عفراء
04-03-2010, 19:47
بسم الله الرحمن الرحيم
حمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين . أيها الإخوة الكرام ؛ في القرآن الكريم عدة آياتٍ ، تشير إلى طبيعة الإنسان .
قال تعالى :
( سورة النساء : 28 )
( سورة الأنبياء : 37 )
( سورة المعارج : 19 إلى 23 )
عدة آيات لا تزيد عن أربع آيات ، تتحدث عن طبيعة الإنسان ، فهذه خصائصُ في خلقه، ليست ذنباً يعزى إليه ، لكن الله هكذا خلقه .
أولاً ... الله سبحانه وتعالى قال : " وخلق الإنسان ضعيفاً "، لماذا خلقه ضعيفاً ؟
لو أن الله عز وجل خلق الإنسان قوياً ، لاستغنى بقوته عن الله ، وحينما يستغني بقوته عن الله يشقى باستغنائه .
لماذا خلقه من عجل ؟ وخلق الإنسان من عجل ، قال العلماء : لأنه لو خلقه يحب الآجلة ، واختار الآخرة وفق طبيعته لما ارتقى عند الله ، لكن ما الذي يحصل ؟ لو أن الإنسان خلق يحب الآجلة ، والدنيا بين يديه ، فالشهوات يقظة ، الفتن مستعرة ، الملذات أمامه ، لوجدته يعرض عنها كلها ، ويختار ما عند الله في الآخرة ، فخالف طبيعته ، والإنسان لما يخالف طبيعته يرقى عند الله ، ولما يستجيب إلى طبيعته الأرضية فإنّه لا يرقى .
شاءت حكمة الله أن يكون الإنسان عجولا ، وجعل الله الدار الآخرة بعيدة المدى ، لو كان عرضاً قريباً ، أو سفراً قاصداً لاتبعوك ، ولكن بعدت عليهم الشقة ، يقول بعضهم: يفرجها الله .
فالناس يندفعون إلى إرواء شهواتهم ، إلى اقتناص الأموال الحرام ، إلى الاستمتاع بما حرم الله ، لأن هذه الشهوات بين أيديهم ، وفي متناولهم ، والإنسان عجول ، أما إذا اختار الآجلة فالأمر على عكس العاجلة .
كلا بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة " .
( سورة القيامة : 20 ـ 21 )
إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا "
( سورة الإنسان : 27 ) .
فالإنسان إذا استجاب إلى طبعه ، وإلى عجلته ، عندئذٍ يعصي ويرتكب الموبقات ، ويعيش كما يقول الوجوديون: ليعِشْ لحظته ، فهو الآن قوي ليستمتع بقوته ، غني ليستمتع بماله .
أما الإنسان إذا أحكم عقله ، فإني أضرب لكم مثلاً بسيطاً ، لكن له دلالة كبيرة ؛ قبل سنين ، حافلة حي المهاجرين ، كانت تقف بساحة المرجة أمام مركز التسويق العراقي ، في أيام الصيف الحارة ، صعد للحافلة راكبٌ ، فوجد على اليمين شمسًا ، وعلى اليسار ظلاً ، بحكم طبيعته قعد في الظل على اليسار ، فلما انطلقت الحافلة ، ودارت بساحة المرجة ، فخلال دقيقة واحدة ، انعكست الجهة لآخر الخط ، وبقي طيلة الوقت في الشمس ، فأنا لما أركب الحافلة كنت ألاحظ الركاب ، فالذي يشغِّل فكره يقعد بالشمس ، والذي يستجيب لطبيعة جسمه يقعد في الظل ، لكن بعد دقيقة واحدة عندما تدور الحافلة تنعكس الجهة ، فمَن اختار الظل تمتع به دقيقة ، ومَن اختار مقعده تحت الشمس تحملها دقيقة ، ثم راح يتمتع بالظل عشرين دقيقة ، ومَن اختار الظل راح يتنعم دقيقة ، ويتحمل أشعة الشمس الحارة عشرين دقيقة ، فالفرق بين الراكبَيْن ، واحد أعمل عقله ، والآخر عطل عقله ، وهذا المثل لو أنه مثل بسيط ، لكن له دلالة كبيرة .
فأيّ إنسان بحكم عقله ، ويفكر فإنه يختار الآجلة إلى الأبد ، وأي إنسان يعطل عقله ، فبين يديه الكثيرُ مِن في شهوات ، أموال حرام ، نساء كاسيات عاريات ، طعام ، احتفالات ، اختلاط ، مكاسب ، يا نصيب تارةً ، واختلاط تارةً ، ورحلة سياحية تارةً ، فإنه يختار العاجلة ، والله عز وجل قال : "كلا بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة ".
إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ، نحن خلقناهم وشددنا أسرهم.
فلما يحكِّم الإنسان عقله فإنه يختار الآخرة ، مع أنها بعيدة المدى ، ويرفض الدنيا مع أنها في متناول يديه .
أما إذا عطل عقله ، فإنه عيش لحظته كالوجوديين ، فما دام يعيش إذاً هو يأكل ويشرب، ويتمتع بدون ضوابط ، بدون قيم ، دون مبادئ ، دون افعل ولا تفعل ، دون منهج ، دون دستور ، كالدابة السائمة ، كالدابة الطليقة ، تفعل ما تشاء بدون قيد أو شرط .
إذاً لما فطَرَ ربنا عز وجل الإنسانَ على حبِّ العاجلة مِن أجل أن يرقى ، إذا جاهدها ، لأنه لو اختار الآجلة لعاكس طبيعة نفسه .
وبالمناسبة إخواننا الكرام ؛ الإنسان له طبع ، وله فطرة ، ولديه تكليف ، والطبع يتناقض مع التكليف غالباً ، التكليف أن تصلي الفجر في وقته ، وجسم الإنسان يميل إلى النوم والاسترخاء ، ولا سيما في أيام الشتاء الباردة ، والفراش وثير ، ودافئ ، نام الساعة الواحدة متأخرًا ، وهو مرتاح ، فطبعك يدعوك إلى النوم ، والتكليف يدعوك إلى الصلاة ، والمؤذن يقول الصلاة خير من النوم ، وطبعك يدعوك إلى إطلاق البصر في النساء ، كي تستمتع بحسنهن ، لكن التكليف يدعوك أن تغض البصر عن محارم الله ، طبعك يدعوك أن تقبض المال ، والتكليف يأمرك أن تنفق المال ، طبعك يدعوك أن تتحدث عن عورات الناس ، عن قصصهم ، عن فضائحهم ، عن سقطاتهم ، عن مشكلاتهم ، عن خصوماتهم ، لماذا طلق فلان فلانة ؟ ولماذا تزوج فلانة ؟ وما خلفية الموضوع ؟
طبعك يدفعك إلى تقصي أخبار الناس ، لكن التكليف يقول لك : "ولا يغتب بعضكم بعضا" .
( سورة الحجرات : 12 ) .
"من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ".
الملاحظ إذاً أن الطبع يختلف مع التكليف ، لماذا يختلف مع التكليف ؟ من أجل أن ترقى، لو توافق الطبع مع التكليف لارتقى أبداً ، والتغت العبادة ، والتغت الجنة ، ولم يعُد هناك ثواب ولا عقاب ، إذا توافق الطبع مع التكليف ، لكن التكليف يتناسب مع الفطرة ، أنا قلت الطبع ، والطبع أقرب إلى الجسد ، والفطرة أقرب إلى النفس .
فلما يتعرف الإنسان إلى الله ، ويستقيم على أمره ، تهدأ نفسه ، ويطمئن قلبه ، ويشعر بسعادة لا توصف ، لأنه توافق مع فطرته .
إذاً من ينشد السعادة الحقيقية ، فعليه بتطبيق أمر الله عز وجل ، ولو كان أمر الله في ظاهره فيه تكليف ، وكلفة ، وجهد ، لولا هذا الجهد لما ارتقى إطلاقاً .
لو فرضنا أنّ جامعة وزعت على الطلاب أوراق الإجابة ، مطبوع عليها الجواب التام، فما عليك إلا أن تكتب اسمك ورقمك ، كله طالبٍ يحصل على مئة درجة ، ومنحت تلك الجامعة الشهادات العليا ، الليسانس ، والدكتوراه هذه الشهادات هل لها قيمة عند الناس؟ هل لها قيمة عند الطلاب ؟ لا قيمة لها ، صفر في الحقيقة ، لأن هذه الشهادات لم يكن لصاحبها جهد مبذول .
أما لما تكون المواد صعبة ، ولا بد لها مِن دراسة شاقة ، ودخول امتحان صعب ، وأسئلة معقدة ، وسُلَّم دقيق ، وتصحيح دقيق ، فعندئذٍ لما ينجح الطالب يتيه على أقرانه بهذا النجاح الذي مقابله في جهد مُضنٍ .
فالإنسان لا يطمع أن يكون التكليف موافقًا للطبع ، يطمع أن يجد الدين مثل ما يريد تمامًا ، يريد من الدين أن يُسمَح فيه بكذا ، وكذا ، وكذا ، يأخذ ما فيه راحته ، ويتصيد الرخص .
لذلك فقد أردت من هذا الدرس ، أن أشير إلى ناحية واحدة ، أن الإنسان خلق عجولا ، يحب الشيء الذي بين يديه ، ولا يحب الشيء البعيد ، فالمؤمن إذا اختار الآخرة ، وما عند الله ، فقد خالف طبعه، و لما خالف طبعه ارتقى عند الله .
وغالباً الطبع أقرب إلى الجسد ، والفطرة أقرب إلى النفس ، وتكاليف الشرع لا تتوافق مع الطبع ، لقوله تعالى : "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى" .
( سورة النازعات : 40 ـ 41 ) .
لكن الإنسان إذا طبق أمر الله عز وجل وعاكس هواه ، في النهاية ترتاح نفسه ، لأن هذا الكمال الذي حصله ، وتلك الطمأنينة التي اكتسبها ، هذه غذاء الفطرة .
لذلك قال تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
( سورة الروم : 30 ) .
إخوانا الكرام ؛ أقول لكم هذه الكلمات وهي دقيقة ، في النفس فراغ لا يملؤه المال ، قد تملك مئات الملايين ، وفي النفس فراغ لا تملؤه القوة ، وقد تكون أقوى الأقوياء ، في النفس فراغ لا تملؤه الشهادات العليا ، والدرجات العلمية العالية ، في النفس فراغ لا تملؤه الأسرة الناجحة ، في بالنفس فراغ لا يملؤه إلا الإيمان ، من دون إيمان يعيش الإنسان في قلق ، والدليل :" ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " .
( سورة طه : 124 ) .
أما لو أنّ الإنسان استقام على أمر الله فالحياة الطيبة هانئة ، قال تعالى : "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " .
( سورة النحل : 97 )
فنحن موعودون بالحياة الطيبة ، من قبل الله عز وجل .
والله أيها الإخوة ؛ لزوال الكون أهونُ على الله من ألاّ تتحقق وعوده ووعيده بأي عصر ومصر ، وبأي وقت ، من أي منبت طبقي أنت ؟ من أي أم وأب ؟ من أي بلدة ؟ من أي مكان ؟ من أي زمان ؟ من أي إمكانيات كنت ؟ حينما تستقيم على أمر الله ، فلك من الله حياة طيبة ، وأي إنسان مهما كان قوياً ، مهما كان غنياً ، مهما كان جباراً ، إذا أعرض عن الله عز وجل فإن له معيشة ضنكا .
والله أيها الإخوة ؛ لو لم يكن في القرآن الكريم إلا هاتان الآيتان لكفتانا من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة .
( سورة النحل : 97 )
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى .
( سورة طه : 124 )
أمّا الآية الثالثة ، فدققوا فيها ، والله لو أنني أتلو هذه الآية آلاف المرات ، لا أرتوي منها .
"أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " .
( سورة الجاثية : 21 )
أَيُعامَل المؤمن من الله كما يعامل الكافر ؟ في بيته ، في عمله ، في صحته ، في زوجته ، في أولاده ، في طمأنينته ، في سعادته ، في إقباله ، في إشراق نفسه ، في تفاؤله في المستقبل ، تجد شخصًا غنيًا لو أنفق كل يوم مئة ألف لبقي لديه ما يفيض على حياته ، ولو عاش مئة سنة ، ومع ذلك فهو متضايق ، وقلق ، ويقول : السوق مسموم ، ولا نربح ، وما هذه الحياة ، ولا يُعاش في هذا البلد ، ومعه أموال واللهِ لا تأكلها النيران ، ويقابلك مؤمن لا يملك إلا قوت يومه ، ويقول : الحمد لله من أعماقه ، راضيًا بعيشه .
هذه السعادة لها سّر ، السعادة أيها الإخوة لا تأتي من الخارج ، لا تأتي من بيت واسع ، ولا من زوجة جميلة ، ولا من أموال طائلة ، ولا من بيت بالمصيف ، ولا من مركبة فاخرة .
السعادة تنبع من الداخل ، لما يتجلى ربنا على المؤمن يشعر بالسرور والسعادة ، إذ قال لك : أنا أسعد الناس فصدِّقْه ، ذات مرة قال لي شخصٌ كلمة ، أقسَمَ بالله ليس في الأرض - "أقسم بالله" - مَن هو أسعد مني ، فقلت : هذا الكلام ليس معقولاً ، ثم استدرك قائلاً : إلا أن يكون أتقى مني ، ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني .
فلما يتعامل الإنسان مع خالق الكون ، ويمشي على منهج الله ، يجعل بيته إسلاميًا ، وعمله إسلاميًا ، يقرأ القرآن ، يذكر الله ، ويترك هذه الأجهزة التي تسمم حياتنا ، وتجعل حياتنا كلها حياة جنس ، حيث المصيبة الكبرى ، والخسارة المردية ، فنعوذ بالله مِن ذلك ، والحمد لله رب العالمين .
تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي
حمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين . أيها الإخوة الكرام ؛ في القرآن الكريم عدة آياتٍ ، تشير إلى طبيعة الإنسان .
قال تعالى :
( سورة النساء : 28 )
( سورة الأنبياء : 37 )
( سورة المعارج : 19 إلى 23 )
عدة آيات لا تزيد عن أربع آيات ، تتحدث عن طبيعة الإنسان ، فهذه خصائصُ في خلقه، ليست ذنباً يعزى إليه ، لكن الله هكذا خلقه .
أولاً ... الله سبحانه وتعالى قال : " وخلق الإنسان ضعيفاً "، لماذا خلقه ضعيفاً ؟
لو أن الله عز وجل خلق الإنسان قوياً ، لاستغنى بقوته عن الله ، وحينما يستغني بقوته عن الله يشقى باستغنائه .
لماذا خلقه من عجل ؟ وخلق الإنسان من عجل ، قال العلماء : لأنه لو خلقه يحب الآجلة ، واختار الآخرة وفق طبيعته لما ارتقى عند الله ، لكن ما الذي يحصل ؟ لو أن الإنسان خلق يحب الآجلة ، والدنيا بين يديه ، فالشهوات يقظة ، الفتن مستعرة ، الملذات أمامه ، لوجدته يعرض عنها كلها ، ويختار ما عند الله في الآخرة ، فخالف طبيعته ، والإنسان لما يخالف طبيعته يرقى عند الله ، ولما يستجيب إلى طبيعته الأرضية فإنّه لا يرقى .
شاءت حكمة الله أن يكون الإنسان عجولا ، وجعل الله الدار الآخرة بعيدة المدى ، لو كان عرضاً قريباً ، أو سفراً قاصداً لاتبعوك ، ولكن بعدت عليهم الشقة ، يقول بعضهم: يفرجها الله .
فالناس يندفعون إلى إرواء شهواتهم ، إلى اقتناص الأموال الحرام ، إلى الاستمتاع بما حرم الله ، لأن هذه الشهوات بين أيديهم ، وفي متناولهم ، والإنسان عجول ، أما إذا اختار الآجلة فالأمر على عكس العاجلة .
كلا بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة " .
( سورة القيامة : 20 ـ 21 )
إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا "
( سورة الإنسان : 27 ) .
فالإنسان إذا استجاب إلى طبعه ، وإلى عجلته ، عندئذٍ يعصي ويرتكب الموبقات ، ويعيش كما يقول الوجوديون: ليعِشْ لحظته ، فهو الآن قوي ليستمتع بقوته ، غني ليستمتع بماله .
أما الإنسان إذا أحكم عقله ، فإني أضرب لكم مثلاً بسيطاً ، لكن له دلالة كبيرة ؛ قبل سنين ، حافلة حي المهاجرين ، كانت تقف بساحة المرجة أمام مركز التسويق العراقي ، في أيام الصيف الحارة ، صعد للحافلة راكبٌ ، فوجد على اليمين شمسًا ، وعلى اليسار ظلاً ، بحكم طبيعته قعد في الظل على اليسار ، فلما انطلقت الحافلة ، ودارت بساحة المرجة ، فخلال دقيقة واحدة ، انعكست الجهة لآخر الخط ، وبقي طيلة الوقت في الشمس ، فأنا لما أركب الحافلة كنت ألاحظ الركاب ، فالذي يشغِّل فكره يقعد بالشمس ، والذي يستجيب لطبيعة جسمه يقعد في الظل ، لكن بعد دقيقة واحدة عندما تدور الحافلة تنعكس الجهة ، فمَن اختار الظل تمتع به دقيقة ، ومَن اختار مقعده تحت الشمس تحملها دقيقة ، ثم راح يتمتع بالظل عشرين دقيقة ، ومَن اختار الظل راح يتنعم دقيقة ، ويتحمل أشعة الشمس الحارة عشرين دقيقة ، فالفرق بين الراكبَيْن ، واحد أعمل عقله ، والآخر عطل عقله ، وهذا المثل لو أنه مثل بسيط ، لكن له دلالة كبيرة .
فأيّ إنسان بحكم عقله ، ويفكر فإنه يختار الآجلة إلى الأبد ، وأي إنسان يعطل عقله ، فبين يديه الكثيرُ مِن في شهوات ، أموال حرام ، نساء كاسيات عاريات ، طعام ، احتفالات ، اختلاط ، مكاسب ، يا نصيب تارةً ، واختلاط تارةً ، ورحلة سياحية تارةً ، فإنه يختار العاجلة ، والله عز وجل قال : "كلا بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة ".
إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ، نحن خلقناهم وشددنا أسرهم.
فلما يحكِّم الإنسان عقله فإنه يختار الآخرة ، مع أنها بعيدة المدى ، ويرفض الدنيا مع أنها في متناول يديه .
أما إذا عطل عقله ، فإنه عيش لحظته كالوجوديين ، فما دام يعيش إذاً هو يأكل ويشرب، ويتمتع بدون ضوابط ، بدون قيم ، دون مبادئ ، دون افعل ولا تفعل ، دون منهج ، دون دستور ، كالدابة السائمة ، كالدابة الطليقة ، تفعل ما تشاء بدون قيد أو شرط .
إذاً لما فطَرَ ربنا عز وجل الإنسانَ على حبِّ العاجلة مِن أجل أن يرقى ، إذا جاهدها ، لأنه لو اختار الآجلة لعاكس طبيعة نفسه .
وبالمناسبة إخواننا الكرام ؛ الإنسان له طبع ، وله فطرة ، ولديه تكليف ، والطبع يتناقض مع التكليف غالباً ، التكليف أن تصلي الفجر في وقته ، وجسم الإنسان يميل إلى النوم والاسترخاء ، ولا سيما في أيام الشتاء الباردة ، والفراش وثير ، ودافئ ، نام الساعة الواحدة متأخرًا ، وهو مرتاح ، فطبعك يدعوك إلى النوم ، والتكليف يدعوك إلى الصلاة ، والمؤذن يقول الصلاة خير من النوم ، وطبعك يدعوك إلى إطلاق البصر في النساء ، كي تستمتع بحسنهن ، لكن التكليف يدعوك أن تغض البصر عن محارم الله ، طبعك يدعوك أن تقبض المال ، والتكليف يأمرك أن تنفق المال ، طبعك يدعوك أن تتحدث عن عورات الناس ، عن قصصهم ، عن فضائحهم ، عن سقطاتهم ، عن مشكلاتهم ، عن خصوماتهم ، لماذا طلق فلان فلانة ؟ ولماذا تزوج فلانة ؟ وما خلفية الموضوع ؟
طبعك يدفعك إلى تقصي أخبار الناس ، لكن التكليف يقول لك : "ولا يغتب بعضكم بعضا" .
( سورة الحجرات : 12 ) .
"من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ".
الملاحظ إذاً أن الطبع يختلف مع التكليف ، لماذا يختلف مع التكليف ؟ من أجل أن ترقى، لو توافق الطبع مع التكليف لارتقى أبداً ، والتغت العبادة ، والتغت الجنة ، ولم يعُد هناك ثواب ولا عقاب ، إذا توافق الطبع مع التكليف ، لكن التكليف يتناسب مع الفطرة ، أنا قلت الطبع ، والطبع أقرب إلى الجسد ، والفطرة أقرب إلى النفس .
فلما يتعرف الإنسان إلى الله ، ويستقيم على أمره ، تهدأ نفسه ، ويطمئن قلبه ، ويشعر بسعادة لا توصف ، لأنه توافق مع فطرته .
إذاً من ينشد السعادة الحقيقية ، فعليه بتطبيق أمر الله عز وجل ، ولو كان أمر الله في ظاهره فيه تكليف ، وكلفة ، وجهد ، لولا هذا الجهد لما ارتقى إطلاقاً .
لو فرضنا أنّ جامعة وزعت على الطلاب أوراق الإجابة ، مطبوع عليها الجواب التام، فما عليك إلا أن تكتب اسمك ورقمك ، كله طالبٍ يحصل على مئة درجة ، ومنحت تلك الجامعة الشهادات العليا ، الليسانس ، والدكتوراه هذه الشهادات هل لها قيمة عند الناس؟ هل لها قيمة عند الطلاب ؟ لا قيمة لها ، صفر في الحقيقة ، لأن هذه الشهادات لم يكن لصاحبها جهد مبذول .
أما لما تكون المواد صعبة ، ولا بد لها مِن دراسة شاقة ، ودخول امتحان صعب ، وأسئلة معقدة ، وسُلَّم دقيق ، وتصحيح دقيق ، فعندئذٍ لما ينجح الطالب يتيه على أقرانه بهذا النجاح الذي مقابله في جهد مُضنٍ .
فالإنسان لا يطمع أن يكون التكليف موافقًا للطبع ، يطمع أن يجد الدين مثل ما يريد تمامًا ، يريد من الدين أن يُسمَح فيه بكذا ، وكذا ، وكذا ، يأخذ ما فيه راحته ، ويتصيد الرخص .
لذلك فقد أردت من هذا الدرس ، أن أشير إلى ناحية واحدة ، أن الإنسان خلق عجولا ، يحب الشيء الذي بين يديه ، ولا يحب الشيء البعيد ، فالمؤمن إذا اختار الآخرة ، وما عند الله ، فقد خالف طبعه، و لما خالف طبعه ارتقى عند الله .
وغالباً الطبع أقرب إلى الجسد ، والفطرة أقرب إلى النفس ، وتكاليف الشرع لا تتوافق مع الطبع ، لقوله تعالى : "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى" .
( سورة النازعات : 40 ـ 41 ) .
لكن الإنسان إذا طبق أمر الله عز وجل وعاكس هواه ، في النهاية ترتاح نفسه ، لأن هذا الكمال الذي حصله ، وتلك الطمأنينة التي اكتسبها ، هذه غذاء الفطرة .
لذلك قال تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
( سورة الروم : 30 ) .
إخوانا الكرام ؛ أقول لكم هذه الكلمات وهي دقيقة ، في النفس فراغ لا يملؤه المال ، قد تملك مئات الملايين ، وفي النفس فراغ لا تملؤه القوة ، وقد تكون أقوى الأقوياء ، في النفس فراغ لا تملؤه الشهادات العليا ، والدرجات العلمية العالية ، في النفس فراغ لا تملؤه الأسرة الناجحة ، في بالنفس فراغ لا يملؤه إلا الإيمان ، من دون إيمان يعيش الإنسان في قلق ، والدليل :" ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " .
( سورة طه : 124 ) .
أما لو أنّ الإنسان استقام على أمر الله فالحياة الطيبة هانئة ، قال تعالى : "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " .
( سورة النحل : 97 )
فنحن موعودون بالحياة الطيبة ، من قبل الله عز وجل .
والله أيها الإخوة ؛ لزوال الكون أهونُ على الله من ألاّ تتحقق وعوده ووعيده بأي عصر ومصر ، وبأي وقت ، من أي منبت طبقي أنت ؟ من أي أم وأب ؟ من أي بلدة ؟ من أي مكان ؟ من أي زمان ؟ من أي إمكانيات كنت ؟ حينما تستقيم على أمر الله ، فلك من الله حياة طيبة ، وأي إنسان مهما كان قوياً ، مهما كان غنياً ، مهما كان جباراً ، إذا أعرض عن الله عز وجل فإن له معيشة ضنكا .
والله أيها الإخوة ؛ لو لم يكن في القرآن الكريم إلا هاتان الآيتان لكفتانا من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة .
( سورة النحل : 97 )
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى .
( سورة طه : 124 )
أمّا الآية الثالثة ، فدققوا فيها ، والله لو أنني أتلو هذه الآية آلاف المرات ، لا أرتوي منها .
"أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " .
( سورة الجاثية : 21 )
أَيُعامَل المؤمن من الله كما يعامل الكافر ؟ في بيته ، في عمله ، في صحته ، في زوجته ، في أولاده ، في طمأنينته ، في سعادته ، في إقباله ، في إشراق نفسه ، في تفاؤله في المستقبل ، تجد شخصًا غنيًا لو أنفق كل يوم مئة ألف لبقي لديه ما يفيض على حياته ، ولو عاش مئة سنة ، ومع ذلك فهو متضايق ، وقلق ، ويقول : السوق مسموم ، ولا نربح ، وما هذه الحياة ، ولا يُعاش في هذا البلد ، ومعه أموال واللهِ لا تأكلها النيران ، ويقابلك مؤمن لا يملك إلا قوت يومه ، ويقول : الحمد لله من أعماقه ، راضيًا بعيشه .
هذه السعادة لها سّر ، السعادة أيها الإخوة لا تأتي من الخارج ، لا تأتي من بيت واسع ، ولا من زوجة جميلة ، ولا من أموال طائلة ، ولا من بيت بالمصيف ، ولا من مركبة فاخرة .
السعادة تنبع من الداخل ، لما يتجلى ربنا على المؤمن يشعر بالسرور والسعادة ، إذ قال لك : أنا أسعد الناس فصدِّقْه ، ذات مرة قال لي شخصٌ كلمة ، أقسَمَ بالله ليس في الأرض - "أقسم بالله" - مَن هو أسعد مني ، فقلت : هذا الكلام ليس معقولاً ، ثم استدرك قائلاً : إلا أن يكون أتقى مني ، ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني .
فلما يتعامل الإنسان مع خالق الكون ، ويمشي على منهج الله ، يجعل بيته إسلاميًا ، وعمله إسلاميًا ، يقرأ القرآن ، يذكر الله ، ويترك هذه الأجهزة التي تسمم حياتنا ، وتجعل حياتنا كلها حياة جنس ، حيث المصيبة الكبرى ، والخسارة المردية ، فنعوذ بالله مِن ذلك ، والحمد لله رب العالمين .
تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي