عفراء
04-03-2010, 18:52
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكرام ؛ في أواخر سورة البقرة آيات دقيقة ، وكأن هذه الآيات تلخص السورة بأكملها ، بل كأن هذه الآيات تعطينا الطريق العملي لفهم هذه السورة ، يقول الله عز وجل في الآية الرابعة والثمانين بعد المئتين :
http://www.quran-radio.com/tafseer_nabulsi/7.files/image001.gif
أولاً : هذه اللام ... لله ... هذه لام الملكية .
فأنتَ مثلاً تقول : القلم لي ، والبيت لي ، والمركبة لي ، فهذه اللام لام الملكية فلله ما في السموات وما في الأرض ، كلمة السموات والأرض يقابلها الكون ، والكون ما سوى الله ، والله واجب الوجود ، وما سواه ممكن الوجود ، وما سواه هو الكون ، والتعبير القرآني للكون ، السموات والأرض ، لله ما في السموات وما في الأرض ، أي الكون كله ملك لله عز وجل .
ما معنى أن يكون الله مالك للكون ؟ …
أنت قد تملك بيتاً ولا تنتفع به ، قد أجرته في الخمسينات بمئة ليرة في الشهر ، وثمنه الآن ثلاثون مليونًا ، قد تملك بيتاً ولا تنتفع به ، وقد تنتفع به ولا تملكه فأنت مستأجر ، وقد تملكه وتنتفع به ، و لكن مصيره ليس إليك ، فمشروع تنظيم مِن قِبل المحافظة يأتي على البيت ، فملكية الإنسان دائماً غير كاملة .
فهو إما أنه يملك الرقبة ولا يملك المنفعة ، أو أنه يملك المنفعة ولا يملك الرقبة ، أو أنه يملك المنفعة والرقبة ولا يملك المصير .
لكن إذا كان الله مالكاً ، فالله سبحانه وتعالى يملك الشيء ، ويملك التصرف فيه ، ويملك مصيره ، أجل يملك الشيء ويملك التصرف فيه ويملك مصيره ، " له الخلق والأمر "
( سورة الأعراف : الآية : 54 )
أمره نافذ في خلقه .
قد يصنع المعملُ طائرة ويبيعوها لدولة ما ، فأصبحت الطائرةُ ملك تلك الدولة، لكن الله عز وجل له الخلق والأمر ، لذلك " لله ما في السموات وما في الأرض " هذا يؤكده قوله تعالى : " قل اللهم مالك الملك "
( سورة آل عمران : الآية : 26 )
شخصًا عنده معمل ، وبيته في حيِّ خور شيد ، ركب مركبته واتجه إلى البيت ، فنسي موقعَ البيت !!! قضى نصف ساعة أو أكثر يبحث عن بيته ، أُصيب بفقد جزئيٍّ للذاكرة، لكنه عرف بيت ابنه الذي بالجسر ، فذهب إلى ابنه وقال له : يا بني أين بيتي ؟ .
قد يعني أنَّ أيَّ شيء يُملك فالله مالكه ، فأنت هل تملك ذاكرتك مثلاً ؟
أعرف ينسى إنسان أولاده ، أحد الأشخاص أعرفه ، وهو صيدلي في حيِّ المهاجرين ، جاء ابنه من أمريكا ، فقال له من أنت ؟ أفتملك ذاكرتك ؟ هل تملك أن تعيش بعد ساعة، يقال : سكت دماغية ، أتملك مزرعتك ؟ بكون ثمنُ محصولها ذات خمسمئة ألف، "فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون"
( سورة القلم : الآية : 19 )
موجة صقيع تستمر عشر ثوانٍ تُتلف المحصول كله ، أو لفحة حر تتلف المحصول كله، أو رياح عاتية أقبلتْ رياح عاتية قبل حين ، قلعت حوالي خمسمئة بيت بلاستيكي من جذورها ، تلاشى البيت كله ، وتلاشى المحصول طبعاً ، فماذا نملك نحن ، بناء بالقاهرة أربعة عشر طابقًا ، فيه بنوك ، وفيه مؤسسات ، وفيه بيوت فخمه ، طبعاً ؛ بيت لإنسان غني فيه الآلات الكهربائية ، والمكيفات البرادات ، آلات التسجيل ...إلخ .
خلال ثلاث وأربعين ثانية ، أصبح هذا البناء ركاماً ، خمس درجات على مقياس ريختر تصير تحت خيمة تُؤويك ، كان عندك بيت مساحته أربعمئة متر ، تزينه ديكورات ، وفرشه وفير ، بثلاث وأربعين ثانية ، غدوت تحت الخيمة ثاويًا ، هناك ناس ينزحون من بلادهم ، قد يقال : مئة ألف نازح ، فنحن لا نملك إلا رحمة الله عز وجل .
قال تعالى : " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ".
هناك عطاء مادي ... وهناك عطاء معنوي ... العطاء المادي ، بيت ، أرض مركبة ، تجارة ، أموال ... والعطاء المعنوي مكانة ، عزة ، كرامة ، أو إهانة ، أو فضيحة ، أو ذل ، " تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير " .
هذا تمهيد للآية الرابعة والثمانين بعد المئتين في أواخر سورة البقرة ، قال تعالى :" لله ما في السموات وما في الأرض "، وأنت على الأرض تشملك الآية الكريمة ، أنت مِن مُلك الله ، ثم قال :" وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " .
إذا كان الإنسان مثلا مصابٌ بمرض نفسي ، كأنْ يكون فيه كبر ، أو إشراك بالله ،وفيه آفةُ الاستعلاء ، وتأكيد للذات ، أو عنده غرور ، فهذه الأمراض إن أبديتها لله أو أخفيتها ، لابد من أن يحاسبك عليها .
أما الطبيب إن لم تأته إلى عيادته ، وتقول له : إنني لا أنام الليل من ألم المعدة فإنّه لا يعالجك ، الطبيب البشري إن لم تأته ، وإن لم تخبره بآلامك لا يعالجك ، لكن الله عز وجل ، لأنه يعلم ، ولأنه مالك ، ولأنه رحيم .
يعلم ، ومالك ، ورحيم ، سواء أعرضت عليه مشكلتك ، أم تجاهلتها يحاسبك بها .
لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله .
إخواننا الكرام ؛ أدق ما في الآية ، " فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء "، والله الذي لا إله إلا هو ، ملخص ، ملخص ، الملخص ، إما أن تذهب إليه طواعيةً ، إما أن تنتبه لأمراضك النفسية طواعيةً ، وإما أن تقبل عليه مبادرةً منك ، وإما أن يرغمك على أن تأتيه قصراً .
" فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء "، يعني إنْ أصابك مرض ، فقد يقول لك الطبيب : لدينا حبوب ، أو عملية جراحية ، وإمَّا لو امتنعت عن هذه الآكلات ، وأخذت هذه المقويات تشفى ، فأنت بين خيارين ؛ إما أن تشفى بالحسنى ، وإما أن تشفى بعد مصيبة ؛ فالآية دقيقة …
يعني المرض النفسي إن أظهرته أو أخفيته ، إن عرضته أو سترته ، إن أبديته أو أسررته ، إن ذهبت إلى الطبيب أو لم تذهب إليه ، فالطبيب يعلم ، ورحيم ، وعليم وقدير ، وأنت بملكه ، لأنه رحيم ، ولأنه رب العالمين ، ولأنه جاء بك إلى الدنيا ليؤهِّلك للآخرة فلا تعصِهِ .
فلذلك أمراضك النفسية مكشوفة عنده ، إنْ تكلمتَ أو سكتَّ سيان ، و المعالجة تكون بإحدى طريقين .
الطريق الأول : أن تأتيه تائباً ، وأن تقبل عليه .
بهذا الاتصال تشفى من أمراضك ، أمّا إذا أبيت أن تأتيه طائعاً ، ولم تندم على ما تفعل، فالله عنده مليون ، مليون ، مليون ، مليون وسيلة مما يرغمك أنْ تأتيَ إليه ركضًا ، مليون وسيلة ، بدءاً من صحتك ، إلى زوجتك ، إلى أولادك ، إلى عملك ، إلى تجارتك ، وأنت مسافر ، وأنت في البحر ، وأنت بالجو ، وأنت بالبر ، وأنت في بيتك ، وأنت بغرفتك ، حيثما كنت فلن تعجزه .
حدّثني أحدُهم ؛ قال لي : أنا أستاذ كنت في أوربا ، ليس مِن معصية إلاّ قارفتُها ،عدا القتل ، فما قتلت أحداً ، قال : ثم جئت إلى الشام ، ونقلت باريس إلى دمشق ، فكل المعاصي ؛ السهرات في النوادي ، والخمور ، و النساء ، لا زلتُ أقارفها ، وفجأةً ، أنا في مقتبل الحياة ، وأحمل شهادة دكتوراه بالكمبيوتر ، وفجأةً صار كلُّ شيء يتحرك أمامي مضطربًا ، أعوذ بالله ، فهو يمشي ويقع ، واللهِ عشر محاولات لأمسك الكأسَ فما أقدر ، يعني أصابه مرضُ اسمُه فقدُ التوافق الحركي ، وأصبح لديه خلل في كهرباء الدماغ ، انعكاس واضطراب بالرؤية ، واختلال بالمشي ، وعُرضتُ هنا على ستة وثلاثين طبيبًا بالشام ، فما استفدت ، فذهب إلى فرنسا حيث تعلَّم وتخرَّج ، وأُدخِل إلى أعظم مستشفى ، وجاء الطبيب بالطائرة ، وبحثوا عن مرضي ، وطبعاً سرتُ على بساط إلكتروني ، وانطبعتْ حركاتي على شاشة ، فأول كلمة قالها لي الطبيب : مرضك مرض يندر وجوده بالعالم ، نسبته واحد من ثلاثة عشر مليون إنسان ، كل ثلاثة عشر مليون إنسان يصاب به واحد ، ثم قال لي : أنا فداء سوريا كلها ، وبلغته إدارة المستشفى أنّ إقامته في فرنسا ، وذهابه و إيّابه كل ستة أشهر نفقةً على حساب فرنسا ، لا لأنه مكرم بل ، لأنهم جعلوا منه حقل تجارب ، إنه مرض نادر ، ولأجل أنْ يتعلموا فيه اعتبروه ضيفًا ، ذهاباً ، وإياباً ، وإقامةً ، وبعد ستة أشهر قال لي الطبيب المعالِج بالحرف ما يلي : أنا أعلمُ طبيبٍ بمرضك في العالم كله ، ولا فخر ، وللأسف ليس لك عندنا دواء ، ارجع إلى بلدك وانتظر أجلك ، فرجع إلى الشام ، فاعتبر يا أخي المؤمن حيث قال : "لم تبق مصيبةٌ إلاّ اقترفتُها" .
جاء إلى الجامع يومًا وحضر درسًا ، ولعله سُرَّ ، فقال يا رب : إذا شفيتني سأصلي ، فهو ما صلى في حياته ثمّ حضر درسًا ثانيًا ، ولعلّ الله ألهمني كلمة فقلت : أتشترط على الله ؟ أتجرِّب الله عز وجل ؟ فلا شرط ، و لا تجربة مع الله ، ولا تجرب الله عز وجل ، لا تشارط ولا تجرب .
سبحان الله ، ثم قال : يا ربي مِن الآن أبدأ الصلاة ، وفي البيت صلى أول ركعتين في حياته .
وفي ثالثِ يومٍ ، ثبتت الصورة ، وقام وصرخ راح فرحًا بالشفاء .
إنّ الصورة ثبتت ، وما بقي لديه ارتجاج ، وأمسك الكأس من أول محاولة ، وبعد ثلاثة أيام عاد صحيحا معافى ، وكان الصلح مع الله ، ولزم دروس العلم ، وتاب إلى الله توبة نصوحًا .
إخواننا الكرام ؛ إمّا أن تأتي طائعًا ، وإمّا أنْ يأتي بك ركضًا ، وعنده مليون دواء ، أحد الأدوية يجعلك لا تنام الليل خوفاً ، وأحد الأدوية يوحي إليك أنْ تقول : مستعد لأنْ أبيع أملاكي على أنْ أُشفى .
قلت لكم بالأمس : شخص يحمل دكتوراه ، وصل لأعلى منصب بوزارة الصناعة ، فَقَد بصره ، وبيته بالمالكي ، وله سيارة ، وزوجة فرنسية ، يعيش في بحبوحة ، ومكانة ، وعز .
زاره صديق لي فأخبرني أنه قال للطبيب : واللهِ أتمنى أن أجلس على الرصيف أتسول، ولا أملك من حطام الدنيا إلا هذا المعطف ، وأن يرد اللهُ لي بصري .
إخواننا الكرام ؛" لله ما في السموات وما في الأرض "، أنت ملكه ، وهو رحيم ، وهو رب كريم ، وحكيم ، وخلقك للجنة ، فإذاً أنت بين خيارين .
"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه "، فالأمر سيان .
في الجسم أمراض إنْ أظهرتها أو أخفيتها ، إن أبديتها أو أسررتها ،" يحاسبكم به الله".
أنت بين طريقين ؛ إما طريق الحمية والحبوب ، أو عملية جراحية ، وكلاهما على الله سهل ، "فيغفر لمن يشاء" ، للإقبال عليه ، "ويعذب من يشاء" ، للإعراض عنه ، يبعث له مشكلة ، "والله على كل شيءٍ قدير" ، على هذه قدير ، وعلى تلك قدير .
الطريق الأول : أولى وأجمل ؛ أن تأتيه طائعاً ، والأمر في متناولك ، صحتك طيبة سليمة ، وبيتك منتظم ، ودخلك جيد ، زوجتك كاملة ، أولادك ملاح ، وأنت بهذه الحالة الطيبة صلِّ وتُبْ وغض بصرك ، وحرر دخلك واضبط جوارحك ، واضبط سمعك وبصرك ، وأنت سليم صحيح الجسم ، وإلاّ إذا انحرفت فالله عز وجل يعرف كيف يداويك ، " وإن تبدوا " ، هذه الآية دقيقة ، هذه ملخص سورة البقرة كلها .
" لله ما في السموات وما في الأرض وأن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء "، الطريق السلمي أولاً ، بأنْ تأتيه طائعاً : أنا يا رب تبتُ إليك ، وأريد رضاك ، " ويعذب من يشاء " إذا غفلت عنه ، فعنده أساليب ترجعك قهرًا .
أمَّا "والله على كل شيءٍ قدير "، على هذه قدير ، وعلى العملية الجراحية قدير ، وعلى إعطائك برنامج حمية مع تناول حبوب قدير ، والأولى أهون ، فاحذروا يا أولي الألباب .
والحمد لله رب العالمين
تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكرام ؛ في أواخر سورة البقرة آيات دقيقة ، وكأن هذه الآيات تلخص السورة بأكملها ، بل كأن هذه الآيات تعطينا الطريق العملي لفهم هذه السورة ، يقول الله عز وجل في الآية الرابعة والثمانين بعد المئتين :
http://www.quran-radio.com/tafseer_nabulsi/7.files/image001.gif
أولاً : هذه اللام ... لله ... هذه لام الملكية .
فأنتَ مثلاً تقول : القلم لي ، والبيت لي ، والمركبة لي ، فهذه اللام لام الملكية فلله ما في السموات وما في الأرض ، كلمة السموات والأرض يقابلها الكون ، والكون ما سوى الله ، والله واجب الوجود ، وما سواه ممكن الوجود ، وما سواه هو الكون ، والتعبير القرآني للكون ، السموات والأرض ، لله ما في السموات وما في الأرض ، أي الكون كله ملك لله عز وجل .
ما معنى أن يكون الله مالك للكون ؟ …
أنت قد تملك بيتاً ولا تنتفع به ، قد أجرته في الخمسينات بمئة ليرة في الشهر ، وثمنه الآن ثلاثون مليونًا ، قد تملك بيتاً ولا تنتفع به ، وقد تنتفع به ولا تملكه فأنت مستأجر ، وقد تملكه وتنتفع به ، و لكن مصيره ليس إليك ، فمشروع تنظيم مِن قِبل المحافظة يأتي على البيت ، فملكية الإنسان دائماً غير كاملة .
فهو إما أنه يملك الرقبة ولا يملك المنفعة ، أو أنه يملك المنفعة ولا يملك الرقبة ، أو أنه يملك المنفعة والرقبة ولا يملك المصير .
لكن إذا كان الله مالكاً ، فالله سبحانه وتعالى يملك الشيء ، ويملك التصرف فيه ، ويملك مصيره ، أجل يملك الشيء ويملك التصرف فيه ويملك مصيره ، " له الخلق والأمر "
( سورة الأعراف : الآية : 54 )
أمره نافذ في خلقه .
قد يصنع المعملُ طائرة ويبيعوها لدولة ما ، فأصبحت الطائرةُ ملك تلك الدولة، لكن الله عز وجل له الخلق والأمر ، لذلك " لله ما في السموات وما في الأرض " هذا يؤكده قوله تعالى : " قل اللهم مالك الملك "
( سورة آل عمران : الآية : 26 )
شخصًا عنده معمل ، وبيته في حيِّ خور شيد ، ركب مركبته واتجه إلى البيت ، فنسي موقعَ البيت !!! قضى نصف ساعة أو أكثر يبحث عن بيته ، أُصيب بفقد جزئيٍّ للذاكرة، لكنه عرف بيت ابنه الذي بالجسر ، فذهب إلى ابنه وقال له : يا بني أين بيتي ؟ .
قد يعني أنَّ أيَّ شيء يُملك فالله مالكه ، فأنت هل تملك ذاكرتك مثلاً ؟
أعرف ينسى إنسان أولاده ، أحد الأشخاص أعرفه ، وهو صيدلي في حيِّ المهاجرين ، جاء ابنه من أمريكا ، فقال له من أنت ؟ أفتملك ذاكرتك ؟ هل تملك أن تعيش بعد ساعة، يقال : سكت دماغية ، أتملك مزرعتك ؟ بكون ثمنُ محصولها ذات خمسمئة ألف، "فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون"
( سورة القلم : الآية : 19 )
موجة صقيع تستمر عشر ثوانٍ تُتلف المحصول كله ، أو لفحة حر تتلف المحصول كله، أو رياح عاتية أقبلتْ رياح عاتية قبل حين ، قلعت حوالي خمسمئة بيت بلاستيكي من جذورها ، تلاشى البيت كله ، وتلاشى المحصول طبعاً ، فماذا نملك نحن ، بناء بالقاهرة أربعة عشر طابقًا ، فيه بنوك ، وفيه مؤسسات ، وفيه بيوت فخمه ، طبعاً ؛ بيت لإنسان غني فيه الآلات الكهربائية ، والمكيفات البرادات ، آلات التسجيل ...إلخ .
خلال ثلاث وأربعين ثانية ، أصبح هذا البناء ركاماً ، خمس درجات على مقياس ريختر تصير تحت خيمة تُؤويك ، كان عندك بيت مساحته أربعمئة متر ، تزينه ديكورات ، وفرشه وفير ، بثلاث وأربعين ثانية ، غدوت تحت الخيمة ثاويًا ، هناك ناس ينزحون من بلادهم ، قد يقال : مئة ألف نازح ، فنحن لا نملك إلا رحمة الله عز وجل .
قال تعالى : " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ".
هناك عطاء مادي ... وهناك عطاء معنوي ... العطاء المادي ، بيت ، أرض مركبة ، تجارة ، أموال ... والعطاء المعنوي مكانة ، عزة ، كرامة ، أو إهانة ، أو فضيحة ، أو ذل ، " تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير " .
هذا تمهيد للآية الرابعة والثمانين بعد المئتين في أواخر سورة البقرة ، قال تعالى :" لله ما في السموات وما في الأرض "، وأنت على الأرض تشملك الآية الكريمة ، أنت مِن مُلك الله ، ثم قال :" وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " .
إذا كان الإنسان مثلا مصابٌ بمرض نفسي ، كأنْ يكون فيه كبر ، أو إشراك بالله ،وفيه آفةُ الاستعلاء ، وتأكيد للذات ، أو عنده غرور ، فهذه الأمراض إن أبديتها لله أو أخفيتها ، لابد من أن يحاسبك عليها .
أما الطبيب إن لم تأته إلى عيادته ، وتقول له : إنني لا أنام الليل من ألم المعدة فإنّه لا يعالجك ، الطبيب البشري إن لم تأته ، وإن لم تخبره بآلامك لا يعالجك ، لكن الله عز وجل ، لأنه يعلم ، ولأنه مالك ، ولأنه رحيم .
يعلم ، ومالك ، ورحيم ، سواء أعرضت عليه مشكلتك ، أم تجاهلتها يحاسبك بها .
لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله .
إخواننا الكرام ؛ أدق ما في الآية ، " فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء "، والله الذي لا إله إلا هو ، ملخص ، ملخص ، الملخص ، إما أن تذهب إليه طواعيةً ، إما أن تنتبه لأمراضك النفسية طواعيةً ، وإما أن تقبل عليه مبادرةً منك ، وإما أن يرغمك على أن تأتيه قصراً .
" فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء "، يعني إنْ أصابك مرض ، فقد يقول لك الطبيب : لدينا حبوب ، أو عملية جراحية ، وإمَّا لو امتنعت عن هذه الآكلات ، وأخذت هذه المقويات تشفى ، فأنت بين خيارين ؛ إما أن تشفى بالحسنى ، وإما أن تشفى بعد مصيبة ؛ فالآية دقيقة …
يعني المرض النفسي إن أظهرته أو أخفيته ، إن عرضته أو سترته ، إن أبديته أو أسررته ، إن ذهبت إلى الطبيب أو لم تذهب إليه ، فالطبيب يعلم ، ورحيم ، وعليم وقدير ، وأنت بملكه ، لأنه رحيم ، ولأنه رب العالمين ، ولأنه جاء بك إلى الدنيا ليؤهِّلك للآخرة فلا تعصِهِ .
فلذلك أمراضك النفسية مكشوفة عنده ، إنْ تكلمتَ أو سكتَّ سيان ، و المعالجة تكون بإحدى طريقين .
الطريق الأول : أن تأتيه تائباً ، وأن تقبل عليه .
بهذا الاتصال تشفى من أمراضك ، أمّا إذا أبيت أن تأتيه طائعاً ، ولم تندم على ما تفعل، فالله عنده مليون ، مليون ، مليون ، مليون وسيلة مما يرغمك أنْ تأتيَ إليه ركضًا ، مليون وسيلة ، بدءاً من صحتك ، إلى زوجتك ، إلى أولادك ، إلى عملك ، إلى تجارتك ، وأنت مسافر ، وأنت في البحر ، وأنت بالجو ، وأنت بالبر ، وأنت في بيتك ، وأنت بغرفتك ، حيثما كنت فلن تعجزه .
حدّثني أحدُهم ؛ قال لي : أنا أستاذ كنت في أوربا ، ليس مِن معصية إلاّ قارفتُها ،عدا القتل ، فما قتلت أحداً ، قال : ثم جئت إلى الشام ، ونقلت باريس إلى دمشق ، فكل المعاصي ؛ السهرات في النوادي ، والخمور ، و النساء ، لا زلتُ أقارفها ، وفجأةً ، أنا في مقتبل الحياة ، وأحمل شهادة دكتوراه بالكمبيوتر ، وفجأةً صار كلُّ شيء يتحرك أمامي مضطربًا ، أعوذ بالله ، فهو يمشي ويقع ، واللهِ عشر محاولات لأمسك الكأسَ فما أقدر ، يعني أصابه مرضُ اسمُه فقدُ التوافق الحركي ، وأصبح لديه خلل في كهرباء الدماغ ، انعكاس واضطراب بالرؤية ، واختلال بالمشي ، وعُرضتُ هنا على ستة وثلاثين طبيبًا بالشام ، فما استفدت ، فذهب إلى فرنسا حيث تعلَّم وتخرَّج ، وأُدخِل إلى أعظم مستشفى ، وجاء الطبيب بالطائرة ، وبحثوا عن مرضي ، وطبعاً سرتُ على بساط إلكتروني ، وانطبعتْ حركاتي على شاشة ، فأول كلمة قالها لي الطبيب : مرضك مرض يندر وجوده بالعالم ، نسبته واحد من ثلاثة عشر مليون إنسان ، كل ثلاثة عشر مليون إنسان يصاب به واحد ، ثم قال لي : أنا فداء سوريا كلها ، وبلغته إدارة المستشفى أنّ إقامته في فرنسا ، وذهابه و إيّابه كل ستة أشهر نفقةً على حساب فرنسا ، لا لأنه مكرم بل ، لأنهم جعلوا منه حقل تجارب ، إنه مرض نادر ، ولأجل أنْ يتعلموا فيه اعتبروه ضيفًا ، ذهاباً ، وإياباً ، وإقامةً ، وبعد ستة أشهر قال لي الطبيب المعالِج بالحرف ما يلي : أنا أعلمُ طبيبٍ بمرضك في العالم كله ، ولا فخر ، وللأسف ليس لك عندنا دواء ، ارجع إلى بلدك وانتظر أجلك ، فرجع إلى الشام ، فاعتبر يا أخي المؤمن حيث قال : "لم تبق مصيبةٌ إلاّ اقترفتُها" .
جاء إلى الجامع يومًا وحضر درسًا ، ولعله سُرَّ ، فقال يا رب : إذا شفيتني سأصلي ، فهو ما صلى في حياته ثمّ حضر درسًا ثانيًا ، ولعلّ الله ألهمني كلمة فقلت : أتشترط على الله ؟ أتجرِّب الله عز وجل ؟ فلا شرط ، و لا تجربة مع الله ، ولا تجرب الله عز وجل ، لا تشارط ولا تجرب .
سبحان الله ، ثم قال : يا ربي مِن الآن أبدأ الصلاة ، وفي البيت صلى أول ركعتين في حياته .
وفي ثالثِ يومٍ ، ثبتت الصورة ، وقام وصرخ راح فرحًا بالشفاء .
إنّ الصورة ثبتت ، وما بقي لديه ارتجاج ، وأمسك الكأس من أول محاولة ، وبعد ثلاثة أيام عاد صحيحا معافى ، وكان الصلح مع الله ، ولزم دروس العلم ، وتاب إلى الله توبة نصوحًا .
إخواننا الكرام ؛ إمّا أن تأتي طائعًا ، وإمّا أنْ يأتي بك ركضًا ، وعنده مليون دواء ، أحد الأدوية يجعلك لا تنام الليل خوفاً ، وأحد الأدوية يوحي إليك أنْ تقول : مستعد لأنْ أبيع أملاكي على أنْ أُشفى .
قلت لكم بالأمس : شخص يحمل دكتوراه ، وصل لأعلى منصب بوزارة الصناعة ، فَقَد بصره ، وبيته بالمالكي ، وله سيارة ، وزوجة فرنسية ، يعيش في بحبوحة ، ومكانة ، وعز .
زاره صديق لي فأخبرني أنه قال للطبيب : واللهِ أتمنى أن أجلس على الرصيف أتسول، ولا أملك من حطام الدنيا إلا هذا المعطف ، وأن يرد اللهُ لي بصري .
إخواننا الكرام ؛" لله ما في السموات وما في الأرض "، أنت ملكه ، وهو رحيم ، وهو رب كريم ، وحكيم ، وخلقك للجنة ، فإذاً أنت بين خيارين .
"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه "، فالأمر سيان .
في الجسم أمراض إنْ أظهرتها أو أخفيتها ، إن أبديتها أو أسررتها ،" يحاسبكم به الله".
أنت بين طريقين ؛ إما طريق الحمية والحبوب ، أو عملية جراحية ، وكلاهما على الله سهل ، "فيغفر لمن يشاء" ، للإقبال عليه ، "ويعذب من يشاء" ، للإعراض عنه ، يبعث له مشكلة ، "والله على كل شيءٍ قدير" ، على هذه قدير ، وعلى تلك قدير .
الطريق الأول : أولى وأجمل ؛ أن تأتيه طائعاً ، والأمر في متناولك ، صحتك طيبة سليمة ، وبيتك منتظم ، ودخلك جيد ، زوجتك كاملة ، أولادك ملاح ، وأنت بهذه الحالة الطيبة صلِّ وتُبْ وغض بصرك ، وحرر دخلك واضبط جوارحك ، واضبط سمعك وبصرك ، وأنت سليم صحيح الجسم ، وإلاّ إذا انحرفت فالله عز وجل يعرف كيف يداويك ، " وإن تبدوا " ، هذه الآية دقيقة ، هذه ملخص سورة البقرة كلها .
" لله ما في السموات وما في الأرض وأن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء "، الطريق السلمي أولاً ، بأنْ تأتيه طائعاً : أنا يا رب تبتُ إليك ، وأريد رضاك ، " ويعذب من يشاء " إذا غفلت عنه ، فعنده أساليب ترجعك قهرًا .
أمَّا "والله على كل شيءٍ قدير "، على هذه قدير ، وعلى العملية الجراحية قدير ، وعلى إعطائك برنامج حمية مع تناول حبوب قدير ، والأولى أهون ، فاحذروا يا أولي الألباب .
والحمد لله رب العالمين
تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي