المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من سورة المائدة ..المعية الخاصة ، الآية 12 .


عفراء
04-03-2010, 19:54
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين :
أيها الإخوة الكرام ؛ قال تعالى :

أيها الإخوة الكرام ؛ ما منا واحدٌ إلا ويتمنّى أن يكون الله معه ، لأنه إذا كان الله معك فمن عليك ؟ من يستطيع في الأرض أن ينال منك ، وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ ما معك أحد ، أمّا إذا كان الله معك ، فلو أن الأمة بأكملها اجتمعت على أن يضروك بشيءٍ لم يستطيعوا ، وإذا تخلى الله عنك ، ولم يكن الله معك ، فأقرب الناس إليك ، ابنك الذي من صلبك ، زوجتك التي عشت معها أربعين عاما ، تتخلى عنك ، إذا كان الله معك فمن عليك وإذا كان الله عليك فمن معك ؟.
إذا كان الله معك ألقى حبك في قلوب العباد ، وإذا كان الله عليك ألقى بغضك في قلوب العباد .
يا أيها الإخوة ؛ الأقوياء يملكون القوالب ، لكن الأنبياء يملكون القلوب ، والبطولة الحقيقية في أن تملك قلوب الناس ، لا أن تملك أجسامهم ، القوي يخاف الناس منه ، لكن النبي يحبه الناس .
لذلك ما منا واحد إلا ويتمنى أن يكون الله معه ، ولكن هذه المعية قال عنها العلماء : إنها معيتان ؟
معيةٌ خاصة ... ومعيةٌ عامة ...
فما المعية العامة ؟ المعية العامة أن الله مع كل عباده ، مع الكفار ، مع الفجار ، مع الملحدين ، مع المنافقين ، مع العصاة ، مع المتجاوزين .
في قوله تعالى : "هو معكم أينما كنتم " .
( سورة الحديد : 4 )
مؤمن ، كافر ، مطيع ، عاصٍ ، هو معك ، بل قيامك به أبلغ من أنه معك .
الآن دققوا ، معية الله الخاصة ، تعني التوفيق والحفظ ، تعني التأييد والنصر ، إذا كان الله معك نصرك على أعدائك ، وإذا كان الله معك وكنت في عملٍ وفقك فيه ، إذا كان الله معك حفظك من كل شر .
إذا كنت في كل حالٍ معي فعن حمل زادي أنا في غنى .
فأنتم هو الحق لا غيركـم فيا ليت شعري أنا مـن أنا .
العلماء قالوا : المعية معيتان ؛ معيةٌ عامة ، ومعيةٌ خاصة ، المعية العامة تشير إلى الآية الكريمة : "وهو معكم أينما كنتم " .
لكن المعية الخاصة معية التأييد ، معية التوفيق ، معية الحفظ ، معية النصر ، معية السكينة ، يُلقي الله في قلبك السكينة ، تكون كالجبل الأشم لا تتزعزع ، هذه المعية الخاصة ، ممكن الحصول عليها ولكن بدفع ثمنها ، الآن بدأ الدرس.
المعية الخاصة التي نبحث عنها جميعاً متاحةٌ لكل إنسان ، بشرط أن تدفع ثمنها، يا رب أين ثمنها ؟ أو يا رب من يملك ثمنها ؟ يقول الله : أنت أيها العبد تملك ثمنها ، ابدأ بهذه الآية : "وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً " .
هذه العناصر التي اشتملت عليها الآية هي ثمن المعية الخاصة ، هذه ثمن المعية التي هي من أينع ثمار الدين ، وأجمل ما في الدين أنْ تشعر أن الله معك ، أعظم ما في الدين أن تشعر أنك مقربٌ إلى الله ، أعظم ما في الدين أن يتجلى الله على قلبك بالسكينة ، إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين ، حينما يتيه الناس أنت لا تتيه ، حينما يخاف الناس أنت لا تخاف ، حينما تنهار أعصاب الناس أنت لا تنهار ، حينما يشعر الناس بالحرمان أنت تشعر بالفوز والغنيمة ، حينما يخضع الناس أنت لا تخضع ، هذه معية الله الخاصة ، وثمنها تملكه أنت ، وهذه مفردات ثمنها .
" وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة "، الصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين .
ولكن يا أيها الإخوة ؛ الله قال : أقمتم الصلاة ، لمْ يقل الله عز وجل : إني معكم لئن صليتم ، فإذا قلنا : لئن صليتم ، يعني واحد دخل للمسجد توضأ وصلى ، هذه الصلاة ، أما " لئن أقمتم الصلاة "، فانتبه لكلمة أقام البناء ، تحصل على رخصة أولا ، وبعد مضي سنتين من الملاحقة تحصل عليها ، ثم حفرت الأساسات ، وبُني أول طابق، والثاني ، والثالث ، ثم كسوتَه وفرشتَه ، فشغله سنوات حتى تم إنجازه ، من هنا نعلم أنّ إقامة الصلاة تبدأ قبل الصلاة ، إقامة الصلاة تبدأ بغض البصر ، إقامة الصلاة تبدأ بتحرير الدخل ، إقامة الصلاة تبدأ بأن يكون بيتك إسلامياً ، بأن تربي أولادك التربية الصحيحة ، يعني أنت تعمل عملاً تستقيم معه على أمر الله ، تصطلح معه ، تتوب إليه، تنفق من مالك ، من أجل أنّك تصلي حقًّا إذا دخلت إلى المسجد ، ففرقٌ كبير بين أن يقول الله عز وجل : إني معكم لئن صليتم ، وبين أنْ يقول :" لئن أقمتم الصلاة " .
أحياناً إنسان يقدم امتحانًا في ثلاث ساعات ، يمنح دكتوراه ، إذْ تجري مناقشة أطروحته أمام لجنة من العلماء ، وبعد ثلاث ساعات مِن قراءة ملخص الأطروحة قال الدكتور المشرف رأيه في الموضوع ، واجتمعت اللجنة ، واتخذت قراراً بمنحه الدكتوراه بتقدير امتياز ، العملية تمت في ثلاث ساعات ، أما عملية تأليف الكتاب الذي تقدّم به الطالب لنيل الدكتوراه فتمّتْ في عشر سنوات ، فالدكتوراه لا تأتي في ساعات ثلاث .
وإذا دخل شخصٌ المسجدَ وقام يصلي ، فهذه ليست صلاة ، قبل الصلاة لا بد من استقامة ، قبل الصلاة لا بد من توبة ، قبل الصلاة لا بد من صلح مع الله ، قبل الصلاة لا بدّ مِن إنابةٍ إلى الله ، قبل الصلاة تكون الأعمال الصالحة ، مِن إنفاق ونحوه، فالآن إذا دخلتَ لتصلي فهذه إقامة الصلاة ، " وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ".
إما أن نفهم أنّ إيتاء الزكاة دفعُ جزءٍ من المال كما هم معروف ، أو أن هذه الآية تعني مطلق العمل الصالح ، وهناك للعلماء استنباط ، سيدنا المسيح قال : "وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " .
( سورة مريم : 31 )
بعضهم قال : هاتان الكلمتان جمعتا جوهر الدين ، الدين اتصال بالله الخالق ، وإحسانٌ إلى المخلوق ، هذا الدين .
في حركة أفقية وحركة شاقولية ، الأفقية إحسان للخلق ، والشاقولية اتصال بالحق ، " وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة " .
أقمتم الصلاة ، هذه الساعات في مناقشة الأطروحة ، ثم منح على إثرها الطالب دكتوراه بامتياز ، هذه سبقها عشر سنوات تحضير ، عشر سنوات تأليف ، فلما يغضُّ الإنسان بصرَه في الطريق ، والطريق فيه كاسيات عاريات مائلات مميلات ، ويضبط لسانه ، يضبط أذنه ، يضبط بيته ، يضبط دخله وإنفاقه .
فإذا دخل ليصلي ، فإنّ هذا قد أقام الصلاة ، لكن إذا دخل فتوضأ وصلى ، وهو غارق في المعاصي والشبهات ، هذا نقول عنه : إنه صلى ، لا نقول : أقام الصلاة ، انتبه : أقام البناء يعني عمل طويل ، شراء الأرض ، والحصول على رخصة ، وحفر الأساسات ، وبناء الهيكل ، ثم إكساء الهيكل ، ثم تزيين الهيكل ، ثم إكساء خارجي ، ثم فرش البيت ، فمثل ذلك إقامة الصلاة ، "وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي " ، يعني آمنتم بأحقِّية هذا الشرع ، هذا هو النظام الأكمل ، هذا الذي فيه حل لمشكلاتنا ، أمّا أنْ تقول : الدين نغمة قديمة ، معنى ذلك أنك لا تعرف عن الدين شيئاً .
الدين منهج خالق الكون ، دستور الإنسان ، " لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم " ، أنت لما تصلي ، كأنْ تكون في نزهة وتقوم لتصلي ، فأنت نصرت دين الله عز وجل ، لما تمتنع عن دخل مال حرام ، وغيرك لا يمتنع ، فقد نصرت دين الله عز وجل ، الله عز وجل لا يحتاج إلى أن تنصره ، ولا نبيُّه يحتاج إلى أن تنصره ، إلا أنك أقمت شعائر الدين ، ونفذت أمر الله عز وجل ، وسَّعت دائرة المؤمنين ، أمّا إذا كان الناس في نزهة ، وواحد قام فصلى وحده فلعله يستحيي بنفسه ، لكنْ إذا قام ثلاثة أو أربعة وصلوا ، فمَن الذي يستحيي ؟ الذي لم يقم ليصلي .
فإذا كان كل التجار يتعاملون بطريقة ربوية ، وأحبَّ تاجرٌ أنْ يستقيم فضحوه ، أمجنون أنت ؟ أما إذا كان الكلُّ مستقيمين أعطوا غطاء للمستقيم ، أنت لما تطبق شرع الله عز وجل فإنك تدعم الدين ، وتنصر ، " إن تنصروا الله ينصركم " .
( سورة محمد : 7 )
فإذا كانت الأسرة كل بناتها كاسيات عاريات ، فإذا أحببتَ أنت أن تحجب ابنتك، أُقيم عليك النفير ، وشعرتَ بصعوبة بالغة .
أما إذا كان كل من حولك بناتهم محجبات ، صار الطريق لابنتك سهلاً ، انظري إلى ابنة خالتك ، وانظري إلى ابنة خالتك الثانية ، وإلى ابنة عمك أيضًا ، انظري إليهن جميعهن ، فكلهن محجبات .
أنت لما تطبق الدين ، وترسخ دعائمه ، يصير تطبيق سهلاً ، إذا كل الناس تخلوا عن الدين ، صار المؤمن غريبًا ، والغريب يواجه صعوبات ، يواجه عقبات ، يواجه اعتراضات ، هذا معنى قوله تعالى : " لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم " ، يعني أيَّدتَ الرسول وطبقت أمر الله .
" وأقرضتم الله قرضاً حسناً " ، والله ما من كلمة تهز مشاعر المؤمن كهذه الكلمة ، خالق الأكوان ، الغني الحميد ، يقول لعبده : هل تقرضني قرضاً حسناً ، على أن أوفيك إياه بغير حساب يوم القيامة ، وأي عمل صالح تجاه أي مخلوق هو قرض حسن ، حقًّا أيّ عمل صالح تجاه أي مخلوق ، حتى ولو كان حيوانًا ، كما لو أنك سقيت كلباً ، أو أطعمت هرة ، أو أنقذت نملة في حوض الغسيل ، فيه نملة ، وأنت تريد أنْ تتوضأ ، فتوقّفتَ إلى أن خرجت ، إذًا بعملك هذا أنقذت مخلوقاً ، وهذا قرض لله ، أقرضتَ الله قرضاً حسناً .
وهذه آية أخرى :" من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " .
( سورة البقرة : 245 ) .
إذا خدمتَ إنسانًا ، أو دللْتَه ، أو أعنتَه ، أو خفَّفْتَ عنه ، أو شفعت بين زوجين ، دللت على خير ، طلبت العلم ، أو علَّمته ، توسَطتَ في حل مشكلة ، كله قرض حسن ، فمعية الله التي لا تقدر بثمن ، ثمنها بيدنا جميعاً .
" وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً ".
إن دفعتم هذا الثمن ، " لأكفرن عنكم سيئاتكم "، كل شيء كان يسوؤكم سوف تنسونه ، وتُفتح لكم صفحة جديدة ، " لأكفرن عنكم سيئاتكم ، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل " ، أنت تتمنى معية الله عز وجل، يعني التوفيق ، النصر ، التأييد ، الحياة الطيبة ، السعادة ، التجلي ، السكينة ، الوقار ، المكانة الاجتماعية ، أن يدافع الله عنك ، أن ينصرك على عدوك ، أن يؤيدك ، أن يقربك ، فما عليك إلاّ أنْ تلتزم بنص الآية مع التنفيذ ، " وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة " ، فعندنا معية عامة ، ومعية خاصة .
المعية العامة ... الله مع كل مخلوق ، حتى الكافر ، هذه المعية لا تقدم ولا تؤخر ، بل تعني أنْ يرى ويسمع ويعلم كل ما يفعلون ، فهم تحت رقابته ، ليحاسبهم يوم القيامة .
ولكن المقصود المعية الخاصة ... وهي أن يتجلى الله عليك بالحفظ ، والتأييد ، والنصر ، والتوفيق ، وهذه أبرز الأشياء أنواع المعية .
الحفظ ، والتأييد ، والنصر ، والتوفيق ، وثمنها إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيمان بالمنهج ، وتأييد الرسل بتطبيق تعليماتهم ، عندئذ الماضي الحالك كله يشطب ، وتفتح صفحة جديدة ، والمستقبل : الجنة وما فيها من نعيم مقيم .
والحمد لله رب العالمين




تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي

حموووده
04-03-2010, 20:11
جزاكِ الله كل خير