المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تاريخ الاردن وعشائره / الحلقة الثانية لـ عويدي العبادي


م.محمود الحجاج
21-10-2009, 11:19
تاريخ الاردن وعشائره / الحلقة الثانية لـ عويدي العبادي
http://www.assawsana.com/assets/images/32140_20757.jpg




توضيح من المؤلف : د . أحمد عويدي العبادي
لقد طالعت باهتمام سائر المداخلات التي تم نشرها وارجو ن ابين مايلي :
1= ان مااقوم به من كتابة تاريخ الاردن وعشائره هو جهد فردي محفوف ضدي ورسالتي بكل المعوقات والمخاطر والتشويه والتشويش التي يمكن تصورها , ومنها شح المراجع مما يتطلب البحث الطويل . ومنها ضيق صدر الكثير باية كتابة مهما كانت . ومنها ان البعض اول مايبحث عن عشيرته فاذا لم يجد اسمهما شتم الكاتب والكتاب واختصر القضية الوطنية برمتها باسم عشيرته بدون تريث . ولو كنت ممن يغضبون بسرعة لاصابني الاحباط ولتركت هذه العملية برمتها , ولكنني اتحمل الجميع لانهم اهلي وعشيرتي ولهم علي واجب التدوين وكتابة تاريخهم .
اما الذين لايعجبهم الحديث عن الاردن والاردنيين فانهم يتهجمون علي وعلى منهجي الوطني ويعتبرونه عنصرية واقليمية . ولست ادري ماهي العنصرية في كتابة تارخ بلدي الذي احبه ؟.
ومن العوائق انني اخضع لحرب تشويهية ممنهجة شعواء منذ سبع وعشرين سنة من قوى سياسية واعلامية , وقوى رسمية او تستغل مواقعها الرسمية ومؤسسات الدولة لتشويه صورتي وابقائي في دوامة العواصف لايقاف مشروعي الوطني وهو الكتابة عن الاردن وارضه وشعبه وتاريخه . ومع هذا فانني اعرف ماذا اريد واعرف ماذا يريدون ومستمر برسالتي الوطنية باذن الله , وانصحهم ان يرتاحوا فالقافلة تسير رغم الرغاء والثغاء .
وحتى هذا الكتاب كتبته وانا بالسجن الذي وقع علي زورا وبهتانا وظلما فقط لانني احب وطني وابناء وطني وعبرت عن حبي لهم ودفاعي عنهم بالكلمة المكتوبة التي لاتنمحي بقرار ولا بنار او ركلة بسطار او قيد او زنزانة . وهذا الحب والانتماء هو من الكبائر في عرف البعض لانهم يريدون الاردن الذي يقولبونه ( من القالب ) كما يشاءون, ولكن بعدت عليهم الشقة . فهذا البلد له اهله ورجاله وحرائره حتى ولو ناموا كاهل الكهف او مكثوا مدة نومهم في السبات , فان سباتهم لابد وينتهي ذات يوم ولو بعد حين . ان ماتقراونه كتبته بالسجن دونما اضافات سوى تحريره وارساله الى الطباعة ووضعه بين ايديكم لتقراوا كتابا كانت كل كلمة فيه كتبتها وانا تحت اشد المعاناة والاذى والظلم والقهر , فقط لانني اردني واحب الاردن . ارجو ان تكون الرسالة قد وصلت .
2= كنت اتمنى على الاخوة العاتبين علي وهم من عشائر اردنية كريمة وعريقة , انني لم اذكر عشائرهم في الصفحات الماضية وانني اهتم بعشيرة او عشائر دون غيرها , ان يصبروا حتى يخرج الكتاب برمته , حينها سيجدون انني لم اترك شارة ولا واردة علمتها او وصلت الى علمي ووجدتها مناسبة عنهم وعن غيرهم الا وطرحتها بشجاعة . فهم في القلب كما سائر عشائرنا وهم مذكورون في القسم الثاني من هذا الكتاب وكتب اخرى صدرت واخرى لم تصدر بعد .
فالكتابة عن العشائر تحتاج الى الدقة والامانة والشجاعة , والا فانها ستكون متعذرة . وارجو ان نؤمن جميعا ان المعلومة الناقصة يمكن اتمامها , وان المعلومة الخاطئة يمكن تصحيحها , واما اذا لم يوجد اي شيء عنا كاردنيين فان جيلا سياتي ويقول لايوجد اردنيين . فالخطا والنقص خير من العدم . وان مانعانيه هو عدم التدوين عند السابقين وما قمت به انني حولت الروايات الشفوية الى شيء مكتوب ( ..... ) . كما انني اعتمدت المعلومات التاريخية والوثائق المتوفرة , ولكن المحزن ان كثيرا من عشائرنا لم يتحدث التاريخ والرحالة عنها, وبعضها ورد لماما وبعضها حاز على التفصيل . فاما من يرى ان ماكتبته بما يخص عشائره انه خطأ , فارجو منهم ان يتفقوا على شيء ويزودونني به فالناس امناء على انسابها , واذكركم بالمثل الاردني القديم :( القبور جذور ) .
3= من هنا فان كل عشيرة وعائلة اردنية وكل شخصية اردنية لها مواقف مشرفة هم جزؤ من تاريخينا ونعتز به ونفتخر به ,فانا مسلم عربي اردني , واعتز انني معاني وعقباوي وطفيلي وشوبكي وكركي وسلطي وعجلوني واربدي اللون حوراني وجرشي . واعتز انني حويطي وصخري وعدواني وبلقاوي وحميدي وحجوي ( الحجايا ) وعبادي وحسني ( بني حسن ) وسردي وسرحاني ومن العيسى والشرفات والعظامات والمساعيد ومن بدو الوسط ومن بدو الجنوب ومن بدو الشمال ومن فلاحي الشمال والوسط والجنوب والاغوار , وانني من اهل الجبل وانني رمثاوي . هذه الحالة التي وصلت اليها شخصيا لم تاتي عبثا بل جاءت عبر الزمن والتجارب ونضوج العقيدة السياسية واهمية الرسالة الوطنية التي يجب ان نحملها جميعا .
من هنا فانا عندما اكتب عن الجنوب او الشمال او الوسط او البادية او الغور او القراية فانني اكتب عن اهلي , ولا اشعر باي حرج ان احمل اسم اية عشيرة من العشائر الاردنية من الكرامة الى الكرامة ومن العقبة حتى الهضبة( من الغور للاجفور ومن الطرة حتى الدرة ) .
4= اما الاحبة العاتبون علي بحجة انني اهملت الحديث عن عشائر الشمال , فاقول لهم انني كتبت عن عشائر الشمال باستفاضة في كتابين صدرا لي وهما : العشائر الاردنية : الارض والانسان والتاريخ 2005 / منشورات دار المحتسب / شارع السلط , وفي كتاب اخر وهو عشائر الاردن 2005 منشورات الدار الاهلية / شارع السلط / ايضا. ولكن لاننا لم ننشر عن العشائر على المواقع الا لاول مرة فان القراءات كانت واسعة والحمد لله . ولو تم نشر الكتابين اعلاه على المواقع لقالوا لنا انك اهملت الوسط والجنوب واهتميت بالشمال . فاالعشائر الاردنية لايكفيها كتاب ولا اثنين ولا ثلاثة, وعندما صدرت تلك الكتب لم يكن يوجد مواقع الكترونية بعد لنشر هذه الكتب .
وايضا هناك تفصيلات عن عشائر الشمال كما الحال عن سائر العشائر الاردنية في كتابي بالانجليزية وهو التاريخ السياسي للعشائر الاردنية من 1500 ق . م -2010
Political History of Jordanian tribes 1550 b.c.-2010
بل ان هذا الكتاب الذي بين ايديكم يحوي في الجزء الثاني تفصيلات عن سائر العشائر من الشمال والجنوب والوسط والشرق والغرب ممن كانوا في الاردن قبل 1910.
4= نخلص الى القول : باننا جميعا ملزمون تجاه انفسنا ووطننا واجيالنا لتدوين تاريخنا ولا نترك هذا التدوين للاهمال , كما حدث سابقا , حيث تركناه للرحالة الاجانب او لطي النسيان . ومن اراد ان يزودني باية معلومات جادة موثقة فهذا عنواني البريدي وهاتفي , وعلينا ان نتعلم من انسابنا مانصل به ارحامنا فكلنا اهل رحم توثق عبر التاريخ . وعلى اية حال فقد حاولت كتابة تاريخ الاردن بما عرفته وبكل اخلاص واطرحه للنقاش للاستفادة من الملحوظات العلمية التي يمكن الاستفادة منها عند تحرير الكتاب في مرحلته النهائية للطباعة الورقية ان شاء الله . وانا ارحب بكل ملحوظة للاضافة او التصحيح او وضع معلومة جديدة موثقة . تعالوا نتعاون لنكتب تارخ الاردن لا ان ننتظر من غيرنا ان يكتبه فالتاريخ لمن يكتبه .

***************

الباب الثاني
الممالك الأردنية القديمة
قامت على الأرض الأردنية عدة ممالك قبل الميلاد وبعده، وقد أشارت إليها أسفار العهد القديم بشكل موسَّع في كثير من الحالات، حسبما كان يتطلب الأمر بالإسرائيليين من عداوة أو حرب أو تحالف أو قوة أو ضعف. وتنتسب الممالك القديمة إلى شعب عربي واحد، وتتكلم لغة عربية واحدة، وهم شعب العموريين الذين هم أشقاء الكنعانيين، فسكن العموريون في الأردن، واتخذ الكنعانيون فلسطين بلداً لهم وسمِّيت أرض كنعان، بينما سُمِّيت الأردن تحت عنوانين عدة ، حسبما نجده في أسفار العهد القديم نفسها: الاسم العام هو بلاد عبر الأردن Trans Jordan ، والاسم الخاص هو المناطق الجغرافية وهي موكونات البلاد التي قامت بها هذه الممالك، وسمِّيت كل مملكة وشعبها باسم تلك المنطقة مثل الأدوميون (نسبة إلى أدوم) والمؤابيون (نسبة إلى مؤاب)، والحشبونيين (نسبة إلى حشبون ـ حسبان الحالية)، والعمونيون (نسبة إلى ربة عمون ـ عمان الحالية). والباشانيون (نسبة إلى باشان وهي بيسان الحالية). ومملكة الأنباط نسبة إلى اسمهم وليس إلى اسم المكان.
جاءت هذه القبائل العربية مهاجرة من جزيرة العرب وحطّت رحالها في أرض الأردن واستوطنت كل واحدة منها دياراً يفصلها عن الأخرى معالم طبيعية مثل وادي الحسا، وادي الموجب، وادي الزرقاء، وادي اليرموك وقد كانت علاقاتهم ودية، ويتناسون ما كان يحدث بينهم من صراع او حروب إلا في فترات متأخرة. وقد ظهرت هذه القبائل بالأردن منذ حوالي ألفي سنة قبل الميلاد، في وقت واحد تقريباً.
أولاً: الأدوميون: الذين كانت عاصمتهم بصيرا في محافظة الطفيلة الحالية، وقد ظهرت في الجزء الشمالي للمملكة العربية الأردنية مديان التي كانت تمتد جنوباً في شمال جزيرة العرب. وملك الأدوميون الشراة ووادي عربة والبادية الشرقية، وخليج بحر القلزم (أيلة/ العقبة الحالية) وساحل البحر الاحمر إلى الجنوب. وكانت لهم قوة برية وبحرية، ويستفيدون من القوافل التجارية والثروة الزراعية والثروة الرعوية التي سبق وأشرنا أنها ضايقت الفرعون المصري رعمسيس الثالث في فترة متأخرة من عهد المملكة الأدومية.
كان لهم علاقات وطيدة مع مملكة مصر باعتبار أن ملوك وفراعنة مصر، كانوا يهتمون بحدودهم الشرقية من بلاد كنعان (فلسطين) وبلاد عبر الأردن (حيث تجاورهم مملكة أدوم) إلى درجة أن الملك الأدومي هدد الثالث لجأ إلى ملك مصر وتزوج أخت الملكة ثم عاد وحرر بلاده من الاحتلال الإسرائيلي فيما بعد، كما سبق وأشرنا في الباب الأول.
كانت هذه المملكة تتألف في تركيبها السكاني من قبائل، ولكل قبيلة شيخ يعتبر هو زعيمها، ولهؤلاء زعيم يعتبر شيخ المشايخ، وتطوّرت الأمور بعد الاستقرار أن صار الشيخ الأعلى ملكاً للبلاد، يقود الجيوش بالمعارك، وله إدارة الدولة والعشائر، وكانت مملكة جيدة التنظيم، ونظام الحكم فيها وراثي في الذكور، ولم نجد من الاناث من صارت عليهم ملكة. ومن الملوك الذين وصلت أسماؤهم إلينا: / حدد الأول وهو أهمهم، وهدد الثاني، وهدد الثالث ثم الملك قوص الذي حكم في حوالي عام 732 ق.م وأياراموا (701 ق.م)، وقوص جبار (الذي جاء بعد ذلك).
ثانياً: المؤابيون: وهي مملكة شهيرة كانت عاصمتها ديبون شمال وادي الموجب، ثم انتقلت إلى قبر حارسة (أي الكرك) زمن الملك ميشع. وقد وصلت مملكة مؤاب إلى درجة عالية من الرقيّ والقوة والبناء والاستقرار، ورغم أنهم رفضوا عبور بني إسرائيل من خلال مملكتهم إلا أنهم فعلوا ذلك بطريقة دون إثارة الغزاة الإسرائيليين، وسلموا من الأذى، بعكس ما كان عليه ملك سيحون الذي لقي وشعبُه الإبادة الكاملة كما يقول العهد القديم .
كان الإله لكموش أهم إله عند المؤابيين، وكان ميشع أعظم ملك من ملوكهم الذي دوّن انتصاراته وإنجازاته على حجر ذريبان كما أشرنا في الباب الأول. وقد تعاقب على احتلالها فيما بعد كل من الآشوريين، والبابليين، وصارت مملكة مؤاب ولاية بابلية زمن الملك نبوخذ نصر، ولا بد من الإشارة هنا إلى بالاق بن صفور ملك مؤاب ( قبل ميشع بخمسة قرون تقريبا ) زمن العبور الإسرائيلي للأردن ودوره في مقاومة العبرانيين وتحالفه مع ملوك مديان الخمسة.
ثالثاً: العمونيون: حيث استقروا في ربة عمون (عمان الحالية) ولا تزال آثارهم قائمة حتى الآن في جبل القلعة رغم ما تعاقب عليها من الدول والحضارات بالتعديل والإضافات. وقد حرر العمونيون بلادهم من الاحتلال الإسرائيلي وطردوا الإسرائيليين إلى بلاد كنعان (فلسطين). وقد قاد حرب التحرير هذا ملكهم ناحاش العموني، حتى إذا ما صار داود ملكاً انقلبت الموازين وقام في حوالي 1000 ق.م بالهجوم على كل من مؤاب وأدوم، ثم في عام 995 ق . م . جرد الملك الاسرائيلي طالوت حملة على عمون زمن الملك العموني حانون بن ناحاش . ومن ملوك العمونيون أيضاً حنون، شوبي، روحوبي، بعثا، شانيب، زاكير.
وقد تحدث العهد القديم طويلاً عن عمون، حيث كان ملوكها حريصون عليها، وعلى عداء سافر مع بني إسرائيل، منذ أن صار طالوت ملكاً، وفصل بجنوده لمحاربة جالوت ملك عمون، وكان داود أحد الجنود/ أو القادة مع طالوت، وشاء الله أن يقتل جالوت، وقد قصَّ القرآن قصّتهم أيضاً. وفصّلناه في جزء: التاريخ السياسي للعشائر الأردنية (من هذا الكتاب ) باللغة الانجليزية .
وقد حدثت صراعات دموية ما بين مملكتي عمون وباشان (شمال الأردن) وكانت النتيجة انتصار عمون في فترة من الفترات على باشان التي كانت (أي باشان) أكثر جيشاً وسكاناً ومساحة وموارد من عمون. ويذكر سفر التثنية الأصحاح الثالث أن السرير الحديدي للملك أوغ (عوج) كان موجوداً في حوالي عام 1200 ق.م في قلعة ربة عمون. مما يعني بالنسبة لنا انتصار عمون على باشان انتصاراً وصل حدّ جلب سرير الملك نفسه. ويعني أيضاً أن غنائم ذات أهمية تم الحصول عليها في تلك الحرب.
وعندما قرر زعماء الأسباط، وهو ما يدعيه كتاب العهد القديم , أقول قرروا اعتبار الأراضي الأردنية من الغنائم التي يجب توزيعها على أسباطهم، أخذوا مساحات شاسعة من أراضي مملكة عمون مما يلي نهر الأردن من جهة الشرق , واحتلّوها لسبط جاد. أما بعض الإشارات في أنهم احتلّوا مملكة عمون برمتها في فترات متقدمة (أي 1200 ق.م وما بعدها) فهو أمر مستحيل، ذلك أنها كانت مملكة قوية، وأراضيها شاسعة وكان بنو إسرائيل قد أنهكتهم الحروب مع الشعب الكنعاني وسائر الممالك الأردنية الأخرى، وبالتالي كان احتلالهم مقتصرا على اجزاء سهلة مثل منطقة الزور (حول الشريعة/ نهر الأردن)، وحتى أقدام مرتفعات السلط. واما ماوراء ذلك فالأراضي وعرة وهي ليست موقعاً مريحاً للمعارك بالنسبة لهم.
ورغم ادعاء الإسرائيليين في العهد القديم ، أنهم احتلوا أراضي من ممالك مؤاب وعمون وباشان من عروعير وهي مدينة مطلّة على نهر الموجب إلى الجنوب من ذيبان، وعلى الحافة الشمالية لوادي الموجب، إلى جلعاد وهي إلى الشمال الشرقي من السلط وهي أرض وعرة وتكسوها الغابات وتصلح لحرب العصابات التي يتقنها أهل البلاد أكثر من المحتلين، إلى باشان في غور الأردن، أقول رغم هذه الادعاءات إلا أن الحقيقة لا يمكن أن تكون بهذا الشكل إطلاقاً، وهو مخالف للذوق والمنطق وسياق التاريخ .
فعروعر عبارة عن جيب عميق داخل مملكة مؤاب، ولا يمكن أن تقف مؤاب مكتوفة الأيدي أمام قطعها إلى جزئين شمالي وجنوبي، وبالتالي فإن هذه المعلومة لا تتفق مع التاريخ، ولا مع عقلية ملوك وشعب مؤاب في حينه. إذ يتعذر التصديق أن تعجز مملكة مؤاب القومية عن دحر جيب إسرائيلي لا يحتاج لكبير عناء لطرده منه. ولكن يمكن أن تكون مقدمتهم وصلت إلى هناك وتم القضاء عليهم، فأعرضوا صفحاً عن ذكر خسائرهم وهزيمتهم وادعوا احتلال عروعير والاقامة فيها .
أما بالنسبة لجلعاد، فهي أكثر وعورة وصعوبة على الاحتلال الإسرائيلي من عروعير، ذلك أنها أيضاً جيب في مملكة عمون . فالسلط وما حولها وزي كلها عمونية آنذاك، ولا يمكن أن تكون للإسرائيليين قدرة التسلل إلى جلعاد والبقاء فيها وسط مملكة كانت قوية، وانتصرت قوّة على مملكة باشان أوسع وأقوى الممالك الأردنية آنذاك. وبالتالي يصبح كلام العهد القديم هنا مشابهاً لما هو عن عروعير، إذ حاولوا وفشلوا، وهذا الذي يبدو واضحاً بالنسبة لنا والله أعلم.
وحول اصطلاح جلعاد في التوراة لا بد من القول أنه أوسع من مفهومنا الحالي، فقد كانوا يطلقون كلمة جلعاد على الأرض الممتدة من نهر اليرموك إلى وادي السلط، وقد ذكر ذلك بالتفصيل الرحالة البريطاني اليهودي لورنس أوليفنت في كتابه: أرض جلعاد The Land of Gilead . الذي ترجمته شخصياً إلى اللغة العربية وتم نشره.
من هنا، فإن وادي اليابس في شمال الأردن كانت بالنسبة لهم جزءاً من جلعاد، وقد ذكر سفر صموئيل الأول الأصحاح الحادي عشر (11) حادثة في منتهى الأهميّة تبيّن قوة مملكة عمون وملكها ناحاش في حوالي عام 1050 ق.م. إذ قام ناحاش بالهجوم على (يابيش جلعاد أي وادي اليابس)، حيث لم تذكر المصادر الاسرائيلية نوعية وهوية هؤلاء السكان، إن كانوا من بني إسرائيل أم من مملكة باشان باعتبار الموقع يدخل في حدود هذه المملكة الشمالية.
أعلن السكان رغبتهم بالسلم، فوافق ناحاش شريطة أن يقلع عين كل شخص من السكان من اهالي يابش ( وادي اليابس ) ، ولا شك أن ذلك ربما كان لإظهار هيمنته وجبروته من جهة، ولتقليل مهارتهم وقوتهم الحربية المستقبلية من جهة أخرى. تقدم شيوخ يابيش من ناحاش بطلب مهلة سبعة أيام للإجابة، وكان مغزاهم من ذلك البحث عن نجدات. والغريب العجيب أن ناحاش وافق على طلبهم دون ان يفكر في خطورته عليه وعلى جيشه . فأرسل الشيوخ إلى شاؤول ملك اليهود آنذاك في فلسطين يطلبون منه النجدة. وطلب إليهم أن يعدوا ناحاش أنهم سيستسلمون له في اليوم التالي، وذلك لإعطاء جيشه فرصة للوصول إلى المكان قبل الاستسلام. وصادف أن استرخى ناحاش، وتأخر في الهجوم فباغته شاؤول وهزمه هزيمة منكرة.
من الواضح أن الجبروت والغرور الذي هيمن على ناحاش قد أودى به إلى هذه النتيجة. وبعد حوالي خمسين عاماً أي حوالي 1000 ق.م توفي ناحاش، وخلفه ابنه حانون، ذلك أن نظام الحكم كان ملكياً وراثياً في الذكور من الأبناء. وفي الوقت الذي كان ناحاش يتميز غيظاً على شاؤول الذي هزمه، كان ودوداً مع داود الذي كان عدو شاؤول الذي كان يطارد داود، فالتقت المصالح بين ناحاش وداود على المحبة أمام عدوّ واحد وهو شاؤول.
عندما مات ناحاش وتسلّم ولده حانون كما قلنا (سفر صموئيل الثاني الأصحاح العاشر)، أرسل داود وفداً رفيع المستوى من أتباعه لتعزية حانون بوفاة ناحاش إلى ربة عمون (قلعة عمان الحالية) إلا أن الحكمة والصواب جانب حانون، تجاه صديق والده، كما جانب والده ناحاش تجاه عدوهما شاؤول، إذ خضع حانون لرأي مستشاريه التنابلة من حوله من رجال الدولة بأن نوايا داود ليست شريفة، وأن هذا الوفد لم يأت للتعزية وإنما للتلصّص على عورات العمونيين، وجمع المعلومات وبالتالي الهجوم على مملكة عمون مستغلاً حزن الشعب على ملكهم الراحل ناحاش. ولسوء حظ هذه المملكة أن الملك حانون اقتنع برأي هؤلاء المستشارين.
وبناء عليه، أمر حانون بأخذ وفد داود وإهانتهم وحلق نصف لحاهم، وقصّ ثيابهم من الوسط في الجهة الخلفية حتى أستاهم. وكانت هذه في عادات العمونيين نمطاً من التحقير والإهانة السائدة آنذاك. وأرسلهم عائدين إلى داود في حال من المهانة أثارت غضب داود وانسته حسنات ناحاش أمام سوء تصرف ولده حانون. وقام داود بتجهيز جيش لَجْبٍ ونصّب يؤاب قائداً له، وقد أعطاه الأوامر الواضحة في الانتقام شرّ الانتقام من عمون ملكاً وشعباً وملأً (الملأ هم كبار رجال الدولة).
هنا شعر حانون أن مستشاريه قد أساءوا الرأي، فأرسل إلى حلفائه السوريين للنجدة أمام جيش يؤاب ، وجمع العمونيون وحلفاؤهم قوات كبيرة للقتال، وعسكروا حول قلعة ربة عمون. فوجد يؤاب الاسرائيلي نفسه في وضع لا يحسد عليه أمام جيش قوي من الحلفاءمن الممالك الاردنية, فقسّم جيشه إلى قسمين لمجابهة هذا الموقف. وكان النصر حليفه، وألحق بأعدائه هزيمة منكرة ألجأتهم إلى داخل أسوار قلعة عمون. واكتفى يؤاب بذلك، وهو يخشى أن تكون هذه خدعة لإبادة جيشه، فعاد إلى القدس ليخبر سيِّده بما حدث، بينما سلم الجيش العموني والسوري من الإبادة، وإن كانوا ذاقوا الهزيمة . والهزيمة لا تعني القتل وإنما الصمود هو الذي يعني ذلك.
غضب داود لعدم احتلال قلعة ربة عمون وعاصمة المملكة العمونية، فأرسل يؤاب مرة أخرى على رأس جيش لاحتلال ربة عمون، ولكنه لم يستطع الاستيلاء عليها، لمنعتها من جهة، ولتوفر المياه من جهة أخرى من خلال الخزانات، ومن خلال السراديب الأردنية السرية إلى رأس عين عمان. كان طول الحصار لصالح العمونيين وضدّ الإسرائيليين حيث اضطر يؤاب أن يحقق شرفاً كبيراً على أثر مقتل القائد المعروف يوريا الحثي، أحد قادة الملك داود الذي يقال ان داود تزوج امرأة ذلك القائد، وأنه أرسله للموت لهذه الغاية حسبما تذكر اسفار العهد القديم . فطلب يؤاب النجدة من داود الذي حضر هذه المرة بنفسه على رأس قوات كبيرة، وقام باحتلال عمون، ووصفها بأنها مدينة ملكية، وأنها مدينة المياه، وانبهر داود المحتل بتاج الملك ووضعه على رأسه، وكان تاجاً من الذهب مرصّعاً بالحجارة الكريمة، وكان الإله المعبود لدى عمون آنذاك هو ملكوم Malkoom
ولم يقتصر داود ( الذي كان نبيا وملكا ؟؟؟ ) في فعله على ذلك، بل نهب غنائم كثيرة وعامل العمونيين بمنتهى الوحشية، ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد وفؤوس وزجَّ بهم في أتون الأجر/ اي في افران النار المشتعلة , فأحرقهم جميعاً (سكان عاصمة العمونيين) وقام بتخريب المدينة ثم عاد إلى القدس.
استطاع العمونيون أن يلعقوا جراحهم، وتم تنصيب الامير شوبي وهو أحد أبناء الملك ناحاش ملكاً عليهم، لأنهم خسروا بسبب سوء سلوك وتصرف ملكهم حانون الذي أثبت عدم قدرته على الحكم بسبب رعونته وطيشه وخضوعه لسيطرة مستشاريه. ولحسن حظ الملك شوبي أن اندلع حرب بين الملك داود وابنه أبشالوم، فانتهزها شوبي مناسبة وصار يمدّ داود بالسلاح الحربي المصنع حديثاً، والأسرّة، وعزّز موقف داود الذي حفظ الود لعمون، ولم يفكر ثانية في العودة إليها أو تخريبها هذه المرة، إذ لولا الإعانات العمونية لما تمكن داود من قهر ولده أبشالوم.
وإذا صحّ ما ذكرته اسفار العهد القديم ، فإن زوجات الملك سليمان بن داود الغريبات ومنهنّ من عمون قد وضعن بموافقته هياكل لعدو من الآلهة الوثنية في منازله، ومن بينها الإله ملكوم، إله عمون، إلا أنني أشكّك بهذه الرواية التي وردت في : (سفر الملوك الثاني/ الأصحاح 23)، والتاريخ حوالي 940 ق.م. وقد بقيت عمون شوكة في خاصرة الإسرائيليين وعجزوا عن تدميرها أو احتلالها بعد داود. فلجأوا إلى تخويفها عبر الحرب النفسية عن طريق أنبيائهم الذين صاروا يتنبأون بدمار عمون.
ففي سفر عاموص (1: 13) حوالي 670 أي بعد مائتي عام ونيف من انتهاء حملة داود عليها، كما ذكرنا أعلاه. تتنبأ عاموص ضد عمون، واتهم العمونيين أنهم يسلكون مسلكاً وحشياً في حروبهم، وتوعَدهم بنيران على أسوار ربة عمون عاصمتهم تأكل (أي النيران) قصورهم، وأنه سيتم أخذ ملكهم وأمرائهم أسرى. ولكن شيئاً من هذا لم يتحقق بل بقيت عمون تبني قوتها وتزدهر على أحسن ما يكون.
واستمرت هذه النبوءات الكاذبة. وفشلت الحرب النفسية التي استمرت لأكثر من نصف قرن، حتى إذا ما حلّ القرن السادس قبل الميلاد نجد النبي أرميا يقول أن ملكوم إله عمون قد تملّك سبط جاد الإسرائيلي، وذلك يعني أن عمون حررت الأرض من سبط جاد، واستعادت الأراضي إلى حظيرة الدولة العمونية. ورمى عاموص نبوءة قال فيها: أن عمون ستتحول إلى تلٍّ خارب، وسوف تُحرق بناتها (أي قراها) بالنار، وأنها سترتدي السواد. وأن ملكوم سيذهب إلى السبي، وسيتم طرد كل رجل دونما امهال .
إلا أن نبوخذ نصر الذي ظهر في فترة نبوءات أرميا، لم يتجه نحو عمون لتدميرها، لأن عمون قد سبقت إليه، وطلبت محالفته ومؤازرته وساهمت في إبغار صدره ضد المملكمة العبرية في القدس. وكان عدم تحقق النبوءات صفعة للإسرائيليين حقاً، حتى إذا ظهر النبي حزقيال حوالي 588 ق.م استنأنف الحرب النفسية ضد عمون ، من حيث توقف أرميا، وادّعى حزقيال أن نبوخذ نصر سيدمر عمون، بحيث لا تجد من يذكرها، وأن نبوخذ نصر سيصل إلى مفترق طرق إما إلى القدس أو عمون وأنه سيختار الذهاب إلى عمون لتدميرها.
ويبدو أن سوء الطالع لم يحالف ربة عمون، بل حالف القدس، إذ وضع نبوخذ نصر اسم المدينتين كل منهما على سهم. إلى أيهما سيذهب، وهو عادة ضرب القداح، فبرز سهم القدس، وبذلك فشلت نبوءة حزقيال، وأنقذ الله ربة عمون، وتوجه نبوخذ نصر إلى القدس حيث نكب اليهود نكبة تاريخية ذكرها القرآن الكريم في سورة الإسراء ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) [الإسراء:4 , 5 ] .
وهنا قامت الأفراح والليالي الملاح في عمون بسبب نكبة اليهود هذه على ايدي الملك العربي الاشوري نبوخذ نصر ، الأمر الذي أغضب النبي حزقيال ووصف العمونيين بأنهم "يصفقون بأيديهم ويدقون بأرجلهم له. وقد تنبأ لعمون : ( أنها ستكون اصطبلاً لجمال البدو الذين سيغزونها ويدمرونها ) وقد عاد نبوخذ نصر إلى بلاده، ونصّب بعده على اراضي مملكة بني اسرائيل المحتلة وعاصمتها اورشليم القدس , اقول نصب والياً بابلياً تابعاً له وهو: جدلياً. وهنا حدث أمر مفاجئ لم تذكر المصادر التاريخية سبباً أو مبررات له، وهو أن ملك عمون الجديد. بعليبس أغرى إسماعيل اليهودي بقتل جدليا الوالي البابلي بالقدس المعين لحكم فلسطين حسبما ذكر العد القديم في سفر أرميا (40: 14).
وفي رأينا أن هذه قصّة مختلفة من قبل اليهود في محاولة لإيغار صدر نبوخذ نصر ضد عمون، وإلا ما هو المبرّر بقتل جدليا الحليف القوي لعمون والذي سام اليهود خسفاً وصارت الحدود الغربية والجبهة الغربية لعمون آمنة ووادعة؟ أكرر القول أن هذه قصة مختلفة في حينه لغايات الفتنة انذاك بعدما فشلت جميع محاولات ونبوءات ودعاء انبياء بني إسرائيل على عمون والتمني بدمارها، والتي لم تزدد إلا ازدهاراً وإعماراً . ويبدوا أن صمت العهد القديم عن ذكر عمون بعد التحدث عن هذه المؤامرة كان نمطاً من تجنب إدخالها التاريخ، ولا بد من انتظار الحفريات الأثرية لتغطية هذه الفترة من القرن السادس إلى الثالث قبل الميلادي.
تعود عمون ثانية الى في التاريخ إلى مسرح الأحداث في القرن الثالث قبل الميلادي بعد سباق قد تظهر عنه معلومات بعد إجراء الحفريات والدراسات. ولكن هذا الظهور يبرهن على أن عمون استطاعت البقاء، واستمرت بالعمران، وذلك ما يظهر عام 300 ق.م عندما احتل اليونانيون هذه المملكة ضمن احتلالهم للأردن وسوريا. وقد أولاها اليونانيون أهمية كبرى، إذ صارت من ممتلكات بطليموس المصري خلال جزء من القرن الثالث قبل الميلادي. حيث أعيد بناؤها، وأطلقوا اسماً جديداً عليها وهو: فيلادلفيا بدلاً من ربة عمون. وأما الاسم الجديد فهو مشتق من اسم بطليموس فيلادلفوس الثاني (383-346 ق.م).
ازدهرت ربة عمون في الفترة اليونانية أيّما ازدهار، وصارت إحدى تحالف المدن العشرة وغالبيتها في الأردن، وكان تحصينها ضرورة أمنية للإمبراطورية لتكون قادرة على مواجهة الموجات اليدوية القادمة من الصحراء. حيث تعلَّم اليونانيون الدرس في أنهم قادرون على حصار المدن والقلاع واحتلالها، لكنهم غير قادرين على القضاء على البدو أو منع هجماتهم. كما أن اختلاف الثقافة والأساليب الحربية والطبيعة الجغرافية وسرعة الحركة تجعل هؤلاء البدو الأقل تسليحاً، أكثر قدرة على التكتيك والهجوم والهروب والنهب والسلب والتدمير بما يستعصي على جيش نظامي مقيم. كما أن أسلوب البدو يجعل من كل واحد منهم جندي مقاتل أو غازٍ ناهب، أما أسلوب الدولة فإن القتال محصور في الجنود والحامية المرابطة.
حدث صراع بين الجناح المصري والجناح السوري للإمبراطورية اليونانية بين أتباع بطليموس في مصر، والسلوقيين في سوريا، الذين رأوا أهمية ربة عمون، وضرورة السيطرة عليها، لحرمان مصر من مخفر متقدم في خاصرة بلاد الشام من جهة، ولتكون مخفراً متقدماً للسلوقيين ضد المصريين والبدو على حدٍّ سواء من جهة اخرى . فقام الملك أنطيوخس الثالث ( الجناح السوري ) بقيادة جيش كثيف وضرب حصاراً طويلاً على قلعة ربة عمون، أدى إلى احتلالها في نهاية المطاف.
ولكن ذلك الاحتلال كان لخيانة احد الأسرى العمونيين بسرّ البقاء الطويل والصبر على الحصار ، وهو توفر الماء، فدلّهم على وجود نفق سري بين القلعة ونبع الماء في أسفل الوادي، وعندما عرف اليونانيون السرّ عمدوا إلى مصدر الماء فقطعوه ، فاستسلمت المدينة، ولولا ذلك لباء الحصار بالفشل. كما كان فيها مصادر أخرى من البرك والخزانات التي تستخدم للطوارئ. كان ذلك الاحتلال البطليموس عام 218 ق. م. وبقي اليونانيون في عمان مدة تقارب مائة عام بعد هذا الاحتلال , حتى طردهم منها الأنباط.
استولى الأنباط على عمان في القرن الأول قبل الميلاد، إلا أن اليونان جُنّ جنونهم لما حدث، فقام الإمبراطور اليوناني هيرودس الكبير وشنّ حملة هوجاء، واستطاع بعد صراع طويل إخراج الأنباط منها عام 30 ق.م حتى إذا ما حلّ الرومان مكان اليونان انتقلت ربة عمون ومملكتها إلى ملكية الرومان الذين أزالوا غالبية البناء القديم وأعادوا بناء المدينة، حتى إذا ما صارت المسيحية الدين الرسمي لروما، صارت عمان مركزاً لأبرشية مسيحية هي: أبرشية البتراء وفيلادلفيا، وكانت تابعة لأبرشية بصرى في حوران.
واستمرت عمان بالازدهار حتى جاء نور الإسلام يحمله جنود الله من رجال الفتح الإسلامي المظفر في القرن السابع الميلادي، وصارت عمان ترد في كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين، وقد أوردنا ذلك مفصّلاً في كتابنا: الأردن في كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين.
ولا تزال آثار الدول المتعاقبة موجودة في عمان حيث تدل على أن الإنسان العموني الأردني استطاع التكيف مع جميع الدول رغم تباين اتجاهاتها وأساليبها، وعمل على إعمار بلده، وأن نُسِبَ هذا الإعمار للدول التي حكمت الأردن، فالمدرج العموني سمي المدرج الروماني نسبة للعصر الذي بني فيه، وليس لأن بناته كانوا من الرومان. فلا شك أن عملاً هائلاً كهذا يحتاج إلى أيدي عاملة وعمال مهرة هائلة يتعذر جلبها من روما، وإنما من عمان نفسها وما حولها. وتوجد مقاطع حجارة من نفس النوعية المستخدمة في بناء القلعة والمدرج. وقد عاينت بنفسي عدة مواقع منها في ياجوز، وأخرى على طريق ناعور عند خروجها من رأس العين، وأخرى في الضاحية الجنوبية الغربية لعمان. وقد تم طمس الكثير من معالم هذه المحاجر بسبب العمران، أو بسبب استخدامها كسَّارات في الخمسينات حتى السبعينات من القرن العشرين، حيث كانت الحصباء تستخدم للبناء في عمان، ثم انتقلت مواقع الكسارات الى شرقي عمان. بعد ان تجولت في العديد من الواقع عبر القرن العشرين , وانزاحت امام تمدد العمرن والمدينة
ومن المدرجات الأردنية التي أُنشئت بالأردن في زمن الاحتلال الروماني هي: اثنان في عمان وثلاثة في جرش واثنان في بلا (طبقة مُحل)، واثنان في البتراء، واثنان في جدارا (أم قيس). فيكون عددها أحد عشر مدرّجاً. ولا شك أن إنشاءها ينمّ عن فترة ازدهار حضاري واستقرار أمني وتكاثر سكاني ويدل على أن الإنسان الأردني إذا ما شعر بذلك أبدع أيّما إبداع، وأن العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم كانت غير عدائية على الأقل. وإن وجود قاعات للموسيقى، وأخرى للمسرحيات برهان على التقدم الذي شهدته الأردن في فترة الحكم الروماني المتقدمة.
وإن حمام الحوريات على الضفة الشمالية لسيل عمان ليدل على قدر عظيم من الفخامة، وإن أصبح بالياً في معظمه مع الدهر. وإن الرحالة الأجانب الذين زاروا عمان في القرن التاسع عشر الميلادي تحدثوا عن شبكة هائلة من القنوات المائية تحت الأرضية، ونقل الماء بالأسطوانات الفخّارية على الطريقة النبطية. إلا أنهم جميعاً ينكرون نبطيّة هذا الأسلوب، ويعزونه دائماً إلى حضارتهم الغربية وهي روما. كان الرومان لصوص مهرة يسرقون جهود الاردنيين وينسبونها الى انفسهم .
كان نهر عمان الذي صار سيلاً ثم تحول الآن إلى مجرى للمياه العادمة، أقول كان مسقوفاً في الحقبة الرومانية وذلك لحماية مجرى الماء من التلوث، وحماية البساتين من الفيضانات، وليكون ذلك جزءاً من تنظيم المدينة، ولم يصل إلى القرن العشرين إلا بقايا قناطر تهدمت أيضاً بسبب الحركة البنائية في هذه المدينة بعد أن تحولت إلى عاصمة للبلاد. وكانت شوارع عمان مبلطة ومحاطة بالأعمدة القائمة,حيث تحدث عنها الرحالة، وعثر عليها الناس عندما شرعوا في البناء في منتصف القرن العشرين.
ومن الملفت للنظر أن الأردنيين قد اتخذوا أسماء أخرى غير العربية مضافة إلى أسمائهم العربية المحلية، وذلك في كل حقبة، ففي العهد اليوناني نجد أسماءهم تحمل الأسماء اليونانية لأنها اللغة الرسمية والتدوين صار بها وبالتالي قد نعرف الاسم العربي للشخص، وقد لا نعرف كما أن الكتابة كانت باليونانية كلغة رسمية أيضاً. فمثلاً نجد الشاعر العربي المدفون في أم قيس مكتوب على ضريحه: إليك أقول أيها المارّ، كما أنت، كنت أنا، وكما أنا تصير أنت، فتمتع بالحياة كأنك تموت غداً، من نظم الشاعر أرابيوس (355م).ومن الملاحظ ان اسمه من مقطعين هما : اراب / ارابي وتعني العربي او عرب , واما المقطع الثاني فهو مقطع النسبة وهي وس في اللغة اليونانية، والكلمة تعني العربي . وكان في أم قيس معاهد للعلم والأدب تخرج منها شعراء أردنيون منهم الشاعر ملياجر. وكانت إحدى المدن العشرة (الديكابوليس).
وتعود إلى المملكة العمونية التي اندرج أهلها ضمن موجات الحكم المتعاقبة إلى أن جاء الفتح الإسلامي فالتحقوا بعروبتهم حكاماً ومحكومين وخلعوا عبادة آلهة الوثنية، واعتنقوا الإسلام والتوحيد، واندمجوا في أسماء عشائر جديدة، لا زالت هنا وهناك في شتّى بقاع الأردن. وهنا تنطبق عليهم صفة هامة من صفات الشعب الأردني ألا وهي التكيف مع الأوضاع الجديدة من أجل البقاء والاستمرار.
وكما وقع الظلم على الشعوب الأردنية، وصار المؤرخون يتحدثون عن الرومان مع نسيان هذا الشعب وعن اليونان والصليبيين والأتراك , مع نسيان الاردنيين وكذلك الكلام عن المحتل او الحاكم مع نسيان دور الشعب الاردني , فإن الأمر نفسه لا زال يتجاهل الحديث عن وجود شعب اسمه : الأردني، مع تجاهل إنجازاته الحقيقية ونهضته العلمية والعمرانية وانتسابها لأشخاص محددين أو لأناس من غير الشعب الأردني. وبهذا ينطبق المثل القائل: نحن في الأردن مثل خبز الشعير مأكولين ومذمومين. وأيضاً المثل القائل: ملحتنا ما تبلغ ـ أي لا أحد يحترم العيش والملح الذي يتناوله في ديارنا.
ولا بد من الحيث عن عمون بخاصة، والأردن بعامة في فترات سبقت وجود العمونيين في الديار الأردنية، حيث غشيها الهكسوس، وهم ملوك الرعاة الذين كان الحصان، والعجلة التي يجرها الحصان وسيلتهم في الحركة والحرب، وبذلك كانوا متفوقين على الآخرين بهذا السلاح الذي يعتبر في حينه أمراً يفوق التصوّر والإحاطة به. وقد تقدم الهكسوس وحارب قبائل البدو، ولم يتمكن من السيطرة على الأردن، وإنما اكتفى بممر واسع له وهو قادم من الشمال إلى الجنوب، بينما بقيت أجزاء الأردن الشرقية تحت حكم القبائل البدوية. وصل الهكسوس إلى مصر وحكموها، وكان من أولوياتهم الحفاظ على بادية الأردن لأن حكام مصر عبر التاريخ يعتبرونها بوابة الفناء للاننظمة في مصر ، لأن أغلبية من حكم مصر أو احتلها جاء من البوابة الأردنية أو الفلسطينية
واعتقد بعض الباحثين أن الأردن لم تكن مأهولة في فترة الهكسوس وهي من 2100-1500ق.م. وذلك بسبب تحولها إلى جبهة عسكرية تحمي البوابة المصرية الشمالية من هجمات البدو والامم الاخرى التي قد تطمع في السيطرة على مصر . وبذلك صارت مصر بالنسبة لبدو الاردن زمن الهكسوس مصدر رزق واعاشة ومراعي لمواشيهم , في الوقت الذي التزم هؤلاء البدو بعد الاغارة على مملكة الهكسوس . وبذلك ادى التفاهم بتبادل المنافع والسلم بين الطرفين . فعاش الطرفان كل منهما غير قادر على القضاء على الآخر او ترحيله من الارض . من هنا كان العيش المشترك على هذه الأرض التي انقسمت انقساماً طولياً غربي ( مصر وفلسطين ) مع الهكسوس، وشرقي ( بلاد الاردن / ادوم ) مع البدو.
وبقيت الفكرة الخاطئة بخلوّ البلاد من السكان عن الفترة أعلاه، قائمة حتى عام 1955 م عندما تم اكتشاف هيكل صغير خلال أعمال الإنشاءات في مطار عمان/ ماركا. ويحتوي الهيكل على مقادير كبيرة من الأواني الفخارية والأدوات الأخرى، ومنها أواني فخارية مستوردة من اليونان وقبرص، ومزهريات حجر مصرية، ومثل هذا يدل بل ويبرهن على أن عمان، وبالتالي الأردن كانت مأهولة بالسكان المتحضرين في الفترة الطويلة التي يعتقد البعض انها كانت خالية من السكان , بل وتدل هذه المخلفات الاثرية أن تزاوجاً بين المحتلين الهكسوس والبدو الاردنيين المجاورين لحدود مملكة الهكسوس قد أخذ مكانه في تفاهم وتناغم مما جعل الحياة أكثر استقراراً وازدهاراً، يدل على ذلك هذا الهيكل الذي يعني فيما يعنيه وجود رجال دين وأناس يتعبدون وبالتالي شعب مستقر متصل مع الامم من حوله , بل شعب له دينه وحضارته وثقافته , واذا كانت اخباره غير مدونة فان ذلك قصور في الحفريات التي كان يتوجب اجراؤها لوصول الى مزيد من التفاصيل عن هذه الحقبة وغيرها من الحقب التاريخية . فالاقدمون عاشوا بما ساهم وساعد في بقائهم وتركوا من الاثار القليلة او الكثيرة ماتعطي الاشارات اوالتفصيلات عنهم وعن نمط حياتهم وثقافتهم ومعتقداتهم . ولكن قدر الاردن انه دائما كخبز الشعير ماكول ومذموم ولا حول ولا قوة الابالله العلي العظيم
ثالثاً: الأنباط: إن الحديث عن الأنباط يبقى قليلاً مهما كَثُر (بضم الثاء) ولأنهم شعب فريد من نوعه ومتميز بعبقريته , تحوّل من البداوة والرعاية إلى الفلاحة ثم إلى المدينة ثم إلى نحت مدينة في الصخر لا شبيه لها في الدنيا، وصارت عام 2007م من عجائب الدنيا السبعة.
يقول العهد القديم في سفر التكوين أن الأرض الممتدة من وادي زاراد (الحسا) حتى بحر القلزم (خليج العقبة) كان يدعى سعير ـ وهو يسمى الشراة اليوم. وقد ورد اسم سعير هذا في الروايات التاريخية، وفي كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين أيضاً وإنما ورد بلفظ سعير أو شراة فهما كلمتان مترادفتان على كل حال وان اختلف اللفظ . إن هذا الجزء من الكلام في سفر التكوين أمر لا يحتاج إلى نقاش لأنه ملموس بين أيدينا.
أما الذي يحتاج إلى نقاش فهو قول العهد القديم ، أن هذا الجزء من الأرض كان يطلق عليه اسم أدوم، وأنها أعطيت لعيسو. أما اسم أدوم لهذه الديار، فلا خلاف عليه، أما أنها أعطيت لعيسو فهي نقطة النقاش. ويذكر العهد القديم أيضاً أن أولاد عيسو وأحفاده تكاثروا واستطاعوا طرد الحوريين وهم سكان الكهوف في هذه المناطق وهي جنوب الاردن أو القضاء عليهم حيث تمكن أبناء عيسو باحتلال الديرة بأجمعها. وبذلك حولوا عيسو الى بطلاسطوري وان ذريته تتكاثر كالجراد وهو مالا يتفق مع عقل .
إنه يستحيل أن تكون ذرية عيسو قد تكاثرت خلال هذه المدة من زمن إبراهيم إلى زمن موسى وهي خمسة قرون أن يكون عددهم قد وصل إلى درجة للقضاء على مملكة أدوم القوية الواسعة التي كان سكانها يصلون إلى عدة ملايين من البشر المتجانسين المؤمنين بقيادتهم في حينه.
كما أن عيسو من العبرانيين، والأدوميون عرب من العموريين وقد وصلوا كقبيلة بهذا الاسم إلى الأردن، وشكلوا مملكة، وصار لهم ملك كما سبق وشرحنا من قبل وبالتالي فإن التوراة التي دأبت أن تَنْسِب كل شيء إلى العبرانيين ثم إلى بني إسرائيل، لم تجد من يناقش هذه المسألة من المؤرخين السابقين والمعاصرين. وقد يكون عيسو حاول السيطرة على الحاكم ففشل، ولكن الإسرائيليين لا يذكرون فشلهم وهزائمهم إلا في حالات قليلة وإنما يتحدثون عنها على أنها انتصارات لهم وإنجازات، ومن هنا فإن الرأي العلمي الذي يخرج عن الإسرائيليين محوط دائماً بالشبهات، ومنسوب بالباطل والتزوير ويجعلون الغلبة لهم، ويحاولون أن يجعلوا أنفسهم أساس كل شيء غير واضح للآخرين وينسبون له الأمجاد الوهمية.
إن اسم سعير قد جاء من اسم أحد ملوك أدوم، وكانت الأسرة الحاكمة تتألف من الأمراء، ومجلس الحكم يتألف من شيوخ العشائر ضمن المملكة الأدومية الأردنية. وإن التوراة لتناقض نفسها وهي تسرد أسماء ملوك أدوم ثم تحوّل ذرية عيسو إلى أبطال وهميين، يتعاملون مع الأدوميين وكأنهم عصافير أو أرانب. وإن حديث التوراة عن عيسو أيضاً يأتي قبل ولادة عيسو نفسه، فلا أدري كيف استطاع عيسو أن تكون له ذرية تشكل شعباً ليقهر الشعب الأدومي الأردني، قبل أن يوجد هو نفسه في الحياة وقبل ان يولد من بطن امه . وأن الأحداث التي تشير إليها التوراة تقع إلى حوالي عشرين قرناً قبل الميلاد (2000 ق.م) أي قبل مجيء سيدنا إبراهيم إلى فلسطين أصلاً، وحيث كانت فلسطين أيضاً للكنعانيين منذ عشرات القرون وكانوا في حالة من الازدهار والاستقرار، وكذلك كان شأن أبناء عمهم العموريين العرب الأردنيين ومنهم الأدوميون.
تزيد التوراة أيضاً في معلومة لا يمكن أن تتفق مع العقل ولا تتطابق مع الزمن إذ تقول أن مملكتي مؤاب وعمون قد تشكلت من أبناء بنات لوط. وهذا أمر لا يتفق مع العقل أبداً فالعمونيون والمؤابيون كانوا موجودين كشعب وعشائر في حوالي 2000 ق.م أي قبل مجيء لوط وإبراهيم عليهما السلام باكثر من مائتين وخمسين سنة , ولكن المنطقة المعقول أن تكون إحدى بنات لوط لجأت وزوجها (إن كانت متزوجة) إلى مملكة مؤاب باعتبار زوجها مؤابي من هناك لأن أهل قرى قوم لوط كانوا يرتكبون الفاحشة، وإن الثانية لجأت إلى مملكة عمون لأن المكان أيضاً قريب من المملكتين المتجاورتين وإن وجود التمثال الحجري لامرأة لوط الذي يعتقد العامة أنه لها وأن الله مسخها حجراً لكفرها. يقع ضمن مملكة عمون، وقريب من مملكة مؤاب في الآن نفسه، كما أن قبر لوط غير معروف إلى الآن، وأغلب الظن أنه لجأ إلى مملكة عمون لبعدها عن مكان السخط الالهي , ثم مؤاب لقربها من ديار من بقي من القرى ممن امن ولم يصبها الله بالنازلة التي اصابت المؤتفكات ( قرى قوم لوط الشاذة ) وربما كانت الحركة عكسية والله اعلم . ومن المنطق انه زوّج ابنتيه ممن أمن من أبناء هاتين المملكتين وأن التوراة تغاضت عن الحقيقة وحرفتها وكان همّها الوحيد هو فقط القول بأن أدوم من أبناء عيسو أو العيص، وأن عمون ومؤاب من أبناء بنات لوط.
ولنفرض جدلاً دون التسليم بذلك أن رجالا من هاتين المملكتين : ادوم وعمون تزوجوا من بنات لوط عليه السلام , والجواب أنهما كبنات نبي لا بد وأن يتزوجن من ناس مؤمنين أيضاً. وإذا أردنا المقارنة نجد أن شعيب (الحفيد الأدنى للنبي شعيب عليه السلام، والحامل لاسمه) قد زوّج ابنته من موسى لأنه عرفه بعد الحديث معه أنه (أي موسى) مسلم وليس كافراً. وانهما وضعها الله سبحانه وكيلا على شرطيهما. وليس غريبا ان يكون هناك مؤمنين من رعايا او امراء مملكتي ادوم وعمون . وكذلك قد يكون الازواج من المؤمنين من قوم لوط وانهم بعدما اصاب قومهم ماصابهكم رحلوا الى ادوم وعمون , وانخرطوا في المجتمع والحياة هناك .
وبناء عليه فإنني آخذ معلومات التوراة / العهد القديم بحذر، وهي على غزارتها لا تنشر إلا ما يخدم عقيدة هؤلاء القوم الحاقدة على سائر البشر والعقائد والأديان. وتتناقض التوراة مع نفسها مرة أخرى عندما تقول: أن عمون ومؤاب كانتا في العصور السابقة خاضعتين لأجناس من العمالقة كانوا يُدْعون الأيميين في مؤاب، والروفانيين والزمزميين في عمون. وأنهم استمروا حتى قام الإمبراطور الفارسي كدر هومر ملك عيلام حملة تأديبية سحقت هؤلاء العمالقة كما سحقت قوة الحوريين في سعير.
نخلص إلى القول أن هذه العشائر التي أشارت إليها التوراة كانت موجودة وهي عربية بلا منازع لأنه لم يستقر في الأردن شعب إلا الذين جاءوا من الشرق. وأن العموريين عندما جاءوا طردوا هذه الشعوب وحلوا مكانها ولا علاقة لهم بعيسو ولا لوط ولا بني اسرائيل .وما دام الشيء بالشيء يذكر فإن من العشائر الأردنية التي سبقت العموريين , هم : الكفتاريون والزمزميون وغيرهم.
ثم نعود إلى موضوعنا الرئيس هنا، وهم: الأنباط وهي المملكة الأردنية القديمة الوحيدة التي ليست من العموريين، وإن كانوا جميعاً من العرب. وقد تحدثنا في كتابنا: في ربوع الأردن جولات ومشاهدات عن كيفية تحوّل الأنباط العرب من رعاة إلى رعاة مزارعين ثم إلى مستقرين ثم إلى تجار، ثم إلى مرحلة البناء، وتوطيد التملك في هذه الديار، فصاروا مهرة في الإنتاج الزراعي، وتربية أصناف الماشية، وبخاصة الجمال لحاجتهم إليها في نقل البضائع عبر الطرق التجارية القديمة، حيث كانت البتراء نقطة تجمع وإعادة توزيع إلى مصر، وغزة والشام وبالتالي إلى أوروبا عبر موانئ البحر الرومي ـ البحر الأبيض المتوسط.
ورغم أن الدراسات لم تغطي الأنباط بصورة وافية، إلا أنني ومن خلال معاينة البتراء وقراءة كثير مما يتعلق بهم باللغتين العربية والإنجليزية، أخرج برأي خاص أرى فيه أن الأنباط عرب قدموا إلى الأردن من الشرق وهم بدو رحّل يحملون متاعهم فوق جمالهم، ومعهم أنعامهم من الغنم والابل والبقر والخيل والبغال والحمير , وأنهم جاءوا من منطقة كانت تتوفر فيها المياه بصعوبة، وكانوا يستنبطون الماء أي يستخرجونه من أرض تبدو قاحلة في مظهرها , فصار هذا اسمهم، مثلما صار اسم الغساسنة من اسم العين التي نزلوا عليها.
وعندما تجولوا في بادية الأردن وربوعه، وجدوا من الصعوبة عليهم السكن في منطقة الشمال والوسط والكرك لعدم قدرتهم على الاصطدام مع الأردنيين السابقين، ومع الممالك القائمة في الاردن وفلسطين ومع الإمبراطورية اليونانية التي كانت الأردن إحدى ممتلكاتها، فاختاروا منطقة تتوفر فيها حاجتهم من الأمن اولا والماء ثانياً والغذاء ثالثاً.
1. توفير الأمن: حيث أن هذه منطقة وعرة يصعب على أي جيش اقتحامها، وإذا اختفى أهلها فيها تبدو وكأنها قاحلة خالية من السكان. وهذا شبيه بما سبق وذكرناه من السراديب في القرى الأردنية الأخرى التي تستوعب سكان القرية ومواشيهم ويلجأون إليها وقت البرد الشديد، واجتياح الأعداء الذين لايجدون أحداً في المكان , وإن المتجول في منطقة البتراء وما حولها إلى وادي عربة يجدها ملاذاً آمناً طبيعياً هائلاً. وإن المتجول في الجبال المحيطة بها شرقاً وجنوباً وشمالاً يجد نقاط مراقبة اثرية قديمة تطل على جبال الشراة والسهول الشرقية حتى ما بعد معان أي حوالي خمسين كيلو متراً، حيث توجد العيون الغزيرة العذبة في هذه الجبال والأرض الخصبة فيها.
ويبدو أن هذه النقاط المسماة باللهجة الأردنية مناطر Manater ومفردها منطرة، إنما كانت نقاط مراقبة بصرية يرابط فيها مجموعة من الرجال ويبلّغون قولهم بواسطة إشعال النار أو التحرك الفوري إلى حيث مركز الشعب النبطي ليستعد لمجابهة الغزاة القادمين من أية جهة كانت.
وعندما تكون الأمور آمنة ينتشرون نحو الشرق ويستغلون سهول الشراة ومياهها للزراعة والإنتاج، واستطاعوا التوسع حتى حققوا الشهرة إلى درجة اضطرت القوافل التجارية القادمة من اليمن والشام أن تمرّ بهم كمحطّة رئيسة بديلة عن محطات وادي الأيكة ومدين، ومحطات قرى قوم لوط، أو متممة لها، ولكن القوافل هنا تجد الأمن والأمان والرعاية مما جعل سمعة الأنباط تفوق كل سمعة في هذا الصدد، بعكس ما كان عليه أمر أهل مدين والأيكة، وقرى قوم لوط، حيث كانوا يطففون الميزان والكيل ويقطعون السبيل على الناس، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك وشرحناه مفصّلاً في كتابنا، التاريخ السياسي للعشائر الأردنية، أحد أجزاء هذا الكتاب باللغة الانجليزية .
تحوّل الأنباط من قبيلة لها شيوخ عدة، وشيوخ مشايخ إلى مملكة لها أمراء، ولها ملك يعودون إليه وله قرار الحرب والسلم، وعليه خدمة ورعاية شعبة، وامتاز ملوكهم بالتواضع المعهود في البوادي الأردنية سابقاً. وقد حملوا الأسماء العربية، كما سنرى بعد قليل إن شاء الله.
2. توفر الماء : فالماء أساس الحياة , وإن نوعية المياه هنا من حيث المصادر تتكون من ثلاثة أنماط، الأول مياه النبع السطحية، وأهمها وأغزرها عيون موسى عند فتحة الجبل الذي يؤدي إلى وادي موسى ثم إلى البتراء على مسافة ثلاثة كيلو مترات من النبع. وتتميز هذه النبعة بغزارة وعذوبة مياهها، وخفيتها أي أن الشخص الغريب لا يدرك ولا يتصور ولا يعرف بوجود العين إلا لحظة وصولها، عندما يكون على بعد أمتار منها فقط. وهذا بحد ذاته جعل الغزاة يستخدمون منابع الصدقة والفرذخ وأيل من قرى الشراة إلى الشرق من وادي موسى وعلى الطريق إلى معان. وبهذا صارت مياه عين وادي موسى آمنة من الأعداء لأنهم لا يرونها من مسافة بعيدة، كما أن بداية مجراها تسير في وادٍ ضيق لمسافة طويلة نوعاً ما.
وأما النمط الثاني فهي مياه الجمع، حيث أن جبال البتراء جرداء تتكون من الحجر الرملي الأملس الذي لا يشرب الماء، وبالتالي فإن أدنى زخات من المطر تلقي بهذه المياه على صفحة الصخر إلى أقدامه، وهناك استنبط الأنباط طريقة حولوا بموجبها هذه المياه إلى خزانات كبيرة تمتلئ بالماء، فلا يضيع منها شيء أبداً. وهناك أيضاً تجاويف صخرية طبيعية أو منحوتة تسمى الخوابي Khawbi ، ومفردها خابية Khabiah ، تتجمع فيها مياه المطر النازلة عل الصخر، وتحتفظ الخوابي بالماء في ظل ظليل طيلة السنة بعيداً عن الشمس والتبخر، وتشكل مصدراً نقيا للشرب.
وأما النمط الآخر فهو الخزانات: التي كانت تستخدم للشرب والتجارة، وقد أقام الأنباط عدداً من السدود في نهايات الأودية النازلة من سلسلة جبال البتراء إلى وادي عربة، بحيث تتحول إلى الحلّ الثالث والأخير للاحتفاظ بكل قطرة ماء تنزل على تلك الديار. وعلى هذه السدود قامت الزراعات الكثيفة التي أنتجت خضاراً وفواكه في غير موسمها، واستخدامها في التصدير للتجمعات السكانية المجاورة في الأردن وفلسطين، وجلب دخل كبير من جراء ذلك , فضلاً عن الاكتفاء الذاتي لاستخدامات السكان أنفسهم، وقد عثرت السلطات الرسمية بالأردن على العديد من السدود النبطية , اقول عثرت عليها في العصر الحديث وأقامت على أنقاضها سدوداً حديثة كما أنه توجد بعض أشجار العنب (دوالي) إلى ماقبل دخولي السجن (2007) أما الآن وأنا أكتب هذا الكتاب من الذاكرة في السجن وفي ظروف سيئة. ومن أسوأ ما يمر بالإنسان السويّ فإنني لا أدري إن اندثرت هذه الدوالي. وأشجار التين والزيتون ام لا ؟ .
واضح أن الأنباط اختاروا أكثر المواقع منعة في جبال البتراء حيث الممر الضيق وهو فتحة طبيعية في الجبل الصخري، ويفضي بعد ثلاثة كيلو مترات إلى فسحة من الأرض، حيث أقاموا الخزنة التي هي مقبرة لملوكهم، ثم إلى مدرج منحوت في الحجر الرمي والذي تأكل بحيث يحتاج إلى ترميم، ثم نجد قصر العدل وقد تجولت فيه شخصيا عدة مرات، ورأيته كيف كان محكم التنظيم والنحت والتوزيع، ثم شارع الأعمدة، ثم تلال إلى الشمال حيث يناياتها الاثرية تحت التراب الآن، ومغائر متناثرة هنا وهناك ، ثم إلى الغرب حيث يوجد الدير والكثير من الكهوف والمنحوتات والمسلة .
لم يترك الأنباط أنفسهم تحت رحمة أي غزاة قد يحتلون منابع عيون وادي موسى، حيث أقاموا خطّاً سريّاً لنقل المياه تحت الأرض، يجلب المياه من نقطة سريّة عند النبع غير مكشوفة، ولا يؤثر عليها وجود الأعداء على النبع، ويتألف هذا الخط من الفخار الناعم المتقن، وقد رأيت العديد من أجزائه في عام 1968 في بساتين الجيَّة Jayyah المطلّة على وادي موسى وينتهي الخط إلى خزان للمياه قبل مدخل البتراء. وقد زرته عام 1987 وكتبت عنه ورسمته وشرحت ما حوله في كتابنا: في ربوع الأردن جولات ومشاهدات، 1987 ـ الجزء الأول.
وبعد تجمع المياه في الخزان المذكور يجري نقلها ثانية عبر اسطوانات فخارية اخرى يمكن مشاهدتها بسهولة مغطاة بالجص تارة، ومكسورة تارة أخرى في سفح ممر صخر السيق المؤدي إلى الخزنة، وأن هذه المياه كانت كافية لأهل المدينة الصخرية، كما كان لديهم مصدر آخر للمياه بديل في حالة الطوارئ ومعزّز للخط الأول، ألا وهو العين البيضاء التي تقع إلى الشمال من البتراء . وقد تحولت البيضاء اليوم إلى قرية كبيرة فيها سائر خدمات البنية التحتية ، وزرتها ومعي وفد كوري جنوبي في عام 2002 وذلك في أشهر آب صيفاً. ولا أدري إن كانت عيون غير هذه، سوى عيون بلدة وادي موسى الكثيرة والتي تتحول إلى سيل ينتهي إلى السيق.
من كل ما سبق نجد أن الأمن والحماية كان متوفراً في أعلى درجاته في هذه المنطقة وكذلك الماء، وهذا وحده كاف لشعب بدوي لديه ماشيته التي يعتاش منها. وهذا ينقلنا إلى الغذاء.
3. الغذاء: وأقصد به طعام الإنسان، وعلف الحيوان، وإذا كانت المقولة السائدة أن البدو ينتقلون دائماً طلباً للماء والكلأ، فإنني أرى إضافة الأمن والحماية التي جعلتها الأولى , والتي لابد من توفرها للاستقرار الأنباط وعندما توفرت ساهمت باساقرار الانباط , أما الغذاء هنا، فهو من الزراعة ومن الإنتاج الحيواني ثم من التجارة عندما تحوّلت إليهم ومن خلالهم طرق التجارة العالمية السائدة آنذاك.
أما الكلأ فكان متوفراً في جبال الشراة في الربيع والصيف والخريف، بينما نجده وافراً في الشتاء مع الدفء في وادي عربة والأغوار حيث توجد طريق ضيق جداً تربط البتراء بالأغوار محاذية للوادي الذي يبدأ من حوضالمدينة الوردية ، وينتهي إلى وادي عربة، وقد وصفه لي من سلكه، ولم أشاهده بنفسي بل عاينت السدّ النبطي في غور الصافي أثناء قيام سلطة وادي الأردن بإعادة بنائه في الأغوار الجنوبية.
ويتوفر الكلأ والماء للماشية والطقس المناسب وهو البرودة ربيعاً وصيفاً وخريفاً (جبال الشراة)، والدفء شتاءً (وادي عربة)، صار الإنتاج غزيراً وزاد فائضه عن الحاجة، مما عزّز الميل نحو التجارة والمتاجرة، مع خارج البتراء، وأقربهم إليها مملكة مؤاب، وشعب فلسطين، وشعب مصر، ثم إلى شعب الحجاز والشام وبذلك دخلوا على خط القوافل التجارية، وصاروا محطّة رئيسية تنتهي إليها القوافل المتجهة شمالاً والعائدة جنوباً لتبادل البضاعة والتزوّد بالإنتاج النبطي المطلوب للاستهلاك خارج المملكة النبطية. وبذلك أصبحت التجارة عندهم قائمة على عناصر أربعة:
1. أنهم نقطة مرور للقوافل التي جاءت بحمولتها من وإلى الحجاز أو اليمن، ومن او إلى الشام أو إلى أي بلد خارج حدودهم، ويتقاضون منهم جباية مكوس المرور فقط لقاء خدمات الدلالة والحماية وتاجير الرواحل وتوفير الخدمات والطعام والشراب والعلف .
2. أنهم نقطة تبادل البضائع القادمة من الشمال والجنوب والشرق والغرب، فتحولت مدينتهم إلى سوق مركزي للمنطقة برمتها، تنتهي إليها البضاعة وتخرج منها موزعة إلى أهدافها المتعددة. وفي هذه يستفيدون من المكوس بالإضافة إلى عنصر فارق العملة وفارق السعر والبيع والشراء.
3. أنهم ينقلون البضاعة لقاء أجر معين، فهم يعرفون الطرق، ولديهم الإبل والبغال التي تستخدم للنقل يؤجرونها لهذه الغاية ومعها أصحابها، وبذلك تستفيد الدولة من جهة والمواطن النبطي من جهة أخرى.
4. الحماية والدلالة: كان الانباط يقومون بحماية هذه القوافل داخل مملكتهم ويتقاضون أموالاً لقاء ذلك، كما أن الإدلاء يتقاضون أجرة عن جهودهم هذه. حتى صاروا خبراء بالطرق إلى مصر والحجاز واليمن وفلسطين والشام والحجاز واليمن , وصاروا خبراء بعادات أهلها ولهجاتهم ولغاتهم وحروفهم، حيث تتطلب مهنتهم ذلك.
وفي العصر الحديث نجد أن أهل وادي موسى من بني ليث وهم من أعقاب الأنباط الأول، أقول هؤلاء الذين يتعاملون مع السياح يتحدثون عدة لغات أجنبية مضافاً للعربية، وقد التقيت بدوياً في البتراء يتحدث خمس لغات (الإنجليزية والإسبانية والألمانية والفرنسية والطليانية) وهي لغات السياح الأكثر تردداً على البتراء . ويبدو الأمر مثيراً للسياح عندما يرون بدويّاً يتحدث لغتهم ويوصلهم الرسالة المطلوبة والشرح اللازم، ويرتاحون غليه أكثر من الدليل المتأنق القادم من عمان.ولا شك ان هذا تكرار لما كان يجري قبل الفي عام ونيف , عندما كان اجدادهم الاوائل وهم الانباط يتكلمون العربية وهي لغتهم , واللاتينية واليونانية والارامية والعربية الجنوبية والسريانية , مما جعلهم محور استقطاب التجارة العالمية في جينه . انه المشهد نفسه الذي نجد فيه الان بدويا بتحدث اللغات الحية مضافا الى لغته الام وهي العربية . لقد تغيرت القرون وتعاقبت الايام ولكن عندما تعود المهمات والادوار الاحفاد فانهم يتصرفون كما كان يتصرف الاجداد . كل يفعل مايضمن له البقاء ضمن الصراع من اجله .
وقد تزوجت سيدة إسبانية من دليل سائح واختارت العيش في البتراء، وأنجبت وعاشت مع زوجها، وزرته وتحدثت إليها في بيتها بالعين البيضاء ومعي الوفد الكوري صيف عام 2002 . وقد قرأت في السجن في إحدى الصحف المحلية بالأردن ان هذا الزوج البدوي توفي رحمه الله , وان زوجنه الاسبانية الفت كتابا عن قصة حياتها معه في البتراء. ولم أطلع على الكتاب، لكنني قرأت عنوانه، وأظنه كان بالإنجليزية أو الإسبانية.
وبذلك نجد أن الأنباط لم يتركوا شجراً ولا حجراً ولا بشراً ولا ماشية إلا واستغلوها أحسن استغلال وإلى أقصى درجة , وذلك برهان على أنهم شعب عملي وجاد. وأن كل واحد كان لا يتوانى عن بناء ثروته التي يستطيع بناءها دونما تدخل من الدولة، وأنه شعب كان يعيش دون أن يدفع الضرائب وإنما يستفيد مما يدفعه الغرباء للدولة.
وبذلك تحوّل الأنباط من قبيلة لها عدة شيوخ، وشيوخ مشايخ، إلى شعب وتحول الشيوخ إلى أمراء، وشيخ المشايخ إلى ملك، وتحولت البلاد التي سيطروا عليها إلى مملكة بدلاً من الديار المحلية الضيقة في البتراء ووادي موسى. وتحقق الاستقرار والرخاء وزخم الإنتاج، والتكاثر البشري من خلال التوالد، وانضمام مجموعات من الشعب الأردني اليهم من القادمين من الممالك الاخرة طلبا للرزق والعمل او هروبا من العقاب اذا كان مطلوبا هناك , وادى هذا الانجذاب الشعبي الاردني الى البتراء ان اصبحوا تحت لواء الشيوخ طلبا لحماية والشرعية , فزاد عدد السكان وزاد معه الانتاج .
زاد السكان اذن من خلال مصدرين هما: التوالد الطبيعي والالتحاق بهم من الادوميين وسائر الممالك . وصارت البتراء ملاذا امنا لكل طامع بالحرية والحماية والعيش الكريم .وبذلك تكون شعب يحمل اسم القبيلة وهي الانباط دون الالتفات إلى ان اجزاءا منه من غير تلك القبيلة نسباً واصلا .
ومن المألوف في التاريخ الأردني عبر حقب التاريخ الزمني أن الشعب المحلي أو العشيرة المحلية تنضوي تحت لواء عشيرة قادمة, او ان قادمة تنضوي تحت لواء عشيرة موجودة وسابقة لها , أو أن يسود شخص غريب في عشيرة معينة بعد أن يتزوج من تلك العشيرة ويصير جزءاً منهم بالحلف والمصاهرة. أما في حالة الأنباط، فقد بقي اسمهم هو الأقوى، وبقيت لهم السيادة والقيادة، وحتى لو كان بعض رجالاتهم الذين ظهروا في التاريخ من أصل مؤابي أو ادومي أو عموني، فإن ذلك لا يظهر أبداً، وبذلك تكاتف الجميع لبناء مملكتهم التي توسعت وأخذت جميع أراضي أدوم من وادي الحسا شمالاً إلى جنوب خليج العقبة. وتوسعت شمالاً عبر البادية الأردنية فبنت مدينة ام الجمال الواقعة حالياً في محافظة المفرق في شمال الأردن، ثم إلى دمشق أيضاً.
وإذا استذكرنا سيطرة الأدوميين على جنوب فلسطين، فإن الأنباط فعلوا الأمر نفسه للوصول إلى شاطئ البحر الرومي (الأبيض المتوسط)، وبذلك اصبح لهم منفذان بحريان هما أيلة (العقبة)، وغزة (البحر الرومي)، ومع هذا فإن الأنباط استخدموا سفن غيرهم في نقل البضاعة عن طريق الإيجار والاستئجار، لكنهم لم يبنوا أسطولاً تجارياً ولا بحرياً، بل غلبت عليهم بداوتهم واستمروا أمة برية بعيداً عن ركوب البحر.
وعندما رحل جزء من الأدوميين إلى فلسطين, تحت وطاة الهجوم النبطي , فإن الجزء الآخر من الرعية بقي في ديار آبائه وأجداده تحت حماية ملكة الانباط وصاروا جزءا من الانباط . ولا بد من القول هنا ان نسل الادومين بقي متمثلا في عشائر اردنية لازالت تعيش فوق ربوع الاردن منذ الاف السنين إلى الآن , موزعة في مختلف المحافظات وبخاصة في محافظتي معان والكرك بأسماء أخرى هذا ناهيك عن عشائر بني حسن في محافظات الوسط والشمال وهم الأدوميون الوحيدون في هذه المحافظاتالشمالية . وتشكل عشائر بني حسن الآن أكبر عشائر الأردن عدداً، وقد انضم إليهم عدد كبير من العائلات والحمائل وصاروا جزءاً من هذه العشائر.
أما عشائر بني حسن فهم ادوميون من بقايا مملكة أدوم، وكانت منازلهم في بصيرا والقادسية وظانا قبل أن يرحلوا إلى البلقاء، ولا تزال العديد من العشائر تحمل الأسماء نفسها من عشائر بني حسن، موجودة في محافظة الطفيلة، وصار بينهم تعارف حديثاً.
وفي رأينا أن أهل الشوبك واهل بصيرا وقراها. وعدد من عشائر الطفيلة هم أصلاً من الأدوميين. وأن من طبيعة العشائر الأردنية، كما سبق وشرحنا أنها تغيِّر الأسماء والولاءات. والالتحاق في كل عهد حسبما يحقق لها البقاء والاستمرار. وقد نقل بنو حسن معهم مقاماً للملك الأدومي حدد وأقاموه على تلّة عالية مشرفة إلى الجنوب من مجرى نهر الزرقاء وزرته بنفسي في عام 2006م. ويسمونه حدد بالحاء وليس بالهاء، ونحن نعرف أن الحاء تتحول إلى هاء، وأن النقل الأساس للاسم كان من التوراة فكتبوها هدد ( بالهاء ) ، وأما العرب ومنهم الأدوميون فيلفظونه حدد ( بالحاء ) . أما أنا فأكتبه في الصيغتين في كتابي وكلاهما صحيح لا غبار عليه كما ان كليهما اسم عربي وليس فيه اعجمية .
ورغم أن البتراء بقيت معروفة لأبناء المنطقة عبر التاريخ، وورد ذكرها في سيرة ابن اسحق مرتبة بالاسم "البتراء"، إلا أنها بقيت مجهولة لدى الغرب حتى قدم الرحالة السويسري/ الإنجليزي عام 1812 واكتشفها ضمن حبّ الاستطلاع في الوصول إلى قبر هارون المطل عليها من جهة الجنوب، وقد دوّن ملحوظاته عنها في كتابه: Travels in Syria and the Holy Land رحلاتي في سوريا والأرض المقدسة. وأن اصطلاح الأرض المقدسة الذي يعني الأردن وفلسطين هو اصطلاح ثوراتي على أنها أرض الميعاد لبني إسرائيل. وقد تحولت الآن محجّاً كبيراً للسواح من كل حدب وصوب في العالم. وقد صار الدخول إليها الآن صعباً ولا يتم إلا ضمن إجراءات أكثر من يتأذى منها هو الأردني الذي يجد نفسه محروماً من رؤية إنجاز شعب أردني، أو عليه أن يدفع كثيراً للدخول.
وقد خلط الرحالة والمؤرخون والأثريون بين البتراء وسلع أو السَّلْع ، ذلك أن كليهما منحوت في الصخر في أرض وعرة وفي جبال الشراة، وفي مواقع حصينة . كما أن كلمة السيق المؤدي إلى البتراء، والسَّلع الذي يعني المكان أو المدنية الأثرية متقاربان في الفهم العام للكلمتين. وقد زرت كلاً من الموقعين: البتراء وهي المعرفة للناس، وعاصمة الأنباط، وهي في محافظة معان وضمن لواء وادي موسى وواجهات لعشائر اللياثنة والحويطات وبنو عطية , وجميعهم من أحفاد الأنباط بالنسبة لي. وشاهدت السّلع وهي مدينة منحوتة في الصخر إلى الغرب من ظانا، وقد رأيتها من تلة عالية مشرفة على ظانا غرباً، وعلى البادية شرقاً تسمى العِلَّمة، وذلك يعني علوّ المكان، وأنها معلم بارز من بين الظواهر المحيطة به.
والسَّلع وهي في محافظة الطفيلة منحوتة في صخر وردي يميل إلى اللون الأبيض. بينما يميل لون صخر البتراء إلى الأرجواني والمتعدد في آن واحد وإذا كانت السّلع نُحِتَتْ قبل البتراء فلا بد أنها من عمل الأدوميين لتكون مدينة الطوارئ يلجأون إليها رحيلاً من عاصمتهم بصيرا القريبة من المكان. وتم اختيار مكانها في موقع وعر يتعذر على الأعداء الوصول إليه.
وفي هذه الحالة (أي إذا كانت قبل البتراء) يصبح من المعقول القول أن هذا النموذج أوحى للأنباط باستخدام هذا النحت في مناطق البتراء، وأن مهندسين وعمالاً مهرة من الأدوميين الذين انضموا إلى الأنباط ساهموا في تدريب العاملين النبطيين وفي أعمال الهندسة والتخطيط والبناء، وقد استمر هذا النحت بضع مئات من السنوات فهو لم ينجز بين عشية وضحاها.
وإذا كانت منحوتة زمن البتراء من حيث التاريخ تكون مشروعاً لنحت مدينة أخرى تدل على عظيم الاستقرار والازدهار الذي وصلت إليه البتراء، ووصل إليه شعب الأنباط. وإذا كانت منحوتة بعد البتراء، فإن ذلك احتمال ضعيف جداً لأن البلاد صارت تحت الحكم الروماني.
لذا فإن المرور بمدينة سَلْع الواردة في الكتب التاريخية القديمة أو كتب الرحالة يعني المرور بالبتراء، لكنه اسم خطأ أُطلق في غير مكانه. لانه اسم لسلع الطفيلة / بصيرا التي تتعذر زيارتها لوعورة موقعها وصعوبة الوصول اليه , مقارنة بالسهولة التي عليها زيارة البتراء. وبالنسبة لي فإن كليهما ثروة وطنية أردنية، تلقي الضوء على تاريخنا الاردني ورقي العقل الاردني ومهارته الهندسية وقدرته على البقاء في اسوا الظروف حتى بين ثنايا الصخور القاحلة وكانه في المروج الخصبة , كما انها تجلب الباحثين والسياح، وسوف تكونان، وبخاصة البتراء، موضوع بحوث وروايات وأفلام وقصص وحفريات ومقالات، لا تنقطع، ولكل جيل من الاجيال نظرته ونتائجه التي قد تختلف أو تأتلف مع الآخرين ممن سبقوه أو لحقوه.
لا بد من الإشارة هنا إلى وجود العديد من القرى المحيطة بالبتراء من الشرق والشمال والجنوب الشرقي، ذات التربة الخصبة والمياه الغزيرة وهي تبدو لمن يراها من بعيد أنها قريبة في متناول اليد إلا أنها في الحقيقة تفصلها عنها أراضي واسعة ومساحات شاسعة على سفوح الجبال، وتقوم الزراعة في كثير من الأحيان على المصاطب الموروثة، ربما منذ زمن الأنباط، وفيها أشجار الفاكهة مثل المشمش والتفاح والعنب والتوت، فضلاً عن الخضار الموسمية، وكل منتجاتها تنضج في وقت مبكر من الموسم بسبب طبيعة مناخ المنطقة وحمايتها من عصف الريح , لاحاطتها بالجبال من الجهات الثلاثة الشمالية والشرقية والجنوبية التي تحتضن حوض وادي موسى، فضلاً عن الحاجز الرابع وهو جبال البتراء لكنه بعيد في أفق السماء إلى الغرب من هذه المنطقة.
ويمكن تصوّر الأمر نفسه زمن الأنباط، وكيف كانوا يصدّرون الزبيب والتين الجاف والتفاح وربما عصائر الفواكه في موسم مبكر عن سائر الاقطار من حولهم , فضلاً عن السمن واللبن الجاف (الجميد) واللحم المقدد (اللحم الجاف) الذي اُشتهر به البدو، ومنهم الأنباط، والجلود ومصنوعات الشعر والصوف والمنسوجات القائمة على الشعر والصوف والوبر، وهو من منتجات الحيوانات التي كانت متوفرة لدى الأنباط، . وبذلك بنى الأنباط مملكتهم التجارية الزراعية الرعوية العظيمة القائمة على الاقتصاد.
ثم نعود إلى السرد التاريخي الخاص بالأنباط،: إن الحديث عن الأنباط جزء لا يتجزأ من الحديث عن ديارهم، ذلك أنهم ليسوا الشعب الأول الذي تنبه إلى أهمية المكان، وإنما الأول الذي استغل المكان أحسن استغلال، وربما كان استغلال الحوريين والأدوميين الذين سبقوهم إلى البتراء، وما قاموا به من تحت الكهوف قد نبه الانباط إلى أهمية هذا الصخر والمكان معا ضمن بحثهم عن الامن والحماية الطبيعية قبل ان يعززوها ببناء القوات المسلحة النبطية . وقد استغلوا الصخر والمكان والامكانات إلى أقصى درجات الاستغلال التي يمكن للعقل انذاك ان يصلها بما توفر له من الوسائل البدائية.
تشير الحفريات إلى أن المكان كان مسكناً للإنسان منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، وتم التوصل إلى هذه النتيجة من بقايا أثرية تم العثور عليها في كهف صخري في موقع منعزل في واد بعيد عثرت عليه الآنسة ديانا كركبرايد ابنة المعتمد البريطاني في الأردن في النصف الاول من القرن العشرين , والتي أقامت ستة أشهر في البتراء لأعمال البحث والحفريات عام 1956. أقول عثرت فيما عثرت عليه على آثار لإنسان ما قبل التاريخ الذي كان يعيش في هذا الكهف جانباً من السنة , وعلى مدى قرون طويلة من الزمن تجاوزت آلاف السنين. مما يدل على أن ذلك كان سكنا عبر الاجيال المتعاقبة. وقد عُثِرَ في هذا الكهف على أدوات صوانية. وأدوات أخرى مما كان يستخدم في ذلك العصر.
هذا الكهف الذي يبدو طبيعيّاً نبّه الإنسان الذي يتخذ من البتراء مأوى ومسكناً إلى أن الوسيلة الفضلى للتعامل مع المكان هي التآلف مع الصخر، ونحت الكهوف وعدم الاقتصار على الكهوف الطبيعية لانها غير كافية لاستخدام الانسان وتزايد الاعداد . وبذلك اتجه الانسان لتقليد الطبيعة في هذا المكان بايجاد كهوف كتلك التي نتجت عن العوامل الطبيعية . وحيث ان الصخر رملي فان النحت او القطع فيه كان سهلا بواسطة الأدوات الصوانية المتاحة في البيئة ، ذلك أنه حجر رملي متحوِّل (صخر متحوِّل) وطيع في تشكيله للادوات الحادة صوانية كانت أم حديدية أم عظاماً لدواب قوية كالجمل والأسد والنمر والحصان والبغل.
لم تقتصر اكتشافات ديانا كركبرايد على هذا الكهف، بل وجدت آثاراً لقرى تعود لنفس العصر في مواقع البيضا إلى الشرق من البتراء حيث تبيَّن من الحفريات أن موقع البيضاء يماثل في أهميته موقع أريحا للفترة التي تعود إلى سبعة آلاف سنة قبل الميلاد , كما وجدت ستة قرى أخرى تعود إلى تلك الفترة، وظهرت في هذه القرى منازل مبنية من الحجر، على مستوى حسن، فضلاً عن العثور على أسلحة وعظام وحجارة.
ليس هذا فحسب بل أن إنسان البتراء هذا كان يتبادل التجارة مع أقطار بعيدة مثل آسيا الصغرى وساحل البحر الأبيض المتوسط في هذه الفترة المستمرة من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد إلى ما بعد ذلك. ومن المدهش أن حفريات ديانا كبركبرايد أفصحت عن قرى تحت أنقاض هذه القرى الستة أيضاً، مما يعني أن الاستقرار في المكان يعود إلى ما قبل عشرة آلاف سنة قبل الميلاد.
إذن من الواضح أن أهمية المكان وتوفر عناصر الأمن والحماية والماء والغذاء قد اجتذب انتباه سائر المجوعات البشرية التي سكنت البتراء أو وصلت إليها، وحطّت رحالها فيها من أي البلاد كانت قادمة، والأغلب أنها كانت قادمة من الشرق في جميع الحالات. والله أعلم.
وكما قلنا فإن عناصر الحياة والبقاء والاستقرار والاستمرار والازدهار كانت متوفرة في حوض البتراء، ثم تحوّلت إلى مركز عصب للقوافل التجارية العابرة بين الأقطار، لذلك أفصحت الحفريات عن دلائل تشير إلى هذا الاتساع في التبادل التجاري مع آسيا الصغرى وسواحل البحر المتوسط.
وعندما وصل الحوريون وهم سكان الجبال قبل الانباط حطّوا رحالهم هنا. ولا بد من مناقشة أمرين هنا وهما: اسم الحوريين، وتركيبة شعب الحوريين . الذين هيمنوا على حوض البتراء ومناطق الشوبك والطفيلة قبل مجيء الانباط بما يزيد على خمسة قرون على الاقل
أما بالنسبة لاسم الحوريين : ، فقد اصطلح المؤرخون أن كلمة الحوريين تعني سكان الجبال، وهذا كلام ينقصه الدليل، حيث لم يكلف أحد منهم نفسه في مناقشة ذلك. والحقيقة أن الكلمة مشتقة من الحَوَرَ Al-hawar وهو اللون العسلي المائل إلى الحمرة، بحيث تبدو بألوان متعددة يغلب عليها اللون الأحمر والبني الفاتح. وقد قال الشاعر العربي:
إن العيون التي في طرفها حَوَرٌ


قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

وان أضعف خلق الله إنسانا


فلو أخذنا المعنى كما يتداوله المؤرخون وجميعهم من غير الأردن، لاعتبرنا أن في طرف أعين الفتاة جبل أو سكان الجبال؟ وهذا لا يتفق مع الحقيقة ولا العشق ولا الغزل، ولكن الحور هنا هو اللون الجذاب الساحر للناظر، والذي هو اللون العسلي المائل إلى الحمرة الخفيفة، بحيث يبدو وكأنه متعدد الألوان والاطياف .
وفي الأردن يقولون للتربة حُوَّر Hawwar أي أن لونها يميل إلى الحمرة المزوجة بالبياض ، بحيث تمتص الماء أكثر من غيرها من أنواع التربة، وهي خصبة الإنتاج إذا ارتوت، فيقولون: ( "إذا جاء السَّحاب جاء التراب ) أي إذا كان المطر غزيراً كان الإنتاج وفيراً، وفي الأردن قرية من قرى إربد إلى الشرق منها) تسمّى حُوّارة وتسمى: حوّارة إربد وسميت كذلك بسبب لون الحَوَر Hawar الغالب على تربتها.
ونعود إلى الحوريين، فإن هذه التسمية في اللهجة الأردنية منسوبة إلى المكان ذي الصخور الوردية، ذات الالوان المتعددة الممتزجة في الآن نفسه , وتبدو كطيف في طبقات الصخر، بل تبدو جميلة ورائعة فصار الاسم لاصق بهم لسكناهم في هذه الصخور الحَوَرِيّة al-hawariyyah أما اسمهم الحقيقي فيبدو أنه اختفى وحلَّ محلّه كلمة الحوريين، مثلما هو حال أدوم التي سميت كذلك بسبب حمرة الصخور المحاذية لهم غرباً، وهي بلون الأدم وهو جلد الشاة إذا مال للاحمرار. والبدو يقولون لابن الناقة الحُوار al-huwar لأن اللون الغالب على الإبل هو اللون العسلي المائل للحمرة الخفيفة.
ومن الواضح أن الحوريين سكنوا أماكن البتراء وأدوم قبل الأنباط بقرون طويلة، وأنهم تكيّفوا مع الحياة، ولا بدَّ أنهم نحتوا العديد من الكهوف التي نرى بعضها قائمة إلى الآن، وتبدو بسيطة وبدائية، وأنها حفرت لغايات السكن او الحراسة والمراقبة , وإذا كانت الأبنية التي يصنعها الإنسان يصيبها الهدم والعدم. وإعادة البناء، أو الانجراف بفعل الأمطار أو الاختفاء تحت انقاض الطمي والركام. فإن مثل هذا الكهوف تبقى صامدة صامتة صالحة لغايات السكن والخزين والاستعمالات الأخرى عبر القرون والأجيال. وبالتالي من فهو أكثر فائدة من البناء، فضلاً عن رطوبته صيفاً ودفئه شتاءً.
واذا كان الشيء بالشيء يذكر فانه لابد وتم استخدام هذه الكهوف في كثير من الحالات لغايات العبادة وتقديم القرابين وربما للدفن او التبرك او الطقوس والمناسبات الدينية . ولكن انعدام الادلة على هذا كله ناى بالباحثين عن التفكير في هذا الموضوع , وانا ارى ضرورة النظر اليه ولو من باب التخيل الذي لادليل عليه الا التصورات الخاصة بمثل هذه الشعوب الوثنية .
والنقطة الثانية هي تركيبة ومصير الحوريين . لا بد من الإشارة هنا والتذكير أنه لا توجد إبادة كاملة لشعب كامل في الأردن إلا في حالات قليلة منها مذابح مملكة حشبون على أيدي اليهود أثناء عبورهم إلى أرض كنعان (فلسطين). ولقد داب المؤرخون على القول أن الأدوميين طردوا الحوريين أو أبادوهم، ثم القول أن الأنباط فعلوا الشيء نفسه مع الأدوميين ثم الرومان مع الأنباط وهكذا.
نحن نرى غير هذا الرأي، وقبل الخوض فيه نقول أن العرب عندما افتتحوا إسبانيا والعراق والشام وسائر الأقطار أبقوا أهلها فيها تحت فئتين أما اعتناق الإسلام. أو البقاء على دين النصرانية مع دفع الجزية. ومع الزمن تعلّم هؤلاء لغة العرب الفاتحين وصاروا من موالي العرب ثم صاروا عربا مع تعاقب الاجيال , وذابوا في المجتمع العربي الجديد وهم في ديارهم. لم يطردهم العرب ولم يقترفوا بحقهم المذابح والمجازر, وعندما دالت دولة العرب في الاندلس وآلت إلى الزوال حلّ الإسبان مكان العرب في الحكم، وكان العربي المسلم الأندلسي بين خيارين إما اعتناق النصرانية ليصبح اسبانيا اوروبيا وحينها يبقى بالاندلس واما اندلسيا عربيا مسلما وحينها مصيره القتل او مغادرة الاندلس الى بلاد العرب في شمال افريقيا والمشرق العربي ,أو الخروج إلى بلاد أخرى ومنا الامريكتين بعد اكتشافهما .
وبالفعل تحول الكثير منهم عن الإسلام تنصيراً أي بالقوة الجبرية وباوامر محاكم التفتيش التي هي وصمة عار في جبين الاسبان الى يوم القيامة . بقي العرب مسلمون بالسرِ وصارت العناصر الإسبانية التي كانت تحولت إلى العروبة والإسلام، نصرانية مرة أخرى ومعها نسبة عالية من العرب المسلمين الذين اجبروا على اعتناق النتصرانية او الموت . وتبدّلت الأسماء، وصارت الأندلس نصرانية إسبانية، ليس فيها عربي ظاهر . وأما الجزء الآخر من العرب فخرج إلى شمال أفريقيا، وإلى مالطا، وإلى بعض أجزاء جنوب أوروبا وهو تائه لا يدري أين يذهب لما حلّ بهم من مأساة لم يذكر ولن يذكر التاريخ أسوأ منها وأكثر وحشية وهمجية . وعندما افتتح الإسبان أمريكا، ولحقتها البرتغال وبريطانيا وفرنسا، قاموا بحرب إبادة ضد الهنود الحمر، ومع هذا بقي الهنود الحمر بأعداد ضئيلة تكاثرت مع الزمن محتفظة بثقافاتها ولغاتها المحليّة فضلاً عن تقمّصها للثقافة الغربية الجديدة. بل إن عدداً من دول أمريكا اللاتينية الآن عادت يحكمها أبناء الهنود الحمر بسبب نسبتهم الغالبة على الوافدين، وبسبب الوعي القومي للسكان الأصليين.
نخلص من هذا أن العرب في المشرق العربي لم يبيدوا الفرس عندما جاءوا بالفتح الاسلامي , كما ان العرب لم يبيدو البربر رغم ماكان بينهم من قتال في بواكير الفتوحات الاسلامية . كما طالت السلامة اهل الأندلس النصارى . ولكن ماحدث وكما هو شأن هيمنة الغالب عادة، هيمنت الثقافة العربية الإسلامية على هذه الشعوب، وعندما انحسر سلطان العرب عنهم عادت هذه إلى حيث كانوا وبالتالي فإن كلمة إبادة كاملة قد لا تتفق مع جميع الحالات،وهي ليست في ثقافة العربي لا في الجاهلية ولا في الاسلام . وما فعله الاسبان من ابادة وتنصير ضد عرب ومسلمي الاندلس يتفق مع مافعله اليهود ضد مملكة حشبون باعتراف التوراة وتبجحها بذبح الأطفال والنساء والعجزة ونهب المواشي والموجودات مما يبرهن على بني إسرائيل كانوا قتلة. ولصوص، فضلاً عن أنهم سُرَّاق التاريخ.
سقنا هذه البلااهين الطويلة لنقول ان كلمة ابادةالحوريين او الانباط او اي شعب اخر قديم انما كانت نجازا لاحقيقة , وان ماحدث انما كان مذابح راح ضحيتها الكثير من الناس ولكن ليس كل الناس من ذلك الشعب المستهدف
ونعود للحوريين، فهم شعب كامل بالنسبة لمفهوم عصرهم ذاك قبل آلاف السنين، وهم عرب جاءوا من الشرق، وبالتالي لا بد وتربطهم بالأدوميين صلة التاريخ ومكان الأصل ونقاط الانطلاق, كلاهما من عرب الجزيرة , وكلاهما اختاروا الاردن وطنا لهم , وكلاهما اختاروا المناطق الصخرية ملاذا وقت الخطر بحثا عن الامن والطمانينة , وكلاهما عاش مئات السنين فوق هذه الارض دون ان يتركها الا بعد ان جاءت قوة اخرى وانهت دولة كل منهم وبقي الكثير من الشعب ومات وقتل الكثير وهاجر الكثير الى ديار اخرى .
كل منهما يريد العيش بوئام وسلام في المنازل الجديدة وهي هذا الجزء من الأردن الذي تتوفر فيه الحماية والماء والغذاء. ولا شك أن استقرار الأدوميين واختيارهم للمنطقة يدل على تقارب أو تطابق المفهوم والعقلية، والتي لا تكون عادة إلا إذا كانوا من أصل واحد. لذا فإن العلاقات في البداية لا بد وكانت حول ضيق العيش والمكان بالشعبين، وعدم كفاية الموارد الطبيعية لهما معاً، مما أدى إلى الصراع بين الطرفين.
ويبدأ الصراع عادة بأبسط الأشياء،وابسط الناس وينتهي إلى قمّة الهرم وهم شيوخ أو ملوك الطرفين الذين يقيسون الأمور حسب مصالحهم , وكل عائلة تريد أن تبقى في سدّة الحكم، وترى في الطرف الآخر خطراً يتهددها، وتتم التعبئة، وتقع الحرب. حتى إذا ما فقد شيوخ وزعماء الحوريين سيادتهم وقيادتهم موتاً أو هرباً أو خضوعاً للقادمين، تحوّلت نسبة من الناس من شعبهم لتنضوي تحت لواء المحتلين الجدد، وتصبح جزءاً من الشعب الجديد، وتنتحل اسمه، وتبتعد عن اسمها السابق الذي جاء لها بالبلاء . فالصراع من اجل البقاء هو الاساس في هذا الموضوع . وهذا ما شرحناه سابقاً في هذا الجزء، وشرحناه مفصّلاً ومطوّلاً في جزء: التاريخ السياسي للعشائر الأردنية بالانجليزية .
وإذا اعتمدنا رواية العهد القديم في أن سلع كانت للحوريين، فيكون ذلك مطابقاً لما نراه أن الأدوميين جاء إلى منطقة الحوريين الذين كانوا يمتدون على الأراضي التي صارت لأدوم (مناطق الطفيلة) والبتراء التي صارت للأنباط، ونحن بصدد الحديث عنها، أما سلع المشار اليها في العهد القديم فهي التي أشرنا إليها وتقع في لواء بصيرا/ بمحافظة الطفيلة، وإذا ثبت رأي التوراة تكون سلع من نحت الحوريين، ومتقدمة على البتراء، وتكون سبباً من حوافز الأنباط فيما بعد لنحت البتراء على النحو الذي نراه الآن.
ومما يشير أن الأدوميين امتلكوا سلع بعد الحوريين ما أوردته التوراة أيضاً متباهية بهمجية بني إسرائيل، وحقدهم على البشرية من غيرهم، وبخاصة على العرب، إذ تروي (التوراة) أن الملك أمصيا Amesya ملك يهوذا (796-781ق.م) احترب مع الأدوميين وألحق بهم هزيمة وذبح عشرة آلاف منهم على أرض المعركة وأخذ عشرة آلاف آخرين إلى صخرة سلع وطرحهم عن رأس سلع فتكسّروا أجمعين.
وإذا كان الأدوميين يفقدون في معركة عشرين ألف رجل مقاتل , منهم من لقي حتفه قتلا ومنهم من القي به من اعلى صخرة في سلع ، فإن ذلك يعني أنهم كانوا على كثرة كبيرة وواضحة . وإذا كان لا بد وحدثت معركة فلا بد أنها صارت إلى الغرب والشمال من الرشادية الحالية في التلال المتماوجة ووادي غرندل التي جميعها تصلح لمعركة بالسهام والسيوف والاختباء، ولأنها على أبواب بصيرا عاصمة الادوميين . ولكن التوراة لم تتحدث عن قتل ملك أدوم أو احتلال بصيرا في هذه المعركة تحديداً أما ما يقوله المؤرخون أن سلع في هذا النص تعني البتراء، وأن أم البيارة المطلّة على البتراء كانت مسرحاً لقتل الأسرى، فإنني لا أتفق معهم، وإنما أرى أن كلمة السلع تعني التي ذكرناها ووصفناها غربي ظانا، في محافظة الطفيلة.
وان المعركة التي انتصر بها الاسرائيليون على الادوميين في القرن الثامن قبل الميلادي وقعت في نفس المكان الذي وقعت فيه معركة الجيش الاسلامي بقيادة عمرو بن العاص في القرن السابع ميلادي وفيها هزم الروم في غرندل الى الشرق من بصيرا . وبذلك نجد ان العرب ثارت لنفسها بعد اربعة عشر قرنا , كما ثارت في معركة اليرموك فيما بعد وهزمت الروم في المكان الذي كان ملك اسرائيل هزم تحالف الملوك الاردنيين في هيرموكس التي صارت اليرموك . انه التاريخ يعيد نفسه ولو بعد قرون طويلة .
وبذلك ذكر التاريخ أربعة أجيال من الأمم أشرنا إليها توّاً، وهي إنسان ما قبل التاريخ من عشرة آلاف قبل الميلادي وما قبلها كما اشارت ديانا كركبرايد في دراستها لكهوف البتراء , وما بعد ذلك ايضا . ثم جاء الحوريون الذين حلّوا محلّ من سبقهم وصموا اليهم بقيا القبائل الموجودة في عين المنطقة واحتووهم ثم جاء. ث جاء الأدوميون وأنشأوا مملكتهم المهمة التي استمرت قرونا طويلة بين ضعف وقوة وبسط نفوذ وتقلص مساحة . . وفي رأينا أن الأدوميين تشكلوا من الأدوميين والحوريين والمجموعات التي سبقتهم، وأنه كلما جاءت موجة إلى هذا المكان انطلقت من نقطة وصول من سبقها من حيث الإنتاج والرعاية والمعيشة والتجارة وضمت اليها من كان قبلها .
من هنا، فلا يليق بذوي الجحا أن يتخيلوا أن الحوريين كانوا من النقاء بحيث لم يدخل بهم أو ينضم إليهم أناس من خارجهم، بل انضم إليهم من سبقهم ,ومن جاء الى ديرتهم او لجأ اليهم طالبا حمليتهم . وكذلك كان شان الأدوميين والأنباط، فإن أهل المكان صاروا من رعايا الموجة الجديدة وأخذوا اسمهم. ولا شك أن المثل الأردني الذي يقول: اللي ياخذ أمي هو عمي ينطبق على هذه الطريقة كما تبرهن هذه الأحداث على أن الثابت في الأردن هما: الأرض، والإنسان، وأن التغيير يكون في الطبقات العليا عادة ونسميات الدول وتغير الانظمة . اما الشعوب فهي لاصقة بالارض بكل تاكيد .
تحولت البتراء زمن الأنباط إلى مكان نادر وفريد في العالم للتزاوج والوئام بين الطبيعة والإنسان، والحاجة والاختراع، والعروبة والفن، وملتقى الحضارات عبر قوافل التجارة. وأجادوا تطوير واستخدام الدولاب في صنع اسطوانات وصحون وأدوات الفخار الأخرى، بما يفوق قدرة الصينيين في هذا المجال. وقد زينوا الصفحات الداخلية للصحون بالنقوش، والدهان الأسود والبني الغامق بطريقة بالغة الدقة، نقول هذا لنبين أن الأنباط أحرزوا مستوى من التقدم الحضاري والازدهار الاقتصادي ما جعلهم موضع إعجاب البلدان الأخرى، وحسد الإمبراطورية الرومانية والممالك اليهودية في فلسطين.
وقد طوّروا الحرف العربي إلى عدة مراحل، وصاروا يكتبون النصوص بحروف منفردة ومتماسكة، ونقشوها على الصخور وصفائح الصخور ومع هذا فهي قليلة، لكنها على درجة من الأهمية، وهي أقرب الخطوط واللغات إلى لغة العرب الشماليين وحروف الصفاوي في بادية الأردن الشمالية. وبذلك احتوى متحف الأردن الطبيعي على نموذجين من تطور الحرف العربي الذي خدم البشرية جمعاء وهو الحرف الصفوي والحرف النبطي وكلاهما متشابهة مع مطابقة الأحرف في نصوص الفئتين.
وقد تم العثور على نص منحوت على نصيبة قبر الملك الحارث مؤرخاً في السنة الخامسة والثلاثين من سنوات حكمه وهذا نصّه بالعربية الحالية:( هذا القبر الذي بناه الطبيب ابن وائل لنفسه وأولاده وعامة الشعب لا يباع ولا يمسكه أي إنسان هذا القبر للحارث ملك الأنباط وتم نقشه سنة خمس وثلاثين من فترة حكمه وهو ملك ملوك الأنباط وهو مكرّس للإله ذو الشرى، سنة خمس وثلاثين من فترة حكمه) وتشير هنا أن النبطية تكتب كالعربية أفقياً ومن اليمن إلى الشمال.
النص النبطي ونه (هذا) قبرا (قبر) دي (العائد إلى) عبد كهلن (الطبيب) لنفسه وبلده وأحره (عامة الشعب النبطي) وان هذا القبر لا يؤجر (أي لا يؤجر ولا يباع) ولا يُمْشَكَنْ (لا يُلْمَس)، كل أنوس (من قبل أي إنسان)، ونا قبرا (هذا القبر) لحرثت (للحارث) ملك ملك بنطو (أي ملك ملوك الأنباط)، رمم عمه (المحب لشعبه) سشنت (سنة) ثلثين (ثلاثين) وخمش (خمسة) للإله دو شرى (الإله ذو الشرى) ومن خلال هذا النقش نجد أن:
1. ملك الأنباط كان ملكاً للملوك ذلك أن الأمراء في سائر أنحاء الدولة والشعب آنذاك كانوا يُسَمَّون ملوكاً، مثلما كان الأمر زمن الأيوبيين عندما كان يسمى ابن الملك ملكاً رغم أنه أمير أو من عليه القوم يحكم أن والده ملكاً.
2. ومن خلال النص نجدهم يؤرخون بفترة حكم الملك القائم، لأنهم لم يعرفوا شيئاً اسمه التوقيت الميلادي حيث كانوا قبله، ولا الهجري لأنهم قبل هذا التاريخ بفترات طويلة.
3. ومن الملفت للنظر أن النص جعل من قبر الملك أمراً مقدساً مصوناً بالحرز، وأنه لا يجوز بيعه ولا لمسه، ولا الإساءة إليه احتراماً للملك الذي خدم شعبه وقاده إلى الرخاء والبناء، وما عرف هذا الطبيب ابن وائل النبطي الأردني العربي أن قبر الحارث والبتراء برمتها ستمر في فترة من التاريخ تتحول فيه إلى سلعة للبيع والشراء والإيجار دونما مراعاة لحرمة الملك الحارث أو للشعب النبطي أو لورثته من أبناء الشعب الأردني. فسبحان الله مقلِّب الأحوال والأزمنة، ومغيِّر الأمور والدهور.
4. كأنهم كانوا يعبدون الإله ذو الشرى، وهذا اسم جبال الشراة التي تقع البتراء فيها، والتي تسميها التوراة: سعير، وبعض المصادر تسميها سعيرا والأردنيون يلفظونها: الشراة.بلفظ التاء المربوطة هاءا او تاءا مفتوحة
5. نلاحظ التركيز على أن الملك محبُّ لشعبه، لأن هذه المحبة تحوطه بالرعاية في مماته، كما كان يحوطهم في حياته بمحبته ورعايته، وإن الطبيب ابن وائل لدليل على تقدمهم بالطب في حينه، وأنهم لم ينسوا هذا العلم من حياتهم. ويبدو واضحاً أنه كان طبيب الملك وأنه حصل على موافقة الملك في حياته على وضع هذا النص على قبر الملك بعد موته , وانه كان ملازما له عند الاحتضار وان طبيب الملك كان بمثابة الناطق الرسمي للملك في الامور الهامة , وان القضايا الروحية الخاصة بالملك كانت من مهمات الطبيب الخاص وليس من اختصاص الكهنة .
وما دام الشيء بالشيء يذكر فإن آلهة الأنباط لم تقتصر على ذي الشرا أو ذو شرى، أو ذو الشرا، وإنما كان لديهم اللات وهو الصنم المشهور عند العرب في الحجاز وفي الأردن، وفي الوقت الذي نجد فيه اللات على شكل صنم معتاد لأنه إله مستورد، ولا مجال للتغيير فيه، فإنهم كانوا يجسّدون (ذو الشرى) أو (دوشارا) على هيئة كتلة من الصخر أو عمود من الصخر طويل يتم غرسه في الأرض.
وقد رأيت نموذجين لهذا الإله (ذو الشرى) في كل من قرية عروعير المطلّة على الموجب والقائمة على ضفته الشمالية، حيث رأيته عام 1987م ووصفته في كتابي. في ربوع الأردن جولات ومشاهدات، حيث يوجد حجر طويل جداً، ومن حوله حجارة أخرى أقلّ منه طولاً، متطابقة معه بالنحت والهيئة . وأما النموذج الآخر لهذا الإله الذي رأيته فهو في قرية أدر Adir من قرى عشيرة المعايطة/ شمال الكرك ويسمونه صربوط أي الحجر القائم الطويل. حيث لا زال قائماً، ورأيته أواخر صيف عام 2005.
ومن خلال هذين النموذجين للإله النبطي "ذو الشرى" نجد أنه كان منتشراً في الديار الأردنية، وربما عبده أناس غيرهم أيضاً، كما أنه مؤشر على أن هذه القرى والمناطق خضعت للأنباط، ثقافياً وروحيّاً على الأقل.
وقد تنبهت اليونان لهذه المملكة النبطية الفتية وقوتها ، ومهارة أهلها بالتجارة والتوسع فأرسلت حملة عسكرية قادها حاكم سوريا اليوناني انتيجونس وذلك لإخضاع الأنباط لسلطة أثينا. وقد تمكن هذا القائد من احتلالها، وكانوا يسمونها الصخرة حيث ورد اسمها في كتابات يونانية تعود إلى عام 310 ق.م أنه يدعوها باسم: "الصخرة... في غاية المناعة ولكنها بدون أسوار" ثم يواصل النص اليوناني إعطاء معلومات عن شعبها فيقول: "العرب الذين يُعرفون باسم الأنباط" إلا أن النصّ يذكر أمراً مغايراً للحقيقة التي عرفناها ووجدناها عن الأنباط حيث يقول: "أن هؤلاء الأنباط اتخذوا لهم سُنّةً أن لا يزرعوا قمحاً ولا يغرسوا أشجاراً مثمرة ولا يشربوا خمراً ولا يبنوا بيتاً ". وهذا كلام عارٍ عن الصحّة. اللهم إلا إذا كان المقصود أنهم ترفعوا عن ممارسة هذه الاعمال واستخدموا غيرهم لأداء هذه المهمات نيابة عنهم لانشغالهم بالتجارة. أما ما عدا ذلك فهو أمر غير صحيح.
وتعود إلى حملة أنتيجونس الذي وصل البتراء في يوم مناسبة عامة هامة استدعت خروج الشباب الأنباط. خارج المدينة للاحتفال والرقص والغناء وتبادل وسماع الشعر والقصص والحكايات، باعتبارها مناسبة تثقيفية فضلاً عما كانت عليه من إشباع للفرح والتعارف. دخل القائد اليوناني إلى الصخرة ولم يجد إلا الشيوخ الذين بلغوا من الكبر عتيا ، وبلدة هادئة وادعة خالية من المحاربين ، فمارس رجولته اليونانية على الشيوخ والأطفال والنساء وقتلهم، نهب وجنوده ما وصلته أيديهم من المتاع وحلي النساء والمال والمرّ واللبان و500 آنية من الفضّة يبدو أنها كانت في خزينة الدولة.
انطلق بعض الرجال الذين سلموا من القتل إلى مكان الاحتفال لإخبار الشباب الانباط بما حدث في غيابهم، فعاد الشباب سراعاً إلى حيث وجدوا الدماء والجثث، حيث طارت أنفسهم شعاعاً وغضباً، بينما انسحب اليونان بعد أن سرقوا ما سرقوا، وقتلوا ما قتلوا. فما كان من الشباب إلا واقنفوا أثر الجيش اليوناني الذي نام في سبات عميق تحت نشوة النصر والغرور الذي أصابهم.
وفي ظلمة الليل وهم نيام هجم عليهم شباب الأنباط وأبادوا الجنود اليونانيين جميعاً وعددهم أربعة آلاف جندي، لم يبق منهم حيُّ إلا خمسين جندياً هربوا بارواحهم ليرووا لقادتهم تفاصيل الحكاية من اولها الى اخرها . وبذلك بدأت فترة من الحرب والقتال وكسر العظم وإراقة الدماء بين اليونان والانباط . وكان رأي الملك النبطي والدولة أن يرسلوا إلى أنتيجونس في الشام رسالة يشرحون فيه ما فعله جيشه من النهب والقتل والتخريب، وأن الأنباط توّاقون للصداقة، كارهون لإراقة الدماء، وألا تزداد العلاقات النبطية اليونانية سوءاً. وتظاهر أنتيجونس بالقناعة والرضا بذلك ليخدع الأنباط ويطمئنهم بالصداقة والمودة، ولكنه في الحقيقة كان يعدّ العدّة لحملة قوية بقيادة ديمتريوس.
وبالمقابل فإن الأنباط لم ينخدعوا باقوال أنتيجونس المعسولة، فازدادوا استعداداً ويقظة، وأنشأوا مخافر أمامية للمراقبة في جبال الشراة وحول البتراء، أشرنا إليها سابقاً. لكي تحيطهم علماً بأي تحرك للعدو إن تقدم قبل الوصول إلى ديارهم.
وصلت الأنباء باقتراب الحملة، فقام الناس بالبتراء بحمل أمتعتهم وأموالهم وما كان ثميناً لديهم، وأودعوا ما تعذر عليهم حملة في مكان منيع تحت حراسة حامية منيعة قوية، وغادروا البتراء التي أصبحت خاوية على عروشها خالية من أهلها الذين تفرقوا في الصحراء والأجزاء الشرقية من الشراة، ومعان، حيث تتوفر المياه.
أما القائد اليوناني فقد أراد الاستيلاء على الودائع، ولكن الحامية النبطية صدّته بجدارة، وتقدّم رجال من كبار الدولة إليه وصار التباحث والمفاوضات التي انتهت إلى تقديمهم هدايا ثمينة إليه، فرضي من الغنيمة بالإياب سالماً. وعاد الناس إلى منازلهم، كان ذلك في مطلع بناء البتراء، ويبدو أنها لم تكن قد اكتملت بعد، لكنها كانت مدينة بلا أسوار لأنها مسوّرة بالحجر الطبيعي الذي يفوق كل عمل بشري مهما كان عظيماً. وبدأت صداقات اليونان مع البتراء إلى درجة أن شخصاً يونانياً اسمه أثينودوروس ولد في البتراء، وهو الذي زوّد سترابو المؤرخ اليوناني بمعلومات عنها، وقد دوّن سترابو وصف المدينة، في حوالي القرن الأول قبل الميلاد وفيما يلي فقرات مما ورد في كتابه عن المدينة الوردية:
"يمتاز الأنباط باعتدالهم وجدِّهم، حتى أنهم يفرضون عقوبة علنية على كل شخص تتناقص ثروته، أما الذي يُنَمِّي ثروته فيزيدونه تكريماً وشرفا... وحيث أن الأنباط لا يقتنون من العبيد إلا القليل، فإنهم يستخدمون ذوي القربى في أعمالهم، أو يتبادلون الخدمة لبعضهم بعضاً؟ أو يخدمون أنفسهم بأنفسهم، وهو ما ينطبق على الملوك مثلما هو الحال على بقية أفراد الرعية، وهم يؤلفون مآدب للطعام تضم كل مأدبة منها ثلاثة عشر رجلاً ومعهما فتاتان تجيدان الغناء. أما الملك فيقيم في منزله الكبير مآدب طعام عديدة يدعو إليها رجال الدولة وعدداً من عامة الشعب... وهكذا ترى أن الملك ديموقراطي، فهو بالإضافة إلى خدمته لنفسه، فإنه يقوم بخدمة الآخرين في بيته. كما أنه كثيراً ما يقدم حساب نفقاته إلى الشعب، وأحياناً أخرى يجري التدقيق في مسلك حياته، أما مساكن الأنباط فهي منشآت ضخمة من الحجر ومدنهم غير محاطة بالأسوار بسبب حالة السلم والأمن السائدين في بلادهم وتكثر الثمار في بلادهم باستثناء الزيتون، وهم يستعملون الزيت المستخرج من السمسم، وأغنامهم بيضاء الشعر، وثيرانهم كبيرة، وليس في بلادهم خيول، لذلك يستعيضون عنها باستخدام الجمال. حتى الملوك يخرجون وهم يرتدون بزات لا أحزمة لها، ويرتدون النعال، ويصنعون ملابسهم من الأرجوان... إنهم يمجّدون الشمس ويقيمون لها هيكلاً في منازلهم ويسكبون الخمر عليها يومياً ويحرقون أمامها البخور، وعاصمة الأنباط هي المسماة البتراء... تحميها الجبال الصخرية من جميع الجوانب. وهذه الجبال سحيقة الانحدار من الخارج ويعتريها الجفاف من ظاهرها، ولكنها من الداخل كثيرة الينابيع ومن مياهها يستقي الناس ويروون البساتين".
إن ما أورده سترابو على لسان الرجل النبطي أو المولود بالبتراء ويحمل اسماً يونانياً، يتضمن الكثير من المحطات التي تستحق الإشارة إليها:
1. أن الثروة عنصر أساس في حياتهم حيث يعاقبون الكسلان الذي يجلس عن طلب الرزق، ويتوانى عن تنمية ثروته، عقوبة تعزيزية وهي توبيخه أمام الناس ليكون عبرة للآخرين. أما من يزيد في ثروته فإنه بالمقابل يجد التكريم والحوافز المهمة ليستمر في عمله وإنجازاته.
2. موضوع الخدمة، وهو أمر يتفق مع العرف العربي القديم الذي كان سائد والقائل:
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً


ومالي من شيمة غيرها تشبه العبدا


فالملك يخدم ضيوفه، والناس كل يخدم ضيفه، ويخدم نفسه والمجتمع هنا مجتمع أحرار، لذلك فإن عدد العبيد قليل مقارنة بما كانوا عليه من الثراء. وتتجلى هذه الخدمة في تقديم الطعام وإقامة المآدب سواء لدى العامة أم لدى الملك.
3. المحاسبة والمراقبة للملك فالحكم عندهم ديمقراطي يخضع فيه الملك للمساءلة حول مسلكياته الحياتية، وحول ثروته ومن أين اكتسبها، فلا مجال للنهب من مال الشعب أو خزينة الدولة. فما دام الملك نزيهاً من حيث المال، سويّاً من حيث السلوك، فإنه يصلح لإدارة المملكة، وإلا فإنهم يستبدلونه بآخر دونما تواني أو خجل. ولكي لا تصل الأمور إلى مثل ذلك. نجد ملوكهم يعيشون حياة شعبهم وأبوابهم مفتوحة للناس، ويعودون للرعية عند اتخاذ أي قرار مصيري أو هام.
4. أن الثمار كثيرة في البتراء بسبب خصوبة التربة وتوفر المياه من جهة، وحالة السلم والأمن السائدين، وقد توصّلوا إلى استخراج الزيت من السمسم.
5. أن مواشيهم كانت من الأغنام البيضاء (وهي النعاج)، والإبل والبقر.
6. أنهم يمجّدون الشمس ويقيمون لها هياكل في منازلهم.
هذه الأقوال التي تعود للقرن الثالث قبل الميلاد تصف حال البتراء قبل اكتمال قطعها في الصخر، وهي تبيّن كيفية نمو البتراء العمراني بشكل متزايد حتى صارت قاعدة لخطوط التجارة الدولية في حينه القادمة من جزيرة العرب ومن هناك توزيع هذه البضائع إلى فلسطين وشواطئها، والبحر الرومي ومصر وسوريا، ثم دفعها إلى أوروبا.
تمدد الأنباط واكتملت دولتهم في القرن الثاني قبل الميلاد، وتوسعت شمالاً وغرباً، وصارت إحدى القوى الهامة في المنطقة التي يحسب لها حسابها، ولها جيشها القادر ليس للدفاع عنها فحسب، بل ومهاجمة ممالك أخرى خارج الديار النبطية الأردنية وإذا كانت الأحداث التاريخية تطالعنا بأسماء ملوكهم. فإن الحارث الأول هو الأول أيضاً الذي نتعرف عليه على رأس دولة مركزية قوية ذات شوكة وقوة اقتصادية وجيش للدفاع عن المملكة . ولكن ذلك لم يتحقق إلا بعد مراحل طويلة، وملوك آخرين طواهم النسيان ,سَيُكْشَفُ النقاب عنهم من خلال الحفريات الأثرية التي لا زالت البتراء بحاجة إلى الكثير منها، بل لا زالت تعتبر بكراً في هذا المضمار رغم كل ما تم عمله من قبل.
ظهر الحارث الأول في أواخر القرن الثاني قبل الميلادي. ونرى أن اسمه اسماً عربيّاً ناصعاً، وكذلك أسماء ملوك الأنباط من بعده، وأن تسميتمهم : الأول والثاني والثالث وما إلى ذلك تدل على أنه كان نظاماً وراثيّاً من خط نسبي واحد الابن عن ابيه وهكذا , وهذا ماكان متعارفاً عليه بين الشعب والأسرة الملكية الحاكمة، وشبيه به ما هو موجود في الأسر المالكة في دول شتى وعبر التاريخ , وشبيه لتسمية الملوك في أوروبا عبر تاريخها وعند العرب في تاريخهم المعاصر ومن قبله.
لقد كان بلاط الحارث الأول ذا شوكة قوية يلجأ إليه زعماء آخرون طلباً للحماية، ومنهم جاسون كبير كهنة اليهود في القدس بعد طرده من فلسطين حيث لجأ إلى بلاط الحارث الأول. أما عبادة الأول الذي كان ملكاً في بداية القرن الأول قبل الميلاد فقد تغلب على جانوس حاكم فلسطين وهزمه في ميدان المعركة. وزاد على ذلك باسترداده لمؤاب وجلعاد، وبذلك نجد أن الأنباط قد سيطروا على غالبية أجزاء الأردن الحالي حتى نهر الزرقاء ثم إلى نهر اليرموك في مرحلة لاحقة .
وبذلك تكون مملكة الأنباط أول مملكة عربية أردنية تقوم حدودها على الأراضي الأردنية الحالية من خليج العقبة إلى نهر اليرموك ومن وادي السرحان في البادية شرقاً , الى نهر الاردن وغور الاردن غرباً، مما زاد من قوتها وثرائها، ووحدت شعوب الممالك السابقة (مؤاب، وعمون وباشان) في شعب واحد وهوية واحدة وهي النبطية الاردنية ، وأننا لنجد آثارهم في برك الماء وخزاناتها ومعاصر الخمر والزيتون في سائر أنحاء الأردن التي يقول عنها العامة أنها رومية، وهي في حقيقتها نبطية وبعضها من منجزات الدول الأردنية الأخرى من قبلهم.
لم يتوقف توسع الأنباط عند نهر اليرموك، بل تعداه إلى دمشق، وذلك زمن الملك الحارث الثالث بن عبادة. وقد كانت الدولة من القوة والرخاء والاستقرار الداخلي وتماسك الجبهة الداخلية، بحيث توسع أفق التفكير عند هذا الملك (الحارث الثالث) وأبدى اهتمامه الواسع بالأحداث السياسية في فلسطين اهتماماً كبيراً، وقد شعر الرومان بخطورة هذه المملكة وملكها وتطلعاته , وأرسلوا حملة عسكرية للتنكيل بها يقودها سكاوروس، إلا أن الأنباط أخلوا المدينة، ثم فاوضوا المعتدي وابتاعوه بالهدايا، واحتفظوا باستقلالهم، وعاد بما تاقت نفسه إليه من المتاع، وليس بما قررته إدارته في اجتثاث المملكة النبطية.
وعندما أحس الأنباط أن الرومان يتشوّقون ذات يوم لاحتلال بلادهم، وأنهم لا بد قادمون إن بقيت بالروم قوة، تطلع الملوك الاباط الى حلفاء يستقوون بهم ضد الرومان . فما كان من الملك النبطي مالك الثاني (مالكوم)، إلا أن وقف إلى جانب الفرس عندما اشتبكوا في حرب مع روما، ولكن سوء الطالع كان حليف الفرس الذين ولّوا أدبارهم هرباً أمام الرومان , مما اضطر الأنباط، تحت وطأة الحزن والأسى، أن يدفعوا الجزية للرومان، وكان ذلك في حوالي عام 40 ق.م. إلا أن الرومان وقد تميّزوا غيظاً من هذه المملكة الاردنية , اعتبروها واحدة من أملاكهم التي تباع وتشترى وتهدى. فقام مارك أنطونيو بتقديم جزءاً كبيراً من أراضي العرب ومن ضمنه مملكة الأنباط، هدية إلى محبوبته كليوبترا ملكة مصر انذاك ، فتحوّل دفع الجزية إليها في مصر، بدلاً منها في أثينا.
لم يرق ذلك للأنباط الذين وقفوا داعمين لملكهم ( مالك / مالكوم ) للتخلّص من هذه المهانة التي لحقت بهم في انهم من عديد سقط المتاع والعبيد والمواشي , فصار الملك مالك يتباطئ في إرسال المترتب على مملكته مدعوما من شعبه وملتزما بارادة هذا الشعب ورغبته ، فما كان من هيرودس الكبير إلا ودخل على الخط مع كليوبترا، واتفقوا على محاربة العنصر العربي، وإذلاله، وإهانة كبريائه الذي يحمله الأنباط.
شكل أنطونيوا وكليوبترا جيشاً مشتركاً للقضاء على مملكة الأنباط، ومحوها عن الخارطة والوجود , إلا أن مالك الثاني وشعبه كانوا قد استعدوا جيّداً لهذا اليوم في معركة موت أو حياة، معركة الكرامة والآباء العربي ضد هؤلاء الغزاة، وراح الملك مالك يرسل الهدايا والعطايا سرّاً لقادة الجيش اقادم لمهاجمته واشتراهم بالرشوة والمال، وعندما احتدمت المعركة قرب السويس هرب هؤلاء القادة المرتشين , ومعهم هرب الجيش وتم إغراق أسطولهم فلحق بهم مالك وجيشه وعملوا فيهم مقتلة عظيمة، وإهانة أشفت صدور الأنباط والعرب في يوم كيوم ذي قار ضد الفرس التي صارت فيما بعد في التاريخ الاسلامي . .
وهنا تحوّل رأس أنطونيو الحامي الأحمق وقد فشل في الثأر لمعشوقته إلى استخدام العقل والحكمة، وتخلّص من قادته الذين خانوه، وصار هزيلاً ذليلا أمام محبوبته كليوبترا فاستعد ثانية بجيش لجب عام (31/32ق.م) حقّق نصراً على الأنباط واحتل جانباً من أراضيهم، لكنه لم يتمكن من احتلالها برمتها كما كان يصبو اليه , ولكنه انخذل بعد ذلك في واقعة كاناثا Kanatha .
وفي عام 28ق. م . مات مالك الثاني وخلفه عبادة الثالث الذي حكم حتى عام 9 ق.م. وهنا تطور مستوى المواجهة مع الغرب (الرومان) حيث أعد الإمبراطور أغسطس حملة عسكرية لمهاجمة بلاد العرب، وفي ذلك برهان على صراع الشرق والغرب منذ العصور القديمة، وأنهم دائماً يغزون بلادنا، ويعملون ما وسعهم الجهد لاحتلالها واستعمارنا. كان لا بد من وسيلة يسلكها الانباط للتخلص من هذا الجيش الرومي الجرار، وبعد طول تفكير اتفق الملك عبادة الثالث مع رئيس وزارئه صالح (ساليوس) أن يفرّ صالح مدّعياً تمرّده على الملك وثورته ضده، وان يلجأ إلى قائد الجيش الروماني طالباً الحماية من سيّده . وبالفعل نفذ الخطةوانطلت الحيلة على الرومان فاستقبلوه بقبول حسن وترحيب حار.
وحيث أن الرومان ليسوا أصحاب خبرة بهذه الديار واهلها ، فقد عرضوا على صالح أن يدلّهم على الطريق إلى البتراء، مقابل تنصيبه ملكا على البتراء بدل الملك عند انتهاء الاحتلال، فوافق ظاهريا على ذلك. وسار الجيش وراء دليله صالح النبطي حيث سلك به أكثر المناطق وعورة وقحولة، فمات الجيش من الإرهاق والعطش والجفاف وحرارة الشمس، ثم تركه للطير، وعاد إلى سيّده وقد أدى مهمة عجزت عنها مملكة الأنباط برمتها. وهذه الحادثة تكررت في حوالي عام 1840 عندماقام جلحد الحباشنة بمهمة الدليل للجيش المصري الذي يقوده ابراهيم باشا , ولكن جلحد سلك بالجيش المصري طريقا وعرا قاحلا ادىالى هلاك غالبية الجيش وانكفائه الى بلاده مصر ومغادرة الاردن الى غير رجعة . وبذلك فان جلحد الكركي وصالح النبطي قاما بالمهمات الوطنية التي انقذت الاردنيين كل في زمنه , من قبضة الاحتلال الاجنبي
أدى هذا الهلاك للجيش الرومي إلى نشوة المملكة النبطية الأردنية، فازدادت ازدهاراً وثراءً، وصار عبادة يتطلع للتخلص من هيرودس خصم والد عبادة كما سبق وذكرنا. فاتصل عبادة (الثالث) بالقيصر للتخلص من هذا القائد الروماني. وكان من الأسباب أن سالومي الفتاة الصارخة الجمال كانت ابنة زوجة هيرودس، هدفاً يتطلع عبادة للزواج منها، إلا أن طلبه قوبل بالرفض. وامله قد تبدد. ومع هذا لم تتأثر البتراء بهذه المجريات.
كان هيرودس ملكاً على مملكة يهوذا في فلسطين ومركزها القدس، وهناك في التاريخ هيرودس الكبير، وهيرودس التتراكي الذي شبت في عهده الفتن والثورات، الأمر الذي أدى بالرومان أن يتدخلوا لحفظ الأمن، وخشية تدخل فارس في شؤون فلسطين التي كانت تحت هيمنة الروم وإن كانت تحت حكم اليهود. وهنا وجد الملك النبطي عبادة الثالث أن هذه فرصة مواتية لتحقيق أربعة أهداف:
1. أولاها إبعاد غضب وانتقام روما عن الأنباط وحصره ضد اليهود.
2. ثانيها أن يقضي على مملكة اليهود أو على هيرودس الذي رفض تزويجه ابنة زوجته الفتاة الصارخة الجمال سالومي. وهذه وسيلة انتقام تشفي صدره وغيظه.
3. حماية بلاده، على أنها حليفة لروما ووقفت معها في الأيام العصيبة.
4. إظهار قوة الجيش النبطي بحيث يضع الهيبة في قلوب اليهود والرومان كلاهما على حد سواء.
5. في هذه الاثناء ارتقى الملك الحارث الرابع عرش المملكة العربية الاردنية النبطية ضمن النظام الملكي الوراثي المتبع في ارتقاء غرش هذه المملكة . وكان الحارث الرابع يخشى من غدر الرومان وراح يقوم بالاستعداد لمجابهة الحملة لما وصله من اخبار نية الرومان الغدر به .
تولى الحارث الرابع عرش مملكة الأنباط بعد والده عبادة الثالث، الذي أراد أن يرتبط وهيرودوس بعلاقة حميمة، حيث لم يكن راضياً عن رغبة والده بالزواج من سالومي، خشية هيمنة اليهود على مملكة الأنباط، وقام بحلٍّ معاكس، وهو تزويج ابنته الأميرة العربية النبطية من الملك هيرودوس، لتكون هي نقطة القوة النبطية هناك، ولعلها تلد من الأولاد من يتولى العرش في فلسطين ويصبحوا حلفاء أو أتباع لأخوالهم مملكة الأنباط.
كانت خطة الحارث الرابع في غاية الذكاء، وكان الزواج سياسيّاً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ولكن الأميرة العربية النبطية اكتشفت في زوجها ما هالها، ألا وهي العلاقات الغرامية بين زوجها هيرودوس وهيرودياس أرملة أخيه. وهنا طلبت الأميرة النبطية الطلاق، فرفض هيرودوس الذي حاول لملمة الفضيحة. ولكنها نزحت ومن معها من الخدم والأدلاء إلى شرق الأردن حيث استراحت في قلعة مكاور ثم واصلت مسيرها إلى البتراء. وأعلمت والدها بما حدث، والذي بدوره جمع العائلة المالكة ورجال الدولة وقادة الجيش واعتبر ذلك إهانة لشرفه العربي لا يغسله إلا الدم.
زحف الحارث الرابع بنفسه على رأس جيش إلى هيرودس وتغلّب عليه وبطش به، وثار لشرفه، ولكن هيرودس اللعوب استنجد بالإمبراطور الروماني طيبرويوس الذي لبّى النداء واستجاب للطلب فأوعز إلى عامله في سوريا أن يقود حملة لخلع الحارث الرابع لأنه تجرّأ على الإغارة على أحد أتباع روما، وكان عليه (على الحارث) أن يشكوه للإمبراطور لا أن يأخذ القانون بيده
إلا أن حظ الحارث الرابع كان ساطعاً، فبينما كان يقوم بالاستعدادات لمجابهة هذه الحملة، مات الإمبراطور الروماني ، مما أضطر قائد الحملة الرومانية فيتيلوس أن يعود من الطريق ولكن ليس إلى سوريا، وإنما إلى أنطاكيا، وذلك يعني ابتعاد الخطر خطوات بعيدة جداً عن البتراء العربية
وأثناء ذلك وجد هيرودس اليهودي الفرصة مواتية للراحة والاستجمام وعدم إثارة مشاعر الحارث الرابع والأنباط، بعدم التحرش بهم، وإنما التفرغ لملذاته فذهب وأرملة أخيه التي تزوّجها بما ينافي عقليات الشريعة اليهودية، أقول ذهبوا إلى قلعة مكاور (ماخيروس) في شرق الاردن في الجبال المطلة على البحر الميت ، ومعهم سالومي ابنة أخيه ابنة زوجته أرملة أخيه هيرودياس، وهناك أمضى وقته بالشراب وسماع الموسيقى ومشاهدة الرقص الأمر الذي أثار النبي يحيى بن زكريا (يوحنا المعمدان) عليه السلام الذي رفض هذا التصرف، ورفض مباركة زواج هيرودوس من ارملة اخيه ، مما جعل هيرودوس بسجنه في سجن قلعة مكاور نفسها.
أقام هيرودوس وليمة حضرها رجال الدولة والجيش وكلهم غاضبون على النبي يحيى لما قام به من إثارة الناس ضد هيرودوس لأنه خالف شريعة التوراة، وفي تلك الحفلة التي كانت بمناسبة عيد ميلاده، رقصت سالومي بما أعجب عمها، فقال لها اطلبي ما شئت فقالت لها أمها: اطلبي رأس يوحنا المعمدان، فأمر به فقتل وجيء برأسه على طبق وضعوه على المائدة. كان ذلك في الأردن في قلعة مكاور (ماخيروس) التي تقع في الأجزاء الغربية من جبل بني حميدة.
وقد أشار الإنجيل إلى الحارث الرابع، حيث كان عامله على دمشق أثناء سجن القديس بولس الذي نجا من السجن بواسطة حبل وصل إليه وربطه بالنافذة وتدلى منه.
وتنقطع المعلومات المتوفرة بعد الحارث الرابع عن مملكة الأنباط، لكن الاحتلال الروماني لها قد ألقى الضوء على آخر ملوكها رئبال الثاني ورئبال معناها ابن الأسد باللغة العربية الذي توفي عام 106 والذي أصبحت البلاد بعد وفاته مقاطعة رومانية. حيث استولى عليها الرومان وفرضوا عليها النمط الروماني من حيث البناء والهندسة والسيادة .
وبالفعل أصاب الغرور والنشوة جيش الأنباط بعد التنكيل بمملكة يهوذا، وهم يرون عدوّاً لدوداً قد تلاشى من الخارطة أو صار واهناً في الحسابات العسكرية والسياسية، ولكن ذلك أثار غضب القائد الروماني الذي أعلن عدم حاجته لاستمرار الجيش النبطي معه. وهنا غيّر هيرودوس طريقته في الحكم مرة أخرى. وصار طائعاً للرومان. فنصّبوه على سائر مملكة يهوذا، وجزء من بلاد شرق الأردن.
يتحدث المؤرخون والكتاب عادة عن انهيار الأنباط والبتراء ملكاً ونظاماً ودولة وشعبا بل وتلاشيهم ً في عام 106 عندما هاجمهم تراجان الإمبراطور الروماني، ولكنني أرى رأياً آخر، ذلك أنني كسياسي أولاً، ومؤرخ ثانياً، أرى أنه يستحيل انتهاء شعب ودولة تأسست عبر ستة قرون أو خمسة في لحظة واحدة، كما أن الرومان لم يكونوا يريدون القضاء على كل شيء في البتراء لأن ذلك ليس من مصلحتهم، لحاجتهم الاقتصادية والفنية والإرث الحضاري الفني لهذا الشعب.
من هنا، فإنني أرى أن الرومان قضوا في البداية على عنصرين هامين وأساس في بناء الدولة وهما: الجيش حيث تتحدث الروايات عن إلقاء عشرة آلاف رجل من على أسطح الصخور العالية، فتهشمت عظامهم إلى غير رجعة. وأنا أرى رغم تباين الآراء، أن هؤلاء كانوا القوات المسلحة النبطية، أو مجموعات من الشباب المسلحين الذين تم العثور عليهم يحرسون داخل البتراء. وبذلك أنهى الرومان القوات المسلحة النبطية بالقتل والإبادة وليس بالأسر، ولا بإعادة التأهيل ولا بالغذاء.
وأما العنصر الثاني فهو القضاء على الاستقلال، وبالتالي على السيادة والقيادة التي كانت تتمتع بها دولة الأنباط، وملوكهم، لأن أدواتهم كانت في الدرجة الأولى قواتهم المسلحة التي لقيت حتفها بين قتل في المعركة أو إلقاء من فوق الصخور الشاهقة. وفي حالة تغلب أية دولة على أخرى فإنها تطلب الاستسلام لها من قبل السلطات الحاكمة. وحيث لم يعد لملك الأنباط ودولته وهو رئبال الثاني Rabal II حيلة أو وسيلة في المقاومة أو الحرب، فقد استسلم للقائد الروماني وخضع لشروطه كاملة لقاء البقاء على حياته وعلى شعبه وعلى عرشه الكرتوني الوهمي .
من هنا تحولت البتراء إلى وسيلة أو سلطة حكم ذاتي تحت أوامر والي سوريا الروماني، وخضعت للقوانين والثقافة الرومانية، وظهرت هندسة البناء الروماني واضحة في شارع الأعمدة التي تم كشف النقاب عنها منذ وقت مبكر من القرن العشرين.
وبناء عليه فإن ثروات البتراء بدأت تنخفض بالتدريج، وعاد الامر الى مكان عليه اوله , اذ عاد الملك عبارة عن شيخ للعشيرة والبلدة تحت اوامر الحامية الرومانية ، وانفصلت بقية الأجزاء بالقوة العسكرية. وتم تغيير طريق التجارة لتصبح تدمر هي المحطة البديلة عن البتراء، وكلما ازدهرت تدمر، ذبُلَتْ البتراء، حتى لفَّها النسيان من صفحات التاريخ وبقيت رهينة الصخور الصماء لايعرفها الا اهلها الذين يندبون حظهم العاثر بهم من مملكة مزدهرة الى خيام تخفق الارياح فيها .
ومع هذا بقيت آهلة بالسكان حتى بعد انتشار المسيحية في الأردن أي في القرن الرابع الميلادي وما بعد ذلك، حيث تم العثور عند الجرة على صفحة الجدار الخلفي في حجرة واسعة تسمى ضريح الجرة كتابة مدهونة باللغة اليونانية تنبئ أن الحجرة كانت تستعمل كنيسة في سنة 447 ب.م. فضلاً عن آثار في عدد من الكهوف تبيِّن أنها كانت تستخدم من قبل الرهبان النصارى.
وقد تم العثور أيضاً على نقوش باللاتينية وأخرى بالنبطية تعود لنفس الفترة، كدليل على أن البتراء كانت آهلة بالسكان في الفترة الرومانية، لكنها كانت مسلوبة السيادة، مقطّعة الأوصال وفيها لغتان : النبطية العربية وهي لغة اهلها , واللاتينية الرسمية وه يلغة الدولة المحتلة . فالنص اللاتيني موجود على ضريح سكستوس ومحفور في الصخر الوردي باللاتينية فوق مدخل الضريح، وهذه ترجمة للنص:
"إلى لوسيوس الصغير ابن لوسيوس بابيريوس سكستيوس فلور نتينوس أحد المسؤولين الثلاثة عن سك النقود الفضية والذهبية المحامي العسكري لفيلق منيرفا الأول، المدعي العام لمقاطعة أشيا، محامي الشعب، قائد الفيلق الثامن في هسبانيا، القنصل الأول في مقاطعة ناربونتسيس، الوالي المعين من قبل أغسطس، حاكم مقاطعة بلاد العرب، الأب الذي يعرف واجباته جيداً، تمشّياً مع وصيته بعينها".
من الواضح أن لوسيوس هذا كان الحاكم الفعلي للمقاطعة العربية وعاصمتها البتراء، أي حاكماً لبقايا مملكة الأنباط بما فيها البتراء وأن ملوك الأنباط صاروا تحت إمرته وفقدوا استقلالهم ولم يفقدوا حياتهم واتصالهم بشعبهم , طالما ان نشاطهم وعملهم هذا دونما أي نشاط عسكري.
أما النص الثاني للفترة نفسها، أي بعد الاحتلال الروماني للبتراء فقد تم العثور عليه على ضريح في وادي التركمانية وهو موجود فوق الباب، وفيما يلي نصّه:
"إن هذا الضريح والحجرات الكبيرة والصغيرة التي في داخله، والقبور المبنيّة على طراز المدافن الجانبية، والساحة الواقعة أمام الضريح، والأروقة والمنازل التي بداخلها، والحدائق، والثلاثية، وآبار المياه، والشرفة والجدران وبقية العقارات والأمتعة الموجودة في جميع هذه الأماكن، قد كُرِّست ونُذِرَتْ مُلْكاً مصوناً لدوشارا Dhu shara إله ربِّنا، وعرشه المقدس، وجميع الآلهة حسب التعيين في الوثائق المتعلّقة بالمواضع المنذورة حسب محتوياتها، وحسبما يقضي أمر دوشار Dhu shara وعرشه وجميع الآلهة بأن منطوق هذه الوثائق المتعلقة بالمواضع والأشياء المنذورة يجب أن يطبق وينفذ دون أي تحوير. كما يجب ألا يجري أي تراجع أو نكوص عما تتضمنه تلك الوثائق، وأن لا يدفن أي إنسان في هذا الضريح عدا الشخص الذي يملك وثيقة خطية تمنحه حق الدفن حسب نصوص الوثائق المذكورة المتعلقة بالأشياء المنذورة إلى الأبد".
من هذا النص نجد أن البتراء بقيت مأهولة بالسكان، وعامرة بالثقافة والحضارة حسبما هي تقاليدهم وعاداتهم، مع إضافة الثقافة الرومانية والتزاوج معها حسبما ذكرنا من قبل. وأن هناك قبور خاصّة ومقدّسة تابعة للآلهة لا يجوز الدفن فيها إلا لمن لديه وثيقة خطيّة تخوّله لذلك وتعطيه حق الدفن كما يبيّن النص وجود عدة آلهة لدى الأنباط أهمها وأعلاها هو ذو شرى Dhu shara ، وأنه لا يجوز التلاعب بهذه الوثائق والنذور.
أما ما يظهر من وجود سلسلة من الأخاديد المزدوجة السطحية في كثير من واجهات الصخور المنحوتة فإنها في رأينا مواضع الحبال التي كان يتم ربط عارضة النحت بها، حيث يبدأ النحت من الأعلى إلى الأدنى على عارضة ربما تكون من الخشب المغطى بالجلد. مربوطة بحبال من وبر الجمال وصوف النعاج او من جلدها ، بحيث تحتك هذه الحبالة بالصخر وتؤثر به، ولا أظن وجود سبب آخر لهذه الحزوز (مفردها حَزَّ). ولمزيد من الشرح عن البتراء يمكن مطالعة ما كتبناه عنها في الجزء الأول من كتابنا في ربوع الأردن جولات ومشاهدات.
كان لكل ملك من ملوك الأنباط ضريحه الخاص به، تماماً مثلما هو شأن الملوك المعاصرين في العالم. وقد اعتنى الأنباط بأضرحة الموتى. وبقيت منها أضرحة صارت جزءاً من الإنجاز العظيم الذي حققوه في فن النحت والبناء في هذه المدينة الوردية. وهذه الأضرحة الهامة هي: ضريح الجرة، الضريح الكورنتي، ضريح القصر، ضريح فلورنتينس، عدا عن الأضرحة الأخرى من الدرجة الثانية في الأهمية. كما توجد خرائب لقلعة صليبية مهدمة وهذا يدل على أنها كانت مأهولة في ذلك العصر.
وصول سقوط البتراء لا بد أن ندلي بدلونا حول ذلك:
1. إن مملكة الأنباط الأردنية العربية، كانت المشروع العربي الحضاري السياسي الوحيد في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط في زمنها، وصارت معروفة لدى جميع دول وسكان هذه البلدان. وأهل اليمن والحجاز وسكانها وحكامها. ومثل ذلك كان يشكل خطراً على دولة الرومان الشرقية والتي كان مركزها القسطنطينية والمسماة بيزنطة من جهة، ودولة الرومان الثانية وكان مركزها مصر حيث جرت المعارك بين الأنباط وبين قوات كليوبترا من جهة وبينهم وبين قوات الرومان السوريين من جهة أخرى مدعومين من روما . وكما بينَّا فقد كان النصر حليف الأنباط بالحيلة تارة والسيف تارة أخرى والحظ طوراً آخر، حتى كانت سنة 106 عندما سقطت زمن الإمبراطور الروماني هدريان ثم دخلت في غياهب التاريخ والنسيان، ولكنها لم تدخل صفحات التلاشي كما يظن البعض حتى عادت إليها أمجادها من جديد في القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين.
2. إحاطتها بالأعداء في صراعها مع المملكة اليهودية بالقدس والممالك الرومانية في سوريا ومصر كما قلنا توَّاً، مما زاد من أعدائها , وصاروا على ماكان بينهم من خلافات، متفقون على القضاء على هذا المشروع العربي الرائد، وقد تمكنوا من ذلك في نهاية المطاف.
3. ضعف الجيش النبطي امام الروماني المصري والبيزنطي وقوات روما . حيث كان على الانباط ان يواجهوا ثلاثة جيوش مما جعل جيشهمضعيفا وضيئلا امام هذ الجيوش .
4. الوهن الطبيعي الملازم لمرور الزمن، فكل دولة تبدأ بالخطوة الأولى ثم تتعاظم وتنمو فيها عناصر البقاء، إلى أن تصل الأوج ثم تنحدر إلى نقطة الصفر مرة أخرى. وبالتالي كان أفول نجمها أمرا طبيعيا في مسار الحياة، لأن الثابت هو التغير.
5. ظهور تدمر كمركز دولي لخطوط المواصلات والتجارة بديلاً عن البتراء.
ة الباب الثالث
مناقشة نصوص التوراة
ذكر القرآن الكريم في آياته المحكمات وكلها محكمات قصص الأقوام الأردنية فوق الأرض الأردنية، وعلاقتهم بالكفر والإيمان وبالأنبياء الذين أنزلهم الله سبحانه وتعالى عليهم، وما حلّ بهم لكفرهم، وكيف أنقذ الله من أمن منهم، وكيف انتقل كل نبي من الديار التي كان بها، وحلَّ بها العذاب إلى مواقع أخرى تارة لا ندري مثل صالح ولوط، وتارة عرفنا كما هو الامر في حالة سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام الذي انتقل من مدين في منطقة الكرك إلى وادي الأيكة المعروف الآن بوادي شعيب، أو وادي السلط، .
يبدو أن مهمة الأنبياء (صالح، ولوط، وشعيب) انتهت الى فرز الناس إلى فئتين: فئة آمنت بالله ونجت مع النبي، وأخرى كفرت وكان مصيرها الهلاك بالصيحة والرجفة، وعاليها سافلها، ومطر من حجارة السوء، ويوم الظلة.
وقد جئنا إلى ذلك بالشرح في الجزء الخاص بالتاريخ السياسي للعشائر الأردنية من هذا الكتاب، كما شرحنا مطوَّلاً إشارات القرآن الكريم إلى المواقع الأردنية في كتابنا: الأردن في كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين (2007). كما تحدثنا أيضاً عن ورود هذه المواقع في التوراة والإنجيل في الكتاب نفسه .
وحيث لا داعي للإعادة والإطالة، فإن موضوع حديثنا هنا في هذا الجزء من تاريخ الأردن، هو مناقشة نصوص العهد القديم ، لأنها الأساس الذي اعتمده سائر المؤرخين والكتاب والرحالة الأجانب، على أنه مصدر موثوق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي نقطة التباين بين موقفنا وموقفهم. فنحن نناقش ما ورد في النصوص، منها ما نتفق معه ومنها ما يخالف المنطق والواقع وثقافة أهل البلاد ونتائج الحفريات فنختلف معه .
وقد ورد ذكر الأردن في العديد من أسفار التوراة / العهد القديم ، وأكثر ما تردد في كل من الأسفار التالية: التكوين، العدد، الملوك الأول، الملوك الثاني، تثنية الاشتراع، القضاة، صموئيل الأول، صموئيل الثاني، الخروج. تحدثت عن وقائع في الأردن، سواء أكانت مرتبطة بالصراع بين أهل البلاد وبني إسرائيل، أم عن أحداث فوق الأراضي الأردنية. وفي جميعها نجد أن كاتب العهد القديم يجعل اليد العليا دائماً لبني إسرائيل، ويجعل اليد السفلى لغيرهم.
وقد وجدت من خلال ترجمتي للعديد من كتب الرحالة الأجانب إلى هذه الديار أنهم كانوا يعتمدون التوراة مصدراً رئيسياً ـ وصحيحاً ـ بالنسبة لهم، عن الأردن، وأسماء المواقع، والأحداث التاريخية، وتتناسى التوراة والرحالة أن هذه المواقع أصلاً كانت ذات أسماء محلية أطلقها أهل البلاد الأصليين من رعايا الممالك الأردنية قبل مجيء الإسرائيليين إلى المنطقة، وكل ما فعله كتاب التوراة أنهم استخدموا الاسم العربي الاردني القديم كما هو على حاله، أو مع شيء من التحريف الذي يرتبط باللفظ اللغوي ذلك أن العين في العربية غير موجودة في العبرية، وكذلك الحاء التي تتحول في لغتهم إلى خاء.فسرقوا التاريخ وهم اكثر سراق للتاريخ .
يأتي اهتمام التوراة بالأردن من عدة منطلقات هي:
1. أنها جزء من الديار المقدسة التي يزعمون أنها وطنهم الموعود وبالتالي فإن حيلهم لم تنطلي على ملوك الأردن عندما طلب الإسرائيليون المرور رغم انهم وعدوا ان مرورهم ذاك سيكون دون إحداث أي أذى، بل كان هؤلاء الملوك الاردنيين يعرفون أن لهؤلاء الغزاة أطماع توسعية واحتلالية في الهيمنة على الأردن على أنها جزء من بلاد كنعان، باعتبار الشعبين العموري (الأردني) والكنعاني من أصل واحد، أو من ديار واحدة على الأقل.
وحيث كانت توجد ممالك قوية، تساعدها طبيعة الأرض الأردنية الوعرة ذات البنية المغطاة بالحجر والشجر، فإن العبور تم احتلال بلاد كنعان كان أيسر عليهم من البدء باحتلال الأردن، وإنما أرادوا أن يدخلوا إلى الرحم للنمو هناك لتكون الولادة على حساب الأردن، وأن الولادة في بلاد كنعان تكون دائماً على حساب الأردن.
وعندما صدر وعد بلفور في 17/10/1917 نصّ على أن بريطانيا تتطلع لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، باعتبار هذا الوعد إنجاز لوعد ديني قديم أن هذه الديار هي لهم، وهم مدعومون من سائر أقطار العالم بما فيها كثير من الدول العربية (للأسف الشديد!!) وكان الوعد يشمل كلاً من فلسطين وشرق الأردن في آن واحد، ثم قامت بريطانيا، واستثنت الجزء الشرقي (الأردن)، ليكون مستودعاً أو محطّة أو وطناً للمغادرين من فلسطين على شكل مهاجرين أو نازحين، أو مواطنين أو تهجير، أو أي عنوان يروق لك.
وأن المؤرخ الأردني، يجد قلمه دائماً قاصراً دون الحديث عن هذا الموضوع لأنه يُنْعث حينها بأوصاف الإقليمية والعنصرية ومحاربة ما يسمى بالوحدة الوطنية لمجرد جرأته على مناقشة موضوع التهجير الفلسطيني إلى الأردن، أو إجبارهم على الهوية الأردنية في مطلع الخمسينيات أو أي شأن يتعلق بالشعبين. ورغم أن لدي رأي ورؤى وفكر واضح حول هذا الموضوع، فإنني أمسك عنه، وأختصر الأمر بكلمات قليلة: أن الأردن وفلسطين والأردنيين والفلسطينيين وقعوا جميعاً ضحية مؤامرة دولية كبرى، وأنهم في حقيقتهم ليسوا أعداءً لبعضهم، وإنما يشغلهم أعداء الطرفين في الصراع بينهما بالإنابة، أو الحرب بالنيابة عن أطراف أخرى.
ومن الواضح أن المطامع الصهيونية بالأردن استمرت عبر التاريخ، منذ الخروج 1350 ق. م . إلى الآن، حيث أخذت أشكال تأجير الأراضي (قبل منتصف القرن العشرين) ومن ثم بيعها لليهود تحت مسميات وعناوين منها الاستثمار وذلك في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين ومن الواضح أن جيلنا سيترك للأجيال القادمة ركاما وحطاما ضخما جداً من الهموم التي لا طاقة له بها. والاتفاقيات والتبعات الاقتصادية التي ستحولهم إلى أجراء أو عمال كل فوق أرض ابائهم واجدادهم . ولا ندري هل سيكون ذلك بمثابة بدء الصراع أم لا. وإذا حدث فسيكون صراعاً بين الأغنياء والفقراء، بين الجياع ومن لا يجد لقمة العيش من جهة وبين الذين بطرت معيشتهم وامتصوا دكاء الناس والفقرء , بغض النظر عن الأصل أو اللون أو العرق.
2. تكتسب الأردن أيضاً أهمية كبرى من خلال سيرة النبي موسى والنبي هارون، حيث ترى التوراة أن موسى مدفون فيها، وبالذات في منطقة صياغة غربي مأدبا. وأن هارون مدفون في طور البتراء حيث قبره وعليه قبة إلى الآن، وتحدث عنه الرحالة العرب والأجانب عبر القرون الماضية. ورغم أنني أرى أن موسى عليه السلام مات خارج الأردن، وأن دخوله للأردن قبل موته لم يكن في رأينا إلا نمطاً من الكشف الإلهي الذي خصّ به أنبياءه وأولياءه أن جاء به إلى صياغة ليرى بلاد كنعان أو أنه كشف له ملك البلاد من خلال الكشف النبوي للأموات والأشياء، أقول رغم أنني أرى ذلك، إلا أن زخم التدوين التوراتي والرحالة يصرّ على أن موسى دخل الأردن وحارب الممالك الأردنية وأنه وقف في صياغة فأراه الله البلاد المقدسة ثم أماته.
لا أرى أن نقف طويلاً حول التأييد والتفنيد لهذا الرأي، ولكن نقول أن اليهود ينظرون أن في الأردن قبران لأحب أنبيائهم إليهم موسى وهارون عليهما السلام، وبالتالي فهي قريبة إلى قلوبهم، وهم لا يتوانون لحظة للتشوُّف إليها واحتلالها سواء بالهيمنة على سيادتها أو الشراء أو الاستئجار أو الاحتلال.
ليس هذا فحسب، بل إن القرآن الكريم والتوراة كلاهما على حدٍّ سواء تحدّثنا عن رعاية سيدنا موسى عند شعيب كاهن مدين الذي تسميه التوراة جيثرو Jethro ، والذي رأينا، من خلال الدراسة والتمحيص ومقارنة الأحداث والأزمنة، أن شعيب موسى لم يكن نبيّاً، بل كان مؤمناً ورجلاً صالحاً، وأنه حفيد شعيب النبي، وبالتالي فإنه من قبيلة جذام العربية. وهذا يدل على أن نسل المؤمنين من أهل مدين قد عادوا إليها بعد أن دمّر الله الكفرة زمن شعيب الاول ، وبالتالي لم يكن في العقوبة أشعة تحول دون نبات الزرع والضرع والحياة، وإنما صيحة ورجفة فقط وهذه لاتجعل الارض عقيما كالاشعاعات .
3. المفاوضات الإسرائيلية مع الملوك الأردنيين من أجل المرور والعبور ورفض هؤلاء الملوك لذلك جملة وتفصيلاً، ولم يقتصر الرفض على ذلك، بل اشتمل على رفض وجود بني إسرائيل في ديار بني عمهم الكنعانيين ( فلسطين ) لذلك تتحدث التوراة عن معارك وحروب طاحنة بين الممالك الإسرائيلية منذ حطت رحالها في فلسطين إلى ما بعد ذلك بألف وخمسمائة سنة، كان آخرها ما قام به أعظم الملوك الأردنيين في التاريخ وهو : الملك ميشع من تحرير البلاد من الاحتلال الإسرائيلي، وقد أشرنا إلى ذلك في أكثر من موضع في هذا الكتاب وغيره.
إن ما حدث من صراع بين فرعون وبني إسرائيل، وما سامه من خسف لهم إذ كان يذبِّح أبناءهم ويستحيي نساءهم ويستعبدهم في أعمال السخرة والخدمات عند المصريين، لم يكن بمنأى عن علم الممالك الأردنية برمتها، ذلك أن خط التجارة بين هذه الممالك، وبخاصة أدوم ومصر، كان عامراً، وكان اصحاب المواشي في أدوم يلجأون إلى مصر في سنيّ القحط التي تصاب بها شرق الأردن. وكانوا يستوردون حاجاتهم من مصر. بل إن العديد من الملوك والفراعنة، ومنهم الملك الريان بن الوليد (ملك النبي يوسف) هو من الديار الأردنية أصلاً.
إذن كان الأردنيون جميعاً من باشان إلى عمون إلى حشبون إلى مؤاب إلى أدوم إلى مديان، بالصورة عما يحدث لبني إسرائيل هناك، أو على الأقل كان الملوك يتلقون مثل هذه المعلومات من التجار وبعثات االلاط الملكي في تبادل السفارات والهدايا والتفاقات على الصداقة والمودة . وكان ملوك الاردن يرقبون ذلك بعين الحذر وحب الفضول. وعندما حضر سيدنا موسى إلى مدين، ذكر القرآن الكريم ذلك بقوله ( ولما توجه تلقاء مدين ) فهو لم يذهب وحده، ولا عبر برية ليس فيها طريق كما يقول بعض الكتاب، بل ترى أنه اختار في مرحلة من مراحل الطريق بين مصر وادوم ، والتحق في احدى المحطات بقافلة تجارية من مدينة متجه تلقاء مدين، أي نحو مدين، ورافقها حتى وصل إلى هناك، دون أن يفصح عن هويته. بل إنه كان في البلاط الفرعوني الذي كان على علم ودراية بالملك من حوله أيضاً، وبحركة التجارة والناس إلى مصر، ومع مصر. وحيث انه كان في بلاط الفرعون فانهم لم يكونوا يعرفونه , واصطحبوه معهم دونما سؤال , وهي العادة الاردنية التي تنص على عدم سؤال الضيف عن اسمه وهويته لمدة ثلاثة ايام وثلث .
وكان الملوك الأردنيون أيضاً بصورة الحدث من نزول موسى وهارون كانبياءوما حدث لهم لان ذلك استغرق سنوات طويلة وان العقاب الالهي لقوم فرعون قد اثر على التجار والرعاة الاردنيين
كان ملوك الاردن ايضا على دراية لما حصل لفرعون وقومه وجنده من الغرق ، ونجاة موسى عليه السلام ومن معه أجمعين، ومكوث بني إسرائيل أربعين سنة غضباً من الله عليهم لعبادتهم العجل، وعدم إطاعتهم لله سبحانه الذي نصرهم على فرعون وانجاهم منه ومن رجاله . وبناء عليه فان الرعب من الغضب الالهي قد اصاب قلوب الملوك الاردنيين بكل تاكيد . كانوا يخشون أن ربَّ السماء يقف مع بني إسرائيل، وأنه غضب عليهم ومع هذا أنزل عليهم المنِّ والسلوى، وأن جيلاً جديداً قد جاء إلى الحياة لم يكن يرتكب خطايا من سبقه، بل جيل مؤمن بإله موسى. وبالتالي فإن مجابهة هؤلاء صعبة، وأن الأفضل هو إبعادهم وابتعادهم عن الديار الأردنية، وكذلك كان الامر والحال من هؤلاء الملوك.
صحيح أن التوراة تقول أن موسى هو الذي قاد بني إسرائيل من العقبة عبر الأردن، لكنني أشك في ذلك، ولكن الثابت أن يوشع بن نون فتى موسى، وزوج مريم أخت موسى هما اللذان قادا بني إسرائيل عبر الأردن ثم في فلسطين حتى توطدت أقدامهم هناك، قبل أن يموت يوشع في الأردن ويدفن فيها حيث لا زال ضريحه في زي إلى الآن مطلاً على فلسطين (الديار المقدسة). لذا فقد باءت بالفشل طلبات عبور بني إسرائيل للديار الأردنية، للأسباب المذكورة أعلاه، فضلاً عن أن ملوك الأردن يعرفون أن بني إسرائيل يعتبرون الأردن جزءاً من الديار المقدسة المنوي الهيمنة عليها واحتلالها.
أدى هذا الرفض إلى بذل مزيد من الجهد، وقضاء مزيد من الوقت ليسلك بنو إسرائيل وادي اليتم ثم عبر الديسة ثم إلى معان فالأزرق ثم عبر ثغرة من أراضي مملكة عمون التي كانت في تلك الفترة في أوج وهنها حتى إذا ما دخلوا فلسطين عن طريق مخاضة دامية إلى أريحا شعروا بالأمن والأمان أن أقدامهم قد وطئت الأراضي المقدسة الموعودة. وهنا حدث ما كان يخشاه الملوك الأردنيون من أن بلاد كنعان صارت قاعدة لبني إسرائيل لغزو الأردن.
4. الأردن ملاذ آمن. أشارت التوراة إلى اتخاذ مساحات من شرق الأردن كملاذ آمن للأبقين والهاربين والمتمردين والضعفاء. وهو المكان الوحيد الذي أشارت إليه التوراة. أما الاصطلاح فقد تم إعادة تسويقه في القرن العشرين باتخاذ ملاذات آمنة للأقليات في الدولة التي لا تتفق سياستها مع الغرب، بحيث يلجأ إليها أعداد من الناس المضطهدين ليجدوا الأماكن. كما أن هذه الملاذات الآمنة كانت نزعاً للسيادة الأردنية من على أجزاء من أراضيها، وأن بني إسرائيل ادعت الشرعية على أرض لا شرعية لوجودهم بها أصلاً.
وإذا أردنا التوسع في الشرح، فنقول أن من معاني كلمة الأردن: النعاس، والشدة والغلبة والقوة. كما أن النعاس مؤشر على الأمن والطمأنينة أيضاً ( ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154 ) [آل عمران:154]
فالنعاس هنا اقترن بالأمن والنعاس، وبالتالي فإن الملاذ الآمن هو جزء من طبيعة معنى اسم الأردن، وليس غريباً عليه.
5. الصراع الطويل بين الإسرائيليين في فلسطين (بعد عبورهم واستقرارهم) وبين الممالك الأردنية، حيث تأخذ هذه مساحة كبيرة في التوراة من الحديث عن الأردن وممالكه وشعوبه. وقد ذكر القرآن الكريم الحرب ما بين جالوت ملك عمون وطالوت ملك اليهود وكيف أن داود قتل جالوت وأن بني إسرائيل انتصروا بإذن الله، وهم الفئة القليلة، على العمونيين وهم الفئة الكثيرة. ولولا إرادة الله، لما كان للإسرائيليين طاقة بجالوت ( لاطاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده )
أدى هذا الصراع إلى عدة أمور منها: حركة الاحتلال والتحرير، إذ كان الإسرائيليون يحتلون أجزاءً من الأردن فيحررها الأردنيون ويحتلون أجزاء من فلسطين وهكذا دواليك بين مدّ وجزر، وإذا انهزم طرف ذات مرة، أعاد الكرة في الهجوم لتحقيق نصر جديد دونما كلل أو ملل.
كما أدى هذا الصراع إلى فترات سلم ووئام بين ثنايا فترات الحرب والخصام، كان يحدث خلالها تزاوج، حيث تزوج داود عدة أميرات عربيات من الأردن، كما أن داود نفسه اتخذ من الأردن ملاذاً آمناً عندما كان شاؤول يطارده، وقام ملك عمون حانون باستقباله والإحسان إليه ودعمه في صراعه ضد شاؤول، حتى استعاد ملكه.
إذن لم يكن الصراع شرّ كله، ولا خير كلّه، بل فترات متعاقبة بين مدّ وجزر، يدخل الطمع تارة والحماقة تارة أخرى لتأجيج الصراع . ولم يقتصر هذا الصراع على ملك أردني دون آخر، بل تعداه إليهم ومعهم جميعاً من ملوك مديان إلى ملوك باشان. كما أن فترات الهدنة والصداقة كانت تصاب بالانتكاس، فلا تطول مدّتها، وكانت الحروب تتفاوت بين مناوشات خفيفة الى معارك الى حروب طاحنة، مثل حرب ميشع مع عمري ملك إسرائيل في زمنه وحرب ملك إسرائيل مع ملوك مديان وقتله لهم إن صدقت التوارة.
وغالبا ما كانت الأردن هي ساحة المعركة والصراع، مما أدى إلى نزوح الناس من مناطق عبور الجيوش والمعارك، إلى مكان آمنة أخرى، لذلك لم يكن غريباً أن نجد المواطنين من مؤاب Moab ، وقد رحلوا إلى عمون أو أدوم أو باشان ليكونوا من رعاياها للابتعاد عن مدن الصراع من جهة ولكي لا يقوم ملك تلك الديار بإلزام أولادهم بحمل السلاح للقتال ضد بني إسرائيل. وكان لهؤلاء الأردنيين قدرة هائلة على التكيف مع أي احتلال لأرضهم، أو التمازج مع المجتمع الجديد في المملكة الجديدة بمجرد التحاقهم بها والتحول إلى رعاياها.
أدى هذا الصراع، وما سببته المملكة اليهودية في القدس من اضطراب في المنطقة ووجع رأس لآشور، أن قام الملك الآشوري نبوخذ نصر بغزو القدس والقضاء على مملكة يهوذا، وسوق السبايا والأسرى والأطفال والرجال والنساء إلى بابل، فيما يسمى السبي البابلي، أو السبي الأول، والأمر نفسه قام به الرومان بعد الميلاد كما سيأتي إن شاء الله.
6. الطمع بخصوبة الأردن وتوفر مياهها العذبة، واعتبارها الجبهة الشرقية لفلسطين. فقد كانت الأردن في تلك الحقبة جنات تجري من تحتها الأنهار. وأن ما ورد من نصوص في كل من التوراة والقرآن الكريم لتدل على ذلك بدون منازع. وكانت مساحاتها مكسوّة بالأشجار البرية، والفواكه التي تنمو بشكل طبيعي، والأعشاب، وبالتالي مرعى هائلاً للمواشي، وخصباً للإنتاج الزراعي، وأن الخرائب العائدة إلى جميع الشعوب المتعاقبة، كما أن أسطح الصخور ووجود المستحاثّات ـ الحيوانات البحرية المتحجرة ـ في أراضي الجبال والوديان البرية في أطراف البادية ليدل على أن البحر كان يطمي هذه المنطقة.
إن الصخور الجرداء كانت ذات يوم مغطاة بالتربة والأشجار والأعشاب إلا أن عوامل التعرية الهوائية (الريح) والمائية (المطر) قد نقلت التراب إلى أماكن أخرى في الوديان، وربما في دلتا تلك الوديان التي كانت مجرى للسيول والأنهار في حينه، وعندما انحسر البحر ظهرت الأشجار والنباتات المختلفة، وتفجرت الينابيع، وقامت عليها قرى مستقرة بدائية، قامت عليها الامارات والممالك، وانتهينا إلى الصراع على هذه الأرض الاردنية الطيبة التي لطيبتها واهميتها تقود إلى الصراع عليها، وليس بمقدور أحد الاحتفاظ بها إلا إذا كان قويّاً قادراً على الدفاع، وصدّ الهجوم.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الأردن كانت الجبهة الشرقية لفلسطين التي قامت بها دولة يهوذا، وبالتالي فإن الهاجس الأمني لدى هذه الدولة هو تأمين الأوضاع بالأردن من خلال الاحتلال أو الهدنة والصداقة، حتى لا تكون ممرّاً لأمم غازية ضد بني يهود، وقد حدث ما كانوا يأملونه أو يخافونه بمجيء نبوخذ نصر الذي يبدو أنه كان متحالفاً مع ملك عمون في حينه. وقد بقي الهاجس الأمني مهيمناً على الإسرائيليين في العصر الحديث، حيال الأردن أيضاً. وهم معنيون دائماً أن بوابة الأردن هي أخطر البوابات عليهم. لذلك فهي أرض المحشر والرباط ومنها يتم القضاء على اليهود.
من هنا فإن التوراة لم تغفل الأحداث في الأردن، ولا الأوضاع فيها، بل جاءت أحياناً تعطي تفصيلات لا نجدها إلا في التوراة في العصر الحاضر. ورغم اختلاف المؤرخين في تاريخ الخروج الإسرائيلي من مصر، إلا أنه ربما يكون في عام 1230 ق.م. وأن هذا التاريخ، إما أن يكون تاريخ الخروج وحينها يضاف إليه أربعون عاماً لإعطاء تاريخ بدء حركة عبورهم من خلال الأردن، أو أن العبور إلى الأردن كان في هذا التاريخ، وعلى كل حال ليس من الأهمية بمكان أن يكون دخولهم الأردن في هذا الوقت أو قبله أو بعده بأربعين سنة , وانما الاهمية للمبدا .
ورغم أن المؤرخين يذكرون خلوّ الأردن من السكان في هذه الفترة، إلا أن نصوص التوراة تنصف الأردن عند هذه النقطة أو تتحدث عن الممالك التي رفضت السماح لبني إسرائيل بالاجتياز/ العبور إلى أرض كنعان، وأن هذا العدد الهائل من السكان الأردنيين لا يمكن أن يوجد أو يتكاثر بين عشية وضحاها، بل لا بد وأن ذلك أخذ أجيالاً متعاقبة لتحقيق ما كان عليه الحال الموصوف في التوراة.
وإذا تحدثت التوراة عن حقيقة وهي وجود ممالك، وكل مملكة يرأسها ملك، فإن ذلك يعني وجود شعب وجيش، واعداد كبيرة من الناس، وسكان قادرين على الحفاظ على هويتهم واستمرارهم وحياتهم في زمن ليس فيه للضعيف مكان، وإنما الحياة والبقاء للأقوى والقانون للأقوى، وقد ذكرنا من خلال نصوص التوراة، في كتابنا: الأردن في كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين، كيف كانت توجد الطريق السلطاني التي تخترق الأردن من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه مارة بجميع الممالك، وخادمة لها ولشعوبها، وربما كانت أيضاً طريقاً للتجارة الداخلية أو الخارجية. ولا نريد الحديث عن صراع بني إسرائيل مع سيحون ملك حشبون فقد أشبعناه بحثاً في جزء التاريخ السياسي للعشائر الأردنية، وأشرنا إليه في غير موقع من هذا الكتاب.
تتناقض التوراة عندما تقول مرة أن موسى طلب الإذن بالمرور مسلحاً عبر مملكة أدوم، وأنه طلب السماح له بابتياح الطعام والماء، ونحن نعرف أن موسى (تحديداً كان يحمل معه حجراً، وأينما حط رحاله ضربه بعصاه فتنفجر منه اثنتا عشر عيناً، كل سبط علم مورده ومشربه منها. إذن فإن الذي يطلب الإذن ليس موسى، وهذا دليل على أن موسى مات، لأن قضية الماء تحديداً كانت من أهم معجزات موسى عليه السلام، مع كثير ما أعطاه الله من معجزات وكرامات.
ويقول النص أنهم يطلبون من مملكتي مؤاب وحشبون أن يسمحوا لهم بالعبور والمرور وأن يبتاعوا الماء والغذاء، أسوة بما فعله الأدوميون: "كما فعل بي بنو عيسو الساكنون في سعير والمؤابيون الساكنون في عار (وهي ربة مؤاب أو الكرك)" وهذا النص يوحي بأنه عومل معاملة طيبة، وهو أمر غير صحيح لأن التوراة نفسها تتحدث أن بني إسرائيل تعاملت مع جميع قرى أدوم ومؤاب التي مرت بها بالقتل والإبادة والتشريد وأنهم قتلوا كل امرأة وطفل في المدن التي شاء سوء طالعها أن تسقط بأيديهم. كما أن عار نفسها قد لقيت التدمير على أيدي سيحون ملك حشبون قبل قدوم بني إسرائيل. وأصبحت خاوية على عروشها. فكيف ينطبق قولهم بتدميرها من قبل سيحون ثم يتحدثون عن أنها صارت مسكونة. أقول متناقضة، تدل على عدم صحّة الرواية برمّتها.
ورغم أن التوراة تتحدث عما ألحق الإسرائيليون من هزيمة منكرة بملك سيحون وإبادة مملكته، وأنها وجدت ممراً آمناً إلى فلسطين/ أرض كنعان، إلا أنها تتحدث عن حشد قوات مؤابية أدومية مديانية إلى الغرب من شيحون؟! ونحن نرى أن المنطق المعقول في الأمر في أن هذه الممالك الثلاثة، وهي مديان وأدوم ومؤاب قد أقامت تحالفاً عسكرياً بينها، وحشدت هذه القوات في الأراضي الوعرة المطلة على الغور لقطع الطريق على بني إسرائيل من أن يقوموا بحركة التفاف والسير بمحاذاة الغور والبحر الميت واحتلال المرتفعات الغربية لمؤاب وأدوم حتى العقبة أو حتى أراضي مديان الممتدة إلى الجنوب من رأس بحر القلزم. بالإضافة إلى وضع القوات الإسرائيلية بين فكي كماشة: الأراضي الوعرة شرقاً والبحر الميت غرباً والعمل على إبادتهم ثأراً بدماء أبناء عمهم الحشبوسيين، وتأديباً لهم كي لا تسوِّل لهم أنفسهم بالتطلع إلى احتلال الأردن.
أدت هذه الحشود التي كانت في أراضي صعبة الاجتياز، ويتعذر الهجوم عليها من القوات الإسرائيلية، أقول أدت ببني إسرائيل أن يذهبوا شمالاً إلى أراضي مملكة باشان Bashan الواسعة، وإلى سهول حوران ودرعا، حيث التقاهم الملك عوج ملك باشان على رأس قواته، إلا أن الأسلوب الوحشي الذي فعله بنو إسرائيل من قتلهم لأهل حسبان قد أوجد الرعب في قلوب أهل باشان Bashan حيث منيت قواتهم وعلى رأسها الملك عوج بالهزيمة المنكرة، شرع بعدها الإسرائيليون بقتل الإبادة للرجال والنساء والأطفال والعجزة والمعوقين وكل إنسان يتحرك.
من هنا طار خبر بني إسرائيل لدى شعب الممالك الأردنية وملوكها على أنهم شعب متوحش قاتل لا يعرف الرحمة، ولا المهادنة ولا المفاوضات، ويحتقر ما سواه من الشعوب. أقول أدى إلى صمت مطبق ساد الأردن وأهله، كما أن تحرك الإسرائيليين نحو الشمال قد وضع الأمان في قلوب ملوك مديان ومؤاب وأدوم فانسحبت قواتهم نحو المرتفعات الشرقية. واستغل الإسرائيليون هذا الانسحاب بعد انتصارهم على باشان Bashan ، وعادوا إلى غور الأردن المقابل لأريحا Jarico وهي الهدف الأول في بلاد كنعان التي كان عليهم أن يعبروا من خلالها، وليس من خلال أي مكان لأن ذلك كان أمر النهي أن يدخلوا من أريحا. ( قال رجلان من الذين يخافون انعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فاذا دخلتموه فانكم غالبون وعلى الله توكلوا ان كنتم مؤمنين ) . أما الرجلان فهم يوشع بن نون، وناداب (زوج مريم أخت النبي موسى بن عمران). والله أعلم. وهذا دليل آخر أن موسى النبي لا يمكن أن يأمر بقتل ملايين البشر من الحشبوسيين وهم أبرياء وبالتالي لم يكن موجوداً أصلاً في هذه الأحداث.
ونعود إلى هذه التعزيزات ـ الإسرائيلية، وتعزيزات تحالف الممالك الأردنية، حيث كان بولاق بن صفر هو ملك مؤاب آنذاك، وحيث استتب أمر الإسرائيليين مؤقتاً في شرق الأردن حتى نهر اليرموك بقضائهم على عوج Og ملك باشان. كان بالاق أو بولاق من صفر أو صفور Balaq Bin Safar أو Balaq Bin Safoor ملكاً يقظاً. حريصاً على بلاده ومملكته وشعبه وعرشه ونفسه كلها في آن واحد، وكان قد طارت نفسه رعباً وشعاعاً مما حققه الإسرائيليون في حروبهم مع ملك حشبون عندما سحقوه في معركتهم معه في ياجوز، في المناطق الشمالية من أراضي مملكة عمون التي كانت ضعيفة لدرجة أنها غير قادرة على مقاومة أحد إلا إذا انضمت بالتحالف إلى قوى أخرى.
استعد بولاق/ بالاق Bolaq/ Balaq للمعركة من خلال التحالف مع أدوم وملوك مديان باعتبارهم من جنس وعرق واحد وديار واحد وتحت خطر واحد وهو خطر بني إسرائيل. وعندما رأى الملوك أن بني إسرائيل مدعومين من السماء، وأن لديهم أنبياء قادرين على التنبؤ بالنتيجة من جهة، والدعم الروحي للجيش الإسرائيلي من جهة أخرى، وهذه قوة جديدة بالنسبة لملوك وثنيين تعتبر في زمنهم تفوقا عسكريا يتجاوز القدرة المعهودة للبشر والسلاح المتوفر . إذن لا بد من مجابهة أنبياء بني إسرائيل بأنبياء العرب الأردنيين، ولا بد من مواجهة دعم السماء للأعداءن بدعم السماء لتحالف الملوك الأردنيين.
وهنا وقع خيار الملوك على بلعام Balaam النبي الذي كان في مدينة بلعما إلى الشرق من جرش، وكان رجلاً صالحاً مستجاب الدعاء، فطلبه الملك بالاق Balaq ، والتقاه وسائر الملوك، وشرحوا له الأوضاع، وأن البلاد مهددة بالاحتلال، والشعب بالفناء والمواشي والثروات بالنهب والسلب، وأن الأرض ستكون غير الأرض والشعب غير الشعب. كان بلعام Balaam مشهوراً بحكمته واستجابة دعوته، إذ كان يحمل اسم الله الأعظم، وأتاه الله من الآيات ما جعله موضع احترام ومحبة شعب مؤاب، وربما عمون وحشبون، ولا شك أن بالاق Balaq لا بد وشرح له النتائج الكارثية على مملكة حشبون وأن الفناء سيكون نتيجة على الجميع بما فيهم بلعام ومدينته واهله .
تأمل بلعام طلب الملوك، وقال إن الرّب قد أمرني إلا ألعن بني إسرائيل بسبب ما فيهم من أنبياء، ولأن الله سبحانه يعجل لهم العقوبة في لحظة ارتكاب الخطيئة ليطهرهم من المجرمين والمنحرفين. ولكن بولاق ركّز على ما قام به هؤلاء من المذابح والنهب والسلب، وبالتالي فإنهم لو كانوا على درجة من الدين أو الأخلاق لما فعلوا ما فعلوا. كما أنهم غرباء على الوطن الذي يجب أن يبقى لأهله؟ وأن الأجيال التاريخية لن ترحم هؤلاء الملوك إن استسلموا للإسرائيليين، وأنه قد جهّز جيشاً لجباً/ كبيراً للدفاع عن البلاد وسحق العدو، ولكن لا بد من هزيمتهم روحياً أولاً، وهو ما يستطيعه نبي، ولا يقدر عليه جندي أو ملك.
قدم بولاق Bolaq هدايا لزوجة بلعام التي انضمت إلى بني قومها تطالب زوجها أن يقف مع الوطن وليس مع العقيدة، ومع شعبه وليس مع بني إسرائيل. وهنا اقتنع بلعام Balaam ، برأي الملوك والزوجة وطلب الذهاب إلى المرتفعات المقدسة، حيث رحّب الجميع بذلك، وساروا في موكب مهيب إلى قمة جبل مقدس لدى المؤابيين وهو جبل بعل وأعتقد أنه جبل نبو المطلّ على شونة تمرين ( حيث كان يعسكر الجيش الإسرائيلي في الغور هناك ) ، والذي يمكن رؤيته بالعين المجردة من قبل النبي والملوك والوفد المرافق لهم فوق تل نبو او اي من التلال المجاورة له.
طلب بلعام Balaam من بولاق Bolaq أن يبني سبعة مذابح وهي عبارة نًصًب dolms من الحجارة ووضعها في دائرة اختطها هذا النبي لتكون مقدّسة روحياً، وأن يضحي الملك ثوراً وكبشاً على كل مذبح من هذه المذابح السبعة، وهذه كانت سنّة لديهم في ذلك العصر. وعندما نفّذ الملك ذلك، طلب بلعام Balaam إليه أن يقف إلى جانب أضحيته، بينما يمضي هو إلى رابية مجاورة ليتلقى الوحي من الله سبحانه حول مدى الاستجابة أو عدمها، وحول ما عليه أن يفعله من خطوة تليها .
عاد بلعام Balaam حيث المذابح والملك وجميع رؤساء مؤاب وهم ينتظرون عودته، وهم بجانب المحروقات الأضاحي، فأخذ بلعام Balaam يبارك بني إسرائيل بدل أن يلعنهم كما كان منتظراً، لقد فوجئ النبي بنفسه وهو يجد لسانه ينطق بغير ما يريده قلبه وما هو في ذهنه. لذلك أمر بإعادة الاحتفال والأضاحي مرة أخرى وكان على قمة سباغة حيث الفرصة مواتية للعن الجيش الإسرائيلي الذي يمكن رؤيته ـ كما قلنا ـ بالعين المجردة في سهول شونة نمرين بغور الأردن الأوسط.
ومع هذا لم تَهِنْ عزيمة النبي، ولا عزيمة الملك كلاهما، وأمر بإعادة العملية للمرة الثالثة، وكانت النتيجة كما هي في الأولى والثانية، وهنا نفض بولاق Bolaq يده عن الموضوع، وتخلّى أيضاً عن فكرة محاربة الإسرائيليين باعتبار أنهم مدعومين من السماء التي ترفض دعمه هو ضدهم ، إلا أن ملوك المديانيين رفضوا هذا الرأي من بولاق Bolaq ، وقالوا: لقد قطعنا أياماً طويلة في المسير لنقاتل هذا الشعب قبل أن يقاتلنا، وتغزوه قبل أن يغزونا، وبذلك انفرط عقد الحلف بين الملوك الاردنيين ضد بني إسرائيل , عهلى طريقة تناثر العربان عندما يكون الغضب والرحيل هو الوسيلة البديلة عن الحوار وسماع الراي والراي الاخر .
كان المديانيون Mediyanyoon يمتدون جنوب مملكة أدوم، وكانوا على علاقة تحالف مع مؤاب وعمون. وأما علاقات مديان مع أدوم فكانت تتراوح بين السلم والحرب، والحب والغضب والتوحّد والتفرقة، حسبما تقتضي المصالح المؤقتة إلا أنهم كانوا على خط واحد وحلف واحد هذه المرة، بسبب وجود عدو استراتيجي مشترك وهم بنو إسرائيل، حيث نظر جميع الملوك إليهم (اليهود) على أنهم قوة غازية محتلة تحمل أطماعاً توسّعية، ومدعومة من السماء من خلال وجود أنبياء وكهنة فيهم .
وهنا تضطرب المعادلة، وينفرط عقد تحالف الملوك الاردنيين , ويتحرك كل ملك على هواه، وربما ضمن مخطط، حيث قام عجلون ملك مؤاب في هذه الفترة بالزحف على فلسطين يسانده ملوك مديان، حيث طردوا بني إسرائيل من غور الأردن، ومن شونة نمرين، وساقوهم إلى أرض كنعان عبر مخاضة الشونة الجنوبية، وصار الإسرائيليون في حيص بيص من أمرهم، فتحالفوا مع عمون لإخراجها من تحالف ملوك الأردن، لقاء الانسحاب من أراضي مملكة عمون طوعاً واختياراً، وتحالفوا أيضاً مع العمالقة الذين كانوا في جنوب فلسطين، وليس مع عمالقة شمال الأردن، ووجدوا أن قتل عجلون سينهي لهم ورطة قد تؤدي بهم إلى الإبادة الجماعية.
وحيث تعذر عليهم مواجهة قوات الملك الأردني المؤابي عجلون أرسلوا إليه من يقتله غيلة. وكان القوم إذا انهزم ملكهم أو لقي حتفه ولّوا هرباً، ولكن المؤابيين صمدوا للدفاع عن أنفسهم فوقعت مذبحة عظيمة بين الطرفين ولكن تحالف القوى الإسرائيلية تغلب على المؤابيين الذين تم طردهم من فلسطين، وعادت فلولهم إلى ديارهم في شرق الأردن.
إلا أن النصر الذي حققته القوات الإسرائيلية بقيادة جدعون على قوات مؤاب والملك عجلون قد قلب المعادلات من أولها إلى آخرها، إذ استثمر فوزه، وتوجه نحو قوات مديان التي كانت تتألف من المشاة والهجانة (أي فرسان الجمال Camels Riders ) وحيث كانوا يحاربون في أجواء غير مناسبة بالنسبة لهم، وبعيدة عن بلدانهم ومقرهم، وحيث ضعفت جبهة مؤاب بسبب مقتل ملكها عجلون واندحار من بقي من قواته، وحيث تحالفت عمون مع بني إسرائيل، فقد كان عليهم أن يهربوا، ولكن عمون رفضت السماح لهم بالمرور من أراضيها بسبب التحالف مع الإسرائيليين فاضطروا للتوجه شرقاً من الضفة الشمالية لنهر الزرقاء، رغم صعوبة الطريق على الإبل.
وجد المديانيون مؤازرة ومأوى من أهل دير علا الذين نصحوهم أن يسلكوا الضفة الشمالية لمجرى نهر الزرقاء الذي هو الحد الشمالي لمملكة عمون. فمرّوا بقرية برما التي قدمت المساعدة لهم، إلا أن جدعون وقواته كانوا في أعقابهم يريدون القضاء عليهم. وتقول التوراة (سفر القضاة الأصحاح السادس) أنهم( المديانيون ) ذهبوا إلى الجبيهة. ويبدو أنهم تجاوزوا إليها في حركة التفاف من وراء الزرقاء حيث ينبع نهر الزرقاء , مما يبيّن جهلهم بالمناطق، وانعدام الادلاء حيث تخلى عنهم الحلفاء , وهذا خطأ عسكري قاتل. ومن هناك أشرفوا على فلسطين يتنهدون زفرات الحزن والأسى، ويتطلعون إلى الصحراء من ورائهم لتكون ملاذاً امنا لهم، إذا ما اضْطُرّوا لمغادرة المكان.
اما قوات جدعون اليهودي فلم تعطي نفسا لقوات المديانيين ولم تمكنهم من إعادة التنظيم في الجبيهة وتحقيق نصر مناسب لهم على حساب مملكة عمون الضعيفة، بل لحق بهم جدعون وحاربهم واضطرهم للهروب إلى وادي السرحان. ورغم أن التوراة تتحدث عن ذبح ملوكهم الأربعة وأمرائهم بعد القبض عليهم في وادي السرحان إلا أن ذلك غير مقنع. إذ أن جدعون لا يمكن أن يوغل في الصحراء بعيدا عن ديار كنعان بحيث يسهل قطع خطوط الأعداء عليه في أرض وشعب وأجواء جميعهم أعداء له، وفي ظروف قد تتحرك مؤاب ولو بقليل من الجيش وتلحق به وتبيد قوات جدعون عن بكرة أبيها.
إن المقنع هو أن المعركة النهائية بين المديانيين والإسرائيليين كانت في منطقة الجبيهة، والأغلب أنها كانت في ياجوز المجاورة، حيث يمكن أن نتصور الجيشين وقد عسكر المديانيون على سيل ماء ياجوز القوي (آنذاك)، وعسكر الجيش الإسرائيلي على سيل الجبيهة الذي يقع إلى الغرب من شفا بدران ويحدّه من الشمال وينتهي إلى نهر الزرقاء، بينما ينتهي سيل ياجوز إلى الرصيفة وسيل عمان. ويمكن القول بطمأنينة أن المعركة وقعت، وأنها كانت لا غالب ولا مغلوب، بل جنَّ الليل على قتال، وأصبح الصباح وقد غادر المديانيون شرقاً إلى الصحراء للنجاة بأنفسهم، واعتبروا وجودهم في الجبيهة للاستراحة فقط، ليس إلا.ولكنهم اعتبروا استمرارهم فيها انتحارا ومذبحة وابادة او مخاطرة غير محمودة العواقب وذلك اضعف الايمان .
ولكن التوراة والأحداث، تذكر أن أسماء ملوك مديان في هذه الحرب، وهم: زبَحْ وسلمناع Zabah and Slimna وغراب Ghorab وذئب Dhieb . على أن جدعون قتلهم جميعاً وهذا بالنسبة لي ضرب من ضروب الخيال، وبطولات أسطورية تبدو أبعد ما تكون عن الحقيقة، وعاد المديانيون إلى بلادهم الممتدة من رم والديسة وحسمى نحو الجنوب.
قد يكون من المناسب القول هنا ان المديانيين هم ابناء واحفاد المؤمنين من قوم شعيب من قبيلة جذام من اهل مدين ومن الذين لم يصبهم العذاب . وقد هاجروا الى الجنوب وحملوا اسمهم بلفظ اخر : من مدين الى مديان ومديانيين , وقد تاسست مملكتهم الجديدة بهذا الاسم ( مديان ) على الاراضي الممتدة من العلا ومدائن صالح وتبوك وينبع جنوبا وسواحل البحر الامر الى الحدود مع ادوم شمالا . ورغم بعدهم مكانا عن ممالك الاردن , الا انهم بقوا على حبهم واخلاصهم لهذه الديار والوقوف مع ملوك الاردن وشعبه ضد اي خطر خارجي وبخاصة الخطر الاسرائيلي . لذلك اقتضى التنويه .
في هذه الأثناء افاقت عمون من غفوتها، ونهضت من كبوتها، فوجدت أن التحالف مع بني إسرائيل ضد بني جلدتهم ووطنهم ولغتهم أمر مشين معيب . وفي صحوة من الضمير الوطني والقومي بدأوا يشنون الغارات على الإسرائيليين النازلين في بلادهم والذين كما هي عادتهم، نكثوا عهودهم بعدم الانسحاب من الديار العمونية. وبالفعل حققوا شيئاً من النجاح، ومع هذا لم ينسحب الإسرائيليون رغم شدة هجمات العصابات العمونية عليهم في غور الأردن. وكان زعيم إسرائيل في هذه الفترة هو يفتاح، Yaftah الذي رفض طلب العمونيين بإعادة الأراضي العمونية لأهلها.
كان لا بد من المواجهة، فالعمونيون توّاقون لتحرير بلادهم، والإسرائيليون مُصرّون على البقاء في الديار العمونية، فكانت المعركة بين الطرفين، وكانت النتيجة أن نكص العمونيون على أعقابهم، وتوسع الإسرائيليون في أراضي عمون حتى حسبان في المرتفعات الأردنية الشرقية. وراح ملوك عمون يبنون جيشهم ويعدّون العدّة للتحرير. حتى كان ما كان منهم من مهاجمة سكان وادي اليابس شمال الأردن واستنجاد أولئك بشاؤول زعيم إسرائيل الذي هزم العمونيين مرة اخرى وقتل ناحاش Nahash ملك عمون القوي آنذاك. ومع هذا لم تكن هزيمة بسبب القوة وإنما بسبب الخديعة. وأما بقية الأحداث فأشرنا إليها ضمن الحديث عن العمونيين في الباب الثاني من هذا المجلد.
أما وأن الشيء بالشيء يذكر، فإنه عندما صارت الأمور في المملكة اليهودية إلى صراع بين داود وشاؤول، لجأ الأول إلى شرق الأردن، وطلب حماية الممالك منها عمون، ومؤاب وأدوم، فارّاً من وجه شاؤول. وعندما انتصر داود بمؤازرة من الممالك الأردنية واعتلى العرش، تقول التوراة أنه غدر بمن آووه ونصروه وأيدوه، وأنه قد انتزع الاراضي من أهل الأردن التي كانت ملاذاً آمناً وعشّاً هانئاً له.
وإذا صحّت أقوال التوراة، ولا أظنها كذلك، فإن داود قام بالاعتداء على الممالك التي أوته، حيث أسند إلى القائد يؤاب Yo'ab أن يتصدى للأدوميين الذين هاجموا جنوب فلسطين وهو الجزء المحاذي لأراضي مملكتهم، بهدف التوسع فيه. وتقول التوراة أن يؤاب طارد الأدوميين وقتل كل ذكر وقع تحت يديه. أما الأمير الأدومي الصغير هدد الثالث Hadad III فقد فرّ بروحه إلى فرعون مصر الذي استقبله أحسن استقبال، ومنحه بيتاً ومزرعة وحياة هانئة، ثم زوجه من أخت الملكة، حتى إذا ما اشتدّ ساعده وعوده عاد إلى بلده بصيرا ليقود حرب التحرير ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقد حالفه النجاح والفلاح في ذلك.
وتقول التوراة أن داود أخضع مؤاب، وهو كلام ليس عليه دليل، وإنما هو في رأينا من الإسرائيليات، ذلك أن الحرب كانت سجالا بين احتلال واندحار، ونصر وهزيمة، ولكن التوراة تدوِّن دائماً ما هو في صالح بني إسرائيل على حساب الآخرين دائماً وعلى حساب الحقيقة . ولا نريد أن نكرر ما سبق وذكرناه حول علاقة داود مع عمون من حرب ومودة، فقد جئنا على ذلك في الحديث عن العمونيين.
لم تكن سيطرة داود على الأردن سيطرة كاملة ، ذلك أنه عندما توفي عام 960 ق.م. استطاعت مملكة الأدوميين أن تستعيد قدراً من الاستقلال عن الهيمنة الإسرائيلية، وكان للملك هدد الثالث Hadad III دور في توعية شعبه ونهضته للثورة ضد الغزاة المحتلين.
ما إن وافت داود المنية عام 960 ق.م. حتى نهضت أدوم واستعادت أنفاسها بقيادة الملك هدد الثالث Hadad III الذي صار يحكم بلاده مرة أخرى برغبة جامحة من شعبه، باعتباره منقذاً وطنياً لما وصلت إليه حالهم ومملكتهم. ونهضت الممالك الأردنية الأخرى، فوجد الملك سليمان ( خليفة داود ) نفسه أمام صحوة أردنية قد تتطور إلى تحالف قوي يمزِّق مملكته إرباً إرباً، فما كان منه إلا وتعامل بنعومة مع الأمر الواقع الجديد، والصحوة الوطنية، فاتخذ من أميرات عربيات أردنيات زوجات له، من أدوم ومؤاب وعمون، وكانت زوجته العمونية ابنة للملك حانون بن ناحاش.كان زواجا سياسيا بكل مافي الكلمة من معنى .
اتجه سليمان نحو صهر النحاس في عصيون جابر، وصار المصنع في نقطة تهب عليها الرياح من وادي عربة في أقصى قوة وسرعة لها لتشعل نيران الأفران، وتم جلب النحاس من وادي فينان من أراضي أدوم إلى الغرب من ظانا، في وادي عربة، ومع صهر النحاس، كان هناك صنع للفخار أيضاً، ولكن نوعية ومصنعية هذا الفخار هنا يختلف عما كان مألوفاً في فلسطين، وإنما متطابق مع ما هو عليه الحال في الحجاز واليمن وجزيرة العرب حيث كانت العلاقات التجارية مستمرة لم تتوقف بسبب الحروب، بل إن التجارة قد تزدهر وقت الحرب للحاجة الملحّة لعناصر معينة قد لا يحتاجها الناس في أيام السلم.
استمرت الحياة قائمة على الزراعة والرعاية كعماد لاقتصاد الممالك الأردنية، واستمرت كل مملكة في بناء ذاتها للدفاع عن نفسها أمام الخطر اليهودي زمن الملك سليمان الذي أوتي من الله قدرات خارقة وتحكم في الأنس والجن والطير والشياطين، مما جعله واسع الثراء والملك، ولديه جيش علني من الجنود، وخفي من الجن والشياطين، فضلاً عما أتاه الله من الصلاحيات في الإنفاق والقتل والأسر والفداء، وإطلاق السّراح كيف يشاء .
استمرت هيبة سليمان مهيمنة على ملوك الأردن لمدة ثلاثين عاماً عندما خرّ صريعاً وهو واقف يتوكأ على عصاه، وإذا به ميث دون علم الجن والإنس بذلك ، وكان موته عام 931 ق.م. حيث انقسمت مملكته على أثر وفاته إلى مملكتين هما: يهوذا وإسرائيل، مما سهّل الامر على الملوك الأردنيين، وبخاصة أن المملكتين كانتا في صراع عنيف.
بنى يوشافاط Yushfat ملك يهوذا أسطولاً في عصيون جابر، وانتهى إلى دمار عندما هبّت عليه عاصفة لم تبقي منه شيئاً ولم تَذَر. وأما الكارثة الثانية التي أصابت هذه المملكة وعاصمتها القدس، فهي هجوم التحالف العموني المؤابي الذين قتلوا من اليهود مقتلة عظيمة، ولكن الخدع الإسرائيلية وقعت الفتنة بين المتحالفين، فصار الاقتتال بينهم بدلاً من أن يتواصل ضد الإسرائيليين الذين كان همهم سلب ما لدى القتلى من سلاح ومال ومتاع.
وبلغ من قوة الممالك الأردنية، بحيث صارت مملكة بني إسرائيل تفكر طويلاً قبل أن تتجاوز الوادي أو النهر إليها. ونجد النبي أرميا يشير بحقد بالغ إلى أدوم وذلك في الأصحاح التاسع والأربعين والعدد السادس عشر مخاطباً أدوم بقوله: "قد غرّك تخويفك كبرياء قلبك يا ساكن في محاجي الصخر الماسك مرتفع الأكمة، وإن رفعتَ كَنَسْرٍ عِشَّكَ مَن هناك أُمْدِرُكِ يقول الربّ"، وقد اشتهرت الأردن عبر التاريخ بالحنطة والشعير والمراعي والخصبة والكروم.
ولو صدّقنا ما أوردته التوراة من أعداد المواشي الغنائم في الحروب سواء أكانت من مملكة إسرائيل ويهوذا أو كانت منهما معا ا، فإن الأرقام تبدو عالية حيث ورد عندهم أنه عندما افتتح موسى مملكة مديان سلب منها 675000 ألف رأس معز و73000 ثور و61000 حمار ونحن نرى أن موسى لم يعش إلى الوقت الذي تحركت فيه بنو إسرائيل نحو عبور الأردن. حيث منعهم الأدوميون، فمالوا إلى مملكة مديان بقيادة ميشع وليس بقيادة موسى الذي مات وبنو إسرائيل في التيه، بغض النظر عن مكان دفنه، لأنه نبي وله كرامة، وكما سبق وقلنا لا بد أن الله سبحانه وتعالى كشف له أرض كنعان المقدسة، ولا تناقض أو خلاف بين ما نرى ووقوفه على صياغة، لأن وقوفه كان بطلبه من الله سبحانه، فاستجاب له سبحانه حتى إذا ما رأى رؤياه الأخير انتقل إلى الرفيق الأعلى وقومه لا زالوا في التيه. هذا رأينا. والله أعلم.
ثم نعود إلى عدد المكسوبات أو المنهوبات من مديان، فلو صحّ هذا، فإن ذلك يعني أن جانباً كبيراً من ثروة المديانيين ذهبت من أيديهم، وهذه تحتاج إلى مياه للشرب ومراعي واسعة، ورعاية كبيرة، فضلاً عن أنها جذابة للأعداء الذين لا بد وتنفتح شهيتهم لهذه القطعان التي يشق غبارها عنان السماء.
ولو أخذنا هذا الرقم كحقيقة، فإن ذلك يعني الثروة الهائلة التي كانت عليها مملكة مديان، وأن البلاد كانت ماطرة، مكسوّة بالأشجار والأعشاب، وأن المياه متوفرة في ينابيع ومسيلات في كل ركن وزاوية. كما أن ذلك يرتبط بما كان عليه رعاة أدوم من ثروة حيوانية كانوا يتحركون بها إلى المناطق الشرقية من مصر حيث الماء والكلأ وكانوا يتحركون عندما تضيق بهم البلاد، وتصعب الحياة.
وبعد ذلك بأكثر من سبعة قرون نجد التوراة تتحدث عن أمر مشابه لدى مؤاب، إذ تتحدث عن أن ميشع ملك مؤاب يملك عدداً هائلاً من المواشي كان مجموع ما أعطى منها إلى ملك إسرائيل قبل تحرير بلاده من الاحتلال الإسرائيلي، مائة ألف خروف. ومائة ألف كبش، كما خسر أهل جلعاد خمسين ألف رأس من الجمال، ومائتين وخمسين ألف رأس من المعز وألفي حمار في حرب لم ينتصروا فيها، وإنما كانت ما بين مملكة عمون ومملكة يهوذا كما سبق وقلنا.
وبمناقشة هذه الأرقام نجد أنفسنا أمام أحد أمرين:
1. إنه رقم مبالغ فيه، وذلك لأن التوراة تمتدح بني إسرائيل من خلال تضخيم قدرة العدو وثروته، وأن مملكة لديها مثل هذه الثروة لا بد وتكون قوية، وبالتالي فإن المنتصر يجب أن يكون أقوى منها، وأنا أميل إلى الرأي الذي يرى مبالغة كبيرة في هذا الرقم.
2. أن يكون رقماً حقيقياً، حينها يدل هذا على ثروة هائلة لأهل البلاد، وخصب وتوفر للماء والكلأ بما يفوق تصوّرنا الآن، فإذا كان هذا الرقم هو مقدار ما تم دفعه لبني إسرائيل أو سلبه من قبلهم، فإن ذلك يعني أن ما بقي يساوي أضعافاً مضاعفة عدداً ونوعاً، وبالتالي يعني ثروة هائلة تجعلنا نتصوّر الإنتاج الحيواني في قمّته وذروته، ونستطيع أن نتصوّر تصدير المنتجات الحيوانية من السمن واللبن الناشف والجلود، والمصارين الجافة التي تستخدم في صناعة السفن والدروع والأحذية والملابس والحلي في ذلك العصر. ونستطيع أن نتخيل أن الإنتاج الحيواني الأردني كان عماد هذه الصناعات في فلسطين وأوروبا وآسيا الصغرى وأن كثرة الخرائب التي لا زال كثير منها قائماً ليدل على خيرات البلاد القديمة.
3. وفي الحالتين فإن ذلك دليل على خيرات الأردن، وهذا ما ذكره بيركهارت في كتابة: رحلات في سوريا والبلاد المقدسة، عام 1812، وكذلك ما كتبه ترتسترام عام 1872 في كتابه: أرض مؤاب حيث كانت فكرتهم المسبقة قبل دخولهم الديار الأردنية محوطة بالضبابية في أنها بلاد قاحلة وأنها لا سكان فيها، ولا أهل لها، وعندما دخلوها وجدوها بلاداً خصبة خضراء ذات مياه سطحية وجوفية , اهلة بالسكان وملئية بالقطعان ومزروعة بانواع الحبوب , ومياهها كثيرة وينابيعها غزيرة . واهلها كرماء .
كانت جلعاد والتي تشمل الأراضي الأردنية من وادي شعيب إلى نهر اليرموك، وتنتهي غرباً إلى نهر الأردن، وشرقاً إلى سيف البادية، أي إلى بدء امتداد السهول المتصلة بالمرتفعات الشرقية. وكانت هذه الديار مليئة بالريحان والمرّ المكّاوي وهو البعيثران وهو الآن شجر صحراوي يستخدم للتطبيب والدواء، وهو من ضمن عقاقير الطب المصري، وبذلك كانت القوافل التجارية تنقل البعيثرات من الأردن إلى مصر كدواء وجزء من عناصر التحنيط، وقد ذكر ذلك سفر التكوين في الأصحاح السابع والثلاثين والعدد 25.
لم تكن المنتجات الأردنية البرية من الأعشاب والعسل البري , أقول لم تكن وحدها التي تحملها القوافل إلى مصر، بل كانت الأردن ممرّاً ومحطّة للتجارة القادمة من الهند واليمن والحجاز، حيث تنتهي هذه إلى مصر وبلاد كنعان (فلسطين) وآسيا الصغرى، وبالتالي إلى اليونان التي كانت مركز الحضارة الأوروبية، والتي أدى تصدير البضائع إليها إلى اجتذابها إلى سحر الشرق، حيث أن الأردن هو بوابة الشرق عبر البادية والصحراء والسلسلة الجبلية (الحجاز) والبحر (العقبة).
أدى العمل بالتجارة إلى الاستقرار والثروة، وبالتالي تفرّغ الناس إلى تربية المواشي، واستطاعت دول مديان وأدوم ومؤاب وعمون وباشان منع الغزوات الداخلية بين أبناء رعية كل مملكة، أو بين رعية مملكة وأخرى، وأقيمت القرى التي ذكرها القرآن الكريم وأشرنا إليها في الباب الأول، كما أن البدو انشغلوا في التجارة بدلاً من الغزو، حيث وجدوها (أي التجارة) أكثر جدوى ومالاً وسلامة من الغزو الذي يتعرض فيه الشخص لخطر القتل والنهب منه، كما يمكن أن يكون قاتلاً أو ناهباً، وهو خاسر في كليهما ورابح في التجارة تحت كل الظروف.
ولكن هذه الخطوط انقطعت بعد سقوط البتراء وظهور تدمر كما سبق وقلنا. وكانت هناك خطوط اتصال أردنية / مصرية ليس بسبب التجارة والرعاية فحسب، بل وأيضاً بسبب استخراج المعادن من مناجمها بالأردن . وإذا كان لا بد من إلقاء الضوء على مصر، فإن حكم السلالة الأول بدأت بحكم مصر في حوالي 3400 ق.م. وانتهت أن اعتلى أحمس الأول أول ملوك الثامنة عشرة عرش المملكة المصرية سنة 1850 ق.م وقد كان في بلادهم من الخيرات ما جعلهم ينشغلون إلى حمايتها وبنائها، وعدم التطلع إلى بلدان أخرى فلم يخرجوا من وادي النيل، لكنهم تطلعوا إلى المناجم الأردنية في وادي عربة، حيث استخرجوا النحاس في وادي فينون/ فينان Faynoon/ Faynan كما كانوا يستخرجون النحاس من سيناء (3400-2980 ق.م)، والنحاس من وادي عربة وادي فينان Faynan أيضاً.
وقد ذكر سفر الأعداد/ الأصحاح 33، والعدد الأصحاح 42 فينون/ فينان Faynoon/ Faynan ، حيث تم العثور على أدوات نحاسية عديدة، وبقايا مستعمرة مصرية كانت مسكناً للعمال والمهندسين الذين كانت مهمتهم استخراج النحاس وحمله إلى مصر عبر البحر/ خليج العقبة/، والبر على الجمال والحمير، ويقول المؤرخ يوسيبوس سيزاريا Eusebius Ceasaria (260-360 ب.م) أن الحكومات المصرية القديمة كانت ترسل المجرمين من سجونها إلى هذه المستعمرات، في وادي فينان ليقوموا بعملية التنقيب عن النحاس. وقد قام الرومان باستغلال هذا الوادي فيما بعد أيضاً. ولا زالت آثار القرى القديمة والمناجم وأفران الصهر ظاهرة إلى الآن، وأن غطتها الرمال والغبار، وقد رأيتها بنفسي عام 1972 عندما مررت بها قادماً من الطفيلة/ ظانا إلى فينان ثم إلى وادي عربة ثم باتجاه الشمال.
وفي فترات متعددة كانت سنوات المحل/ القحط تغشى الأردن، فيضطر بدو مملكتي أدوم ومديان أن يتحركوا نحو شرقي الدلتا، ويغيرون عليها ليأخذوا حاجاتهم بالنهب والسلب وليس بالتبادل والتجارة، ومثل هذا التصرف أثار ملوك مصر الذين كان عليهم حماية رعاياهم، مما اضطر معه الفرعون بيب الأول Bieb I (2560 ق.م) ثم الفرعون سيزوستريس Ceazostries الثالث الى شن حملات متعددة لمحاربة هؤلاء البدو الاردنيين ، ومنعهم من الغارات على الدلتا. وكانت الجيوش المصرية تطاردهم حتى يدخلون بلادهم في وادي عربة وجبال الشراة، ثم تعود هذه الجيوش، كدليل أن القوات الأدومية والمديانية كانت من المدى بحيث كان الفراعنة يفضلون عدم خوض حروب معها، ذلك أن بلادهم وعرة، وأنها صعبة للقتال بالنسبة للمصريين الذين اعتادوا الحياة في بلاد سهلية كثيرة المياه طيبة المناخ، وافرة الإنتاج.
ولم تؤثر هذه الغارات المصرية على الطرق التجارية بين الأردن ومصر، التي بقيت مستمرة، حيث ذكرت المصادر التاريخية أن سينوح Sienoh أحد القادة المصريين غادر بلاده بعد موت الفرعون المصري أمنحوتب (سنة 1970ق.م) فأتى القائد المصري إلى الأردن للراحة والاستجمام والحماية، ولا شك أنه كان معروفاً لدى ملوك أدوم ومديان بحيث أقام ضيفاً في بلاط أحدهما، ما رغب أن يبقى، حيث مكث حوالي سنتين غادرها بعد ذلك إلى فلسطين ( Olmsted: History of Palestine and Syria, 1931, P.85 ).
كان المصريون مهتمون بخمس نقاط من طرف الجبهة الأردنية:
1. استمرار استخراج النحاس وعدم منعه أو توقيفه، وهذا الذي بقي مستمراً، ولا بد أنه تمّ بموجب اتفاقية مصرية مع بين الحوريين، ثم مع الأدوميين من , ذلك أن هذه المنطقة تقع ضمن أراضي الادوميين التي انتزعزها من الحوريين ، ويبدو أن أساس الأمر أن الاردنيين استخرجوا النحاس وصدّروه إلى هناك حيث عرف المصريون بذلك فصاروا يقومون بالمهمة جنباً إلى جنب مع المملكة الأردنية الأدومية بموجب اتفاقية معينة. إذ يتعذر على مصر أن تستخرج هذا المعدن الهام من الأراضي الأردنية، بدون موافقة الدولة صاحبة السيادة في حينه. , كما ان مدى الحاجة اليه لاتستوجب حروبا على الاردن , لان الاتفاقيات كانت تحقق الاهداف بكل سهولة وسلام .
2. استمرار تصدير البعيثرات (المر المكاوي) للتحنيط، والإنتاج الحيواني وكان هذا وافراً ولا غبار عليه.
3. عدم الغارات البدوية الأردنية على الأراضي المصرية، وعندما تجاوز البدو حدودهم قام الجيش المصري بقيادة الفرعون بطردهم كما ذكرنا دون ان يلجأ الى الابادة او الاحتلال والبقاء في الارض الاردنية . بل درء الشر فقط .
4. الوئام مع الممالك الأردنية، ومن دلالته مجيء القائد المصري إلى البلاط الأدومي أو المدياني معززا مكرما ولمدة سنتين , وذهاب الأمير هدد الثالث Hadad III الأدومي إلى البلاط الفرعوني، وإقامته مُعَزَّزاً مكرّماً هناك وزواجه من أخت الملكة التي رافقته إلى بصيرا لتكون ملكة على أدوم أو زوجة الملك الأدومي، سمِّها ما شئت.
5. ضمان الحفاظ على الطرق التجارية المؤدية إلى مصر، للحاجة القومية لهذه التجارة، حتى إذا ما تعرّضت مواصلات مصر/ سوريا للخطر في منطقة جلعاد/ في شمال الأردن، أغار ملوك السلالة الثامنة عشرة على منطقة عجلون لضمان خط المواصلات الواصل بين مصر وسوريا.
وما دام الشيء بالشيء يذكر فإنه قد وردت أسماء مناطق أردنية في سجلات الفرعون المصري تحتموس الثالث Tahtamoos III التي تم اكتشافها في طيبة Tiebah ، أما أسماء الأماكن الأردنية فهي موجودة في اراضي مملكتي مؤاب وعمون. أما السجلات الملكية المصرية التي كتبت في عهد أخناتون Akhnatoon (375-358ق.م), والتي تم اكتشافها في تل العمارنة Tell Al-Amarnah ، قد ذكرت ثلاثة أماكن أردنية هي:
1. وادي اليابس في جلعاد، أي في مملكة باشان، في محافظة عجلون، وقد تبيّن من هذه الوثائق أن الفرعون عهد إلى قائد عسكري لإدارة هذه المنطقة لضمان خطوط المواصلات مع سوريا شومال الاردن وحوران ( حيث الحبوب ) ، وعدم ظهور ثوار قد يخلعون الهيمنة المصرية. ومع هذا وجد هذا القائد مقاومة وتمرّدوا اضطر معه إلى طلب الإمداد من سيده الفرعون. وحيث عجز الفرعون عن تلبية الطلب، أو رغبة منه في عدم خوض معركة استنزاف مع الأردنيين، فقد ترك قائده إلى مصيره الذي كان القتل على أيدي أهل عجلون
2. المكان الثاني هو أدومو Adomo مملكة أدوم الأردنية وهي الأقرب إلى مصر من الممالك الأردنية.
3. المكان الثالث هو نهر الزرقاء المسمى في الوثائق المصرية باسم صارقي Sarqi .4
4. كان الأردن إذن ملاذاً للقادة المصريين عندما يحتدم الصراع بينهم، كما كان بين حين وآخر مصدر إزعاج للمملكة المصرية، وكما قلنا من قبل فإن الأردن هي مصدر إزعاج لجميع الملوك المصريين عبر التاريخ. وكما أن الطريق التجاري الأردني المصري كان واضحاً ومكتملاً عام 2000 ق.م.وقد كانت الاردن ملاذا امنا لامراء وملوك وقادة مصر عبر التاريخ وهذا ماسنجده من لجوء امراء المماليك اليها طلبا للحماية والراحة والاعداد لاستعادة العرش او الامارة .
ثم نعود إلى عبور بني إسرائيل، وقد سار ذلك على مرحلتين:
1. الأولى قبل التيه، حيث أرسل موسى عليه السلام رسله إلى الممالك الأردنية والكنعانية (الفلسطينية فيما بعد) للسماح له بالمرور، ضمن أخلاق النبي على ألا يقاتل أحداً إلا دفاعاً عن النفس والعقيدة والأمة، وكان أمامه ثلاث خيارات: الأول من جنوب بلاد كنعان ( فلسطين / جهة بير السبع ) حيث وجد مقاومة شديدة، ودولة قادرة على التصدي لها، وبخاصة أنها (دولة كنعان) كانت وأرضها مستهدفة بالإطاحة والاحتلال وربما الإبادة. لذلك كانت القضية بالنسبة للكنعانيين قضية حياة أو موت، ولا زال في ذاكرتهم مجيء إبراهيم عليه السلام وإقامتة في أورسالم. أي بيت السلام وهي بيت المقدس، في مكان كان أصلاً مقدساً عند الكنعانيين، وكذلك عند سائر الأديان والأجيال والأعراق من قبل وفيما بعد الى يوم الدين .
ونستطيع أن نستشف من النص التوراتي أن دولة كنعان قد وضعت خطاً من الجيش للدفاع عن بلادها، لم تكن بنو إسرائيل قد تعافت من مذلتها ومهانتها تحت وطأة حكم فرعون، فضلاً عن توّرطهم في عبادة العجل بدلاً من عبادة الله سبحانه، وغضب اللهسبانه عليهم , وغضب موسى عليهم، وهذا ما ذكره القرآن الكريم بكل صراحة ووضوح.
وجد موسى وهو ينظر بحسِّ القائد وحدسه أنه لا يستطيع خوض حرب مع الكنعانيين والأردنيين، لأن نسبة المؤمنين بالله من قومه كانت نسبة قليلة، ولأنهم متخاذلون في القتال، وكلما دعاهم إلى ذلك قالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، وبالتالي لم يكن لديه في الحقيقة جيش يستطيع أن يخترق به أية جبهة من الجبهتين الأردنية والكنعانية. من هنا كظم غيظه وراح ينتظر أوامر الله سبحانه الذي قدّر بحكمته أن يتيه بنو إسرائيل في صحراء سيناء، وبعض مناطق أدوم في وادي عربة، لمدة أربعين سنة أبيد فيها هذا الجيل المتخاذل الذي رضع الذلة والمهانة مع حليب أمه تحت حكم فرعون , ولم يبق من ذلك الجيل إلا رجلان هما ميشع وكالب/ أو ناداب زوج مريم أخت موسى عليه الصلاة والسلام.كما ان الموت جاء على هارون اثناء التيه وعلى موسى كذلك مع خلاف في الروايات لاتعنينا
2. بعد التيه : أي بعد أربعين سنة من بدء عبادتهم للعجل وكفرهم بالله سبحانه حيث لقي الجيل كله مصرعه كما قلنا توا ، وظهر جيل جديد، وبالتالي فإن الذي أرسل الرسائل الجديدة للعبور ليس موسى، لأنه يكون قد انتقل إلى الرفيق الأعلى. كما أن السائد في التوراة ولدى المؤرخين أنهم لا يعطون أهمية للأربعين سنة التي أعطاها القرآن الكريم. مما يجعلنا في وضع لا يتفق مع مايرونه في مجريات الزمن والحقيقة. لذا فإن الرسائل التي كانت من موسى كانت قبل التيه، وكان الانقطاع كافياً للممالك الاردنية للتجنيد والتدريب لقوات مديانية، وأدومية ومؤابية، وهم يرقبون ما يجري لبني إسرائيل، ويصلهم عبر القوافل والرعاة.
ولا شك أن هذه كانت استراحة وفسحة زمنية لم تكن في الحسبان لهذه الممالك للاستعداد، لذلك لم يستطع بنو إسرائيل اختراقها إلا في نقطة الضعف وهي أراضي مملكة حشبون، حيث كان ملك حشبون مصاب بالغرور لما حققه من انتصارات على الادوميين والعمونيين , فتركوه يواحه مصيره بنفسه وانتهى الى قتل وابادة شعبه كما سبق وذكرنا. وذكرت التوراة أيضاً . وإذا كان الخلط في هذا واضح في الكتابات والتاريخ عند المفسصرين والمؤرخين ، فهو بالنسبة لي واضح في أن موسى عليه كان موجوداً قبل التيه، ولم يكن موجوداً بعد التيه. وكان يوشع هو الذي يقود بني إسرائيل باعتباره أحد تلاميذ موسى، وصار نبيّاً يوحى إليه، فضلاً عن كونه قائداً عسكرياً، كان مؤمناً بموسى منذ كان موسى يصارع فرعون إلى الوقت الذي آلت إليه قيادة بني إسرائيل للنجاة من فرعون , ومن ثم لمحاولة العبور إلى أرض كنعان عبر الاردن وليس عبر جنوب ارض كنعان .
وقد سبق وقلنا أن بني إسرائيل حاولوا العبور من جنوب بلاد كنعان، إلا أنهم وجدوا جيشاً ومقاومة للأسباب المذكورة أعلاه، باعتبارهم (الكنعانيون) مستهدفون بالقتل والتشريد والاحتلال، وربما الإبادة. ثم حاولوا الاستئذان من مملكة أدوم التي كانت تبسط سلطانها على وادي عربة بجانبيه الشرقي والغربي، ولا بد أنه كان وافر الماء والكلأ والأشجار، وبالتالي كانت الرحلة عبرة سهلة للوصول إلى أريحا. إلا أن الأدوميين رفضوا ذلك.
ومن خلال المقاومة الكنعانية والأدومية والمؤابية، يتبيّن أن بني إسرائيل لم يكونوا يملكون العصا السحرية التي هي معجزة موسى لأنه التحق بالرفيق الأعلى، وأنهم أيضاً، ورغم إبادة الجيل الخانع المتخاذل، فإن الجيل الجديد لا زال جباناً خائفاً مرعوباً من خلال ما سمعه من روايات البطش الفرعوني والعقاب الالهي . لذك فقد كانوا يقومون بإبادة الشعوب الذين يقعون تحت سيطرتهم ولا يعرفون الأسر أو العفو، أو مقاتلة الرجال وحدهم بل يقتلون الطفل قبل أمه وأبيه، والمرأة قبل زوجها، والزوج قبل الجندي الذي يقتلونه بدم بارد، وهم يمتلئون غيظاً وحقداً على سائر شعوب البشرية , وأن كتب التاريخ الاسرائيلية والتوراة تشير إلى ذلك صراحة، فضلا عما يمكن استنتاجه من مجريات الأحداث، ومن بين ثنايا النصوص.
أمام ذلك وجد بنوا إسرائيل طريقاً ما بين مملكتي أدوم ومديان، وهي وادي اليتم ثم إلى باير، ثم إلى الجفر ثم إلى الأزرق، وإن اختلفت الروايات، وبذلك سلكوا سبيلاً بعيداً عن أنظار الأدوميين والمؤابيين والمديانيين، وعن أراضيهم، وعن متناول جيشهم، حتى وصلوا الى الحلقة الاضعف في هذه الممالك , وهي مملكة حشبون حيث تبدأ الأحداث حسب نصوص التوراة بالإبادة الجماعية الكاملة لسكان هذه المملكة الأردنية.ولولا عداوة ملك حشبون لجيرانه الملوك الاردنيين لما انفرد به بنو اسرائيل ولكان مجرى التاريخ على غير هذا الذي رايناه .
وتقول التوراة أن موسى وصل بقومه إلى وادي أرنون الموجب الذي كان حسب قولها الحد الفاصل بين الأموريين (الحشبوسيين) والمؤابيين. ونحن نرى عكس ذلك تماماً. وهو أن موسى لم يكن على رأس بني إسرائيل عند دخولهم الأردن. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن المجيء إلى وادي الموجب كان متعذِّراً على بني إسرائيل الوصول إليه. كما أن مملكة حشبون الأمورية الأردنية قد توسَّعت على حساب مؤاب وعمون بفضل شجاعة ملكها سيحون، لكنها لم تصل إلى الموجب في حدودها، بل بقيت في ذيبان، وإن التوسع الأموري لم يتجاوز ديبون ، وبقيت الأراضي الى الجنوب من ممتلكات مؤاب التي انتقلت عاصمتها من ديبون (ذيبان Deban ) إلى ربة مؤاب Rabbet Moab ثم إلى قير حارسة Gayr Harsah أي الكرك.
ونحن نرى أن ملك سيحون أراد أن تكون المعركة خارج حدود مملكته طمعاً منه في دفع الضرر عن الممتلكات والثروات والشعب، فكانت في أرض جهز Jahaz أي ياجوز الحالية، حيث تكررت فوق أراضيها معركة فيما بعد، بين جدعون زعيم مملكة يهوذا، وملوك المديانيين، كما سبق وشرحنا في هذا الباب، وبدل أن يقوم سيحون بالمباغتة، فيبدو أن العكس هو ما حدث وأن الإسرائيليين باغتوا سيحون وجيشه وهو في وادي ياجوز حيث كان الماء وافراً وسيلاً غزيراً ـ كما قلنا سابقاً ـ فلجأ إلى الفرار، وتابعه الإسرائيليون حتى عقر داره في حسبان فدمّروا كل شيء، وقتلوا كل إنسان ونهبوا كل عقار ومقدّرات وحيوانات حسبما تذكر التوراة ذلك.
ورغم أن بعض الرحالة يذكر مكاناً آخر للمعركة مثل أم الوليد شرقي مادبا، (وهذا ما يقوله فورد Ford في كتابه: بترا وفينيقية)، وأن أم الوليد هي حاليا إحدى قرى بني صخر وهي اثرية قديمة وتاريخية ، ولا شك أنها كانت من ممتلكات مملكة الأموريين وملكها سيحون، ويرى البعض مثل ترتسترام في كتابه: أرض مؤاب The Land of Moab الذي ترجمناه إلى العربية، أن مكان المعركة في خربة السمراء بحذاء الموجب بالقرب من جبل شيحان.
أما نحن فنرى غير هذا، ففي رأينا أن سيحون كان يعيش نشوة النصر على عمون ومؤاب قد جعلته ينظر بازدراء وخوف في الآن نفسه من بني إسرائيل أنه منعهم من دخول حدوده الشرقية، وبقي يتابعهم في مناوشات بعيدا عن الدخول في اراضي مملكته حتى حطوا رحالهم في ياجوز حيث المياه والارض التي تصلح للقتا ، وحيث كان أمامهم لحظات مصيرية إما أن يكونوا أو لا يكونوا , استدرجوا هذا الملك الاردني إلى خارج حدوده وخارج قاعدته ومدده ، وهو راضي بذلك أنه لايريد المعركة في مملكته حرصاً على مقدّراتها، كما قلنا قبل قليل.وكان لكل طرف حساباته في وقوع المعركة في ياجوز
هناك في ياجوز كانت المباغتة، وكانت الهزيمة، وكانت الإبادة أن صدقت التوراة في ذلك، حيث لا توجد لدينا مراجع أخرى سواها عن الأحداث والحروب بين الإسرائيليين والأموريين الأردنيين. واختفى اسم مملكة سيحون من التاريخ بفعل السيف والحقد. وقد أدى هذا إلى تنبيه بقية الممالك الأردنية، وأيقنوا أنهم على حق في منع عبور بني إسرائيل لأراضيهم. إلا أن مأخذاً عظيماً يؤخذ على هؤلاء الملوك، حيث كان عليهم أن يساندوا سيحون، ولكن حقدهم عليه وتخوّفهم منه وكرههم له بتوسعه على حساب جيرانه مملكتي مؤاب وعمون، جعله منفرداً في المعركة وتوقف الملوك عن دعمه خشية أن يتفرغ لهم ويوسع حدود مملكته على حسابهم، إن هو انتصر على بني إسرائيل.
لذا نستطيع تصوّر الموقف في أنهم وقفوا جميعاً موقف الشامت، وانتابهم السرور بتحطيم هذه القوة الجديدة، الأمر الذي اضطرهم إلى خوض غمار حروب وصراعات دامت مئات السنين مع الإسرائيليين بين مدّ وجزر، وهزيمة ونصر ونجد أيضاً ذكراً للتحالفات الملكية، إلا أن سيحون لم تدخل في حلف من أحد من جاراتها الممالك الأردنية في حينه.ولم تعد موجودة بعد الابادة , حيث عادت الحدود الى سابق عهدها وصارت اراضي مملكة حشبون نهبا مقسما بين سائر الممالك الاردنية المجاورة لها وهي : عمون ومؤاب .
استمرت هذه المشاحنات والعداوات بين الاردنيين والاسرائيليين ، حيث نجد مملكة أدوم تتحالف مع نبوخذ نصر الآشوري، الذي دخل القدس عام 587 ق.م. ونهب القدس، وشاركه الأدوميون بالنهب والسلب والقتل ثأراً لمعارك ودماء سابقة بين الأدوميين والإسرائيليين. وقد أدى هذا إلى غضب أنبياء بني إسرائيل على أدوم، وتمنّوا لها الزوال والتلاشي، وتنبأوا بسقوطها، حيث دارت الأيام، فرحل جزء منهم إلى فلسطين، وبقي الجزء الآخر في مواقعه ليكون من رعايا مملكة الأنباط الجديدة. التي تحدثنا عنها.
وبرحيل أسرة الملك الادومي من بصيرا Bsaira / الطفيلة Tafilah من أدوم/ الأردن إلى فلسطين، عاد الأدوميون وبنوا مملكة أخرى في جنوب فلسطين، أي في الأراضي التي كانت تابعة لأدوم أصلاً عندما كان مركزها في بصيرا , مثلما فعل المديانيون وبنوا مملكة جديدة في شمال جزيرة العرب بعد ان اصاب الله سبحانه مملكتهم الاصلية مدين بالعذاب كما سبق وشرحنا . اما الادوميون فقد غيروا ساماءهم في ديارهم الجديدة في فلسطين , واثروا الاسماء اليونانية , هروبا من الانباط وسطوتهم , وحيث كانت الثقافة اليونانية تهيمن على حوض البحر الرومي (البحر الأبيض المتوسط). فقد أرغمهم الأنباط على الرحيل كما قلنا، ووجدوا استمرارهم في جزء من مملكتهم الواقع في فلسطين وصاروا يعرفون هناك بالأدومانيين Adomaniyyien وظهر منهم الهيروديين ملوك القدس، حيث يذكرهم التاريخ (أي الهيروديين) على أنهم من بني إسرائيل، وهم عرب أدوميون من الأردن أصلاً وملوك من ملوك الادوميين اعتنقوا اليهودية من اجل الوصول الى عرش المملكة , وكذلك كان وتحقق هدفهم .
في هذه الأثناء قدم الفلسطينيون من كريت بقوة وبأعداد ضخمة، فأضطرت المملكة اليهودية لعقد الهدنة معهم للتفرغ إلى الصراع مع المؤابيين والعمونيين الذين لجأوا إلى الغارات وحرب العصابات لاستنزاف القوى الإسرائيلية في بلاد كنعان .
قبل مغادرة ادوم لديارها الاردنية واثناء الصراع الاردني الاسرائيلي , كانت ادوم مشغولة بالصراع مع مملكة مديان التي كان رعاتها يعتدون على أراضي أدوم في جنوب الاردن . بل ان مديان صارت عنصر اضطراب للمنطقة برمتها، مما أخذ انتباه أدوم إلى ذلك بدلاً من مؤازرة مؤاب وعمون في صراعهم مع بني إسرائيل وجعلهم يدفعون الثمن ولم يجدوا من يؤازرهم من ملوك الاردنعندما الم بهم الخطب الاسرائيلي وهجرة الانباط الى هذه الديار
وتقول التوراة في سفر القضاة الأصحاح الثامن أن جدعون ملك يهوذا تجاوز نهر الأردن في متابعة ملوك مديان زبح Zabah وصلمناع Silimna ، وأنه قتلهم. وقد سبق وشككنا في هذه الرواية، ولا داعي للإعادة والتكرار. كما فقدت عمون ملكها القوي ناحاش في أحراش عجلون كما قلنا. وتشير التوراة في سفر صموئيل الأول إلى أن عمون توسعت على حساب مملكة باشان وأن أراضي الأخيرة صارت جزءاً من أراضي الأولى، إلا أنني أرى عكس ذلك.
ففي رأينا أن التمدد العموني في أرض جلعاد لم يتجاوز تطهيرها من العناصر المعادية، وضرب نقاط التجمع في ضربة استباقية خشية هجومهم على أملاك عمون التي تبدأ بنهر الزرقاء. ولكن الهزيمة كانت نصيبهم بعد الخدعة والمفاجأة التي قام بها ملك يهوذا شاؤول ضد ناحاش ملك عمون.
أدى هذا الضعف العموني مرة أخرى إلى فقدان جزء من أراضيهم في الغور الممتدة من البحر الميت حتى غور نمرين، لحساب مملكة مؤاب. وبدت الأمور على النحو التالي: أدوم في أمن ورخاء بسبب تحالفها مع نبوخذ نصر ودفعت الثمن فيما بعد كما ذكرنا اعلاه ، مديان مصدر اضطراب، مؤاب استعادت أراضيها في الغور، عمون خسرت معركتها في جلعاد وانكفأت إلى حدود نهر الزرقاء لا تتجاوزه، وباشان مصابة بالشلل بسبب أعمال الإبادة التي قام بها الإسرائيليون ضد الباشانيين. ويستمر الصراع بين مدّ وجزر إلى أن أتى ميشع عام 860، وهو أعظم ملك أردني في تاريخ الاردن وحرر الأردن من الاحتلال الإسرائيلي.
ميشع الملك الأردني العظيم، جاء ومعه مشروعه الوطني، ووجد أنه يعاني من ثلاثة أمور
هي: الاحتلال، ضعف المملكة، اضطراب الداخل:
1. الاحتلال الإسرائيلي، حيث تطلّع لتحرير بلاده من ذلك، بل وتحرير كافة الممالك الاردنية لكي لايبقى موطيء قدم اسرائيلي على الارض الاردنية / بلاد عبر الأردن. فرفض دفع الأتاوة التي كانت مفروضة على مملكته، وكان ذلك بمثابة إعلان حرب ضد الإسرائيليين.
2. توسيع حدود مملكته حتى معان وثبوك وينبع ، وبذلك توسع على حساب أدوم وصار على تماسٍّ حدودي مع المديانيين الذين كان لهم صداقة وعداء في آن واحد مع مؤاب، أي لم تكن لديهم صداقة دائمة ولا عداوة دائمة. من هنا نقل عاصمته من ربة مؤاب إلى قير حارسة / الكرك .
أما التوراة فتصف ميشع أنه "صاحب مواشي" وذلك أمر لا يتفق مع الحقيقة، وأنه لقب للتقليل من شأنه، لكنه أثبت من خلال عقله الاستراتيجي وشجاعته وفكره ومشروعه الوطني انه : وطني وصاحب مبادئ، وليس صاحب مواشي، وأن ثروته الطائلة من المواشي لا تعيبه، لأنها كانت السلعة الدارجة للبيع والشراء آنذاك، كمادة رئيسة من مواد التبادل , ولكنها على كثرتها لم تصل الى مستوى ثروته من العقل الراجح والقلب الشجاع والفكر الثاقب الذي اثبته في مشروعه وحروبه وانتصاراته .
يقول العهد القديم انه كان لبني إسرائيل ملكان زمن يوشع ووالده , هما: أخاب بن عمري ملك إسرائيل، وخلفه من بعده يهودام بن آخاب، والذي كانت ثورة ميشع في زمنه حسبما تقول التوراة، إلا أن حجر ميشع يقول أن ملك إسرائيل زمن ميشع كان الملك عمري ، وهذا نصّ أكثر صدقاً ودقّة مما ورد في التوراة، لأن ميشع تحدث الحقيقة في وصف للواقع المحيط به، بينما تحدثت التوراة بالأمور حسبما هي التي تخدم أهداف اليهود.لذا فان نص ميشع ادق واصدق بل هو الدقة والصدق بعينه .
إن الذي حدث هو أن مملكتا إسرائيل ويهوذا تحالفتا معاً، وانضمت إليهم أدوم في محاولة للقضاء على ميشع ودولته الفتية القوية. وكان لكل طرف هدف وحسابات ، ورغم عداوتهم الثلاثة لبعضهم بعضا ، إلا أنهم متفقون على أن ميشع ومؤاب يشكل عليهم خطراً جامحاً , إذ أنه قد تمدد في أراضي أدوم حتى وصل معان وتبوك كما قلنا اعلاه ، أما مملكة إسرائيل وحدها فلم تعد قادرة على المجابهة مع مؤاب، وكذلك الحال بالنسبة ليهوذا، فاتفقوا على القضاء على ميشع واقتسام مملكتة مؤاب وبالفعل لاحقوا ميشع وجيشه حتى تحصّن في قلعة الكرك، وصار أمام معركة موت أو حياة، يكون أو لا يكون، وهنا أقدم على عمل تكرر في عام 1840/1941, وهو أن ميشع أصعد ولده البكر وولي عهده على محرقة فوق سور الكرك، فاحترق أضحية للآلهة كموش من أجل النصر على جيوش بني اسرائيل التي تحاصر قلعةقير حارسة / الكرك , فلما راى الجيش الاسرائيلي ذلك ولى هربا ولحق به ميشع واباده .
وتكررت الصورة في العصر الحديث عام 1940 / 1941 بنفس المكان وهو قلعة الكرك , عندما قام الشيخ ابراهيم الضمور الغساسنة شيخ الكرك انذاك بمقاومة ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا قائد الجيش المصري الذي غزا الشام , الذي حاصر قلعة الكرك حيث رفض ابراهيم الضمور الغساسنة تسليمها , وقام ابراهيم باشا المصري بحرق ولدي ابراهيم الضمورخارج الاسوار وعلى مراى من والدهما , ومع هذا بقي ابراهيم الضمور صامدا واعتبرهما اضحية مناجل سلامة الارض والعرض والناس والكرامة , وانكفأ ابراهيم باشا قافلا الى مصر بدلالة جلحد الحباشنة الذي اننتقم لاولاد ابراهيم الضمور ان سلك بالجيش المصري طريقا وعرا هلك جله من الجوع والعطش والوعورة والحر . انه التاريخ يتكرر على ارض الاردن كما راينا في اليرموك ومعركة غرندل والكرك وغيرها .
كانت النتيجة كما كان يتوقعها ميشع، إذ أن الأمر أغاظ الأدوميين والإسرائيليين، وقالوا: إذا كان هذا يضحي بابنه فإنه سوف يقتل الجميع إن ظفر بهم. فما أصبح الصباح، إلا وقد غادروا جميعاً، وانفك الحصار. ولا شك أن الجميع اعتقدوا أن الرجل فعل ذلك بأوامر من الآلهة كموش , وأنه سينصره إن خاض المعركة بعد ذلك وهو الأمر الذي قال به ميشع لجنوده، أنه إذا كان يقدم ولده قرباناً على الأسوار، فما معنى حياة البقية.وقد فعل عودة ابو تايه عملا مشابها في عام 1910 عندما تم حصره والحويطات على طور الطبيق من قبل بني صخر وقال لرجاله انه راى بالمنام ان سينتصر في اليوم النالي وكذلك كان . هذا شان القادة عندما يتعاملون مع رجالهم وشعوبهم بما يتفق ونفسياتهم وعقلياتهم .
وبذلك صار المتحالف الإسرائيلي الأدومي أمام جيش لا يعرف الاستسلام وإنما النصر أو الموت ً، فأعرضوا وغادروا المكان , ولحق بهم ميشع واخذ بثار ولده وقتل من الاسرائيليين وحلفائهم الادومين خلقا كثيرا وانبره الاعداء بالهزيمة كل منهم يسابق اريح وانتصر ميشع . وما ان خرج ميشع منتصراً، حتى تمدد مرة أخرى على حساب أدوم وعمون، ومع هذا التوسع زادت ثروة مملكته ومساحتها وقوتها، وساهم في إضعاف الممالك الأخرى الأردنية والإسرائيلية. وبعد ذلك كتب ميشع النص على حجره المشهور، وبعد أن حرر الأردن من الإسرائيليين.
ونلاحظ أن ميشع لم يتطرق في نصّه إلى أدوم، ولا إلى التحالف أصلاً، وإنما إلى الملك اليهودي القوي الذي كان مكلفاً باحتلال بلاد مؤاب وأخذ الجزية منها وهو عمري Amri . ولكن المملكتين اليهوديتين وبعد أن فشلتا في تحقيق نصر على ميشع وجهت أسلحتها وغاراتها إلى حليفتها أدوم التي صارت تحت هيمنة العبرانيين، وهذا جزاء كل من يخون بلده أو جيرانه، ودخل ميشع في التاريخ من أوسع أبوابه إلا أن ملوك أدوم في هذه المرحلة قد جانبهم الصواب والحكمة في التحالف ضد أبناء جلدتهم ووطنهم. ففقدوا ملكهم ومملكتهم تحت ضربات حلفائهم الغدارين وهم الاسرائيليون , وضربات المؤابيين الانتقامية , ثم تحت وطاة الهجرة اللنبطية كما قلنا اعلاه .
أدرك الأدوميون سوء فعلتهم، وقرعوا سنّ الندم، فجنحوا إلى الثورة، ضد العبرانيين، Hebro ، وبالفعل نجحوا في ذلك، وتحركوا في ملاحقة فلول جنود مملكة يهوذا إلى جنوب فلسطين، وكان ذلك في زمن الملك اليهودي أمصيا Amesia الذي تمكن من صدّ هجوم قام به الأدوميون على جنوب فلسطين، ثم لاحقهم إلى بلادهم. وتقول التوراة ان اليهود في هجومهم هذا قد استولوا على سلع الادومية ، وهي التي في محافظة الطفيلة إلى الجنوب من بصيرا/ عاصمة أدوم، ولكن التوراة تقول عنها أنها البتراء وهذا كلام غير صحيح، وقد تحدثنا سابقا عن الفارق ما بين سَلَع والبتراء وتحديد مكان كل منهما ولا دعي للاعادة .
وبذلك اختفت الهيمنة العبرانية من الأردن ليس في مؤاب وعمون فحسب، بل وأيضاً من أراضي مملكة أدوم، ما عدا عصيون جابر التي هي إيلات الحالية، حيث بقيت ميناء لمملكة يهوذا. وقد أفصحت الحفريات فيها عن خاتم باسم يؤام حفيد أمصيا.
وهكذا أفل نجم الهيمنة الإسرائيلية على الأردن. وتحررت جميع الممالك الاردنية من هذا النير الاحتلالي الأجنبي على يد الملك الاردني العظيم ميشع اعظم ملك اردني في تاريخ الاردن ، ودخلت الأردن في عهد جديد، صارت فيه الممالك الأردنية تغير على الممالك الإسرائيلية في حرب استنزاف وعصابات على الطريقة القديمة. وعاد الأمر إلى ما كان عليه في مطلع استقرار الإسرائيليين في فلسطين عندما غزتهم قبائل شرق الأردن وفتكت بهم، ولكن وجود أنبياء من بني إسرائيل، وبخاصة زمن داود وسليمان قد أعاد اليهم هيبتهم