المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من سورة آل عمران..الشهوات سُلَّم ترقى بها أو دركة تهوي بها - الآية 14-15- .


عفراء
04-03-2010, 19:11
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين وبعد ؛ فقد أنهينا في الدروس السابقة ، بعض الآيات الكريمة المختارة من سورة البقرة ، وننتقل إلى سورة آل عمران ، وفي أوائل هذه السورة آيتان كريمان يقول الله سبحانه وتعالى فيهما :
http://www.quran-radio.com/tafseer_nabulsi/10.files/image001.gif
أيها الإخوة الكرام ؛ رُكب في كيان الإنسان هذه الشهوات ، وقد يَفهم بعضهم أن هذه الشهوات أساس فساد العالم ، والحقيقة عكس ذلك ، فلولا هذه الشهوات التي ركبت فينا لما دخلنا الجنة ، ثمّ إن هذه الشهوات حيادية ، إنها سُلَّم ترقى بها إلى الجنة أو دركات تهوي بها إلى النار ، إن هذه الشهوات بمثابة محرك يحرك هذه المركبة ، فإذا كان مع هذا المحرك مقود يحافظ على بقاء السيارة على الطريق المعبد ، كان هذا المحرك قوة دفعٍ لهذه المركبة ، أما إذا كان هذا المحرك يعمل بلا مقود ، والطريق فيه انعطافات ، وعلى جانبيه وديان سحيقة ، فالهلاك حتمي .
إذاً الشهوات حيادية ، ليست هي سبب فساد العالم ، بل إن سوء استخدامها هو سبب فساد العالم .
إنّ الشهوات التي أودعها الله فينا ، قيَّدها في الوقت نفسه بمنهج رسمه الله لنا ، فما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا ولها قناة نظيفة ، لو سارت هذه الشهوة في خلال القناة لآتت أكلها ضعفين ، كنت ضربت من قبل مثلاً ، الوقود السائل بالسيارة، فيه قوة انفجارية ، لكنه إذا وضع في مستودع محكم ، وسال في الأنابيب المحكمة ، وانفجر في الوقت المناسب ، وفي المكان المناسب ، ولّدَ حركةً نافعة ، تسعد بها ، وتنقلك أنت وأهلك إلى مكان جميل ، ماذا يجري بالسيارة ؟ انفجار ، لكنه انفجار وفق المنهج ، أما لو خرج هذا الوقود عن مساره ، وأصابت السيارةَ شرارةٌ لأحرقت المركبة وما فيها .
فإياك أن تتهم الشهوات ، فلولاها لما ارتقيت إلى رب الأرض والسماوات ، ولولاها لما دخلت الجنة ، ولما تقربت إلى الله ، تصور هل من طريق آخر تتقرب به إلى الله غير طريق الشهوات ، المال محبب فإذا أنفقته حلالاً ارتقيت إلى الله ، فإذ كان مع شخص خمسمئة ليرة ، يمكنه أن يأكل طعاماً نفيساً هو وأهله ، لكنّه أعطاها لفقير ، لولا أنك تحب هذا المبلغ لما ارتقيت بإنفاقه ، وأودع الله فيك حبَّ النساء ، فلولا أنك تحب النساء ومررت في طريق على امرأة سافرة وغضضتَ بصرك عنها لا ترقى إلى الله ، بل إن هذه الشهوات ترقى بها إلى الله مرتين ، ترقى بها مرة صابراً ومرة شاكراً، فإذا نظرت إلى ما يحل لك ترقى شاكراً ، وإذا غضضت عما لا يحل لك ترقى صابراً ، إذا كسبت المال من وجوهه المشروعة وأنفقته فيما هو مشروع ، كأنْ تأتيَ مثلاً بالطعام والشراب والفواكه لأولادك ، وقد أدخلت على قلوبهم السرور ، فإنّك ترقى إلى الله شاكراً ، فإذا امتنعتَ عن أخذ مالٍ حرام ، فيه شبهة ، وأنت في أشد الحاجة إليه ، وقد أودع اللهُ في كيانك حبَّ المال ، ترقى إلى الله صابراً ، هذه الشهوات إذًا كالمنشار ، ترقى بها مرتين ، فإنْ سلكت القناة النظيفة التي سمح الله لك أن تسلكها ارتقيت إلى الله شاكراً ، وإن ابتعدت عن الوجه الذي حرمه الله عليك ترقى إلى الله صابراً ، ولولا الشهوات لما ارتقيت إلى رب الأرض والسماوات ، ولولا الشهوات لما تقربت إلى الله عز وجل ، والإنسان يُصلي في اليوم خمس مرات ، أما إذا سار في الطريق المشروع يصلي آلاف المرات ، لأنّه كلما غضَّ بصره عن امرأة أجنبية ارتقى إلى الله ، فهناك ألف طريق لكسب المال .
اليوم سمعتُ في الأخبار أنَّ أكبر ربح في العالم ربح المخدرات ‍‍‍‍‍‍‍؛ ألف مليار دولار ، أعلى ربح في العالم ، أرباح المخدرات التي تسبب الآلام لملايين الأسر ، إنّها أرباح طائلة ، إذاً فالإنسان إذا امتنع عن أخذ المال الحرام يرقى ، وإذا سلك الطريق المشروع يرقى ، وإذا غض بصره عن امرأة أجنبية يرقى ، وإذا نظر إلى امرأته يرقى، كالمنشار ترقى بالشهوات مرتين ، كلما أقبلت على طريق مشروع ترقى بها ، وكلما ابتعدت عن طريق حرمه الله ترقى بها ، فالإنسان لا يتألم من الشهوة ، بل يتألم من نفسه ، بشكل أو بآخر، السُّكَّر مادة ثمينة ، والملح مادة ثمينة ، فلو وضعت الملح في الحلويات ، هل تأكلها ؟ أو وضعت السكر في طبخة غالية الثمن هل تأكلها ؟ لقد فسدت الطبخة ، السكر مادة ثمينة ونافعة ، والملح مادة ثمينة ونافعة ، لكن أسأتَ الاستعمال ، فالفساد هو في إساءة الاستعمال ؛ فالمرأة صممت لتكون زوجة لك ، تسعد بها وتسعد بك ، وتنجب أطفالاً ترفرف بوجودهم على البيت السعادة والهناءَة ، أما إذا سلكت في قضاء هذه الشهوة طريقًا حرَّمه الله عليك تشقى ، فالشقاء هو في سوء استخدام هذه الحظوظ وتلك الشهوة .
هذا معنى قول الله تعالى : "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث" أما الشيء الدقيق في هذه الآية ، "ذلك متاع الحياة الدنيا" ، وكأن المتاع كلَّه في كلمة "ذلك" ، هذه التي بين يديك ، "متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب" .
فإذا اتقى الإنسانُ اللهَ في هذه الشهوات ، وجاءه ملك الموت ليقبض روحه ، وقد مات على الإيمان ، وعلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فله عودةٌ إلى الله لا توصف من شدة السعادة ، "والله عنده حسن المآب" ، فحينما تؤوب إلى الله ، وقد اتقيت الله في هذه الشهوات ، فلك عودة لله عز وجل ، وأنتَ في أسعد الحالات .
لذلك قالوا : الموت عرس المؤمن ، والشيء الثابت أنَّ أسعد لحظات المؤمن حين يلقى ربه ، وا كربتاه يا أبي ‍! قال : لا كرب على أبيك بعد اليوم ، غداً نلقى الأحبه محمداً وصحبه .
فلك أن تتزوج ، وأنْ تنجب الأولادَ ، وتشتغل وتكسب المال كله بالطريق الحلال ، وفق المنهج الربَّاني ، ادرس واحصل على شهادات عليا ، وتاجر وافتتح محلات ، ضمن المنهج ، وكن صادقًا ، لا غش ، ولا تدليس ، ولا ربا ، وكل عملك وفق المنهج ، فالله ما حرَّم عليك الدنيا ، ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ، ولا من ترك آخرته لدنياه ، إلا أن يتزود منهما معاً ، فإن الأولى مطية للثانية ، والدعاء الشريف: " اللهم اصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنيايّ التي فيها معاشي ، وأصلح آخرتي التي إليها مردي، ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسن، ة وارزقنا العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة ، واهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت " وهذه واقعية النبي صلي الله عليه وسلم .
لكن دققوا في الآية التالية ، فكل واحد من إخواننا الكرام ذاق نعمة المال ، ونعمة النساء ، ونعمة الزوجة ، والبيت المريح ، والمركبة الفاخرة ، والبيت في المصيف .
فهذه الشهوات مارِسْها وعرفها ، ثم إنّ ربنا عز وجل يقول لكم :" قل أؤنبئكم بخير من ذلكم "، هل أنت مصدق لله عز وجل : "قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة "، وأثمن من كل ذالك ، "ورضوان من الله والله بصير بالعباد" .
لذلك قال صلى الله عليه وسلم : "ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر "، سافِر إلى طرطوص واركب القارب لأرواد واخرج من جيبك إبرة واغمسها في مياه البحر ، ثم اسحبها ، واحسُب النسبة ، كم نقص البحر من مائه ؟ وكذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم وهو : "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"
( سورة النجم : الآية : 4 ، 5 )
لقد قال : ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر .
والحمد لله رب العالمين




تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي

حموووده
04-03-2010, 20:26
بارك الله فيكِ عفراء