عفراء
04-03-2010, 19:12
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
ففي سورة آل عمران أيها الإخوة ، آية تعد مقياساً لكل مؤمن ؛ هذه الآية هي الآية الواحدة والثلاثون وهي قوله تعالى :
http://www.quran-radio.com/tafseer_nabulsi/11.files/image001.gif
قال العلماء: لما كثر مدَّعو المحبة لله عز وجل جعل الله سبحانه دليلاً على صدق المحبة أو عدمه ، آية في كتابه الكريم ، فالمحبة شعورٌ داخلي يستطيع أن يدَّعيها كل إنسان ، ولو كان أبعد الناس عن الله عز وجل ، يقول لك : أنا أحب الله ، فالحب يُدَّعى ، لكن الله سبحانه وتعالى طالب المؤمنين بالدليل ، فحبك لله عز وجل له دليل ، ودليله طاعة رسول الله " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم " ، فالإنسان أيها الإخوة لئلا يقع في وهمٍ مهلك ، لئلا يتوهم أنه على حق وهو على باطل ، لئلا يتوهم أنه محب وهو ليس بمحب ، جعل الله هذه الآية دليلاً على محبته للمؤمنين ، قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم .
ويبدو أنَّ هذا المرض يصيب أهل الكتاب أيضاً ، " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه "
( سورة المائدة : 18 )
هذه دعوى ، "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه "، فرد الله عليهم :" قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممن خلق "
( سورة المائدة : 18 )
فلو أنّ الله قَبِل دعواهم وأقرهم على ادِّعائهم ، لمّا عذَّبهم ، وما دام يعذبهم فهم كاذبون في دعواهم ، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الإمام الشافعي حقيقةً ثابتة ، وهي أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحبابه ، بل يبتليهم ويمتحنهم ، ولكن لا تستقر حياتهم إلا على الإكرام .
وهنا محل الإشارة إلى أن حياة المؤمن تمر بأطوار ثلاثة ؛ فتمر في طورٍ يعالجه الله ، ويؤدِّبه إلى أن يحمله على طاعته ، وهذا الطور الأول ، يعالجه ويضيق عليه ويشدد عليه ويؤدبه بشتى الوسائل النفسية والمادية إلى أن يحمله على طاعته .
إذًا هذا طور التأديب، فإذا حمله على طاعته دخل في طورٍ آخر ؛ طور الابتلاء "ونبلونكم بالشر والخير فتنة "
( سورة الأنبياء : 35 )
فإذا نجح في الابتلاء دخل في طورٍ ثالث ؛ وهو التكريم ، لذلك اليهود والنصارى قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، فقال تعالى :"قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممن خلق"
( سورة المائدة : 18 )
فإذا رأيت أن المسلمين ليسوا على ما يتمنون ، وحالهم لا ترضي ، وليسوا كما قال الله عز وجل ، فلم يُستخلَفوا في الأرض ، ولم يمكِّن الله لهم دينهم الذي ارتض لهم ، ولم يبدلهم بعد خوفهم أمناً ، هذه وعود الله عز وجل : "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً " .
(سورة النور : 55 )
إخوتنا الكرام ؛ أي وعد في القرآن الكريم ، إنْ رأيته غير محقق ، ينبغي أن تشك في الطرف الثاني ، لأن الله سبحانه وتعالى قال : "ومن أصدق من الله حديثاً " .
( سورة النور : 87 )
وقال :" ومن أوف بعهده من الله " .
( سورة التوبة : 111)
إنّ الله وعد المؤمنين بالنصر فقال : " إن تنصروا الله ينصركم " .
( سورة محمد : 7 )
وقال: "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" .
( سورة آل عمران : 160 )
وعد المؤمنين أن يدافع عنهم فقال الله تعالى :"إن الله يدافع عن الذين آمنوا"
( سورة الحج : 38 )
ووَعَد المؤمنين أن لن يجعل للكافرين عليهم سلطانا : "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً "
( سورة النساء : 141 )
هذه وعود خالق الكون ، فإن رأيت وعود الله ليست محققه في عالم المسلمين ، فماذا تظهر ؟ أتقول : إنَّ الله سبحانه وتعالى لا يفي بوعده ؟ هذا كلام فيه كفر ، حاشا لله عز وجل ، يجب أن نشك في إيماننا ، وفي طاعتنا لله ، وفي استقامتنا ، إن الله سبحانه وتعالى يقول في آيةٍ أخرى :" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم" ، هؤلاء أهل الكتاب لو أن الله أقرهم على دعواهم لمَّا عذبهم ،"قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممن خلق " .
على كلٍ هناك نقطة دقيقة ، الإنسان يحيا ضمن مجتمع ، والمجتمع فاسد منحرف ، يأكل الربا ، يرتكب الفواحش ، يقلد الغربيين ، ولو دخلوا حجر ضبٍ خَرِبٍ لدخلتموه ، فإذا كان الإنسان في بمجتمع منحرف ، في مجتمع الدنيا كلها همُّه ومبلغ علمه ، في مجتمعٍ لا يبالي أأكل حراماً أم حلالاً ، مجتمع لا يبالي أكان على منهج الله أم على منهج الشيطان ، فإذا كان المؤمن في هذا المجتمع ، واصطلح مع الله وحده ، واستقام إلى الله استقامةً تامة ، فهل تظن أن الله يعذبه مع المجموع .
قال تعالى : "وكذلك ننجي المؤمنين"
( سورة يونس : 103 ) .
لا تنسوا هذه القصة التي أوردها القرآن الكريم ، سيدنا يونس حينما كان في بطن الحوت ، ما من مصيبةٍ أشد على الإنسان من أن يجد نفسه فجأةً في ظلمة بطن الحوت ، وفي ظلمة البحر ، وفي ظلمة الليل ، في ظلماتٍ ثلاث ، الأمل في النجاة ضئيل ، في بطن حوت وزنه مئة وخمسون طنًا ، والإنسان كله لقمة صغيرة ، فالتقمه الحوت لقمة واحدة ، والحوت كما تعلمون أيها الإخوة ؛ حيوان ثديّ ، يعني تُرضِع أُنثاه، كل رضعة ثلاثمئة كيلو ، ثلاث رضعات في اليوم تعني طنًا ، والحوت مئة وخمسون طنًا كمّا بيَّنا ، وفيه تسعون برميلاً من الزيت يُعرَف بزيت الحوت ، وفيه خمسون طنًا من اللحم ، وخمسون طنًّا من الدُّهن ، هذا الحوت إذا دخل إنسان إلى بطنه، فالوجبة المعتدلة وهي تسكيت لجوعه أربعة أطنان ، هذا هو الحوت إذًا ، وقد وجد سيدنا يونس نفسه ببطن الحوت فجأة ، في ظلمة بطن الحوت وفي ظلمة الليل ، وفي ظلمة البحر، أنت الآن ، اركب بالبحر بين طرطوس وأرواد بالليل ، تشعر بوحشة كبيرة ، فإذا غرق الإنسان بالليل ، ودخل في بطن الحوت ، "فنادى في الظلمات" ، في ثلاث ظلمات ، "أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فاستجبنا له ونجيناه من الغم"
( سورة الأنبياء : 87 )
القصة انتهت ، استمع إلى القانون بعدها ، إنّه القانون الإلهي الثابت أبدًا ، قال :" وكذلك ننجي المؤمنين " .
يعني أي مؤمن ، وفي أي مكان ، وزمان ، بعد ألف سنة ، بعد آلاف السنين ، في آسيا أو إفريقيا ، أو أمريكا أو ألاسكا ، بالقطب الشمالي والجنوبي ، في البحر ، والجو ، والبر ، طائرة تحلق على ارتفاع ثلاثةٍ وأربعين ألف قدم فوق جبال الألب ، احترقت وانشطرت وسقطت ، ومات جميع ركابها إلا راكباً واحدًا ، فقد كان مقعد هذا الراكب مكان انشطار الطائرة ، فوقع ، ونزل على غابةٍ من الأرز مغطاةٍ بخمسة أمتار من الثلوج ، هذه الخمسة الأمتار امتصت الصدمة ، كما امتصتها ليونة الأغصان أيضاً ، فنزل واقفًا ، وحيثما كنتَ ؛ في الجو أو البحر أو البر أو برأس جبل ، " وكذلك ننجي المؤمنين" ، وكل إنسان يُحاسب عن عمله ، فإذا تبتَ توبة عامة ، فالفرج عام ، وإذا تبتَ توبة خاصة فالفرج خاص ، والمؤمن له معاملة خاصة ...
قال : "ما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قومٍ مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين "
( سورة الذاريات : 31 - 32-33-34 )
ثم الآية التالية تقول : "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين "
( سورة الذاريات : 35-36 )
يعني أنّ الله عز وجل قَبْلَ أن يدمِّر هذه البلدة ، أخرج منها المؤمنين ، فالمؤمن إذا صار في هدى جماعي ، فهذا أنعم وأكرم ، فيصير في فرج جماعي ، وإذا لقيت الناس حولك غير مستقيمين فلا تقل : أنا مثل هؤلاء الناس ، هذا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال : لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا*
(رواه الترمذي عن حذيفة)
والقول الدارِج الآن : أخي أنا مثل الناس ، حط رأسك بين الرؤوس وقل يا قطاع الرؤوس ، أهذه آية أم حديث ؟ هي كلام فارغ ، فالإنسان إذا استطاع أنْ يهدي من حوله ، فهذا واللهِ شيء جميل ، وإذا استطاع فليصطلح مع الله وحده ، وله معاملة خاصة وحده ، "وكذلك ننجي المؤمنين" .
فهذه الآية مقياس دقيق : "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم " ، وقال تعالى : "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممن خلق " ، تعامل مع الله مباشرةً ، تعامل مع الله بصدق وإخلاص ، وأقم أمر الله ، يعزك الله :
كن مع الله ترَ الله معك و اترك الذل وحاذي طمعك
وإذا أعطاك من يمنعـه ثم من يعطي إذا ما منـعك
***
أطع أمرنا نرفع لأجلك حـجبنا فإنا منحنا بالرضى من أحبنـا
و لذ بحمانا و احتمِ بجنابـــنا نحمك مما فيه أشرار خلقــنا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغــلٌ وأخلص لنا تلق المسرة والهنـا
و سلم إلينا الأمر في كل ما يكن فما القرب ولإبعاد إلى بأمـرنا
ينادى له بالكون أنا نحبــــه فيسمع من في الكون أمر محبنا
***
والذي لم يذق طعم القرب لم يذق من الدنيا شيئاً ، قال : بعض العارفين مساكين أهل الدنيا ، دخلوا إلى الدنيا ، وخرجوا منها ، ولم يذوقوا أطيب ما فيها ، إنها ساعات القرب من الله ، والثمن كامِنٌ بنفس كل واحد منكم ، الثمن طاعة الله ، قال الله تعالى : " ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً " .
( سورة الأحزاب : 71)
راجعوا حساباتكم ، راجعوا حسابات قيودكم ، بيوتكم فيها مخالفات ، فيها معاصٍ ، حسابات أعمالكم ، حسابات جوارحكم ، هي كلها حسابات ، فإذا أقمت الإسلام في كيانك، وفي بيتك ، وفي عملك ، غيَّر الله نمط حياتك ، فالله عز وجل قال : "من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة" .
والحمد لله رب العالمين
تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
ففي سورة آل عمران أيها الإخوة ، آية تعد مقياساً لكل مؤمن ؛ هذه الآية هي الآية الواحدة والثلاثون وهي قوله تعالى :
http://www.quran-radio.com/tafseer_nabulsi/11.files/image001.gif
قال العلماء: لما كثر مدَّعو المحبة لله عز وجل جعل الله سبحانه دليلاً على صدق المحبة أو عدمه ، آية في كتابه الكريم ، فالمحبة شعورٌ داخلي يستطيع أن يدَّعيها كل إنسان ، ولو كان أبعد الناس عن الله عز وجل ، يقول لك : أنا أحب الله ، فالحب يُدَّعى ، لكن الله سبحانه وتعالى طالب المؤمنين بالدليل ، فحبك لله عز وجل له دليل ، ودليله طاعة رسول الله " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم " ، فالإنسان أيها الإخوة لئلا يقع في وهمٍ مهلك ، لئلا يتوهم أنه على حق وهو على باطل ، لئلا يتوهم أنه محب وهو ليس بمحب ، جعل الله هذه الآية دليلاً على محبته للمؤمنين ، قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم .
ويبدو أنَّ هذا المرض يصيب أهل الكتاب أيضاً ، " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه "
( سورة المائدة : 18 )
هذه دعوى ، "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه "، فرد الله عليهم :" قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممن خلق "
( سورة المائدة : 18 )
فلو أنّ الله قَبِل دعواهم وأقرهم على ادِّعائهم ، لمّا عذَّبهم ، وما دام يعذبهم فهم كاذبون في دعواهم ، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الإمام الشافعي حقيقةً ثابتة ، وهي أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحبابه ، بل يبتليهم ويمتحنهم ، ولكن لا تستقر حياتهم إلا على الإكرام .
وهنا محل الإشارة إلى أن حياة المؤمن تمر بأطوار ثلاثة ؛ فتمر في طورٍ يعالجه الله ، ويؤدِّبه إلى أن يحمله على طاعته ، وهذا الطور الأول ، يعالجه ويضيق عليه ويشدد عليه ويؤدبه بشتى الوسائل النفسية والمادية إلى أن يحمله على طاعته .
إذًا هذا طور التأديب، فإذا حمله على طاعته دخل في طورٍ آخر ؛ طور الابتلاء "ونبلونكم بالشر والخير فتنة "
( سورة الأنبياء : 35 )
فإذا نجح في الابتلاء دخل في طورٍ ثالث ؛ وهو التكريم ، لذلك اليهود والنصارى قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، فقال تعالى :"قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممن خلق"
( سورة المائدة : 18 )
فإذا رأيت أن المسلمين ليسوا على ما يتمنون ، وحالهم لا ترضي ، وليسوا كما قال الله عز وجل ، فلم يُستخلَفوا في الأرض ، ولم يمكِّن الله لهم دينهم الذي ارتض لهم ، ولم يبدلهم بعد خوفهم أمناً ، هذه وعود الله عز وجل : "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً " .
(سورة النور : 55 )
إخوتنا الكرام ؛ أي وعد في القرآن الكريم ، إنْ رأيته غير محقق ، ينبغي أن تشك في الطرف الثاني ، لأن الله سبحانه وتعالى قال : "ومن أصدق من الله حديثاً " .
( سورة النور : 87 )
وقال :" ومن أوف بعهده من الله " .
( سورة التوبة : 111)
إنّ الله وعد المؤمنين بالنصر فقال : " إن تنصروا الله ينصركم " .
( سورة محمد : 7 )
وقال: "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" .
( سورة آل عمران : 160 )
وعد المؤمنين أن يدافع عنهم فقال الله تعالى :"إن الله يدافع عن الذين آمنوا"
( سورة الحج : 38 )
ووَعَد المؤمنين أن لن يجعل للكافرين عليهم سلطانا : "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً "
( سورة النساء : 141 )
هذه وعود خالق الكون ، فإن رأيت وعود الله ليست محققه في عالم المسلمين ، فماذا تظهر ؟ أتقول : إنَّ الله سبحانه وتعالى لا يفي بوعده ؟ هذا كلام فيه كفر ، حاشا لله عز وجل ، يجب أن نشك في إيماننا ، وفي طاعتنا لله ، وفي استقامتنا ، إن الله سبحانه وتعالى يقول في آيةٍ أخرى :" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم" ، هؤلاء أهل الكتاب لو أن الله أقرهم على دعواهم لمَّا عذبهم ،"قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممن خلق " .
على كلٍ هناك نقطة دقيقة ، الإنسان يحيا ضمن مجتمع ، والمجتمع فاسد منحرف ، يأكل الربا ، يرتكب الفواحش ، يقلد الغربيين ، ولو دخلوا حجر ضبٍ خَرِبٍ لدخلتموه ، فإذا كان الإنسان في بمجتمع منحرف ، في مجتمع الدنيا كلها همُّه ومبلغ علمه ، في مجتمعٍ لا يبالي أأكل حراماً أم حلالاً ، مجتمع لا يبالي أكان على منهج الله أم على منهج الشيطان ، فإذا كان المؤمن في هذا المجتمع ، واصطلح مع الله وحده ، واستقام إلى الله استقامةً تامة ، فهل تظن أن الله يعذبه مع المجموع .
قال تعالى : "وكذلك ننجي المؤمنين"
( سورة يونس : 103 ) .
لا تنسوا هذه القصة التي أوردها القرآن الكريم ، سيدنا يونس حينما كان في بطن الحوت ، ما من مصيبةٍ أشد على الإنسان من أن يجد نفسه فجأةً في ظلمة بطن الحوت ، وفي ظلمة البحر ، وفي ظلمة الليل ، في ظلماتٍ ثلاث ، الأمل في النجاة ضئيل ، في بطن حوت وزنه مئة وخمسون طنًا ، والإنسان كله لقمة صغيرة ، فالتقمه الحوت لقمة واحدة ، والحوت كما تعلمون أيها الإخوة ؛ حيوان ثديّ ، يعني تُرضِع أُنثاه، كل رضعة ثلاثمئة كيلو ، ثلاث رضعات في اليوم تعني طنًا ، والحوت مئة وخمسون طنًا كمّا بيَّنا ، وفيه تسعون برميلاً من الزيت يُعرَف بزيت الحوت ، وفيه خمسون طنًا من اللحم ، وخمسون طنًّا من الدُّهن ، هذا الحوت إذا دخل إنسان إلى بطنه، فالوجبة المعتدلة وهي تسكيت لجوعه أربعة أطنان ، هذا هو الحوت إذًا ، وقد وجد سيدنا يونس نفسه ببطن الحوت فجأة ، في ظلمة بطن الحوت وفي ظلمة الليل ، وفي ظلمة البحر، أنت الآن ، اركب بالبحر بين طرطوس وأرواد بالليل ، تشعر بوحشة كبيرة ، فإذا غرق الإنسان بالليل ، ودخل في بطن الحوت ، "فنادى في الظلمات" ، في ثلاث ظلمات ، "أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فاستجبنا له ونجيناه من الغم"
( سورة الأنبياء : 87 )
القصة انتهت ، استمع إلى القانون بعدها ، إنّه القانون الإلهي الثابت أبدًا ، قال :" وكذلك ننجي المؤمنين " .
يعني أي مؤمن ، وفي أي مكان ، وزمان ، بعد ألف سنة ، بعد آلاف السنين ، في آسيا أو إفريقيا ، أو أمريكا أو ألاسكا ، بالقطب الشمالي والجنوبي ، في البحر ، والجو ، والبر ، طائرة تحلق على ارتفاع ثلاثةٍ وأربعين ألف قدم فوق جبال الألب ، احترقت وانشطرت وسقطت ، ومات جميع ركابها إلا راكباً واحدًا ، فقد كان مقعد هذا الراكب مكان انشطار الطائرة ، فوقع ، ونزل على غابةٍ من الأرز مغطاةٍ بخمسة أمتار من الثلوج ، هذه الخمسة الأمتار امتصت الصدمة ، كما امتصتها ليونة الأغصان أيضاً ، فنزل واقفًا ، وحيثما كنتَ ؛ في الجو أو البحر أو البر أو برأس جبل ، " وكذلك ننجي المؤمنين" ، وكل إنسان يُحاسب عن عمله ، فإذا تبتَ توبة عامة ، فالفرج عام ، وإذا تبتَ توبة خاصة فالفرج خاص ، والمؤمن له معاملة خاصة ...
قال : "ما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قومٍ مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين "
( سورة الذاريات : 31 - 32-33-34 )
ثم الآية التالية تقول : "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين "
( سورة الذاريات : 35-36 )
يعني أنّ الله عز وجل قَبْلَ أن يدمِّر هذه البلدة ، أخرج منها المؤمنين ، فالمؤمن إذا صار في هدى جماعي ، فهذا أنعم وأكرم ، فيصير في فرج جماعي ، وإذا لقيت الناس حولك غير مستقيمين فلا تقل : أنا مثل هؤلاء الناس ، هذا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال : لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا*
(رواه الترمذي عن حذيفة)
والقول الدارِج الآن : أخي أنا مثل الناس ، حط رأسك بين الرؤوس وقل يا قطاع الرؤوس ، أهذه آية أم حديث ؟ هي كلام فارغ ، فالإنسان إذا استطاع أنْ يهدي من حوله ، فهذا واللهِ شيء جميل ، وإذا استطاع فليصطلح مع الله وحده ، وله معاملة خاصة وحده ، "وكذلك ننجي المؤمنين" .
فهذه الآية مقياس دقيق : "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم " ، وقال تعالى : "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممن خلق " ، تعامل مع الله مباشرةً ، تعامل مع الله بصدق وإخلاص ، وأقم أمر الله ، يعزك الله :
كن مع الله ترَ الله معك و اترك الذل وحاذي طمعك
وإذا أعطاك من يمنعـه ثم من يعطي إذا ما منـعك
***
أطع أمرنا نرفع لأجلك حـجبنا فإنا منحنا بالرضى من أحبنـا
و لذ بحمانا و احتمِ بجنابـــنا نحمك مما فيه أشرار خلقــنا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغــلٌ وأخلص لنا تلق المسرة والهنـا
و سلم إلينا الأمر في كل ما يكن فما القرب ولإبعاد إلى بأمـرنا
ينادى له بالكون أنا نحبــــه فيسمع من في الكون أمر محبنا
***
والذي لم يذق طعم القرب لم يذق من الدنيا شيئاً ، قال : بعض العارفين مساكين أهل الدنيا ، دخلوا إلى الدنيا ، وخرجوا منها ، ولم يذوقوا أطيب ما فيها ، إنها ساعات القرب من الله ، والثمن كامِنٌ بنفس كل واحد منكم ، الثمن طاعة الله ، قال الله تعالى : " ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً " .
( سورة الأحزاب : 71)
راجعوا حساباتكم ، راجعوا حسابات قيودكم ، بيوتكم فيها مخالفات ، فيها معاصٍ ، حسابات أعمالكم ، حسابات جوارحكم ، هي كلها حسابات ، فإذا أقمت الإسلام في كيانك، وفي بيتك ، وفي عملك ، غيَّر الله نمط حياتك ، فالله عز وجل قال : "من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة" .
والحمد لله رب العالمين
تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي