذا منذ سبع .. وهذا جديد .. لم يمض له إلا خمس سنين !!
خرجت من غرفتهم .. وأنا أتفكر في حالهم .. وأحمد الله الذي عافاني مما ابتلاهم ..
سألته : أين باب الخروج من المستشفى ؟
قال : بقي غرفة واحدة .. لعل فيها عبرة جديدة .. تعال ..
وأخذ بيدي إلى غرفة كبيرة .. فتح الباب ودخل .. وجرني معه ..
كان ما في الغرفة شبيهاً بما رأيته في غرفة سابقة .. مجموعة من المرضى .. كل منهم على حال .. راقص .. ونائم ..
و .. و .. عجباً ماذا أرى ؟؟
رجل جاوز عمره الخمسين .. اشتعل رأسه شيباً .. وجلس على الأرض القرفصاء .. قد جمع جسمه بعضه على بعض .. ينظر إلينا بعينين زائغتين .. يتلفت بفزع ..
كل هذا طبيعي ..
لكن الشيء الغريب الذي جعلني أفزع .. بل أثور .. هو أن الرجل كان عارياً تماماً ليس عليه من اللباس ولا ما يستر العورة المغلظة ..
تغير وجهي .. وامتقع لوني .. والتفت إلى الطبيب فوراً .. فلما رأى حمرة عيني ..
قال لي .. هدئ من غضبك .. سأشرح لك حاله ..
هذا الرجل كلما ألبسناه ثوباً عضه بأسنانه وقطعه .. وحاول بلعه .. وقد نلبسه في اليوم الواحد أكثر من عشرة ثياب .. وكلها على مثل هذا الحال ..
فتركناه هكذا صيفاً وشتاءً .. والذين حوله مجانين لا يعقلون حاله ..
خرجت من هذه الغرفة .. ولم أستطع أن أتحمل أكثر .. قلت للطبيب : دلني على الباب .. للخروج ..
قال : بقي بعض الأقسام ..
قلت : يكفي ما رأيناه ..
مشى الطبيب ومشيت بجانبه .. وجعل يمر في طريقه بغرف المرضى .. ونحن ساكتان ..
وفجأة التفت إليّ وكأنه تذكر شيئاً نسيه .. وقال :
يا شيخ .. هنا رجل من كبار التجار .. يملك مئات الملايين .. أصابه لوثة عقلية فأتى به أولاده وألقوه هنا منذ سنتين ..
وهنا رجل آخر كان مهندساً في شركة .. وثالث كان ..
ومضى الطبيب يحدثني بأقوام ذلوا بعد عز .. وآخرين افتقروا بعد غنى .. و ..
أخذت أمشي بين غرف المرضى متفكراً ..
سبحان من قسم الأرزاق بين عباده ..
يعطي من يشاء .. ويمنع من يشاء ..
قد يرزق الرجل مالاً وحسباً ونسباً ومنصباً .. لكنه يأخذ منه العقل .. فتجده من أكثر الناس مالاً .. وأقواهم جسداً .. لكنه مسجون في مستشفى المجانين ..
وقد يرزق آخر حسباً رفيعاً .. ومالاً وفيراً .. وعقلاً كبيراً .. لكنه يسلب منه الصحة .. فتجده مقعداً على سريره .. عشرين أو ثلاثين سنة .. ما أغنى عنه ماله وحسبه ..!!
ومن الناس من يؤتيه الله صحة وقوة وعقلاً .. لكنه يمنعه المال فتراه يشتغل حمال أمتعة في سوق أو تراه معدماً فقيراً يتنقل بين الحرف المتواضعة لا يكاد يجد ما يسد به رمقه ..
ومن الناس من يؤتيه .. ويحرمه .. وربك يخلق ما يشاء ويختار .. ما كان لهم الخيرة ..
فكان حرياً بكل مبتلى أن يعرف هدايا الله إليه قبل أن يعد مصائبه عليه .. فإن حرمك المال فقد أعطاك الصحة .. وإن حرمك منها .. فقد أعطاك العقل .. فإن فاتك .. فقد أعطاك الإسلام .. هنيئاً لك أن تعيش عليه وتموت عليه ..
فقل بملء فيك الآن بأعلى صوتك : الحممممد لله ..
وكذلك كان الصحابة الكرام ..
بعث رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. . عمرو بن العاص t جهة الشام .. في غزوة ذات السلاسل ..
فلما صار إلى هناك رأى كثرة عدوه ..
فبعث إلى رسول الل.. صلى الله عليه وسلم .. يستمده ..
فبعث إليه.. صلى الله عليه وسلم .. أبا عبيدة بن الجراح .. أميراً على مدد .. فيه المهاجرون الأولون .. وفيهم أبو بكر وعمر .. وقال .. صلى الله عليه وسلم .. لأبي عبيدة حين وجهه : لا تختلفا ..
فخرج أبو عبيدة ..
حتى إذا قدم على عمرو قال له عمرو : إنما جئت مدداً لي ..
فقال له أبو عبيدة : لا ولكن على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه ..
وكان أبو عبيدة رجلاً ليناً سهلاً .. هيناً عليه أمر الدنيا ..
فقال له عمرو : بل أنت مددي ..
فقال له أبو عبيدة : يا عمرو إن رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. قد قال لي :
لا تختلفا .. وإنك إن عصيتني أطعتك ..
فقال له عمرو: فإني أمير عليك .. وإنما أنت مدد لي ..
قال : فدونك ..
فتقدم .. عمرو بن العاص رضي الله عنه فصلى بالناس ..
وبعد الغزوة .. كان أول من وصل المدينة .. عوف بن مالك رضي الله عنه
فمضى إلى رسول.. صلى الله عليه وسلم .. ..
فلما رآه .. قال له .. صلى الله عليه وسلم .. .. أخبرني ..
فأخبره عن الغزوة .. وما كان بين أبي عبيدة وعمرو بن العاص ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. : يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح ..
نعم .. يرحم الله أبا عبيدة رضي الله عنه ..
فكرة ..
انظر للجوانب المشرقة من حياتك .. قبل أن تنظر للمظلمة .. لتكون أسعد ..
49- كن جبلاً ..
في بداية سلوكي في طريق الدعوة .. دعيت لإلقاء محاضرة في إحدى القرى ..
استقبلني المسئول عن الدعوة هناك .. ركبت سيارته .. كانت قديمة متهالكة ..
تحدثت معه .. أخبرني أنه حديث عهد بزواج ..
ثم اشتكى إليَّ من غلاء المهور في قريتهم .. حتى إنه لم يستطع أن يشتري سيارة جديدة .. أو على الأقل أحسن من سيارته ..
دعوت له بالتوفيق ..
ثم دخلت وألقيت المحاضرة .. وفي آخرها .. قرئت عليَّ الأسئلة .. وكان من بينها سؤال عن غلاء المهور ..
ففرحت به وقلت : جاءك يا مهنا ما تتمنا !!
وانطلقت أتكلم عن غلاء المهور وتأثيره على الشباب والفتيات ..
ثم ذكرت إن رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. ما زوج بناته بأكثر من خمسمائة درهم .. ثم رفعت صوتي قائلاً : يعني بناتكم أحسن من بنات النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ؟!!
فصرخ رجل مُسن من طرف الصف قائلاً : إيش فيهم بناتنا ؟
فثار آخر وقال : يتكلم على بناتنا !!
ونهض الثالث جاثياً على ركبتيه وقال : أوووه تتكلم على بناتنا ؟!!
كنت في حال لا أحسد عليه .. وكنت في أوائل طريق الدعوة .. وحديث التخرج من الجامعة ..
بقيت ساكتاً لم أنبس ببنت شفة .. نظرت إلى الأول لما تكلم وتبسمت .. فلما تكلم الثاني .. نظرت إليه أيضاً وتبسمت .. وكذلك الثالث ..
كان بعض الشباب في آخر المسجد يتضاحكون .. وبعضهم قاموا وقوفاً ينظرون .. وكأني بهم يقولون : وقف حمار الشيخ في العقبة !!
لما رأوا هدوئي .. هدؤوا .. ثم قام أحدهم وقال : يا جماعة .. خلوا الشيخ يوضح قصده ..
فسكتوا .. فشكرت له عمله .. ثم اعتذرت وأثنيت عليهم – وعلى بناتهم - ووضحت مرادي ..
عند تعاملك مع الناس .. أنت في الحقيقة تصنع شخصيتك .. وتبني في عقولهم تصورات عنك .. يبنون على أساسها أساليب تعاملهم معك .. واحترامهم لك ..
تأكد أن الأشجار الثابتة لا تقتلعها الرياح .. مهما اشتدت .. وإنما النصر صبر ساعة ..
كلما زاد عقلك .. قل جهلك .. وإذا زاد قدرك .. قل غضبك ..
كالبحر لا يحركه أي شيء .. ويا جبل ما تهزك ريح ..!
بل إنك لو استثارك شخص ما .. في مجلس .. أو بيت .. أو قناة فضائية .. أو محاضرة عامة ..
فإنك إذا بقيت هادئاً لم تغضب ولم تثر .. مال الناس معك ضده ..
كان أبو سفيان بن حرب مقبلاً بقافلة تجارة من الشام .. فخرج إليهم المسلمون لقتالهم ..
ففر أبو سفيان بالقافلة .. وأرسل إلى قريش فخرجت بجيش عرمرم ..
ووقعت معركة بدر بين المسلمين وقريش .. وانتصر المسلمون ..
قتل من كفار قريش سبعون .. وأُسِر منهم سبعون ..
رجع من تبقى من جيش قريش .. وهم جرحى .. وجوعى ..
ثم وصل أبو سفيان بقافلته إلى مكة ..
فمشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان ابن أمية ..
في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر ..
فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ..
فقالوا : يا معشر قريش .. إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم .. فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأراً .. ففعلوا ..
وقد قال الله فيهم : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون " .
فخرجت قريش .. بحدها وحديدها .. وجدها وأحابيشها ..
وخرج معها من تابعها من بني كنانة وأهل تهامة .. وخرجوا معهم بالنساء لئلا يفر الرجال من القتال ..
فخرج أبو سفيان بزوجته هند بنت عتبة ..
وخرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته أم حكيم بنت الحارث ..
وخرج الحارث بن هشام بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة ..
فأقبل الكفار .. حتى نزلوا على شفير الوادي مقابل المدينة ..
فلما سمع بهم رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. . استشار أصحابه .. ما رأيكم ؟
نبقى في المدينة فإذا دخلوها علينا ..
فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدراً : نخرج يا رسول الله إليهم نقاتلهم بـ "أحد" ..
ورجوا أن يصيبهم من الفضيلة ما أصاب أهل بدر ..
فما زالوا برسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. حتى لبس أداة الحرب ..
ثم ندموا .. وقالوا : يا رسول الله أقم .. فالرأي رأيك ..
فقال لهم : ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد ما لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ..
فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدراً بقدوم العدو عليهم ..
وقالوا : قد ساق الله علينا أمنيتنا ..
ثم قال النبي.. صلى الله عليه وسلم .. لأصحابه :
" من رجل يخرج بنا على القوم من كثب ـ أي من قريب ـ من طريق لا يمر بنا عليهم " ؟
فقال رجل من بني حارثة بن الحارث اسمه أبو خيثمة :
أنا يا رسول الله ..
فسلك به في أرض بني حارثة وبين أموالهم ومزارعهم ..
حتى سلك به في مال لرجل اسمه : مربع ابن قيظي ..
وكان رجلاً منافقاً ضرير البصر ..
فلما سمع حِسّ رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. ومن معه من المسلمين ..
قام يحثي في وجوههم التراب .. ويقول : إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل في حائطي ..
ثم أخذ الخبيث حفنة من التراب في يده .. ثم قال :
والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك ..
فابتدره القوم ..
فقال النبي.. صلى الله عليه وسلم ..
" لا تقتلوه .. فهذا الأعمى .. أعمى القلب .. أعمى البصر .. "
ومضى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. ولم يلتفت إلى ذلك المنافق ..
نعم ..
لو كل كلب عوى ألقمته حجراً
لأصبح الصخر مثقالاً بدينار
والكلاب تنبح .. والقافلة تسييييير ..
قناعة ..
الرياح لا تحرك الجبال .. لكنها تلعب بالرمال .. وتشكلها كما تشاء ..
50. لا تلعنه .. إنه يشرب خمراً ..!!
أكثر الناس الذين نخالطهم مهما بلغ من السوء .. إلا أنه لا يخلو من خير وإن كان قليلاً ..
فلو استطعنا أن نعثر على مفتاح الخير لكان حسناً ..
اشتهر عن بعض المجرمين .. أنه كان يسطو على بيوت الناس ويسرق أموالهم .. لينفق بعضها على ضعفاء وأيتام !! أو يبني بها مساجد !!
أو كالتي ترى أيتاماً جوعى فتزني لتحصل مالاً تسد به جوعهم ..
بنى مسجداً لله من غير حله **
فكان بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كدِّ عرضها ! **
لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
وكم من حامل سكين ليطعن بها .. فاستعطفه طفل أو امرأة فرق قلبه .. وألقى سكينه عنه ..
إذن عامل الناس جميعاً بما تعلم فيهم من خير .. قبل أن تسيء الظن بهم ..
محمد .. صلى الله عليه وسلم.. بلغ من خلقه أنه كان يلتمس المعاذير للمخطئين .. ويحسن الظن بالمذنبين .. وكان إذا قابل عاصياً ينظر فيه إلى جوانب الإيمان قبل جوانب الشهوة والعصيان ..
ما كان يسيء الظن بأحد .. يعاملهم كأنهم أولاده وإخوانه .. يحب لهم الخير كما يحبه لنفسه ..
كان رجل في عهد النبي .. صلى الله عليه وسلم.. قد ابتلي بشرب الخمر ..
فأُتيَ به يوماً إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم.. فأمر به فجُلد ..
ثم مرت أيام .. فشرب خمراً .. فجيء به أخرى فجلد ..
ومرت أيام .. ثم جيء به قد شرب خمراً .. فجلد ..
فلما ولى خارجاً .. قال رجل من الصحابة :
لعنه الله .. ما أكثر ما يؤتى به !!
فالتفت إليه .. صلى الله عليه وسلم.. .. وقد تغير وجهه فقال له : لا تلعنه .. فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله ..( )
فن ..
قبل أن تبدأ في نزع شجرة الشر في الآخرين .. ابحث عن شجرة الخير واسقها ..
51. إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون ..!!
ما دمت مُلزما فاستمتع .. هكذا كنت أقول لشاب أصيب بمرض السكر .. فكان يشرب الشاي من غير سكر .. ويتأسف لحاله ..
كنت أقول له : هل إذا تأسفت وحزنت أثناء شربك الشاي .. هل تنقلب المرارة حلاوة ..
قال : لا ..
قلت : ما دمت ملزماً .. فاستمتع ..
أعني لن تأتي الدنيا دائماً على ما نحب ..
وهذا يقع في حياتنا كثيراً ..
سيارتك قديمة .. مكيف لا يشتغل .. مراتب ممزقة .. ولا تستطيع حالياً تغييرها .. ما الحل ؟
تقدمت للدراسة بالجامعة .. فقبلت في كلية لا ترغب في الدراسة فيها .. حاولت تعديل الحال فلم تستطع .. فاضطررت لمواصلة الدراسة .. وأكملت سنتين وثلاث .. فما الحل ؟
تقدمت لوظيفة فلم تقبل .. وقبلت في أخرى .. وبدأت دوامك فيها .. فما الحل؟
خطبت فتاتاً فرفضت .. وتزوجت آخر .. ما الحل ؟
كثير من الناس يجعل الحل هو الاكتئاب الدائم .. والتأفف من واقعه .. وكثرة التشكي إلى من عرف ومن لم يعرف ! وهذا لا يرد إليه رزقاً فاته .. ولا يعجل برزق لم يكتب له ..
إذن ما الحل ؟
العاقل فهو الذي يتكيف مع واقعه كيفما كان .. مادام لا يستطيع التغيير إلى الأحسن ..
أحد أصدقائي كان يشرف على بناء مسجد ..
فضاقت بهم النفقة .. فتوجهوا إلى أحد التجار للاستعانة به في إكمال البناء ..
فتح لهم الباب .. جلس معهم قليلاً .. وأعطاهم ما تيسر .. ثم أخرج دواء من جيبه وجعل يتناوله ..
قال له أحدهم : سلامات .. عسى ما شر !!
قال : لا .. هذه حبوب منومة .. منذ عشر سنين لا أنام إلا بها ..
دعوا له .. وخرجوا ..
فمروا على حفريات وأعمال طرق عند مخرج المدينة .. وقد وضع عندها أنوار تعمل بمولد كهربائي قد ملأ الدنيا ضجيجاً ..
ليس هذا هو الغريب ..
الغريب أن حارس المولد هو عامل فقير قد افترش قصاصات جرائد .. ونااااام ..
نعم .. عش حياتك .. لا وقت فيها لِلهمِّ .. تعامل مع المعطيات التي بين يديك ..
خرج .. صلى الله عليه وسلم .. مع أصحابه في غزوة فقلَّ طعامهم .. وتعبوا ..
فأمرهم .. أن يجمعوا ما عندهم من طعام ..
وفرش رداءه .. وصار الرجل يأتي بالتمرة .. والتمرتين .. وكسرة الخبز .. وكلها تجتمع فوق هذا الرداء .. ثم أكلوا .. وهم مستمتعون ..
لمحة ..
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ..
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
52. نختلف ونحن إخوان !
ذُكر أن الشافعي رحمه الله تناظر يوماً مع أحد العلماء حول مسألة فقهية عويصة ..
فاختلفا .. وطال الحوار .. حتى علت أصواتهما ..
ولم يستطع أحدهما أن يقنع صاحبه ..
وكأن الرجل تغير وغضب .. ووجد في نفسه ..
فلما انتهى المجلس وتوجها للخروج .. التفت الشافعي إلى صاحبه .. وأخذ بيده وقال :
ألا يصح أن نختلف ونبقى إخواناً ..!
وجلس بعض علماء الحديث يوماً .. عند الخليفة ..
فتكلم رجل في المجلس بحديث ..
فاستغرب العالم منه .. وقال : ما هذا الحديث !! من أين جئت به ؟ تكذب على رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. ؟
فقال الرجل : بل هذا حديث .. ثابت ..
قال العالم : لا .. هذا حديث لم نسمع به .. ولم نحفظه ..
وكان في المجلس وزير عاقل ..
فالتفت إلى العالم وقال بهدوء : يا شيخ .. هل حفظت جمييييع أحاديث النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ..؟
قال : لا ..
قال : فهل حفظت نصفها ؟
قال : ربما ..
فقال : فاعتبر هذا الحديث من النصف الذي لم تحفظه ..
وانتهت المشكلة ..
كان الفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك صاحبين لا يفترقان ..
وكانا عالمين زاهدين ..
عنَّ لعبد الله بن المبارك فخرج للقتال والرباط في الثغور ..
وبقي الفضيل بن عياض في الحرم يصلي ويتعبد ..
وفي يوم رق فيه القلب .. وأسبلت الدمعة ..
كتب الفضيل إلى ابن المبارك كتاباً يدعوه فيه إلى المجيء والتعبد في الحرم .. والاشتغال بالذكر وقراءة القرآن ..
فلما قرأ ابن المبارك الكتاب ..
أخذ رقعة وكتب إلى الفضيل :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ***
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ***
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل ***
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ***
رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا ***
قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في ***
أنف امريء ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ***
ليس الشهيد بميت لا يكذب
ثم قال :
إن من عباد من فتح الله في الصيام .. فيصوم ما لا يصومه غيره .. ومنهم من فتح له في قراءة القرآن .. ومنهم من فتح له في طلب العلم .. ومنهم من فتح في الجهاد .. ومنهم من فتح له في قيام الليل ..
وليس ما أنت عليه بأفضل مما أنا عليه ..
وما أنا عليه .. ليس بأفضل مما أنت عليه ..
وكلانا على خير ..
وهكذا كان منهج الصحابة ..
اجتمع الكفار وتألبوا لحرب المسلمين في المدينة .. وجاؤوا في جيش لم تشهد العرب مثله كثرة وعتاداً ..
فحفر المسلمون خندقاً لم يستطع الكفار أن يتجاوزوه لدخول المدينة ..
فعسكر الكفار وراء الخندق ..
وكان في المدينة قبيلة بني قريظة .. وهم يهود يتربصون بالمؤمنين ..
فأقبلوا إلى الكفار يمدونهم .. ويعيثون في المدينة فساداً ونهباً ..
وقد انشغل المسلمون عنهم بالرباط عند الخندق ..
ومضت الأيام عصيبة .. حتى أرسل الله على الكفار ريحاً وجنوداً .. من عنده فتمزق جيشهم .. وانقلبوا خائبين .. يجرون أذيال هزيمتهم في ظلمة الليل ..
فلما أصبح رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. .. انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة ..
ووضع المسلمون السلاح .. ورجعوا إلى بيوتهم ..
ودخل رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. بيته .. ووضع السلاح واغتسل ..
فلما كانت الظهر .. جاءه جبريل ..
فنادى رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. من خارج البيت ..
فقام رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. فزعاً ..
فقال له جبريل عليه السلام : أوقد وضعت السلاح يا رسول الله ؟
قال : نعم ..
قال جبريل : ما وضعت الملائكة السلاح بعد .. وما رجعت الآن إلا من طلب القوم .. طلبناهم حتى بلغنا حمراء الأسد ..
إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة .. فإني عامد إليهم فمزلزل بهم ..
فأمر رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. مؤذناً فأذن في الناس :
" من كان سامعاً مطيعاً .. فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة " ..
فتسابق الناس إلى سلاحهم .. وسمعوا وأطاعوا .. ومضوا إلى ديار بني قريظة ..
فدخل عليهم وقت العصر وهم في الطريق ..
فقال بعضهم لا نصلي العصر إلا في بني قريظة ..
وقال بعضهم : بل نصلي لم يرد منا ذلك .. يعني إنما أراد الإسراع إليهم ..
فصلوا العصر وأكملوا مسيرهم ..
وأخرها الآخرون .. حتى وصلوا بني قريظة .. فصلوها ..
فذكر ذلك للنبي .. صلى الله عليه وسلم .. فلم يعنف واحداً من الفريقين ..
فحاصرهم النبي.. صلى الله عليه وسلم ..
.. حتى نصره الله عليهم ..
وجهة نظر ..
ليست الغاية أن نتفق .. لكن الغاية أن لا نختلف ..
53. الرفق .. إلا زانه ..
يتكرر على ألسنتنا كثيراً عندما نعجب بشخص ما .. أن نصفه قائلين :
فلان رزين .. فلان ثقيل .. فلان راكد ..
وإذا أردنا مذمة شخص قلنا : فلان عجول .. فلان خفيّف ..
أما رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..فيقول : ما كان الرفق في شيء إلا زانه .. وما نزع من شيء إلا شانه .. ( )
هل تستطيع تحريك طن الحديد بأصبع ؟
نعم : إذا أحضرت رافعة .. ثم ربطته برفق .. وأحكمت ربطه ..
ثم رفعته .. فإذا تعلق في الهواء .. حركه بأصغر أصابعك ..
اتفق صديقان على أن يتقدما لرجل لخطبة ابنتيه .. كانت إحداهما أكبر من الأخرى ..
قال أحدهما للآخر : أنا آخذ الصغيرة .. وأنت تأخذ الكبيرة ..
فصاح صاحبه : لااااا .. بل أنت خذ الكبيرة .. وأنا آخذ الصغيرة ..
فقال الأول : طيب .. أنت تأخذ الصغيرة .. وأنا آخذ التي أصغر منها ..
قال : موافق ..!!
ولم يدرك أن صاحبه ما غير قراره .. سوى أنه غير أسلوب الكلام برفق ..
وفي الحديث : إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق .. وإذا أراد الله بأهل بيت شراً .. نزع منهم الرفق .. ( )
وفيه : إن الله رفيق يحب الرفق .. ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف .. وما لا يعطي على ما سواه .. ( )
الرفيق .. الهين اللين .. محبوب عند الناس .. تطمئن إليه النفوس .. وتثق فيه ..
خاصة إذا صاحب ذلك وزن للكلام .. وقدرة على التعامل الرائع ..
من أشهر طلاب علماء الحنفية الإمام أبو يوسف القاضي ..
هو أشهر طلاب أبي حنيفة ..
كان أبو يوسف في صغره فقيراً .. وكان أبوه يمنعه من حضور درس أبي حنيفة .. ويأمره بالذهاب للسوق لتكسب ..
كان أبو حنيفة حريصاً عليه .. وإذا غاب عاتبه ..
فاشتكى أبو يوسف يوماً إلى أبي حنيفة حاله مع والده .. فاستدعى أبو حنيفة والد أبي يوسف وسألأه : كم يكسب الولد كل يوم ؟
قال : درهمان ..
قال : أنا أعطيك الدرهمين .. ودعه يطلب العلم ..
فلازم أبو يوسف شيخه سنين ..
فلما بلغ أبو يوسف سن الشباب .. ونبغ على أقرانه .. أصابه مرض أقعده ..
فزاره أبو حنيفة .. وكان المرض شديداً متمكناً منه .. فلما رآه أبو حنيفة حزن .. وخاف عليه الهلاك ..
وخرج وهو يكلم نفسه قائلاً : آآآه يا أبا يوسف .. لقد كنت أرجوك للناس من بعدي !!
ومضى أبو حنيفة يجر خطاه حزيناً إلى حلقته وطلابه ..
ومضت يومان .. فشفي أبو يوسف .. واغتسل ولبس ثيابه ليذهب لدرس شيخه ..
فسأله من حوله : إلى أين تذهب ؟
قال : إلى درس الشيخ ..
قالوا : إلى الآن تطلب العلم ؟ أنت قد اكتفيت .. أما بلغك ما قال فيك الشيخ ؟
قال : وما قال ؟!
قالوا : قد قال : كنت أرجوك للناس من بعدي .. أي أنك قد حصلت كل علم أبي حنيفة .. فلو مات الشيخ اليوم جلست مكانه ..
فأعجب أبو يوسف بنفسه ..
ومضى إلى المسجد ورأى حلقة أبي حنيفة في ناحية .. فجلس في الناحية الأخرى .. وبدأ يدرس ويفتي ..
التفت أبو حنيفة إلى الحلقة الجديدة .. فسأل : حلقة من هذه ؟
قالوا : هذا أبو يوسف ..
قال : شُفي من مرضه ؟!
قالوا : نعم ..
قال : فلم لم يأت إلى درسنا ؟!
قالوا : حدثوه بما قلت .. فجلس يدرس الناس واستغنى عنك ..
ففكر أبو حنيفة كيف يتعامل مع الموقف برفق .. وجعل يفكر ثم قال :
يأبى أبو يوسف إلا أن نقشِّر له العصا!!
ثم التفت إلى أحد طلابه الجالسين وقال :
يا فلان .. اذهب إلى الشيخ الجالس هناك .. يعني أبا يوسف .. فقل له : يا شيخ .. عندي مسألة ..
فسيفرح بك ويسألك عن مسألتك .. فما جلس إلا ليسأل !!
فقل له : رجل دفع ثوباً له إلى خياط ليقصره .. فلما جاءه بعد أيام يريد ثوبه جحده الخياط .. وأنكر أنه أخذ منه ثوباً .. فذهب الرجل إلى الشرطة فاشتكاه فأقبلوا واستخرجوا الثوب من الدكان ..
والسؤال : هل يستحق الخياط أجرة تقصير الثوب أم لا يستحق ؟
فإن أجابك وقال : يستحق .. فقل له : أخطأت ..
وإن قال : لا يستحق .. فقل له : أخطأت ..
فرح الطالب بهذه المسألة المشكلة .. ومضى على أبي يوسف وقال : يا شيخ .. مسألة ..
قال : ما مسألتك ؟
قال : رجل دفع ثوباً إلى خياط ..
فأجاب أبو يوسف على الفور قائلاً : نعم يستحق الأجرة .. ما دام أتم العمل ..
فقال السائل : أخطأتَ ..
فعجب أبو يوسف .. وتأمل في المسألة أكثر .. ثم قال : لا .. لا يستحق الأجرة ..
فقال السائل : أخطأت ..
فنظر أبو يوسف إليه .. ثم سأله : بالله من أرسلك ..
فأشار إلى أبي حنيفة .. وقال : أرسلني الشيخ ..
فقام أبو يوسف من مجلسه .. ومضى حتى وقف على حلقة أبي حنيفة وقال : يا شيخ .. مسألة ..
فلم يلتفت أبو حنيفة إليه ..
فأقبل أبو يوسف حتى جثى على ركبتيه بين يدي الشيخ .. وقال بكل أدب : يا شيخ .. مسألة ..
قال : ما مسألتك ؟
قال : تعرفها ..
قال : مسألة الخياط والثوب ؟
قال : نعم ..
قال : اذهب وأجب .ألست شيخاً ..
قال : الشيخ أنت ..
فقال ابو حنيفة : ننظر في مقدار تقصير الخياط للثوب .. فإن كان قصره على مقاس الرجل .. فمعنى ذلك أنه قام بالعمل كاملاً .. ثم بدا له أن يجحد الثوب .. فيكون قام بالعمل لأجل الرجل .. فيستحق عليه الأجرة ..
وإن كان قصره على مقاس نفسه .. فمعنى ذلك أنه قام بالعمل لأجل نفسه .. فلا يستحق على ذلك أجرة ..
فقبل أبو يوسف رأس أبي حنيفة .. ولازمه حتى مات أبو حنيفة .. ثم قعد أبو يوسف للناس من بعده ..
فلو استعمل الزوجان الرفق مع بعضهما ..
وكذلك الأبوان ..
والمدراء .. والمدرسون ..
نستعمل الرفق دائماً .. في سواقة السيارة .. في التدريس .. في البيع والشراء ..
وإن كان المرء قد يحتاج الشدة أحياناً .. حتى في النصح .. وهذا هو الحكمة في النصيحة .. وهي وضع الأمور في مواضعها ..
وقد كان غضبه .. صلى الله عليه وسلم ..دائماً – إن غضب – في الأمور الدينية ..
فما غضب رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..لنفسه قط .. إلا أن تنتهك حرمة من محارم الله ..
قابل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً رجلاً من اليهود ..
فأطلعه على كلام في التوراة .. فأعجبه .. فأمره فنسخه له ..
ثم جاء عمر بهذه الصحيفة من التوراة إلى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ....
فقرأها عليه ..
فلاحظ النبي .. صلى الله عليه وسلم ..أن عمر معجب بما معه .. وأن التلقي عن الديانات السابقة .. إن فُتح المجال له .. اختلط ذلك بالقرآن .. والتبس الأمر على الناس ..
وكيف يفعل عمر ذلك .. وينسخ .. ويكتب .. دون استئذان النبي.. صلى الله عليه وسلم ..!!
فغضب.. صلى الله عليه وسلم .... وقال : أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟! أي شاكّون في شريعتي ..
والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية .. لا تسألوهم عن شيء .. فيخبروكم بحق فتكذبوا به .. أو بباطل فتصدقوا به .. والذي نفسي بيده لو أن موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني .. ( ) ..
والله يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح ..
في أوائل بعثة النبي.. صلى الله عليه وسلم .... كان .. صلى الله عليه وسلم ..يأتي عند الكعبة وقريش في مجالسهم .. ويصلي .. ولا يلتفت إليهم ..
وكانوا يؤذونه بأنواع الأذى .. وهو صابر ..
وفي يوم ..
اجتمع أشرافهم في الحجر .. فذكروا رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..فقالوا :
ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط .. سفّهَ أحلامنا .. وشتم آباءنا .. وعاب ديننا .. وفرق جماعتنا .. وسب آلهتنا .. وصرنا منه على أمر عظيم ..
فبينما هم في ذلك .. إذ طلع رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .... فأقبل يمشي حتى استلم الركن ..
ثم مر بهم طائفاً بالبيت ..
فغمزوه ببعض القول ..
فتغير وجه رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .... فرفق بهم .. وسكت عنهم .. ومضى ..
فلما مر بهم الثانية .. غمزوه بمثلها ..
فتغير وجهه أيضاً .. فسكت عنهم .. ومضى في طوافه ..
فمر بهم الثالثة .. فغمزوه بمثلها ..
فرأى أن الرفق لا يصلح مع أمثال هؤلاء .. فوقف عليهم وقال :
أتسمعون يا معشر قريش !! أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح .. ووقف أمامهم ..
فلما سمع القوم هذا التهديد .. الذبح .. وهو الصادق الأمين ..
انتفضوا .. حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع .. حتى أن أشدهم عليه ليتلطف معه .. وصاروا يقولون : انصرف أبا القاسم راشدا .. فما كنت جهولاً ..
فانصرف رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..عنهم ..
نعم ..
إذا قيل : حلم ، قل : فللحلم موضع **
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وإن كان المتتبع لسيرة النبي.. صلى الله عليه وسلم ..يجد أنه كان يغلب الرفق دائماً ..
انتبه !! ليس الضعف والجبن .. وإنما الرفق ..
ومن مواقف الرفق :
أنه بعد وقعة بدر بشهر .. أراد أبو العاص زوج زينب بنت النبي .. صلى الله عليه وسلم ..أن يرسلها إلى المدينة عند أبيها ..
فبعث رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..زيد بن حارثة .. ورجلاً من الأنصار ..
فقال :كونا ببطن يأجح حتى تمر بكما زينب فتصحباها فتأتياني بها ..
فخرجا مكانهما ..
فأمرها أبو العاص بالتجهز .. فبدأت في جمع متاعها ..
فبينا هي تتجهز .. لقيتها هند بنت عتبة .. زوجة أبي سفيان ..
فقالت : يا ابنة محمد .. ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ؟
قالت : ما أردت ذلك ..
فقالت : أي ابنة عم .. أن أردت أن تفعلي ..
فإن كان لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك .. أو بمال تتبلغين به إلى أبيك ..
فإن عندي حاجتك فلا تضطني مني .. أي لا تخجلي ..
فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال ..
قالت زينب : والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل .. ولكني خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك ..
فلما أتمت جهازها .. قدّم إليها أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيراً ..
فركبته و أخذ قوسه و كنانته ..
ثم خرج بها نهاراً يقود بها و هي في هودج لها ..
فرآها الناس .. و تحدث بذلك رجال من قريش .. كيف تخرج إليه ابنته وقد فعل بنا ما فعل في بدر ..
فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى ..
وكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود .. فروعها بالرمح و هي في الهودج ..
فقيل : إنها كانت حاملاً ففزعت .. وطرحت ولدها ..
وأقبل الكفار يتسابقون إليها .. وعهم السلاح ..
وهي ليس معها إلا أخو زوجها كنانة ..
فلما رأى ذلك ..
وبرك على الأرض .. ثم نثر كنانته وصف رماحه بين يديه .. ثم قال :
و الله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما .. وكان رامياً .. فتكركر الناس عنه وتراجعوا ..
وأخذوا ينظرون إليه من بعيد .. لا هو يقدر على الذهاب .. ولا هم يجترئون على الاقتراب منه ..
حتى بلغ أبا سفيان أن زينب خرجت إلى أبيها ..
فأقبل في جلة جمع من قريش .. فلما رأى كنانة قد تجهز بنبله .. ورأى القوم قد استوفزوا لقتاله ..
صاح به وقال :
يا أيها الرجل .. كف عنا نبلك حتى نكلمك ..
فكف نبله .. فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه .. فقال :
إنك لم تصب .. خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية ..
وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا في بدر .. و ما دخل علينا من محمد .. قتل أشرافنا .. ورمل نساءنا ..
فإذا رآك الناس . وتسامعت القبائل .. أنك خرجت بابنته علانية .. على رؤوس الناس من بين أظهرنا ..
أن ذلك عن ذل أصابنا .. وأن ذلك ضعف منا ووهن ..
ولعمري مالنا بحبسها من أبيها من حاجة .. ومالنا من ثأر عليها ..
ولكن ارجع بالمرأة .. حتى إذا هدأت الأصوات .. وتحدث الناس أن قد رددناها ..
فسُلّها سراً .. وألحقها بأبيها ..
فلما سمع كنانة ذلك .. اقتنع به .. وعاد بها ..
فأقامت ليالي في مكة ..
حتى إذا هدأت الأصوات .. خرج بها ليلة من الليالي .. فمشى بها ..
حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه ..
فقدما بها ليلاً على رسول الله.. صلى الله عليه وسلم ..
..
وحي ..
ما كان الرفق في شيء إلا زانه .. وما نزع من شيء إلا شانه ..
54. بين الحي .. والميت ..
كان ثقيلاً على الناس .. على زملائه .. جيرانه .. إخوانه .. حتى على أولاده ..
نعم .. كان ثقيل الدم ..
طالما سمعهم مراراً يقولون : يا أخي ما عندك مشاعر !!
لم يكن يتفاعل معهم أبداً ..
أتاه ولده يوماً فرحاً مستبشراً .. يلوّح بدفتر الواجب وقد وقع المدرس فيه كلمة " ممتاز " .. لم يلتفت الأب إليه .. وإنما قال : طيب .. عادي .. والله لو أنك جايب شهادة الدكتوراه !!
كان المنتظر غير ذلك ..
طالب عنده في الفصل .. كان خفيف الدم .. لاحظ ثقل الدرس ( والمدرس !!) فلطف الجوَّ بنكتة أطلقها .. فلم تتحرك تعابير وجه المدرس وإنما قال : تستخف دمك ؟!
كنت أتمنى أن يكون تصرفه غير ذلك ..
دخل إلى البقالة .. فقال له العامل البسيط : الحمد لله .. جاءتني رسالة من أهلي .. لم يتفاعل ..
هلا سأل نفسه لماذا أخبره أصلاً .. ليشاركه فرحته ..
زار أحد زملائه .. فوضع له القهوة والشاي .. ثم دخل البيت وجاء بطفله الأول حديث لاولاده .. قد لفه في مهاده .. ولو استطاع أن يلفه بجفون عينيه لفعل .. ثم وقف به بين يديه وقال : ما رأيك في هذا البطل ؟
فنظر إليه ببرود .. وقال .. ما شاء الله .. الله يخلي لك إياه .. ثم رفع فنجال الشاي ليشرب ..
كان المنتظر أن يتفاعل أكثر .. يأخذ الغلام بين يديه .. يقبله .. يمدح جماله .. وصحته ..
لكن صاحبنا كان ( غبياً ) ..
عندما تتعامل مع الناس .. قس الأمور بأهميتها عندهم .. لا عندك أنت ..
فكلمة "ممتاز" بالنسبة لولدك أغلى عنده من شهادة الدكتوراه عند الدكتور ..
وهذا المولود عند صاحبك أغلى عنده من الدنيا .. كلما رآه ودَّ أن يشق قلبه ويسكنه فيه .. أفلا يستحق منك حبك لصاحبك أن تشاركه ولو بعض شعوره ..
أحياناً يكون بعض الناس متحمساً لشيء معين ..
لذلك تجد الذين لا يتفاعلون مع الناس يشتكي أحدهم دائماً ..
لماذا أولادي لا يحبون ( السوالف ) معي .. فنقول : لأنهم يحكون لك النكتة فلا تتفاعل .. ويروون قصصهم في مدارسهم .. وكأنهم يكلمون جداراً ..
حتى ذكر لك شخص قصة .. أنت تعرفها .. فلا مانع من التفاعل معه ..
قال عبد الله ابن المبارك : والله إن الرجل ليحدثني بالحديث وأنا أعرفه من قبل أن تلده أمه فأسمعه منه .. وكأني أول مرة أسمعه ..
ما أجمل هذه المهارة ..
قبيل معركة الخندق ..
عمل المسلمون في حفر الخندق حتى أحكموه ..
وكان من بينهم رجل اسمه جعيل .. فغيره النبي.. صلى الله عليه وسلم .. إلى عمرو ..
فكان الصحابة يشتغلون .. ويعملون ..
ويرددون قائلين :
سماه من بعد جعيل عمراً ***
وكان للبائس يوماً ظهراً
فكانوا إذا قالوا : عمرواً .. قال معهم رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. : عمرواً ..
وإذا قالوا : ظهراً .. قال لهم : ظهراً ..
فيتحمسون أكثر .. ويشعرون أنه معهم ..
والله لولا الله ما اهتدينا ..
ولما أقبل الليل عليهم اشتد البرد ..
واستمروا يحفرون ..
فخرج عليهم رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. ..
فرآهم يحفرون بأيديهم راضين مستبشرين ..
فلما رأوا رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. قالوا :
نحن الذين بايعوا محمداً *** على الجهاد ما بقينا أبدا
فقال مجيباً لهم :
اللهم إن العيش عيش الآخرة ، فاغفر للأنصار والمهاجرة ..
ويستمر تفاعله معهم .. طوال الأيام ..
فسمعهم وقد علاهم الغبار .. وهم يرددون :
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
فكان يرفع صوته متفاعلاً معهم قائلاً : أبينا .. أبينا .
وكان .. صلى الله عليه وسلم .. إذا مازحه أحد تفاعل معه .. وضحك وتبسم ..
دخل عليه عمر وهو غضبان على نسائه .. لما أكثرن عليه مطالبته بالنفقة .. فقال عمر : يَا رَسُولَ اللَّهِ .. لَوْ رَأَيْتَنا وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ .. نَغْلِبُ النِّسَاءَ ..
فكنا إذا سألت أحدَنا امرأتُه نفقةً قام إليها فوجأ عنقها ..
فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ .. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ..
فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ .. صلى الله عليه وسلم .. .. ثم زاد عمر الكلام .. فازداد تبسم النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ..
وتقرأ في أحاديث أنه تبسم حتى بدت نواجذه ..
وكان.. صلى الله عليه وسلم .. يتعامل مع أنواع من الناس لا يقدرون التعامل الراقي .. ولا يتفاعلون معه .. بل ينغلقون ويتعجلون ..
ومع ذلك كان يصبر عليهم ..
كان .. صلى الله عليه وسلم .. .. يوماً نازلاً بموضع يقال له "الجعرانة " بين مكة والمدينة ..
ومعه بلال .. فجاءه .. صلى الله عليه وسلم .. أعرابي يبدو أنه كان قد طلب من النبي.. صلى الله عليه وسلم .. حاجة فوعده بها ولم تتيسر بعد .. وكان الأعرابي مستعجلاً .. فقال :
يا محمد .. ألا تنجز لي ما وعدتني ؟
فقال له .. صلى الله عليه وسلم .. متلطفاً : أبشر ..
وهل هناك كلمة أرق منها ..!!
فقال الأعرابي بكل صلافة : قد أكثرت علي من أبشر !
فغضب النبي .. صلى الله عليه وسلم .. من عبارته .. لكنه كتم غيظه .. والتفت إلى أبي موسى وبلال وكانا جالسين بجانبه .. فقال :
رد البشرى فاقبلا أنتما ..
فاستبشرا ..
ثم دعا .. صلى الله عليه وسلم .. بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومجَّ فيه ..
ثم قال : اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا .. أي ببركة هذا الماء ..
فأخذا القدح ففعلا ..
وكانت أم سلمة قريبة منهم .. جالسة وراء ستار .. فأرادت أن لا تفوتها البركة .. فنادت من وراء الستر : أفضلا لأمكما .. أي أبقيا لها منه ..
فأفضلا لها منه طائفة .. ( ) ..
إذن كان لطيف المعشر .. أنيس المجلس .. متحملاً .. لا يعمل قضية وخلافاً من كل شيء ..
جلس.. صلى الله عليه وسلم .. يوماً مع عائشة ..
فأخذت تحدثه بأحاديث نساء .. وهو يتفاعل معها ..
وهي تفصل الكلام وتطيل .. وهو على كثرة مشاغله يستمع ويتفاعل ويعلق ..
حتى قضت حديثها ..
فحدثته أنه جلست إحدى عشرة امرأة – في أيام الجاهلية - فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً ..
فجعلن يتذاكرن أزواجهن بما فيهم ولا يكذبن !!
قالت الأولى :
زوجي لحم جمل غث على رأس جبل ..
لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل ..
( تشبه زوجها بالجبل الوعر الذي وضعوا فوقه لحم جمل كبير غير جيد .. فلا يحرص أحد للوصول إليه لصعوبة الوصول إليه .. وهو لا يستحق التعب لأجله .. أي : لسوء خلقة .. وأنه يتكبر .. مع أنه ليس عنده ما يتكبر بسببه فهو بخيل فقير ) ..
قالت الثانية :
زوجي لا أبث خبره ..
إني أخاف أن لا أذره ..
إن أذكره أذكر عجره وبجره ..
( أي : زوجها كثير العيوب .. وتخشى إذا ذكرت ما فيه أن يبلغه ذلك فيطلقها .. وهي متعلقة به بسبب أولادها ..
لكنها لم تمدحه فإن له عُجَر وبُجَر !! والعجر : أن تنعقد العروق في الجسد حتى تصير منتفخة .. فتؤلم ..
والبُجَر انتفاخ عروق في البطن .. !!)
قالت الثالثة :
زوجي العَشَنَّق ..
إن أنطق أطلق ..
وإن أسكت أُعلَّق ..
وهو على حد السِّنان الـمُذَلَّق ..
( أي : زوجها طويل قبيح .. سيء الخلق .. ولا يتسامح معها بل على مثل حد السيف !! فهي مهددة بالطلاق كل لحظة .. لا يحتمل كلامها .. ومتى اشتكت إليه شيئاً طلقها .. ولا يعاملها معاملة الأزواج .. فهي عنده كالمعلقة ) ..
قالت الرابعة :
زوجي كـ لَـيْـلِ تِهامة ..
لا حَرٌ ولا قَرٌ ..
ولا مخافة ولا سآمة ..
( ليل تهامة لا رياح فيه فيطيب لأهله .. فوصفت زوجها بجميل العشرة .. واعتدال الأخلاق .. فلا أذى عنده ) ..
قالت الخامسة :
زوجي إن دخل فَـهِد ..
وإن خرج أَسِد ..
ولا يسأل عما عَـهِد ..
( أي : إذا دخل بيته صار كالفهد وهو الحيوان المعروف وهو كريم نشيط .. وغذا خرج من البيت وخالط الناس فهو أسد لشجاعته .. وهو أيضاً سمحٌ لا يدقق في السؤال عن ما يأخذه أهله أو يصرفونه ..)
قالت السادسة :
زوجي إن أكل لفَّ ..
وإن شرب اشتفَّ ..
وإن اضطجع التفَّ ..
ولا يُولِج الكفَّ .. ليعلم البثَّ ..
(أي : إن زوجها يكثر الأكل حتى يلفه لفاً فلا يبقي لهم شيئاً .. والشراف يشفّه شفاً .. يشربه كله .. وإذا نام التفَّ باللحاف ولم يدع لزوجته شيئاً .. وإذا حزنت لم يقرب كفه إليها أو يلاطفها ليعلم سبب حزنها .. ) ..
قالت السابعة :
زوجي غياياء أو عياياء ( أي غبي !! )
طباقاء ( أحمق !)
كل داء له داء ( جميع العيوب فيه !)
إن حدثته سبك .. ( لا يقبل حديثاً ولا مؤانسة . بل يسب ويلعن دوماً ) ..
وإن مازحته : شجًك ( ضرب رأسك فجرحه !) ..
أو فلًك ( ضرب الجلد فجرحه ) ..
أو جمع كلاًّ لكِ .. ( يضرب كل المواضع الرأس والجسد ! ) ..
قالت الثامنة :
زوجي .. المس مس أرنب .. ( أي ناعم رقيق ) ..
والريح ريح زرنب .. ( وهو نبات طيب الرائحة ) ..
وأنا اغلبه والناس يغلب .. ( أي سهل معها ينصاع لما تريد .. لكنه بطل يغلب الناس وشخصيته أمامهم قوية ) ..
قالت التاسعة :
زوجي رفيع النجاد .. ( بيته واسع مفتوح للضيوف ) ..
عظيم الرماد .. ( كثير إشعال النار استقبالاً للضيوف وطبخاً لهم ) ..
قريب البيت من الناد .. ( المجلس الذي يجلس فيه مع أصحابه وهو النادي قريب من بيته لحرصه على أهله ) ..
لا يشبع ليله يضاف .. ( لا يأكل كثيراً عند الناس ) ..
ولا ينام ليلة يُخَاف .. ( إذا كان هناك خطر بالليل من عدو أو غيره .. يظل مستيقظاً يحرس ويراقب ) ..
قالت العاشرة :
زوجي مالك ..
وما مالك ؟! ..
مالك خير من ذلك ..
له إبل كثيرات المبارك ..
قليلات المسارح ..
وإذا سمعن المزهر .. أيقنَّ أنهن هوالك ..
( زوجها اسمه مالك .. مهما وصفته لن تحيط بأوصافه الجميلة .. إبله دائماً قريبة منه وقل ما تسرح أي تذهب للرعي ..لتكون جاهة للحلب منها ونحرها للضيوف .. وإذا سمعت افبل صوت المزهر السكين تُحَدّ وتجهّز .. علمت أنه سيهلك بعضهن ذبحاً للضيوف ) ..
قالت الحادية عشرة :
زوجي أبو زرع ؟! ( اسمه أبو زرع ) ..
فما أبو زرع ..
أناس من حلي أذني .. ( ألبسها الحلي والذهب ) ..
وملأ من شحم عضدي .. ( سمنت عنده ) ..
وبجحني فبجحت إلى نفسي .. ( مدحني حتى أعجبت بنفسي ) ..
وجدني في أهل غنيمة بشِقٍّ .. ( كان اهلها فقراء لا يملكون إلا غنيمات ) ..
فجعلني في أهل صهيل وأطيط ( نقلها إلى بيت فيه خيل وإبل ) ..
ودائس ومنق ( أي دواب كثيرة ) ..
فعنده أقول فلا أقبح .. ( تتكلم بما شاءت ولا ينتقد كلامها ) ..
وأرقد فأتصبح .. ( تشبع نوماً إلى الصباح .. لكثرة الخدم ) ..
وأشرب فأتقنح .. ( جميع الأشربة عندها .. تروى منها ) ..
أم أبي زرع ؟! فما أم أبي زرع !!
عكومها رداح .. ( سمينة جميلة ) ..
وبيتها فساح .. ( بيتها واسع ) ..
ابن أبي زرع ؟! فما بن أبي زرع !!
مضجعه كمسل شطبة .. ( ينام نوماً رفيقاً بأدب ) ..
ويشبعه ذراع الجفرة .. ( لا يأكل كثيراً ) ..
بنت أبي زرع ؟! فما بنت أبي زرع !!
طوع أبيها وطوع أمها ..
وملء كسائها .. ( متسترة ) ..
وغيظ جارتها .. ( تغار جاراتها من جمالها ولذة عيشها ) ..
جارية أبي زرع ؟! فما جارية أبي زرع !! ( الخادمة !! )
لا تبث حديثنا تبثيثاً .. ( لا تنشر أسرار البيت ) ..
ولا تنفث ميرتنا تنفيثاً .. ( لا تبدد طعام البيت وتعبث به ) ..
ولا تملأ بيتنا تعشيشاً .. ( لا تهمل البيت فيمتلأ بالأوساخ ) ..
ثم قالت :
خرج أبو زرع والأوطاب تمخض .. ( خرج من بيته يوماً في وقت ربيع ) ..
فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين .. ( رأى امرأة جالسة حولها طفلان جميلان قويا البنية ) ..
يلعبان من تحت خصرها برمانتين .. ( يلعبان بثدييها ) ..
فطلقني ونكحها .. ( أعجبته .. فطلق أم زرع وتزوجها !! ) ..
فنكحت بعده رجلا سرياً .. ( تزوجت ام زرع رجلاً كريماً ) ..
ركب شرياً .. ( ركب خيلاً سابقاً ) ..
وأخذ خطياً ..
وأراح علي نعماً ثرياً .. ( أكرمها وأهداها لأنه ثري ) ..
وأعطاني من كل رائحة زوجاً .. ( أكثر لها من الأطياب ويعطيها اثنين من كل شيء لتستعمل وتهدي إن شاءت ) ..
وقال : كلي أم زرع ..
وميري أهلك .. ( أهدي لأهلك وأعطيهم ) ..
ثم قالت :
فلو جمعت كل شيء أعطانيه ..
ما بلغ أصغر آنية أبي زرع .. ( لا يزال قلبها معلقاً بأبي زرع ..!! ما الحب إلا للحبيب الأول )
كان.. صلى الله عليه وسلم .. يستمع بكل غنصات إلى عائشة وهي تحدثه .. ولم يظهر لها ضجراً ولا مللاً .. مع تعبه وكثرة مشاغله .. وتراكم همومه ..
حتى إذا انتهت عائشة من حديثها :
قال .. صلى الله عليه وسلم .. : كنت لك كأبي زرع لأم زرع ..
إذن .. اتفقنا .. على أهمية إظهار اللطف والاهتمام بالناس ..
فإذا جاءك ولدك متزيناً بثوب جميل .. ما رأيك يا أبي ؟ .. تفاعل ..
ابنتك .. زوجتك ..
زوجك .. ولدك .. زميلتك ..
كل من تخالطهم كن حياً متفاعلاً ..
أحياناً تكون ناسياً الموضوع .. قال لك – مثلاً - : أبشرك الوالد شُفي من مرضه .. فلا تقل : أصلاً .. متى مرض ؟!!
أو : أخي خرج من السجن .. لا تقل : والله ما دريت أصلاً أنه دخل السجن ..
وأخيراً .. يا جماعة ..
التشجيع والتفاعل ينفع حتى مع الحيوانات ..
قال أبو بكر الرقي :
كنت بالبادية ..
فوافيت قبيلة من قبائل العرب .. فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه ..
فرأيت في الخباء عبدا أسود مقيداً بقيد .. ورأيت جِمالا قد ماتت بين يدي البيت ..
وقد بقى منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه ..
فقال لي الغلام : أنت ضيف .. ولك حق .. فتشفع فيَّ إلى مولاي .. فإنه مكرم لضيفه .. فلا يرد شفاعتك في هذا القدر .. فعساه يحل القيد عني ..
فسكت عنه .. ولم أدر ما جرمه ..
فلما أحضروا الطعام .. امتنعت .. وقلت :
لا آكل .. ما لم أشفع في هذا العبد ..
فقال السيد : إن هذا العبد قد أفقرني .. وأهلَكَ جميعَ مالي ..
فقلت : ماذا فعل ؟!
فقال : إن له صوتاًً طيباً .. وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال .. فحمَّلها أحمالاً ثقالاً ..
وكان ينشد الأشعار ويحدو بها .. حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته ..
فلما حطت أحمالها .. ماتت كلها .. إلا هذا الجمل الواحد ..
ولكن أنت ضيفي .. فلكرامتك قد وهبته لك .. وأطلق الغلام من قيده ..
فاشتقت إلى سماع هذا الصوت ..
فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقى الماء من بئر هناك .. لينشط الجمل للعمل ..
فانطلق الغلام بصوت حسن .. فلما رفع صوته ..
سمعه الجمل فهام وهاج ونسي نفسه .. حتى قطع حباله ..
ووقعت أنا على وجهي من حسن الصوت .. فما أظن أني سمعت قط صوتاً أطيب منه .. ( )
طور نفسك بالتدريب ..
كن حياً لا ميتاً .. تفاعل بكلامك .. بتعبيرات وجهك .. حتى يأنس الآخرون بك ..
55. اجعل لسانك عذباً ..
لا تخلو حياتنا من مواقف نحتاج فيها إلى تقديم توجيهات ونصائح للآخرين ..
الولد .. الزوج .. الصديق .. الجار .. الأبوين ..
تختلف نهايات النصائح .. باختلاف بداياتها ..
أعني : إن كانت البداية بأسلوب مناسب .. ومدخل لطيف ..
انتهت كذلك ..
وإن كانت بأسلوب جاف .. ومدخل عنيف .. انتهت كذلك ..
عندما ننصح الناس .. فنحن في الواقع نتعامل مع قلوبهم .. لا أجسادهم ..
لذلك تجد بعض الأبناء يتقبل من أمه ولا يتقبل من أبيه .. أو العكس ..
والطلاب يتقبلون من مدرس .. دون الآخر ..
وأول البراعة في النصيحة ..
أن لا تكثر منها وتدقق على كل صغير وكبير .. حتى لا يشعر الآخرون أنك مراقب لحركاتهم وسكناتهم .. فتثقل عليهم ..
ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي
وإن استطعت أن تقدم انصيحة على شكل اقتراح .. فافعل ..
لو قللت الملح في الطعام .. لكان أحسن ..
لو تغير ملابسك بثياب أجمل ..
لو ما تتأخر عن مدرستك مرة أخرى .. أفضل ..
ما رأيك لو فعلت كذا .. أقترح عليك كذا وكذا ..
أحسن من قولك ..
يا قليل الأدب .. كم مرة قلت لك .. أنت ما تفهم .. إلى متى أعلمك ؟!!
اجعله يحتفظ بماء وجهه .. ويشعر بقيمته حتى وهو مخطئ ..
لأن المقصود علاج أخطائه لا الانتقام منه أوإهانته ..
يعني يا جماعة .. بالعبارة الصريحة :
لا أحد يحب أن يتلقى الأوامر ..
أراد .. صلى الله عليه وسلم .. يوماً أن يوجه عبد الله بن عمر للتعبد بصلاة الليل ..
فما دعاه وقال : يا عبد الله قم الليل ..
وإنما قدم النصيحة على شكل اقتراح .. وقال : نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل ..
وفي رواية قال : يا عبد الله لا تكن مثل فلان .. كان يقوم الليل ..
بل إن استطعت أن تلفت نظره إلى الأخطاء من حيث لا يشعر فهو أولى ..
عطس رجل عند عبد الله بن المبارك .. فلم يقل الحمد لله .. فقال عبد الله : ماذا يقول العاطس إذا عطس ؟ قال : الحمد لله .. فقال : عبد الله : يرحمك الله ..
وكان رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. كذلك ..
كان إذا انصرف من صلاة العصر .. دخل على نسائه واحدة واحدة ..
فيدنو من إحداهن .. ويتحدث معها ..
فدخل على زينب بمن جحش .. فوجد عندها عسلاً .. وكان.. صلى الله عليه وسلم .. يحب العسل والحلواء ..
فاحتبس عندها أكثر ما كان يحتبس عند غيرها ..
فغارت عائشة وحفصة .. وتواصتا من دخل عليها تقول له :
أجد منك ريح مغافير .. وهو شراب حلو يشبه العسل .. ولكن له رائحة سيئة ..
وكان .. صلى الله عليه وسلم .. يشتد عليه أن يوجد منه الريح من بدنه أو فمه .. لأنه يناجي جبريل .. ويناجي الناس ..
فلما دخل على حفصة .. سألته ماذا أكل ؟
فقال : شربت عسلاً عند زينب ..
فقالت : إني أجد منك ريح مغافير ..
فقال : لا بل شربت عسلاً .. ولن أعود له ..
ثم قام ودخل على عائشة .. فقالت له عائشة مثل ذلك ..
ومضت الأيام .. وكشف الله له القضية كلها ..
وبعد أيام .. أسر إلى حفصة رضي الله عنه حديثاً .. فأظهرته ..
فدخل عليها يوماً .. وعندها الشفاء بنت عبد الله .. وكانت صحابية تتعلم الطب .. وتعالج الناس ..
فقال.. صلى الله عليه وسلم .. للشفاء : ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ..
ورقية النملة كلام كانت نساء العرب تقوله .. يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع ..
ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال :
العروس تحتفل .. وتختضب وتكتحل .. وكل شيء تفتعل .. غير أن لا تعصي الرجل ..
فأراد.. صلى الله عليه وسلم .. بهذا المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضاً .. بأن تردد جملة : غير أن لا تعصي الرجل ..
أحد السلف استلف منه رجل كتاباً .. فرده إليه بعد أيام وعليه آثار طعام .. كأنه حمل عليه خبزاً أو عنباً .. فسكت صاحب الكتاب ..
وبعد أيام جاءه صاحبه يستعير منه كتاباً آخر .. فأعطاه الكتاب في طبق ..!!
فقال الرجل : إنما أريد الكتاب .. فما بال الطبق ؟!
فقال : الكتاب لتقرأ فيه .. والطبق لتحمل عليه طعامك !!
فأخذ الكتاب .. ومضى .. فقد وصلت الرسالة ..
وأذكر أن أن أحدهم كان يعود إلى بيته ليلاً .. وينزع ثوبه .. يعلقه على الشماعة .. وينام ..
فتأتي زوجته .. وتفتح محفظة النقود .. ثم تأخذ الصرف الموجود .. من فئة الريال .. والخمسة ..
فإذا استيقظ صباحاً وذهب إلأى عمله .. واحتاج أن يحاسب في بقالة ونحوها .. لم يجد صرفاً ..
فراقبها .. حتى فهم القضية ..
فرجع إلى بيته يوماً .. وقد جعل في جيبه ضفدعاً ..
ونزع ثوبه كالعادة .. واضطجع كهيئة النائم .. وأخذ يشخر .. وهو يراقب الثوب ..
فأقبلت زوجته لتأخذ ما يتيسر ..كالعادة !!
أقبلت إلى الثوب تمشي رويداً .. أدخلت يدها بهدوووء ..
فلمست الضفدع .. فتحرك فجأة .. فصرخت : آآآآه.. يدي ..
ففتح الزوج عينيه .. وقال : وأنا .. آآآه .. جيبي ..
ليتنا نستعمل هذا الأسلوب .. مع جميع الناس ..
أولادنا إذا وقعوا في أخطاء .. ومع طلابنا ..
نايف أحد الأصدقاء .. كان له أم صالحة .. لا ترضى ن يبقى في البيت صور أبداً .. لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ..
كان عندها طقلة صغيرة .. عندها ألعاب متنوعة .. إلا الدُّمى .. العرائس ..
أهدت إليها خالتها دُمية .. عروسة .. وقالت لها : العبي بها في غرفتك .. واحذري أن تراها أمك ..
وبعد يومين .. علمت الأم ..
فأرادت أن تقدم النصيحة بأسلوب مناسب ..
جلسوا على الطعام .. فقالت أم نايف : يا أولاد ..!! من يومين .. وأنا أشعر أن البيت ليس فيه ملائكة !! لا أدري لماذا خرجت .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
والبنت الصغيرة تسمع وهي ساكته ..
وبعد الغداء رجعت الصغيرة إلى غرفتها .. فإذا بين يديها ألعاب كثيرة .. والعروسة من بينها .. فالتقطتها .. وجاءت بها إلى الأم وقال : ماما .. هذه التيطردت الملائكة .. افعلي بها ماشئت !!
يعني دع المنصوح يحتفظ بماء وجهه .. ويمكن أن تأكل العسل من غير أن تحطم الخلية ..
لا تنصحه كأنه قد كفر بفعله ..
بل وأحسن الظن به .. واعتبر أنه وقع في الخطأ من غير قصد .. أو من غير أن يعلم ..
كانت الخمر في أول الإسلام لم تحرم بعد ..
وفي يوم أقبل عامر بن ربيعة .. الصحابي الجليل ..
من سفر .. فأهدى لرسول الله r راوية خمر .. جرة كاملة مملوءة خمراً ..
نظر النبي .. صلى الله عليه وسلم .. إلى الخمر مستغرباً .. والتفت إلى عامر بن ربيعة .. وقال : أما علمت أنها قد حرمت ..؟
قال : حرمت ؟! لا .. ما علمت يا رسول الله ..
قال : فإنها قد حرمت ..
فحملها عامر .. فأسرَّ إليه بعضهم بأن يبيعها ..
فسمعه النبي.. صلى الله عليه وسلم .. فقال : لا .. إن الله إذا حرم شيئاً .. حرم ثمنه ..
فأخذها.. صلى الله عليه وسلم .. فاهراقها على التراب .. ( )
وانتبه أن تمدح نفسك وأنت تنصح .. فترفع نفسك وتسحب المنصوح إلى القاع .. لا أحد يرضى بذلك ..
بعض الآباء – مثلاً- .. إذا نصح ولده بدأ يذكر أمجاده ..أنا كنت وكنت .. ولعل الولد يعلم تاريخ والده ..!!
باختصار ..
الكلمة الطيبة .. صدقة ..
56. اختصر .. ولا تجادل ..
يقولون : إن الناصح كالجلاد ..
وبقدر مهارة الجلاد في الجلد .. يبقى الألم ..
أقول : مهارة الجلد .. لا قوة الجلد !!
فالجلاد العنيف الذي يضرب بقوة .. يتألم المضروب وقت وقوع السياط .. ثم ما يلبث حتى ينساها ..
أما الجلاد الأستاذ في صنعته ..فقد لا يضرب بقوة .. لكنه يعلم أن يوقع السوط ..
كذلك الناصح .. ليست العبرة بكثرة الكلام .. ولا طول النصيحة ..
وإنما بأسلوب الناصح ..
فاختصر قدر المستطاع .. إذا أردت أن تنصحه فلا تلق عليه محاضرة ..!!
خاصة إذا كان الأمر متفقاً عليه .. كمن تنصحه عن الغضب .. أو شرب الخمر .. أو ترك الصلاة .. أو عقوق الوالدين .. الخ ..
تأملت النصائح النبوية الشخصية المباشرة .. فوجدتها لا تزيد الواحدة منها عن سطر واحد .. أو سطرين ..
اسمع : يا علي .. لا تتبع النظرة النظرة .. فإن لك الأولى وليست لك الثانية ..
انتهى .. نصيحة باختصار ..
يا عبد الله بن عمر .. كن في الدنيا كأنك غريب .. أو عابر سبيل ..
انتهى ..
يا معاذ .. والله إني أحبك .. فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك .. وشكرك .. وحسن عبادتك ..
يا عمر .. إنك رجل قوي .. فلا تزاحمن عند الحجر ..
وكذلك كان العقلاء بعده ..
لقي أبو هريرة رضي الله عنه الفرزدق الشاعر فقال :
يا ابن أخي إني أرى قدميك صغيرتين .. ولن تعدم لهما موضعا في الجنة ..
يعني فاعمل لها .. ودع عنك قذف لمحصنات في شعرك ..
وعمر رضي الله عنه .. كان على فراش الموت .. فجعلوا الناس يثنون عليه ..
وجاء شاب فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. وقدم في الإسلام ما قد علمت .. ثم وَلِيت فعدلت .. ثم شهادة ..
فقال عمر : وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي ..
فلما أدبر الشاب .. فإذا إزاره يمس الأرض .. مسبل ..
فأراد عمر رضي الله عنه أن يقدم النصيحة للشاب ..
فقال : ردوا علي الغلام ..
فلما وقف الشاب بين يديه .. قال : يا بن أخي .. ارفع ثوبك .. فإنه أنقى لثوبك .. وأتقى لربك ( ) ..
انتهى .. باختصار .. الرسالة وصلت ..
واترك الجدال قدر المستطاع ..
خاصة إذا شعرت أن الذي أمامك يكابر .. فالمقصود إيصال النصيحة إليه ..
وقد ذم الله الجدال : ( ما ضربوه لك إلا جدلاً ) ..
وقال.. صلى الله عليه وسلم .. : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه .. إلا أوتوا الجدل ..
وقال : أنا زعيم لبيت في ربض الجنة لمن ترك الجدال وإن كان محقاً ..
أحياناً يقتنع الشخص بالفكرة .. لكن أكثر النفوس فيها أنفة وكبر ..
( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ) ..
فالغاية عندك أنت أصلاً أن يعرف الخطأ ليتجنبه في المرة القادمة .. وليس الغاية أن تنتصر أنت عليه .. فلستما في حلبة مصارعة ..
دخل النبي.. صلى الله عليه وسلم .. على علي وفاطمة رضي الله عنها .. ليلاً ..
فقال لهما : ألا تصليان .. أي ألا تقوما الليل ..
فقال علي : أنفسنا بيد الله .. متى شاء أن يبعثنا .. بعثنا ..
فولاهما النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ظهره .. ومضى وهو يضرب بيده على فخذه ويقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً .. ( ) ..
وأحياناً قد يذكر المنصوح .. كلاماً يعتذر به .. وهو ليس عذراً مقنعاً لكنه يقوله ..ليحفظ ماء وجهه ..
فكن سمحاً ..
ولا تغلق عليه الأبواب بل أبقها مفتوحة أمامه وأنت تنصح ..
وحتى لو تكلم بكلام خاطئ .. فيمكن أن تعالج خطأه من حيث لا يشعر ..
كأن تقول : صحيح .. وأنا معك أن الإنسان يفقد أعصابه غصباً عنه ..
وأثن عليه .. ثم قل : ولكن .. ثم انسف كلامه إن كان خاطئاً ..
وجهة نظر ..
نبه على الخطأ .. ولا تلق محاضرة ..
57. لا تبال بكلام الخلق ..
أعجبتني عبارة رددها ابني عبد الرحمن يوماً .. وأظنه في ذلك السن لم يكن يفقه معناها..
كان يقول : طنِّش تعِش تَـنْـتَـعِش ..!!
تأملت في هذه العبارة وأنا ألاحظ حولي انتقادات الناس .. وآراءهم .. وأحاديثهم ..
فوجدت أن الناس في كلامهم وذمهم لنا يتنوعون ..
فيهم الناصح الصادق الذي لا يتقن فن النصيحة .. وبالتالي يحزنك بأسلوب نصحه أكثر مما يفرحك ..
وفيهم الحاسد .. الذي يقصد حزنك وهمك ..
وفيهم قليل الخبرة .. الذي يهذي بما لا يدري .. ولو سكت لكان خيراً له ..
وفيهم من طبيعته الانتقاد أصلاً .. فهو ينظر للحياة بنظارة سوداء ..
وقديماً قيل : لو اتحدت الأذواق لبارت السلع ..
ذكروا أن جحا ركب على حمار .. وولده يمشي بجانبه ..
فمروا بناس .. فقال الناس : انظروا لهذا الأب الغليظ يركب مرتاحاً .. ويدع ولده يمشي في الشمس ..
سمعهم جحا .. فأوقف الحمار .. ونزل .. وأركب ولده ..
ثم مشيا .. وجحا يشعر بنوع من الزهو ..
فمرا بقوم آخرين .. فقال أحدهم : انظروا إلى هذا الابن العاق .. يركب ويدع أباه يمشي في الشمس ..
سمعهم جحا ..
فأوق الحمار .. ثم ركب مع ولده .. ليتقو كلام الناس وانتقاداتهم ..
فمرا بقوم .. فقالوا : انظروا إلى هذين الغليظين .. لا يرحمون الحيوان ..
فنزل جحا .. وقال : يا ولدي .. انزل ..
فنزل الولد وجعل يمشي بجانب أبيه .. والحمار ليس فوقه أحد ..
فمرا بقوم .. فقالوا : انظروا إلى هذين السفيهين .. يمشيان والحمار فارغ .. وهل خلق الحمار إلا ليُركب ..
فصرخ جحا وجرّ ولده معه .. ودخلا تحت الحمار .. وحملاه ..!!
ولو رأيت جحا وقتها لقلت له : يا حبيب القلب .. افعل ما تشاء .. ولا تبال بكلام الخلق .. فرضا الناس غاية لا تدرك ..
ومن الذي ينجو من الناس سالماً
ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر ..
بعض الناس .. لا يفكر في رأيه قبل أن يطرحه ..
يأتيك بعدما تتزوج .. ويقول .. ليش تخطب فلانة ؟
وكأني بك .. تتمنى أن تصرخ في وجهه وتقول : يا أخي تزوجت .. خلاص .. انتهى الموضوع .. ما أحد طلب منك اقتراحات ..
أو يأتيك وقد بعت سيارتك .. فيقول .. ليتك أخبرتني .. فلان كان سيعطيك أكثر ..
يا أخي .. بس !! الرجال باع سيارته .. خلاص وانتهى .. لا تشغله بالالتفات وراءه !!
وعموماً ..
ليس يخلو المرء من ضد ولو **
طلب العزلة في رأس جبل ..!!
فلا تعذب نفسك ..
تجربة ..
قال أحد السلف : من جعل دينه عرضة للخصومات .. أكثر التنقل !!
58.
ابتسم .. ثم ابتسم .. ثم ابتسـ .. ثم أبتـ ..
أعرفه منذ سنين .. فهو أحد زملائي في عملي .. على كل حال ..
لكن هل تصدق أنني إلى الآن لا أدري هل نبتت له أسنان أم لا !!
دائم التجهم .. والعبوس .. وكأنه إذا ابتسم نقص عمره .. أو قلَّ ماله !!
قال جرير بن عبد الله البجلي : ما رآني رسول الله .. صلى الله عليه وسلم ..
إلا تبسم في وجهي ..
الابتسامة أنواع .. ومراتب ..
فمنها البشاشة الدائمة .. أن يكون وجهك صبوحاً مبتهجاً دائماً ..
فلو كنت مدرساً ودخلت الفصل على طلابك .. فالقهم بوجه بشوش ..
ركبت طائرة .. ومشيت في الممر والناس ينظرون إليك .. كن بشوشاً ..
دخلت بقالة .. أو محطة وقود .. مددت له الحساب .. ابتسم ..
في المجلس .. ودخل شخص وسلم بصوت عال .. ومر بنظره على الجالسين .. ابتسم ..
دخلت على مجموعة .. وصافحتهم .. ابتسم ..
وعموماً : الابتسامة لها من التأثير الكبير في امتصاص الغضب والشك والتردد .. ما لا يشاركها غيرها ..
البطل هو الذي يستطيع التغلب على عواطفه .. والتبسم ..
كان أنس بن مالك يمشي مع النبي.. صلى الله عليه وسلم ..
يوماً.. والنبي.. صلى الله عليه وسلم .. عليه بُرد نجراني غليظ الحاشية ..
فلحقهما أعرابي ..
أقبل هذا الأعرابي يجري وراء النبي.. صلى الله عليه وسلم .. يريد أن يلحق به .. حتى إذا اقترب منه ..
جبذه بردائه جبذة شديدة .. فتحرك الرداء بعنف على رقبة النبي.. صلى الله عليه وسلم .. ..
قال أنس : حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. .. قد أثرت بها حاشية البُرد من شدة جبذته ..
فماذا يريد هذا الرجل ؟! لعل بيته يحترق وأقبل يريد معونة .. أو أحاطت بهم غارة من المشركين ..
اسمع ماذا يريد .. قال : يا محمد .. ( لاحظ لم يقل : يا رسول الله ) ..
قال : يا محمد .. مُر لي من مال الله الذي عندك .. فالتفت رسول الله.. صلى الله عليه وسلم .. .. ثم ضحك .. ثم أمر له بعطاء ..
نعم .. كان .. صلى الله عليه وسلم .. بطلاً لا تستفزه مثل هذه التصرفات .. ولا يعاقب أو تثور أعصابه على التافهات ..
كان واسع البطان .. قوياً يضبط أعصابه .. دائم الابتسامة حتى في أحلك الظروف .. يفكر في عواقب الأمور قبل أن يفعلها ..
وماذا يفيد لو أنه صرخ بالرجل أو طرده !
هل سيشفى جرح عنقه ! أو يصلح أدب الرجل ! كلا ..
إذن ليس مثل الصبر والتحمل ..
نعم بعض الأمور نثور لها ونغضب .. وعلاجها شيء آخر تماماً ..
وصدق لما قال : ليس الشديد بالصرعة .. إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ..
كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .. يجذب الناس بالتبسم والبشاشة ..
خرجو إلى غزوة خيبر .. وفي أثناء القتال ..
وقع من حصن اليهود جراب فيه شحم .. قربة كاملة مملوءة سمناً ..
حمله عبد الله بن مغفل على عاتقه فرحاً ومضى به إلى رحله وأصحابه ..
فلقيه الرجل المسئول عن جمع الغنائم وترتيبها .. فجذب الجراب إليه .. وقال :
هاتِ هذا نقسمه بين المسلمين ..
فتعلق به عبد الله : لا والله .. لا أعطيكه .. أنا أصبته ..
قال : بلى .. وجعلا يتجاذبا الجراب ..
فمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فرآهما .. وهما يتجاذبان الجراب ..
فتبسم صلى الله عليه وسلم ضاحكاً .. ثم قال لصاحب المغانم :
لا أبالك .. خل بينه وبينه ..
فتركه .. فانطلق به عبد الله إلى رحله وأصحابه .. فأكلوه ..
وأخيراً .. تبسمك في وجه أخيك صدقة ..
قال لي :
فلان سحرني بأخلاقه .. حتى تعلقت به نفسي .. قلت : لم ؟! قال : دائماً بشوش .. وما رآني إلا تبسم !!
59. الخطوط الحمر ..
كان من طلابي في الجامعة..
كان واسع الثقافة .. حريصاً على تكوين علاقات مع الناس .. لكنه كان ثقيل الدم عليهم ..
جاءني يوماً .. وقال :
يا دكتور .. زملائي يغضبون مني دائماً .. لا يتحملون مزحي ..
قلت في نفسي : أنا لا أحتملك ساكتاً .. فكيف أحتملك متكلماً ..؟! خاصة إذا كنت تستخف دمك وتمزح ..!
سألته : لماذا لا يحتملون مزحك ؟! أعطني مثالاً ..
قال : عطس أحدهم فقلت : الله يلعنك .. ( ثم سكتُّ ) .. فلما غضب .. أكملت قائلاً : يا إبليس .. ويرحمك يا فلان ..!!
مسكين كان يظن نفسه بذلك .. خفيف الدم!!
الناس مهما قبلوا مزاحك ومداعباتك .. إلا أنه تبقى هناك خطوط حمراء لا يحبون أن تتعداها ..
خاصة إذا كان ذلك أمام الآخرين ..
بعض الناس لا يراعي ذلك ..
فتجد أنه يعتدي على حاجاتهم ..
فمثلاً من باب ( الميانة ) يأخذ هاتفك الجوال ويتصل به كما يريد .. أو ربما أرسل رسائل إلى أشخاص أنت لا ترغب أن يظهر رقم هاتفك عندهم ..
أو يأخذ سيارتك بغير إذنك .. أو يحرجك بطلبها حتى تأذن على مضض ..
أو تجد مجموعة طلاب في يسكنون في شقة واحدة .. يستيقظ أحدهم ليذهب إلى جامعته .. فيجد أن معطفه لبسه فلان .. وحذاءه في رجل فلان ..
ومن تعدي الخطوط الحمراء أنك .. تجد بعض الناس يحرج صاحبه بمزحة ثقيلة أو سؤال محرج في مجلس عام ..
والشخص مهما بلغ من المحبة لك .. إلا أنه يبقى بشراً يرضى ويغضب .. ويفرح ويسخط ..
لما أقبل رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. إلى المدينة راجعاً من تبوك ..
قدم عليه في ذلك الشهر عروة بن مسعود الثقفي .. وكان سيداً جليل القدر .. رفيع المكانة عند قومه ثقيف ..
فأدرك النبي.. صلى الله عليه وسلم .. قبل أن يصل إلى المدينة .. فأسلم ..
وسأله أن يرجع إلى قومه فيدعوهم إلى الإسلام ..
فخاف عليه .. وقال له : إنهم قاتلوك ..
وعرف .. صلى الله عليه وسلم .. أن قبيلة ثقيف فيهم نخوة الامتناع .. والصرامة في التعامل .. حتى لو كان مع رئيسهم ..
فقال عروة : يا رسول الله .. أنا أحب إليهم من أبكارهم .. وأبصارهم ..
وكان محبباً مطاعاً فيهم ..
فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه .. لعظم منزلته فيهم ..
فلما وصل إلى ديار قومه .. رقى على مرتفع وصاح بهم حتى اجتمعوا .. وهو سيدهم ..
فدعاهم إلى الإسلام .. وأظهر لهم أنه أسلم .. وجعل يردد : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ..
فلما سمعوا منه ذلك .. صاحوا .. وثاروا أن يتركوا آلهتهم ..
ورموه بالنبل من كل جهة ..
حتى وقع صريعاً ..
فأقبل إليه أبناء عمه .. وهو ينازع الموت ..
وقال : يا عروة : ما ترى في دمك ؟
فقال : كرامة أكرمني الله بها .. وشهادة ساقها الله إلي ..
فليس فيَّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. .. فلا تقتتلوا لأجلي .. ولا تأخذوا بثأري من أحد ..
فقيل إن النبي.. صلى الله عليه وسلم .. .. لما بلغه خبر مقتله ..
قال فيه : إن مثله في قومه .. كمثل صاحب ياسين في قومه ....
فانتبه ! الناس لهم أحاسيس مهما بلغت في القرب منهم .. وإن كانوا في منزلة الأخ والولد ..
لذا نبه النبي .. صلى الله عليه وسلم .. على ذلك .. فنهى عن ترويع المؤمن ..
كان.. صلى الله عليه وسلم .. يوماً يسير مع أصحابه ..
وكان كل واحد منهم معه متاعه .. سلاحه .. فراشه .. طعامه ..
نزلوا منزلاً .. فنام رجل منهم ..
فأقبل صاحبه إلى حبل معه فأخذه .. مازحاً ..
فاستيقظ الرجل .. فوجد متاعه ناقصاً .. ففزع .. وأخذ يبحث عن حبله ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. : لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً ( ) ..
وفي يوم آخر ..
كانوا يسيرون مع النبي .. صلى الله عليه وسلم .. في مسير ..
فنعس رجل وهو على راحلته ..
فغافله صاحبه وانتزع سهماً من كنانته ..
فشعر الرجل بمن يعبث بسلاحه .. فانتبه فزعاً مذعوراً ..
فقال .. صلى الله عليه وسلم .. : لا يحل لرجل أن يروع مسلماً .. ( )
ومثله الذي يمزح فيراك أوقفت سيارتك عند بقالة – مثلاً - وهي تشتغل فيأتي ويقودها .. ويوهمك أنها سرقت .. مازحاً..
قد يجاملك صاحبك ويضحك أحياناً على مزحة مروعة .. لكنه متألم ..
ولربما صبر الحليم على الأذى
وفؤاده من حره يتأوه
ولربما شكل الحليم لسانه
حذر الكلام وإنه لمفوه
وجهة نظر ..
كل ما زاد عن حده .. انقلب ضده .. وكم مزحة انتهت شجاراً !!
60. حفظ السر ..
اشتهر قديماً : كل سرٍ جاوز الإثنين .. شاع ..
ومن اللطائف أن أحدهم سئل : من الإثنين ؟ فأشار إلى شفتيه .. وقال : هذان !!
لا أذكر أني همست في أذن أحد من الناس بسرّ .. واستأمنته إياه .. ثم فاجأني قائلاً : يا محمد .. اسمح لي لا أستطيع أن أكتمه ..
بل كل شخص يضرب بيده صدره .. ويقول : والله لو وضعوا الشمس في يميني .. والقمر في شمالي .. أو السيف على رقبتي .. على أن أخبر بسرك .. ما أخبرت !!
ثم إذا اطمأننت ووثقت .. وكشفت له أسرارك .. تصبّر شهرين أو ثلاثة .. ثم حدث به .. فلا يزال يُتناقل حتى يصلك ..
فوجدت أن سرك لا ينبغي أن يجاوز شفتيك .. فلا تكلف الناس ما لا يطيقون ..
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق
جربت كثيراً من الناس .. فوجدتهم كذلك ..
والمشكلة أنك تأتيهم على سبيل الاستشارة .. فيشيرون عليك .. ثم يفضحون سرك ..
فيسقطون من عينك .. ويصبحون من أبغض الناس إليك ..
ومن أعجب ما في التاريخ ..
أنه قبل معركة بدر ..
لما سمع النبي .. صلى الله عليه وسلم .. بقافلة قريش مقبلة وأراد قتالها ..
خرج .. صلى الله عليه وسلم .. إليها مع أصحابه .. فلما شعر بهم أبو سفيان .. استأجر رجلاً اسمه ضمضم بن عمرو الغفاري .. وقال اذهب وأخبر قريشاً بالخبر ..
فمضى ضمضم .. مسرعاً إلى مكة .. كان وصوله مكة يحتاج أن يسير أياماً ..
وأهل مكة لا يدرون عن شيء من ذلك ..
وفي ليلة من الليالي رأت عاتكة بنت عبد المطلب .. رؤيا أفزعتها .. فلما أصبحت بعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب .. فقالت له :
يا أخي .. والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني .. وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة .. فاكتم عليَّ ما أحدثك .. ولا تحدث به أحداً ..
قال لها : نعم .. وما رأيت ؟
قالت : رأيت راكباً أقبل على بعير .. حتى وقف بوادي "الأبطح" .. ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ..!
فأرى الناس قد اجتمعوا إليه .. ثم مضى فدخل المسجد والناس يتبعونه ..
فبينما هم حوله .. إذ صعد به بعيره فوق الكعبة .. ثم صرخ بمثلها : انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ..
ثم صعد به بعيره على رأس جبل أبي قبيس .. فصرخ بمثلها :
انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ..
ثم أخذ صخرة فقذفها من أعلى الجبل .. فأقبلت تهوي من فوق الجبل .. حتى إذا كانت بأسفل الجبل تكسرت ..
فما بقي بيت من بيوت مكة إلا دخلته كسرة من الصخرة .. فاضطرب العباس وقال : والله إن هذه لرؤيا !
ثم خشي أن تنتشر فيصيبه أذى .. فقال لها محذراً : وأنت فاكتميها لا تذكريها لأحد ..
ثم خرج العباس منشغل البال بأمر هذه الرؤيا .. فلقي الوليد بن عتبة وسط الطريق .. وكان له صديقاً ..
فحدثه بالرؤيا .. وقال له : اكتمها .. فلا تخبر بها أحداً ..
فمضى الوليد ..
فلقي ابنه عتبة فحدثه بها ..
ثم لم يمض سويعات ..
حتى حدث بها عتبة .. ثم تناقلها الناس .. وفشا الحديث بها في أهل مكة .. حتى تحدثت بها قريش في مجالسها ..
وفي الضحى ذهب العباس ليطوف بالكعبة ..
فإذا أبو جهل جالس في رَهْط من قريش .. في ظل الكعبة .. يتحدثون برؤيا عاتكة !!
فلما رأى أبو جهل العباسَ قال :
يا أبا الفضل .. إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ..
فلما أقبل إليه العباس وجلس معهم ..
قال له أبو جهل : يا بني عبد المطلب .. متى حدثت فيكم هذه النبية ؟
قال : وما ذاك ؟
قال : تلك الرؤيا التي رأت عاتكة ..
قال العباس : وما رأت ؟
قال : يا بني عبد المطلب .. أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟
قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث .. فسننتظر بكم ثلاثة أيام ..
فإن يك حقاً ما تقول .. فسيكون ..
وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شئ نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت العرب ..
فاضطرب العباس .. وما رد عليه شيئاً .. وجحد الرؤيا .. وأنكر أن تكون رأت شيئاً ..
ثم تفرقوا ..
فلما أقبل العباس إلى بيته ..
لم تبق امرأة من بني عبد المطلب .. إلا جاءت إليه غاضبة .. تقول : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم .. ثم قد تناول النساء وأنت تسمع .. أما فيكم حمية ..
فاحتمى العباس .. وثار .. وقال : والله .. لئن عاد أبو جهل إلى مثل كلامه .. لأفعلن وأفعلن ..
فلما كان اليوم الثالث .. من رؤيا عاتكة ..
ذهب العباس إلى المسجد .. وهو مغضب ..
فلما دخل المسجد رأى أبا جهل .. فمشي نحوه يتعرضه ليعود لبعض ما قال فيقع به ..
فإذا بأبي جهل يخرج من باب المسجد يشتد مسرعاً ..
فعجب العباس من سرعته ..!! فقد كان مستعداً لخصومة وعراك .. فقال العباس في نفسه : ماله لعنه الله ؟! أكلّ هذاخوفٌ مني أن أشاتمه ؟!
وإذا أبو جهل قد سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري الذي أرسله أبو سفيان ليستعين بأهل مكة ..
وإذا ضمضم يصرخ في الوادي واقفاً على بعيره ..
قد جدع أنف بعيره .. والدم يسيل على وجه البعير ..
وقد شق ضمضم قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة .. اللطيمة ..
أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها ..
ثم صاح بأعلى صوته : الغوث .. الغوث ..
عندها تجهزت قريش وخرجت .. وكان من أمرها في معركة بدر ما كان ..
فتأمل كيف انتشر السر في لمحة عين .. مع قوة الحرص وشدة الاستئمان ..!!
ومن نشر السر أيضاً ..
أن عمررضي الله عنه لما أسلم .. أراد أن ينشر الخبر ..
فأقبل إلى رجل منهم .. هو أعظمهم نشراً للإشاعة ..
فقال : يا فلان .. إني محدثك بسرٍ .. فاكتم عني ..!
قال : ما سرك ؟
قال : أشعرت أني قد أسلمت .. فانتبه .. لا تخبر أحداً ..
ثم تولى عنه عمر ..
فما كاد يغيب عنه .. حتى جعل الرجل يطوف بالناس ويردد : أعلمتَ أن عمر أسلم ..!! أعلمتَ أن عمر أسلم ..!!
عجباً !! وكالة أنباء متنقلة ..
وفي يوم من الأيام بعث النبي .. صلى الله عليه وسلم .. أنساً رضي الله عنه في حاجة ..
فمرَّ بأمه .. فسألته .. إلى ماذا أرسلك النبي .. صلى الله عليه وسلم ..؟
فقال : والله .. ما كنت لأفشي سرّ رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. ..
هكذا كان أنس وهو صغير .. في شدة حفظه للسر ..
وأنى لك اليوم أن تجد مثل أنس ..
قالت عائشة رضي الله عنها ..
أقبلت فاطمة تمشي .. كأن مشيتها مشية النبي .. صلى الله عليه وسلم ....
فقال النبي .. صلى الله عليه وسلم ..: مرحباً بابنتي .. ثم أجلسها عن يمينه - أو عن شماله - ..
ثم أسرَّ إليها حديثاً .. فبكت ..
فقلت لها : لم تبكين ..
ثم أسرَّ إليها حديثاً .. فضحكت فقلت :
ما رأيت كاليوم .. فرحاً أقرب من حزن ..
فسألت فاطمة عما قال لها النبي .. صلى الله عليه وسلم .. ؟
فقالت : ما كنت لأفشي سر رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. ..
حتى قبض النبي .. صلى الله عليه وسلم ....
فسألتها ؟
فقالت : أسر إليَّ : إن جبريل كان يعارضني ( ) القرآن كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين .. ولا أراه إلا حضر أجلي .. وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي .. فبكيت ..
فقال : أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة .. أو نساء المؤمنين .. فضحكت لذلك ..
قالوا ..
من عرف سرك أسرك ..
61. قضاء الحاجات ..
لما بدأتُ في دراسة الماجستير .. اطلعت على عدد أوسع من كتب الفرق والطوائف ..
من بين هذه المذاهب .. المذهب البراجماتي .. bragmatizem
وترجمته بالعربية : المذهب النفعي ..
لما تبحرت في دراسة هذا المذهب أدركت لماذا كنا نسمع في أوروبا وأمريكا .. أنه في كثير من الأحيان يهجر الابن أباه .. وإذا قابله في مطعم فكل واحد منهما يحاسب عن نفسه ..
فعلاً .. مادام أني لن أستفيد منك فلماذا أخدمك ؟!
لماذا أنفق مالي ؟! واصرف وقتي ؟! وأبذل جهدي ؟! دون مردود مادي يعود علي ..
الإسلام قلب هذا الميزان ..
فقال الله ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) .
وقال .. صلى الله عليه وسلم .. : ( لئن امشي مع اخي في حاجة حتى أثبتها له .. أحب إليَّ من أن أعتكف في مسجدي هذا شهراً ) ..
ومن كان في حاجة أخيه .. كان الله في حاجته ..
وكان .. صلى الله عليه وسلم .. يمشي في الطريق فتوقفه الجارية وتقول : لي إليك حاجة .. فيقف معها حتى يسمع حاجة .. وقد يمضي معها إلى بيت سيدها ليقضيها لها ..
بل كان .. صلى الله عليه وسلم .. يخالط الناس ويصبر على أذاهم ..
كان يعاملهم بنفس رحيمة .. وعين دامعة .. ولسان داع .. وقلب عطوف ..
كان يشعر أنه هو وهم .. جسد واحد .. يشعر بفقر الفقير .. وحزن الحزين .. ومرض المريض .. وحاجة المحتاج ..
انظر إليه .. صلى الله عليه وسلم .. .. وقد جلس في مسجده يحدث أصحابه ..
فإذا به يرى سواداً مقبلاً عليه من بعيد ..
نظر إليهم .. فإذا هم قوم فقراء أقبلوا عليه من مضر .. من قبل نجد ..
ومن شدة فقرهم قد اجتابوا النمار ..
يعني يملك أحدهم قطعة قماش فلا يجد ثمن الإبرة والخيط .. فيخرق القماش من وسطه ثم يخرج رأسه ويسدل باقيه على جسده ..
أقبلوا قد اجتابوا النمار .. وتقلدوا السيوف .. وليس عليهم أزر ولا شيء غيرُها .. لا عمامة ولا سراويل ولا رداء ..
فلما رأى رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. الذي بهم من الجهد والعري والجوع .. تغير وجهه ..
ثم قام .. فدخل بيته .. فلم يجد شيئاً يتصدق به عليهم ..
فخرج .. ودخل بيته الآخر .. وخرج .. يبحث .. يلتمس شيئاً لهم .. فلم يجد ..
ثم راح إلى المسجد .. فصلى الظهر .. ثم صعد منبره ..
فحمد الله وأثنى عليه .. ثم قال :
أما بعد .. فإن الله عز وجل .. أنزل في كتابه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) ..
ثم قرأ ..
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ..
وجعل يتلوا الآيات والمواعظ .. ثم صاح بهم .. وقال :
تصدقوا قبل أن لا تصدقوا .. تصدقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة ..
تصدق امرؤ من ديناره .. من درهمه .. من بره .. من شعيره .. ولا يحقرن أحدكم شيئاً من الصدقة .. وجعل يعدد أنواع الصدقات حتى قال :
ولو بشق تمرة ..
فقام رجل من الأنصار بصرة في كفه .. فناولها رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. وهو على منبره ..
فقبضها رسول الله .. صلى الله عليه وسلم .. يعرف السرور في وجهه ..
وقال : من سن سنة حسنة .. فعمل بها كان له أجرها .. ومثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيء ..
ومن سن سنة سيئة .. فعمل بها .. كان عليه وزرها .. ومثل وزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيء ..
فقام الناس .. فتفرقوا إلى بيوتهم .. وجاءوا بصدقات .. فمن ذي دينار .. ومن ذي درهم ..
ومن ذي تمر .. ومن ذي ثياب ..
حتى اجتمع بين يديه .. صلى الله عليه وسلم .. كومان .. كوم من طعام .. وكوم من ثياب ..
فلما رأى .. صلى الله عليه وسلم .. ذلك تهلل وجهه حتى كأنه فلقة من قمر ..
ثم قسمه بين الفقراء .. رواه مسلم ..
ولما سئلت عائشة عن حاله .. صلى الله عليه وسلم .. في بيته .. قالت :
كان يكون في حاجة أهله .. أو في مهنة أهله ..
أفلا تجعل من طرق دخولك إلى قلوب الناس .. قضاء حاجاتهم ..
احتاج شخص إلى مستشفى .. فأوصلته إليه ..
استعان بك في مشكلة فأعنته عليها ..
يراك تقضي حاجته .. وتقف معه في كربته .. وهو يعلم أنك لا ترجو من ذلك جزاء ولا شكوراً ..
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
رؤية ..
من عاش لغيره فسيعيش متعباً .. لكنه سيحيا كبيراً .. ويموت كبيراً ..
62. لا تتكلف ما لا تطيق !!
كان صاحبي من خيار الناس .. خلقاً .. وديناً .. وعقلاً ..
كان إمام مسجد بجانب بيته ..
لكني كنت أسمع ذمه على ألسنة أناس كثيرين ..
كنت أتعجب من ذلك .. ولا أجد له جواباً ..
حتى جاءني يوماً جاره .. قال : يا شيخ .. صاحبك .. لا يصلي بنا .. ولا معنا !!
قلت : لم ؟!!
قال : لا أدري .. لكنه هو الإمام .. ومع ذلك يغيب كثييييراً عن المسجد ..
فجعلت ألتمس له الأعذار .. فقلت : لعله مشغول بأمر ضروري .. لعله غير موجود بالبيت ..
قال : يا شييييخ .. سيارته واقفة عند الباب .. وأنا متأكد أنه في بيته ..
جعلت أتقصى السبب لنصح صاحبي ..
حتى وجدت السبب ..
الرجل بحكم إمامته للمسجد ..
يأتي إليه الناس ويلتمسون منه الإعانة في حاجاتهم ..
هذا عليه دين يريد أن يبحث له عمن يسدده ..
وهذا متخرج من الثانوية ويريد شفاعة لدخول الجامعة ..
وهذا مريض يريد إعانته على دخول المستشفى الفلاني ..
وهذا عنده بنات كبار ويريد لهن أزواج ..
وهذا عليه أيجار لبيته لم يسدده ..
وهذا أعطاه ورقة استفتاء في طلاق ليذهب بها للمفتي العام ..
وهذا ..
وهو رجل عادي ليس له قدرات كبيرة ولا علاقات الواسعة .. ولا وجاهة متميّزة ..
وكان المسكين يغلبه الحياء والخجل من كل أحد .. فلا يقدر أن يعتذر من أحد أبداً ..
بل يأخذ معروض هذا ويعده بسداد دينه ..
ويكتب رقم هاتف الثاني .. ويعده أن يقبل في الجامعة ..
ويقول للثالث : تعال بعد يومين وتجد ورقة دخول المستشفى جاهزة ..
وهكذا دواليك ..
فيأتونه على الموعد .. ويعتذر .. ويعطيهم مواعيد أخرى ..
حتى صار يتهرب منهم .. ولا يرد على هاتفه .. بل وأحياناً لا يخرج من بيته ..!!
وصار من يلقاه منهم .. إن وجده .. يسبه ويصرخ به .. ويردد : طيب لماذا تعدني .. لماذا تجعلني أبني الآمال عليك ..
والثاني يقول : لم أكلم إلا أنت .. وتركت غيرك لما وعدتني ..
لما عرفت حاله .. أيقنت أنه حفر لنفسه حفرة .. ثم تردى فيها ..
سمعته مرة يعتذر من أحدهم .. ويقول :
آسف .. لم أستطع أن أفعل شيئاً في موضوعك ..
وذاك يقول بكل قوة : طيب أنت ضيعت الوقت عليَّ .. ليتك أخبرتني من قبل ..
تذكرت عندها قول الحكيم : الاعتذار في البداية خير من الاعتذار في النهاية ..
ما أجمل أن يعرف المرء قدراته .. ويتحرك في حدود الدائرة المرسومة حوله ..
ولقد جربت ذلك بنفسي ..
أذكر أني ألقيت محاضرة في أحد المجمعات العسكرية بالرياض ..
وبعدها جاءني أحدهم وقال : يا شيخ أريدك في موضوع ضروري جداً ..
قلت : تفضل .. ما هو ؟
قال : لا .. ما يصلح أن أذكره الآن .. لا بدّ أن أقابلك في وقت واسع ..
جعل يُعَظّم حجم الموضوع وأنا أستمع له بلطف .. لكني قد علمتني الحياة أن أكثر الناس يعطون الأمور أكبر من حجمها .. وصاحب الحاجة مجنون بها حتى تقضى ..
قال لي : أظن لك محاضرة غداً في مدينة كذا .. وهي مدينة على بعد 200كم من الرياض ..
قلت : صحيح ..
قال : سآتي إليك هناك .. وأقابلك بعد المحاضرة ..
تعجبت من حرصه ..
وفعلاً .. خرجت بعد المحاضرة فخرج الرجل وراءي مسعاً حافي القدمين .. يحمل ورقة صغيرة في يده ..
وقفت معه جانباً .. قلت : تفضل .. شكر الله حرصك .. ما حاجتك ؟
قال : يا شيخ .. عندي أخ يحمل الشهادة الابتدائية .. وأريدك أن تدبر له وظيفة ..
قلت : بس ؟!!
قال : بس ؟!!
كان الرجل متحمساً .. ومنظره يثير الشفقة .. ويبدو أن أخاه يمر بظروف صعبة فعلاً ..
أيقنت أني لو وعدته سأخلف .. فنحن في زمن لا يكاد حامل البكالوريوس أن يجد وظيفة .. فضلاً عن حامل الابتدائية .. وأنا أعرف حدود قدراتي ..
قلت : يا أخي .. والله أتمنى أن أساعدك .. وأخوك أخي .. وأنا أتألم له كما تتألم ..
لكني لا أستطيع مساعدتك أبداً .. أتمنى أن تتكرم عليَّ وتعفيني ..
قال : يا شيخ .. حاول ..
قلت : لاااا أقدر ..
فناولني الورقة التي في يده .. وقال : طيب .. يا شيخ خذ هذه الورقة فيها أرقام هواتفنا .. إذا وجدت له وظيفة فاتصل بنا ..
أدركت أنه يريد أن يربطني بحبل أمل .. وسيظل ينتظر الاتصال ..
فقلت : بل دع الورقة معك .. وخذ رقمي أنت .. وإن وجدت له وظيفة فاتصل بي .. لعلي أن أكتب لك شفاعة للمسئول فيها ..
سكت الرجل قليلاً .. انتظرت أن يودعني ..
لكني تفاجأت أنه قال لي : بيض الله وجهك .. والله يا شيخ .. سبق أن كلمت الأمير فلان في موضوع أخي منذ سنة .. فأخذ الورقة .. ولم يتصل بي إلى الآن ..
ومرة كلمت اللواء فلان .. فأخذ الورقة أيضاً .. ولم يتصل ولم يهتم .. هؤلاء أناس ما يهتمون بالضعفاء .. الله ينتقم منهم .. الله .. وبدأ يدعو عليهم ..
فقلت في نفسي .. الحمد لله .. لو أخذت الورقة لصرت ثالثهم ..
نعم .. الاعتذار في البداية خير من إخلاف الوعد ..
ما أجمل أن نكون صرحاء مع الآخرين .. عارفين لحدود قدراتنا ..
أحياناً عند خروجك من البيت .. تصرخ بك زوجتك ..
أحضر معك حليباً .. وسكراً .. وحفائظ .. وعشاء ..
فانتبه .. لا تردد : طيب .. طيب .. وإنما اصرخ بها أنت أيضاً وقل :
مااااااا أقدر .. !! فهي خير من الاعتذار عند العودة .. ضاق وقتي .. أقفلت المحلات .. نسيت ..
وكذلك مع زملائك .. وإخوانك ..
أرجو أن تكون الفكرة وصلت ..
تجربة ..
الاعتذار في البداية .. خير من الاعتذار في النهاية ..
vBulletin® v3.8.11, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir
diamond