عفراء
04-03-2010, 19:59
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكرام ؛ الآية الخامسة بعد المئة من سورة المائدة ، وهي قوله تعالى :
قبل أن نمضي في شرح هذه الآية الكريمة لا بد من مقدمة تلقي ضواءً على هذه الآية .
أيها الإخوة ؛ الإنسان مؤلف من نفس وروح وجسد …
نفسه هي ذاته ، هي حقيقته ، نفسه هي التي تؤمن أو تكفر ، هي التي تسعد أو تشقى ، هي التي ترضى أو تغضب ، هي التي تذوق الموت ولا تموت ، " كل نفس ذائقة الموت " .
( سورة آل عمران : 185 )
هي التي تخلد في جنةٍ يدوم نعيمها ، أو في نارٍ لا ينفذُ عذابها .
لكن الجسد ما هو إلاّ قالبٌ لهذه النفس ، وعاءٌ يحتويها ، ثيابٌ ترتديها فالنفس من خلال الجسد ترى ، والنفس من خلال الجسد تسمع ، والنفس من خلال الجسد تتحرك ، وقد تبطش ، وقد تحسن ، فما الجسد إلا وعاءٌ أو قالبٌ لهذه النفس .
والروح هي القوة المحركة ، فلولا الروح لما رأى الإنسان بعينه ، ولا سمع بأذنه ، ولا تقلصت عضلاته ، ولا عملت أجهزته .
إذاً من باب التقريب والتوضيح ، القوة المحركة للأجهزة الكهربائية هي الكهرباء ، فإذا قطعت الكهرباء عن هذا الجهاز توقف .
فصار الآن واضحًا أنّ النفس هي الأصل ، هي ذات الإنسان ، هي التي تسعد ، هي التي تشقى ، هي التي ترقى ، هي التي تسمو ، هي التي تخلد ، هي الباقية ، هي الخالدة ، تذوق الموت ولا تموت .
والجسد بمثابة ثيابٍ خلعتها .
والروح قوةٌ محركةٌ لهذا الجسد ، فإذا انتهى أجل الإنسان ، توقف الإمداد الروحي ، فتعطل الجسد فخلعته النفس ، فصعدت النفس إلى باريها .
ربنا عز وجل يقول : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " ، يعني إذا اعتنيت بالجسد ، فالجسد فانٍ ، اعتنيت ، أكلت أطيب الأكل ، وتمتعت بأجمل المناظر ، وسكنت في أجمل البيوت ، واقترنت بأجمل النساء ، هذا الجسد مؤدَّاه إلى التراب ، فكل عنايتك وكل طاقتك ، وكل رعايتك لهذا الجسد خسارة ، لأنه سينتهي إلى القبر ، وإلى الفناء .
الله سبحانه تعالى يقول : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " اعتنِ بنفسك لأنها باقية ، لأنها خالدة ، لأنها في جنةٍ ، أو في نار ، لذلك يقول الله عز وجل: "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم "
( سورة الشعراء : 88 ـ 89 )
يقول سيدنا عمر رضي الله عنه : "تعَاهَدْ قلبك ".
أمراض الجسد أيها الإخوة مهما تفاقمت تنتهي عند الموت ، لكن أمراض النفس تبدأ بعد الموت ، أمراض الجسد مهما كانت عضالة أو خطيرة ، مرض خبيث فإذا مات الجسد انتهى أثرُ المرض ، والموت يُنهي قوة القوي ، وضعف الضعيف ، وصحة الصحيح ، ومرض المريض ، وغنى الغني ، وفقر الفقير ، الموت ينهي كل شيءٍ ، فأي عناية وأي جهدٍ منصَبٍّ على هذا الجسد فهو خسارة .
يعني مثلاً إنسان ساكن في بيت أجرة ، ومالكُ البيت بأية لحظة - حسب الأنظمة - بإمكانه أن يطرد المستأجر إلى خارج البيت ، وهذا المستأجر له دخل كبير ، هل من الحكمة أن ينفق هذا الدخل الكبير في تزيين هذا البيت ، والعناية به ، وطلائه ، وتزيين سقفه ، وبأي لحظة يخسر البيت ، لكن العقل أن تزيِّن بيتك الأبدي ، البيت النهائي .
فربنا عز وجل يقول : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" .
يعني هذه النفس ، هناك أربع آيات في القرآن ، " قد أفلح من زكاها "
(سورة الشمس : 9 )
" قد أفلح المؤمنون "
( سورة المؤمنون : 1 )
الفلاح كل الفلاح ، والتفوق كل التفوق ، والفوز كل الفوز والنجاح كل النجاح ، والذكاء كل الذكاء ، والعقل كل العقل ، بأن تعتني بنفسك ، أن تُعرفها بربك ، أن تحملها على طاعة الله ، لأنه إذا جاء الموت ، وأصبح الجسد جثة هامدة ، بعد حين تتفسخ ، والروح انقطع إمدادها ، بقيت هذه النفس التي هي أنت ، إما أن تسعد لتزكيتها ، وإما أن تشقى لفسادها .
فالآية الكريمة ، "يا آيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم "، "عليكم أنفسكم " ، يعني الزموا أنفسكم ، طهروا أنفسكم ، زكُّوا أنفسكم ، عِّرفوا أنفسكم بربها ، احملوها على طاعته ، عرِّفوها كتاب الله ، عرِّفوها سنة رسوله ، احملوها على العمل الصالح ، لتعرف حقيقتها جوهرها ، موقعها ، أين كانت ؟ ماذا تفعل هنا ؟ ماذا بعد الموت ؟ "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" ، عليكم اسم فعل أمر بمعنى الزم ، يعني انتبه لنفسك ، هي الأصل ، يعني المرض بالجسم ينتهي عند الموت ، لكن مرض النفس يبدأ عند الموت ، "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم "، تتمة الآية : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ".
من إعجاز القرآن الكريم ، أن بعض آياته لها عدة معانٍ في وقت واحد ، "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "، لا تقل : يا أخي الناس هكذا يفعلون ، أنا مع الناس ، هذا هو الإمعة ، الذي يقول : أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت ، وكل إنسان يحتجُّ بالتيار العام ، يحتجُّ بقوله : الناس كلهم هكذا ، هكذا يكون كسب المال، والتجارة هكذا كما يتاجر الناس ، إذا ما غششنا لا نعيش ، عندنا أولاد ، هذا الذي يقول : أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت ، هذا إمعة ، وطِّنْ نفسك على أن الناس لو أساءوا جميعاً ، عليك أن تحسن .
" لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" .
يعني إذا اهتدى إنسان إلى الله ، وعرف الحق ينبغي ألاّ يقلد الناس ، الناس في ضلال ، في بُعد ، في غفلة ، في جهل .
" وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ".
( سورة الأنعام : 116 )
"وقليل من عبادي الشكور " .
( سورة سبأ: 13 )
هكذا الآيات : "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "، إذا عرفت الحق ، لو أن الأكثرية كانت مع الباطل ، الأكثرية مع أكلِ الربا ، الأكثرية مع الاختلاط ، الأكثرية مع إطلاق البصر الأكثرية مع كسب المال الحرام ، الأكثرية مع التفلت من الدين ، الأكثرية مع الانغماس في الشهوات ، أنت عليك نفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت ، وهناك معنى آخر للآية ، يعني أنت إذا لزمت نفسك وزكيتها ، وطهرتها وحملتها على طاعة الله ، عندئذٍ لا تستحق المعالجة من الله ، عندئذٍ هؤلاء الذين ضلوا
لا يستطيعون أن يصلوا إليك ، "لا يضركم من ضل "، إذا عُرِف عن الإنسان أنّه مقصر، ومرتكب معاصٍ ، وآكل حقوق ، معتدٍ على أعراض ، مقصّر في واجبات ، هؤلاء الضلال أقوياء غالباً ، فسيصلون إليه ويؤدبونه ، وينالون منه ، أما أنت ؛ إذا عرفت الله، وحملت نفسك على طاعته فلا يستطيع هذا الضال أن يضرك ، "عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ".
لذلك ورد في أحد الأحاديث الصحيحة ، أن إذا رأيت شُحاً مُطاعاً ، وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه ، فالزم بيتك ، وامسك لسانك ، وخذ ما تعرف ، و دع ما تنكر ، وعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة .
ففي القرآن الكريم إعجاز ، يتماشى مع كل العصور ، ففي عصر النفاق ، والفجور ، والضلال ، في عصر الفتن ، في عصر الضلالات ، "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم "، عليك مِن نفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت ، أو عليك نفسك ، يعني الزم نفسك ، عرفها بربها ، عرفها بمنهج ربها ، احملها على طاعته ، زكِّها كي تسمو بها ، إن كنت كذلك فلا يستطيع الضال أن يصل إليك ، ولا أن ينال منك ، ولا أن يؤذيك .
فصارت الآية ، إذا كنت في زمنٍ صعبٍ ، في زمن القابض على دينه كالقابض على جمر ، في زمن يصبح المعروف منكراً ، والمنكر معروفًا ، في زمن يُؤمر فيهُ بالمنكر وينهى عن المعروف ، في زمن يُكَذَّب الصادق ، ويُصَدَّق الكاذب ، يُؤتمن الخائن ويُؤمَّن الخائن .
في هذا الزمن الصعب ، "عليكم أنفسكم" ، يعني لا تحمل همَّ الناس ، أنت في زمن صعب فعليك مِن نفسك ، عِّرف نفسك بربها ، واحملها على طاعته ، لا يضرك من ضل ، لو أن الناس جميعاً ضلوا ، لهم رب يحاسبهم ، هذا معنى .
المعنى الثاني عليك نفسك ، يعني الزمها ، اعتنِ بها ، عرفها ، احرص على إيمانها ، احرص على طاعتها ، فإذا سمت نفسك وزكت ، عندئذٍ لا يستطيع الضال أن يصل إليك، ولا أن يتسلط عليك ، ولا أن ينال منك ، ولا أن يضيق عليك ، أو أن يفعل معك شيئاً يضرك ، لقوله تعالى : "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " .
( سورة النساء : 141 ) .
مستحيل .
فهذه الآية أيها الإخوة لك أن تفهمها على أي وجه ، وكلا الوجهين صحيح ، وكما قال سيدنا علي كرم الله وجهه : القرآن حمال أوجه ، "عليكم أنفسكم "، أي انتبه لنفسك ، وعليك من نفسك ، ودع عنك أمر العامة ، إذا كنت في زمن الفساد والضلال والفتن والانحراف والفجور والمعصية .
والمعنى الثاني ، عليك نفسك أي الزمها ، واعتنِ بها ، عرِّفها ، زكِّها ، ارقَ بها ، فإذا كانت في هذا المستوى الرفيع عندئذٍ لا يستطيع أحد أن يصل إليك ، فأنت في حفظ الله.
إذا كان الله معك فمن عليك وإذا كان عليك فمن معك
أيها الإخوة الأكارم ؛ الإنسان ليس بحكيم إذا لم يدارِ مَن لا بد مِن مدراته ، فهو مخطئٌ إذًا ، يعني لك أخ ، لك جار مخلص ، لك ابن ، لك صهر ، هذه خاصة نفسك ، لكن أنْ تمسك امرأة سافرة في الطريق ، ثم تقول : أنتِ فاسقة ، أنتِ فاجرة ، فلا تقل ذلك ، فيكفيك الإنكارُ بقلبك ، وهذا معنى الآية ، "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ".
يعني إذا كان الإنسان بإمكانه أن ينكر المنكر بقلبه ، فلينكره بقلبه ، طبعاً إذا كان لا يستطيع أن ينكره بلسانه .
الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن تنكر المنكر بقلبك إذا كنت قادرًا على أن تنكره بلسانك ، كما أنه لا يقبل منك أن تنكره بلسانك إذا كنت قادرًا على أن تنكره بيدك ، فإذا رأى الإنسان منكرًا ، وليس بإمكانه أن يصلحه فليقل : اللهم هذا منكر لا أرضى به ، ولا أقوى على تغييره .
إذاً الآية الكريمة : "عليكم أنفسكم "، الزموا أنفسكم .
فلماذا إنْ شعَر الواحدُ بذبابةٍ أمام عينه تمشي مع حركة عينه فلا ينام الليل ، ثم يراجع طبيب عيون ، فحدَّد بله موعدًا بعد ستة أشهر ، يقول : أنتظر فهذه عين ليس معها لعب ، فلماذا أنت حريص حرصاً لا حدود له على عينك ؟ ولست حريصاً على قلبك .
لذلك ورد في بعض الآثار القدسية : أن يا عبدي طهَّرتَ منظرَ الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة ؟
تريد مدخل البناية أنيقًا ، أخي المدخل غير لائق ، ولعله يصادفنا فرح تريد مدخلاً أنيقًا ، بيتًا مرتبًا ، غرفة ضيوف ، غرفة صالون ، غرفة طعام ، دهان جديد ، ورق أحياناً ، جبصين .
طهرت منظر الخلق ، بيتك ، ومركبتك ، ولبسك ، وأناقتك هذا منظر الخلق ، عبدي طهرت الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة .
ما هو منظر الله ؟ القلب لأن الله ينظر إلى قلوبكم ، إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ، و لكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ، فصار القلب منظر الرب.
فيا عبدي ، عتاب ، طهرت منظر الخلق سنين ، أفلا طهرت منظري ساعة ، أتستحيي من ضيف يدخل بيتك غرفة الضيوف ، عندما تكون الغرفة غير منتظمة ، أو فيها حاجات مبعثرة ، أتستحيي من ضيف أن يرى الغرفة على هذا الشكل ؟ ولا تستحيي من الله أن يرى في قلبك غلاً للمؤمنين ، أو حسداً ، أو كبراً ، أمراضًا وبيلة .
إذاً : عبدي طهرت منظر الخلق سنين ، أفلا طهرت منظري ساعة
والحمد لله رب العالمين
تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكرام ؛ الآية الخامسة بعد المئة من سورة المائدة ، وهي قوله تعالى :
قبل أن نمضي في شرح هذه الآية الكريمة لا بد من مقدمة تلقي ضواءً على هذه الآية .
أيها الإخوة ؛ الإنسان مؤلف من نفس وروح وجسد …
نفسه هي ذاته ، هي حقيقته ، نفسه هي التي تؤمن أو تكفر ، هي التي تسعد أو تشقى ، هي التي ترضى أو تغضب ، هي التي تذوق الموت ولا تموت ، " كل نفس ذائقة الموت " .
( سورة آل عمران : 185 )
هي التي تخلد في جنةٍ يدوم نعيمها ، أو في نارٍ لا ينفذُ عذابها .
لكن الجسد ما هو إلاّ قالبٌ لهذه النفس ، وعاءٌ يحتويها ، ثيابٌ ترتديها فالنفس من خلال الجسد ترى ، والنفس من خلال الجسد تسمع ، والنفس من خلال الجسد تتحرك ، وقد تبطش ، وقد تحسن ، فما الجسد إلا وعاءٌ أو قالبٌ لهذه النفس .
والروح هي القوة المحركة ، فلولا الروح لما رأى الإنسان بعينه ، ولا سمع بأذنه ، ولا تقلصت عضلاته ، ولا عملت أجهزته .
إذاً من باب التقريب والتوضيح ، القوة المحركة للأجهزة الكهربائية هي الكهرباء ، فإذا قطعت الكهرباء عن هذا الجهاز توقف .
فصار الآن واضحًا أنّ النفس هي الأصل ، هي ذات الإنسان ، هي التي تسعد ، هي التي تشقى ، هي التي ترقى ، هي التي تسمو ، هي التي تخلد ، هي الباقية ، هي الخالدة ، تذوق الموت ولا تموت .
والجسد بمثابة ثيابٍ خلعتها .
والروح قوةٌ محركةٌ لهذا الجسد ، فإذا انتهى أجل الإنسان ، توقف الإمداد الروحي ، فتعطل الجسد فخلعته النفس ، فصعدت النفس إلى باريها .
ربنا عز وجل يقول : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " ، يعني إذا اعتنيت بالجسد ، فالجسد فانٍ ، اعتنيت ، أكلت أطيب الأكل ، وتمتعت بأجمل المناظر ، وسكنت في أجمل البيوت ، واقترنت بأجمل النساء ، هذا الجسد مؤدَّاه إلى التراب ، فكل عنايتك وكل طاقتك ، وكل رعايتك لهذا الجسد خسارة ، لأنه سينتهي إلى القبر ، وإلى الفناء .
الله سبحانه تعالى يقول : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " اعتنِ بنفسك لأنها باقية ، لأنها خالدة ، لأنها في جنةٍ ، أو في نار ، لذلك يقول الله عز وجل: "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم "
( سورة الشعراء : 88 ـ 89 )
يقول سيدنا عمر رضي الله عنه : "تعَاهَدْ قلبك ".
أمراض الجسد أيها الإخوة مهما تفاقمت تنتهي عند الموت ، لكن أمراض النفس تبدأ بعد الموت ، أمراض الجسد مهما كانت عضالة أو خطيرة ، مرض خبيث فإذا مات الجسد انتهى أثرُ المرض ، والموت يُنهي قوة القوي ، وضعف الضعيف ، وصحة الصحيح ، ومرض المريض ، وغنى الغني ، وفقر الفقير ، الموت ينهي كل شيءٍ ، فأي عناية وأي جهدٍ منصَبٍّ على هذا الجسد فهو خسارة .
يعني مثلاً إنسان ساكن في بيت أجرة ، ومالكُ البيت بأية لحظة - حسب الأنظمة - بإمكانه أن يطرد المستأجر إلى خارج البيت ، وهذا المستأجر له دخل كبير ، هل من الحكمة أن ينفق هذا الدخل الكبير في تزيين هذا البيت ، والعناية به ، وطلائه ، وتزيين سقفه ، وبأي لحظة يخسر البيت ، لكن العقل أن تزيِّن بيتك الأبدي ، البيت النهائي .
فربنا عز وجل يقول : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" .
يعني هذه النفس ، هناك أربع آيات في القرآن ، " قد أفلح من زكاها "
(سورة الشمس : 9 )
" قد أفلح المؤمنون "
( سورة المؤمنون : 1 )
الفلاح كل الفلاح ، والتفوق كل التفوق ، والفوز كل الفوز والنجاح كل النجاح ، والذكاء كل الذكاء ، والعقل كل العقل ، بأن تعتني بنفسك ، أن تُعرفها بربك ، أن تحملها على طاعة الله ، لأنه إذا جاء الموت ، وأصبح الجسد جثة هامدة ، بعد حين تتفسخ ، والروح انقطع إمدادها ، بقيت هذه النفس التي هي أنت ، إما أن تسعد لتزكيتها ، وإما أن تشقى لفسادها .
فالآية الكريمة ، "يا آيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم "، "عليكم أنفسكم " ، يعني الزموا أنفسكم ، طهروا أنفسكم ، زكُّوا أنفسكم ، عِّرفوا أنفسكم بربها ، احملوها على طاعته ، عرِّفوها كتاب الله ، عرِّفوها سنة رسوله ، احملوها على العمل الصالح ، لتعرف حقيقتها جوهرها ، موقعها ، أين كانت ؟ ماذا تفعل هنا ؟ ماذا بعد الموت ؟ "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" ، عليكم اسم فعل أمر بمعنى الزم ، يعني انتبه لنفسك ، هي الأصل ، يعني المرض بالجسم ينتهي عند الموت ، لكن مرض النفس يبدأ عند الموت ، "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم "، تتمة الآية : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ".
من إعجاز القرآن الكريم ، أن بعض آياته لها عدة معانٍ في وقت واحد ، "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "، لا تقل : يا أخي الناس هكذا يفعلون ، أنا مع الناس ، هذا هو الإمعة ، الذي يقول : أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت ، وكل إنسان يحتجُّ بالتيار العام ، يحتجُّ بقوله : الناس كلهم هكذا ، هكذا يكون كسب المال، والتجارة هكذا كما يتاجر الناس ، إذا ما غششنا لا نعيش ، عندنا أولاد ، هذا الذي يقول : أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت ، هذا إمعة ، وطِّنْ نفسك على أن الناس لو أساءوا جميعاً ، عليك أن تحسن .
" لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" .
يعني إذا اهتدى إنسان إلى الله ، وعرف الحق ينبغي ألاّ يقلد الناس ، الناس في ضلال ، في بُعد ، في غفلة ، في جهل .
" وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ".
( سورة الأنعام : 116 )
"وقليل من عبادي الشكور " .
( سورة سبأ: 13 )
هكذا الآيات : "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "، إذا عرفت الحق ، لو أن الأكثرية كانت مع الباطل ، الأكثرية مع أكلِ الربا ، الأكثرية مع الاختلاط ، الأكثرية مع إطلاق البصر الأكثرية مع كسب المال الحرام ، الأكثرية مع التفلت من الدين ، الأكثرية مع الانغماس في الشهوات ، أنت عليك نفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت ، وهناك معنى آخر للآية ، يعني أنت إذا لزمت نفسك وزكيتها ، وطهرتها وحملتها على طاعة الله ، عندئذٍ لا تستحق المعالجة من الله ، عندئذٍ هؤلاء الذين ضلوا
لا يستطيعون أن يصلوا إليك ، "لا يضركم من ضل "، إذا عُرِف عن الإنسان أنّه مقصر، ومرتكب معاصٍ ، وآكل حقوق ، معتدٍ على أعراض ، مقصّر في واجبات ، هؤلاء الضلال أقوياء غالباً ، فسيصلون إليه ويؤدبونه ، وينالون منه ، أما أنت ؛ إذا عرفت الله، وحملت نفسك على طاعته فلا يستطيع هذا الضال أن يضرك ، "عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ".
لذلك ورد في أحد الأحاديث الصحيحة ، أن إذا رأيت شُحاً مُطاعاً ، وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه ، فالزم بيتك ، وامسك لسانك ، وخذ ما تعرف ، و دع ما تنكر ، وعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة .
ففي القرآن الكريم إعجاز ، يتماشى مع كل العصور ، ففي عصر النفاق ، والفجور ، والضلال ، في عصر الفتن ، في عصر الضلالات ، "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم "، عليك مِن نفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت ، أو عليك نفسك ، يعني الزم نفسك ، عرفها بربها ، عرفها بمنهج ربها ، احملها على طاعته ، زكِّها كي تسمو بها ، إن كنت كذلك فلا يستطيع الضال أن يصل إليك ، ولا أن ينال منك ، ولا أن يؤذيك .
فصارت الآية ، إذا كنت في زمنٍ صعبٍ ، في زمن القابض على دينه كالقابض على جمر ، في زمن يصبح المعروف منكراً ، والمنكر معروفًا ، في زمن يُؤمر فيهُ بالمنكر وينهى عن المعروف ، في زمن يُكَذَّب الصادق ، ويُصَدَّق الكاذب ، يُؤتمن الخائن ويُؤمَّن الخائن .
في هذا الزمن الصعب ، "عليكم أنفسكم" ، يعني لا تحمل همَّ الناس ، أنت في زمن صعب فعليك مِن نفسك ، عِّرف نفسك بربها ، واحملها على طاعته ، لا يضرك من ضل ، لو أن الناس جميعاً ضلوا ، لهم رب يحاسبهم ، هذا معنى .
المعنى الثاني عليك نفسك ، يعني الزمها ، اعتنِ بها ، عرفها ، احرص على إيمانها ، احرص على طاعتها ، فإذا سمت نفسك وزكت ، عندئذٍ لا يستطيع الضال أن يصل إليك، ولا أن يتسلط عليك ، ولا أن ينال منك ، ولا أن يضيق عليك ، أو أن يفعل معك شيئاً يضرك ، لقوله تعالى : "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " .
( سورة النساء : 141 ) .
مستحيل .
فهذه الآية أيها الإخوة لك أن تفهمها على أي وجه ، وكلا الوجهين صحيح ، وكما قال سيدنا علي كرم الله وجهه : القرآن حمال أوجه ، "عليكم أنفسكم "، أي انتبه لنفسك ، وعليك من نفسك ، ودع عنك أمر العامة ، إذا كنت في زمن الفساد والضلال والفتن والانحراف والفجور والمعصية .
والمعنى الثاني ، عليك نفسك أي الزمها ، واعتنِ بها ، عرِّفها ، زكِّها ، ارقَ بها ، فإذا كانت في هذا المستوى الرفيع عندئذٍ لا يستطيع أحد أن يصل إليك ، فأنت في حفظ الله.
إذا كان الله معك فمن عليك وإذا كان عليك فمن معك
أيها الإخوة الأكارم ؛ الإنسان ليس بحكيم إذا لم يدارِ مَن لا بد مِن مدراته ، فهو مخطئٌ إذًا ، يعني لك أخ ، لك جار مخلص ، لك ابن ، لك صهر ، هذه خاصة نفسك ، لكن أنْ تمسك امرأة سافرة في الطريق ، ثم تقول : أنتِ فاسقة ، أنتِ فاجرة ، فلا تقل ذلك ، فيكفيك الإنكارُ بقلبك ، وهذا معنى الآية ، "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ".
يعني إذا كان الإنسان بإمكانه أن ينكر المنكر بقلبه ، فلينكره بقلبه ، طبعاً إذا كان لا يستطيع أن ينكره بلسانه .
الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن تنكر المنكر بقلبك إذا كنت قادرًا على أن تنكره بلسانك ، كما أنه لا يقبل منك أن تنكره بلسانك إذا كنت قادرًا على أن تنكره بيدك ، فإذا رأى الإنسان منكرًا ، وليس بإمكانه أن يصلحه فليقل : اللهم هذا منكر لا أرضى به ، ولا أقوى على تغييره .
إذاً الآية الكريمة : "عليكم أنفسكم "، الزموا أنفسكم .
فلماذا إنْ شعَر الواحدُ بذبابةٍ أمام عينه تمشي مع حركة عينه فلا ينام الليل ، ثم يراجع طبيب عيون ، فحدَّد بله موعدًا بعد ستة أشهر ، يقول : أنتظر فهذه عين ليس معها لعب ، فلماذا أنت حريص حرصاً لا حدود له على عينك ؟ ولست حريصاً على قلبك .
لذلك ورد في بعض الآثار القدسية : أن يا عبدي طهَّرتَ منظرَ الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة ؟
تريد مدخل البناية أنيقًا ، أخي المدخل غير لائق ، ولعله يصادفنا فرح تريد مدخلاً أنيقًا ، بيتًا مرتبًا ، غرفة ضيوف ، غرفة صالون ، غرفة طعام ، دهان جديد ، ورق أحياناً ، جبصين .
طهرت منظر الخلق ، بيتك ، ومركبتك ، ولبسك ، وأناقتك هذا منظر الخلق ، عبدي طهرت الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة .
ما هو منظر الله ؟ القلب لأن الله ينظر إلى قلوبكم ، إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ، و لكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ، فصار القلب منظر الرب.
فيا عبدي ، عتاب ، طهرت منظر الخلق سنين ، أفلا طهرت منظري ساعة ، أتستحيي من ضيف يدخل بيتك غرفة الضيوف ، عندما تكون الغرفة غير منتظمة ، أو فيها حاجات مبعثرة ، أتستحيي من ضيف أن يرى الغرفة على هذا الشكل ؟ ولا تستحيي من الله أن يرى في قلبك غلاً للمؤمنين ، أو حسداً ، أو كبراً ، أمراضًا وبيلة .
إذاً : عبدي طهرت منظر الخلق سنين ، أفلا طهرت منظري ساعة
والحمد لله رب العالمين
تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي